مجلة حكمة
المثاقفة بالمغرب الكبير

رهانات المثاقفة بالمغرب الكبير بعد الاستقلال: مقاربة تاريخية وأنثروبولوجية – محمد أركون


مسألة المثاقفة مسألة جديدة حتى في المجتمعات الديمقراطية الأكثر تقدما. وتكشف التوترات التي يغذيها في أوربا تدفق المهاجرين والمشاكل اليومية التي تطرحها جماعات إثنية ـ ثقافية عديدة لم تندمج بعد كفاية، تكشف عن مدى عدم استعداد المجتمعات الأوربية المستقبِلة، استعدادا ملائما، للتبادل الثقافي الذي يتجاوز مجرد استعارة كلمات ووصفات مطبخية وزيارات سياحية وأشكال من الموضة عابرة. إن العلوم المتخصصة في دراسة الثقافات الأجنبية على الفكر والتاريخ الأوربيين ما زالت غير مدمجة اندماجا واسعا، أو غير مدمجة بالمرة، في الأنظمة التربوية الوطنية بأوربا. إن أسماء هذه العلوم، وأعني الإثنوغرافيا والإتنولوجيا و الأنثروبولوجيا، أسماء يجهلها الجمهور الأوربي؛ أما الطبقات التي توصف بـأنها “متعلمة” فهي لا تميز بدقة ووضوح بين هذه المستويات الثلاثة من البحث في ثقافات ” الآخرين ” ؛ أولئك الذين ينظر إليهم على أنهم بدائيون ومتخلفون وشعوب تشدها إلى الوراء معتقدات وعادات وممارسات تم تجاوزها كلية في أوربا. إن تواجد المهاجرين في أوربا، اليوم، لا يواجه في أحسن الأحوال سوى بإجراءات ” للدمج” و”الاستيعاب”، تماما كما كان يعامل الأهالي في المستعمرات بالأمس؛ إنه يفتقد تماما إلى سلوك سياسة جديدة للمثاقفة تساعد على خلق فضاءات مشتركة للتعبير والاحتكاك والتبادل الحامل لرياح التغيير، فضاءات تكون مجالا للشراكة الإبداعية التي بدأت الأغنية الشعبية والمطبخ واللباس تعطينا فكرة عن مدى الغنى الذي يمكن أن تكشف عنه سياسة للمثاقفة فاعلة وإرادية.

وكما أنه يتم التمييز اليوم، على مستوى الجغرافيا السياسية، بين دوائر التدخل، والنفوذ، والتعاون، والتنافس، فكذلك يجب الأخذ بالحسبان، على مستوى السياسة التي تخطط لأنشطة المثاقفة، معطيات الجغرافيا التاريخية والجغرافيا الدينية والأنثروبولوجية. يتعلق الأمر بتصور للأمور يقع على العكس تماما من ذلك الذي سارت عليه أوربا الاستعمارية منذ القرن 19. لقد صنفت الاستشراق –تلك النزعة الولوع بسحر الشرق- أقطار إفريقيا الشمالية ضمن مفهوم للشرق تم بناؤه في ظروف إيديولوجية معروفة. ولم تعمل هذه النزعة، من أجل تدارك ما ينطوي عليه هذا التصنيف من حيف، إلا على تقديم تنازل جغرافي محض، وذلك بتمييزها بين شرق أدنى وشرق أوسط، تمييزا يقوم على مجرد اعتبار المسافة الكيلومترية التي تفصلهما عن الشرق الأقصى. لقد دأب المركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا، ولمدة طويلة، على الجمع بين ثقافات الشرق وإفريقيا الشمالية، ولغاتهما وحضاراتهما، في فرع يشار إليه برقم 44 ويحمل اسم ” حضارات الشرق “. وعندما تم تغيير هذا التقسيم احتج “المستشرقون” ووقفوا ضده لأنهم وجدوا أنفسهم في موضع الأقلية في التصنيف الجدي،. وأنهم أقلية بالفعل. إن إدراج جميع المجتمعات وجميع الثقافات في العلوم والتخصصات الكبرى التي تعنى باستكشافها ودراستها بتوظيف مفاهيم مناسبة وطرح إشكاليات ملائمة، خطوة إبيستيمولوجية إلى الأمام تأخرت عن موعدها كثيرا.

أن التطور الذي عرفه ما يسمى بالمغرب [ والمقصود المغرب العربي الكبير ]() منذ استقلال أقطاره هو على النقيض تماما من ذلك الذي عرفته المجتمعات الأوربية والذي جعل منها اليوم مجتمعات تقوم على التعدد الإثني والطائفي والثقافي. لقد استقر في هذه المجتمعات، وبصورة دائمة، مهاجرون من جميع أنحاء العالم، تناسلوا وأخذوا، مع الجيل الثاني بل والثالث، يساهمون مساهمة ذات دلالة في التطور العام الذي تعرفه المجتمعات التي استقبلتهم. أما قيام أحزاب يمينية، على أساس التعصب القومي والكره للأجانب، في عدد من البلدان الأوربية ( فرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا … ) فهو رد فعل يعكس مدى الحضور الاجتماعي الذي لهؤلاء الوافدين الجدد من جهة، ويكشف من جهة أخرى عن استغلال سياسي لمقولات ” الأسبقية الوطنية ” ونقاء الأصول وتأكيد الهوية، استغلالا يجند المخيال السياسي ـ الاجتماعي لجماهير السكان الأصليين المعرضة من جهتها لأزمات، على هذه الدرجة أو تلك من الحدة، على مستوى القيم والنظام الديمقراطي والنظام الاقتصادي والروابط الاجتماعية، أزمات تجد مصدرها في عملية بناء الاتحاد الأوربي وأيضا، وهذا أبعد غورا، في الضغوط القاهرة الناجمة عن العولمة. أما المغرب الكبير فقد عرف [ على العكس مما حصل في أوربا] إفقارا اجتماعيا، فكريا وثقافيا، بعد الرحيل المكثف لليهود والأوربيين غداة الاستقلال. وحتى الإسلام المغاربي فهو اليوم أبعد ما يكون عن التعدد الذي عرفه في القرون الوسطى. ذلك أنه باستثناء الأقليات الإباضية بالجزائر وتونس وليبيا، فإن جميع المغاربيين هم سنيون ومالكيون. أما الأطرف الأخرى، المتمثلة في الشيعة والمسيحيين الذين مازال لهم وجود في الشرق الأدنى، فقد اختفت منذ مدة طويلة في “المغرب الكبير” الذي يوصف بكل بساطة بـ “العربي”، مع السكوت عن جماعات أقلية، تتكلم لهجات بربرية تتعرض للاندثار تحت وطأة سياسة للتعريب تعمل على إخضاع الواقع الحي لقرارات الإرادة. وهكذا لم يعد قائما أي شكل من أشكال التعدد في هذا الفضاء الجغرافي التاريخي الشاسع الذي عرف كثيرا من أشكال الحضور الثقافي و الإثني واللساني تعاقبت منذ الفينيقيين والرومان حتى مجيء الأوربيين، مرورا بالأتراك الذين انشدوا هم أنفسهم، خلال العصر العثماني، إلى نزعة للمواطنة الكونية خاصة بمنطقة البحر الأبيض المتوسط.

وإذا كانت مبادئ الديمقراطية الليبرالية قد سمحت لمهاجرين من جميع الأعراق والأديان بالاستقرار بأوربا وأمريكا الشمالية، فيجب الاعتراف بأن هذه الظاهرة التاريخية الجديدة لم تكن مصحوبة بإرادة سياسية تشجع الثقافات المرشحة لما أفضل أن أسميه: الإدراج insertion على التعبير عن نفسها بشتى وسائل التعبير العلمي والثقافي. لقد عمدت الدول القومية (في أوربا وأمريكا)، كما فعلت زمن الاستعمار، إلى معالجة المسألة بمنطق ضيق قومي النزعة، يعمل على تذويب ثقافات الوافدين الجدد في الثقافة القومية بواسطة الإلحاق والإدماج. وهكذا تصرفت تلك الدول من موقع يتعارض تماما مع متطلبات المثاقفة؛ فلا الباحثون في العلوم الاجتماعية، و لا الكتاب والمفكرون والمدرسون المنشطون الثقافيون، ولا المسؤولون السياسيون، عرفوا كيف يخلقون، أو استطاعوا لحد الآن خلق ديناميكية للمثاقفة قوامها فضاءات للتبادل والتربية والإبداع والبحث العلمي، من شأنها أن تلبي تطلعات الجمهور بمختلف فئاته، وتستجيب للضرورات التي يتطلبها إنعاش جميع المواهب والمرجعيات، وجميع حقول الإنجاز الفكري والفني التي أصبحت من مكونات فضاء المواطنة نفسه. لقد بقي الوضع، بالأحرى، سجين سياسة تقوم على ترك الحبل على الغارب، على اللامبالاة، فأدت إلى توترات، بل إلى أشكال من العنف اليومي، يستشري حتى داخل الثانويات التي يفترض فيها أن تكون فضاءات للاندماج التربوي. والنتيجة هي أن النقاش حول الأديان الأخرى غير المسيحية ينزلق، في الأغلب الأعم، وفي جو من الحمِيّة عارم، إلى اختزال الأمور في تعارضات تبسيطية تقام بين القيم اللائكية والقيم الظلامية الدينية، بين التصورات الحديثة والمعتقدات التراثية البالية، مما يغلق الباب في وجه ظهور فاعلين تاريخيين جدد، قادرين على فتح آفاق جديدة فكرية وعملية أمام تشييد صروح ديمقراطية وبلورة صياغة جديدة للقيم والغايات وحقوق الأشخاص، مما صار يفرض نفسه نتيجة الانتقال من المجتمعات المتجانسة والمندمجة، التي تنتمي إلى ما قبل 1945، إلى المجتمعات المعقدة التركيب، المطبوعة بالتعددية والمفتوحة في وجه حركات الهجرة. وهؤلاء الفاعلون الجدد، المنتمون لتاريخ جديد، لا يمكن أن ينبثقوا إلا من صفوف مجموعات تعيش التوترات التربوية التي تلازم الإخلاص الذي يحياه المرء فعلا، لا الذي يعيشه على صعيد الحلم فقط أو على صعيد الشعارات أثناء مناسبات تاريخية تضامنية. إنه في إطار هذا النوع من الصدق الذي يتحلى به المرء بدون كلل، خارج قوالب الفكر الثيولوجي [اللاهوتي-الموحد] الذي يخنق الاختلاف [باسم الانحراف والهرطقة] وأيضا خارج قوالب النزعة القومية الضيقة التي تمارس الإقصاء بذريعة الخيانة للوطن، يمكن أن تنبثق عقول جديدة حرة قادرة على الانطلاق والترعرع في المجال الذي لم يسبق له أن وجد من قبل، مجال التشارك في الإبداع، في سياق من التعددية.

أما عندما تكون العلوم الاجتماعية في خدمة الحكومات فإن نتاجها يكون عبارة عن نصوص من نوع تقارير الخبراء، مشفوعة بسرديات تأريخية وتصنيفات صورية وعروض وصفية وإحصائيات، لا تقتصر على كونها خالية من أية مبادرة للتوسط الثقافي، بل تعمل، أكثر من ذلك، على إفقار وإبخاس جهود أولئك الذين يشتغلون في اتجاه هذا التوسط، من المثقفين النقاد والمفكرين والكتاب والفنانين. ويتكرس الميل إلى تجاهل دور التوسط الثقافي، الذي هو دور أساسي، في المجتمعات التي تقوم على التعدد السياسي، يتكرس بصورة أكثر جلاء في أنشطة البحث والتدريس التي يفترض فيها، نظريا، أن تكون رائدة هذا التوسط. إني استحضر هنا دروس الأدب المقارن التي ما زالت تقصر المقارنة على الآداب الأوربية وحدها؛ واستحضر كذلك دروس التاريخ العام المسجونة في حدود التمجيد الذاتي بالعبقرية الوطنية، ودروس تاريخ الأديان غير المقارن، وتاريخ العقائد والفلسفات والفنون والموسيقى، غير المقارن كذلك. وهكذا فبدلا من أن يكون الباحثون والمدرسون فاعلين مجددين، يأخذون على عاتقهم تحقيق التطلعات الجديدة لمجتمعاتهم، نجدهم –بغض النظر عن استثناء لا نقلل من شأنها- يساهمون بالعكس من ذلك في المحافظة على استمرارية الأطر المعرفية والأدوات الذهنية التي يراد منها صياغة خطاب خاص عن الهوية و “العبقرية” الوطنية، وهما الترجمة العلمانية للمجموعات الطائفية القديمة.

وغالبا ما يضايق هذا النوع من الحجاج المخاطبين الغربيين، خصوصا عندما يصدر عن مهاجر مندمج تماما في فكر أوربا وثقافاتها. [يتساءلون باستنكار:] ألا يتسامح الأوربي عموما، والفرنسي خصوصا، في أن يحتل مهاجر العديد من مواقع التضامن التاريخي والإنجاز الفكري والثقافي في البلد المستقبل له، والحال أن ما ينتظر منه، أولا وباستمرار، هو تقديم أدلة إضافية على اندماجه التام الذي لا رجعة فيه ولا شريك، في المحل التاريخي الذي “رباه” على درجة سواء مع أبناء البلد الأصليين؟ إن تجربتي الشخصية، المبنية على معاشرة طويلة لأوساط أوربية متنوعة، تفرض عليّ القول في هذا الصدد: إن أشكالا من المقاومة صادرة عن نزعة قومية ضيقة تقوم، ليس في وجه أفراد-مواطنين، بل تمانع تماما، وفي كل مكان، في قبول منظومات ثقافية “أجنبية”، مما يتخذ صورة رفض صريح على مستوى البرامج السياسية، ويكتسي شكلا أعمق وأعم على مستوى التبادل الداخلي بين الأشخاص، الذي تتحكم فيه التمثلات الخاصة بكل ثقافة”. وهذه ملاحظة ذات دلالة انثروبولوجية: ذلك أن كل إنسان يزن قيم الآخر وأنماط تفكيره بواسطة منظومات المبادئ والمسلمات التي توجه تمفصل المعنى في اللغة/ الأم الخاصة بالجماعة التي ينتمي إليها. إنه الأنا العميق الذي يعبر عن نفسه في الذات الجماعية التي تمثلها الأمة والجماعة، أو المجموعة بالاصطلاح الإتنولوجي. فعلى هذا المستوى يجب تركيز جهود التفكيك التي تتخذ موضوعا لها الثقافات واللغات التي تحمل هذه الثقافات وتُراكِم منظومات التمثلات الكامنة فيها. وإنه لمن الأمور التي هي موضوع ملاحظة يومية أن الثقافات واللغات التي تتساكن [ في أوربا ] داخل فضاء سياسي واحد لا تحظى بنفس الاعتبار لا من طرف الدول ولا من طرف الجماعات المحلية، ولا حتى من طرف أعضاء كل جماعة وكل مجموعة أو جمعية. وهذه اللامساواة الصميمة، التي تتم على صعيد البنيات، تحفر خنادق، وتغذي الإقصاء المتبادل، انطلاقا من تصورات معادية وتأويلات خاطئة ومن الجهل الذي يكتسي طابعا مؤسساتيا في كل جماعة. ومن هنا تتعرض المطالبة بحق الاختلاف للتمييع، ويتخذ اللجوء إلى الهوية ومرجعياتها شكل التحصن في قلاع غير قابلة للاقتحام، مع الاستغلال البشع لحرية الفكر وحرية النشر وحرية التظاهر، وهي حريات تضمنها النظم الديموقراطية.

ولابد من التساؤل هنا عن جدوى السياسات التعليمية والثقافية والعلمية ( وأقصد هنا العلوم الاجتماعية التي تهتم بعملية التثاقف بين الجماعات) التي تواصل العمل بها الديموقراطيات الليبرالية الكبرى منذ الخمسينات والستينات، جدواها في تلبية الحاجات الجديدة لجماهير المهاجرين. إن المسألة الأساسية هي إنجاح التجاوز السريع لعصر المرتبية الثقافية والقولبة التعسفية التي تتم بشكل تعسفي، عاكسة هكذا ميزان القوى، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حيث يتطلب الأمر اكتشاف ومفصلة ونشر القيم السامية، القابلة لأن تغدو قيما كلية عالمية، بهدف إنضاج ما أسميه الشراكة الإبداعية، الثقافية والروحية والفنية والأخلاقية؛ شراكة تكون فيها كل ثقافة، في آن واحد، مستقِبلة ومستقبَلة، مقترضة وقارضة، محولة ومتحولة في إطار دينامية لا يِؤخذ فيها بالحسبان سوى المشاركة الوجدانية والاتصال الكثيف والهدف الثابت للمعاني التي يرتبط بها بل يتقاسمها الطرفان. وإن المرء ليضطر اضطرارا لأن يلاحظ: أنه في هذه المجتمعات التي تحتكر المبادرة التاريخية، في الميادين الأكثر حيوية، تتعشش قوى رافضة ومواقف منغلقة على أنانيات قومية تمانع في الاعتراف بالمسؤوليات التاريخية التي تتحملها، على الصعيد العالمي، القوى الاستعمارية منذ القرن التاسع عشر، تلك القوى التي خلفتها في مهمتها الدول السبع المصنعة، في إطار الوضعية الراهنة للعولمة. وبعيدا عن تركيز الاهتمام على الظروف والفضاءات الجديدة التي من شأنها أن تعمل على ازدهار الإنسان وتفتح ممكناته تعمد الشخصيات “المثقفة” ثقافة عالية، من جامعيين مشهورين ووزراء ونواب برلمانيين وكتاب، دع عنك الجمهور الواسع الذي يوصف بأنه مثقف، إلى الإدلاء بـ “اعتراضات” والدخول في مشادات كلامية، جعلتني اضطر شخصيا وعلنيا إلى الإجابة عنها بكل أدب، اعتراضات من قبيل: “كيف جاز لك أن تندد بقصور تعليمنا وأبحاثنا وممارساتنا الثقافية بينما أنتم، في بلدانكم الإسلامية، تعملون على تكريس واستمرار أكثر النزعات الوثوقية الدوغمائية ظلامية وأكثر أنواع التعصب تخريبا، وأشد أنواع الرفض والتحريم والمنع تعارضا مع جميع المبادئ التي تدعون أنكم تعلمونها لنا، والتي غرفتموها من تقاليدنا الفكرية والثقافية”؟

أنا هنا لا أخترع. إن بإمكاني أن أدلي بأسماء وأن أحيل بدقة إلى المكان والبيئة والظروف حيث تحصل مثل هذه الانقطاعات في التواصل التثاقفي، والتي لم تنج منها حتى أروقة الهيئات الرفيعة المستوى، التي أنشئت بالتحديد من أجل بلورة ممارسات تربوية وثقافية جديدة. وهنا لن أمنع ذكرى مؤلمة عن التعبير عن نفسها، بل استدعيها أمام شهادة شهود، هم أعضاء لجنة الثقافة والتربية في البرلمان الأوروبي المجتمعين في أنطاليا من 6 إلى 9/9/1997. فبعد العرض الذي قدمته [ في اللجنة المذكورة] والذي كان موضوعه: الدين والديموقراطية واللائكية، مقاربة نظرية، وجه إلي السيد جاك بوميل، البرلماني الفرنسي وعضو اللجنة، اعتراضا مستعملا العبارات المذكورة أعلاه.

أما أن أكون مواطنا فرنسيا وبالتالي مواطنا أوروبيا مثله، وأما أن أكون أستاذا في جامعة السوربون حيث حصلت على شهادات جامعية تسمح لي بالتعامل مع الفكر الأوربي بنفس الروح النقدية التي دأبت على التعامل بها مع الفكر الإسلامي، فهذا وذاك ما لا قيمة له في نظر النائب المحترم الذي يمثل بالفعل واحدا من أهم التيارات السياسة في فرنسا. هكذا وجدتني أشعر مرة أخرى، كما شعرت في الجزائر المستعمرة، وقد “أرجعت إلى دواري الأصلي” –[ الدوار: حي من أحياء البادية، مدشر]- حسب العبارة التي كانت تستعملها الإدارة الاستعمارية لإبعاد الشخص غير المرغوب فيه من الدائرة المحمية [ الحي الخاص بسكنى الأوربيين ]. لقد تعودت على جدلية الـ”نحن”، [نحن ] المسيطر، ناشر الحضارة، القدوة المستأهل لكل احترام، الذي يعيد إلى وضعيته كتابع، إلى تفاهته، إلى تخلفه التاريخي، بل إلى قصوره الموروث، مخاطبَه الـ “أنتم”، الذي يتجرأ على التطاول على لغة وفكر وثقافة مراقبة في أسمائها واستعمالاتها. إن مثل هذه التصرفات العنفية توجد في أوربا التي تريد أن تكون في الوقت نفسه إنسانية وديموقراطية وليبرالية. لقد صادفتها في كل مكان، حيثما حاولت بكل قناعة وحماس، القيام بأكثر ما يمكن من الجدية والإخلاص بمهمة الوسيط الثقافي والفكري بين التجارب الثقافية المتعددة التي ترعرعت ونمت في سياق الحضارة الإسلامية، وبين التجارب المجددة والمبدعة حقا والحاملة للتاريخ المحرر والتي كانت أوربا فعلا هي وحدها التي أنتجتها ونشرتها في بقية العالم.

***

يمكن أن يلاحظ علي هنا أنني بقيت مشدودا، كلية، إلى أمثلة من حاضر المجتمعات والثقافات الأوربية. وهذا يرجع إلى سببين: فمن جهة يتعلق الأمر بمجتمعات هي، مع كندا والولايات المتحدة الأمريكية، أكثر المناطق التي يقصدها المهاجرين من جميع الأعراق، لأنها تتوافر على بنيات سياسية واقتصادية وثقافية للاستقبال أكثر جذبا وفعالية من تلك التي تتوافر في المجتمعات التي في هي طريق النمو والتي تتدفق عليها هي الأخرى جموع من اللاجئين. ذلك ما يجعل من تلك المجتمعات [ الغربية ] عبارة عن مختبر سوسيولوجي تاريخي أنثروبولوجي على درجة عالية من الغنى. أما السبب الثاني فهو أن هذه المجتمعات الغربية قد شيدت لنفسها إطارا لممارسة الفكر النقدي والتحليل العلمي والمعرفة التجريبية أصبح الإطار المهيمن في العالم الراهن، بحيث أن أي تفسير وأية معرفة ذات توجه علمي لا يمكنهما الاندماج في معارف عصرنا وفكره إذا لم تتم إجازتها من طرف الهيئات التي تحتكر مهمة الإجازة هذه. يجب الأخذ بعين الاعتبار بهذا الأمر الواقع من أجل إدراك حقيقة أن قطع خطوات إلى الأمام, على طريق انبثاق فكر وإبداع يكونان نتيجة عملية تثاقف تتم عبر الثقافات وبداخلها، عملية تتطلب، مسبقا، القيام بنقد إبيستيمولوجي يتناول أدوات التفكير وضروب التصورات وأنواع المعايير وستراتيجيات التأويل، المعمول بها في المحافل المهيمنة على إنتاج المعنى وفحصه.

إن الثقافات المرشحة للعمل والتبادل والإبداع بالمشاركة توجد اليوم في وضعية تاريخية وفكرية واجتماعية وسياسية تقع على مسافة بعيدة من مصادر وإنجازات الثقافات المهيمنة. إنها مسافة لم تحظ لحد الآن بالعناية الفعلية، من خلال مقاربات تهتم بعملية التثاقف. هناك استسلام زائد للتأثير بل للتشويه الذي تمارسه النداءات المطالبة بـ “الحق في الاختلاف” « droit à la différence » دون التمييز بين “التغاير” la différance () كما يفكر فيه الفلاسفة المعاصرون وبين مجرد الخصائص المرتبطة بالطوارئ السياسية والسوسيولوجية والتاريخية والاقتصادية. إننا نشاهد المجتمعات العربية المعاصرة، مثلا، وهي التي تقع تاريخيا ضمن الساحة المتوسطية، تنتج “ثقافات” الرفض والتمسكن والمفاخرة بالهوية، هذا إن لم نقل ثقافات الحقد، إزاء الحداثة الغربية التي تعامل بوصفها عدوانا ثقافيا وفكريا. إن فكر المثاقفة يسجل هذا المشهد ولكنه لا يقترح حلولا ناجعة. إن الفكر العربي والإسلامي ما زال فكرا غير نقدي إزاء نفسه و بالتالي فهو لا يستطيع المساهمة في العمل الذي يقف وراء جنازة المعاني، جميع المعاني الموروثة، والتي يجب أن يتولى تشييعَها البحثُ القائم على المثاقفة والهادف إلى تحقيق المشاركة الإبداعية في جميع مجالات الوجود التاريخي، على عتبة القرن الواحد والعشرين.

سأركز على المجتمعات العربية الإسلامية كمثال، وبخاصة المغرب العربي الذي أعرف ملامحه النوعية، وذلك بهدف إغناء تفكيرنا في الشروط النظرية والعملية لسياسية المثاقفة في الفضاء المتوسطي . وقبل ذلك، أرى أن من الضروري التذكير بوعود وحدود الأنثروبولوجيا المطبقة على المعرفة النقدية بالثقافات .

  • ما الذي يمكن انتظاره من الأنثروبولوجيا ؟

لقد دافعت دائما عن ضرورة قيام أنثروبولوجيا مطبقة على المجال الشاسع الذي طوعته الظاهرة الإسلامية، وبخاصة المغرب الكبير الذي أطلق عليه الباحثون الفرنسيون اسم إفريقيا الشمالية لأسباب جغرافية–سياسية جد معروفة. ولا يعني هذا الموقف أنني أجهل أو أقلل من شأن ضروب الضعف النظري والمشكلات المزيفة وأنواع القصور والوعود غير الموفى بها، من طرف “علم” لم يتوقف مع ذلك عن ممارسة نقده الذاتي. لقد ذَكَّر ج. بلانديي في تعليق له، نشر بجريدة لوموند دي ليفر المؤرخة بـ11/9/1998، على كتاب جديد لنيكولا ثوماس (يحمل عنوان : خارج الزمن . التاريخ والنزعة التطورية في الخطاب الأنثروبولوجي. برلين 1998) ذكّر بهذا التعريف [للأنثربولوجيا. قال ]: وظيفة الأنثروبولوجيا هي معرفة المجتمعات ” الأخرى” ، أي جميع المجتمعات، الكثيرة جدا والمتنوعة كثيرا، التي تشكلت خارج العالم المسمى الغرب. إن الاختلافات بين الغرب وهذه المجتمعات قد تم تصورها، ولمدة طويلة، بواسطة مقولات من قبيل التخلف والفقر والتفاوت والهوة [ التي تفصلها عن المجتمعات المتقدمة ] في مجالات الاقتصاد المنتج وفي إدارة الأشياء والناس، وفي إدراج الأشخاص والأحداث والوقائع في تاريخ قوامه الصيرورة والتحول.

لقد أكثر الأنثروبولوجيون من التنظير والنقاش حول الفوارق بين الإثنوغرافيا والإثنولوجيا والأنثروبولوجيا وفتحوا مجالات للعمل والبحث واعدة حول الأنثروبولوجيا كنقد للثقافات (جيمس كليفورد ). وهكذا، فمن جهة مازال بعضهم يشهر بعمى الاستدلال الأنثروبولوجي ويندد بالتمادي في الأخطاء النظرية وبالفهم الخاطئ للوقائع وبالنقاش الذي يراوح مكانه حول التاريخ والتاريخية، في مقابل المنظومة والبنيات… ومن جهة أخرى يعاد الاعتبار لباحثين مثل روني مونيي ( 1887 ـ 1951 ) الذين ألقت بهم المؤامرات الجامعية في الظل لمدة طويلة(). أما ن. توماس فهو ما زال يعارض النزعة التطورية، القائلة بالمراحل والحقب، بمنطق العلاقات البنيوي ضدا على تموجات السيرورات التاريخية واستمرارية الأفكار التي سقطت مصداقيتها والاحتفاظ بالتحليل النسقي أو البنيوي والاستبعاد المعترف به، بهذه الدرجة أو تلك، للسيرورات التاريخية بدعوى استحالة التحقق من واقعيتها في المجتمعات التي لا تعرف الكتابة. وبالعكس من ذلك المؤرخ، فهو لا ينتظر منه أن يرحب بالمعارف التي تقدمها أنثروبولوجيا غير متحررة كفاية من النزعة الوصفية الإثنوغرافية والتي تقتصر على وقائع مختارة ومستقاة عن مخبرين هم أنفسهم مختارون وأخذ عنهم في ظروف عابرة من جهة، بينما ُتعاد كتابتها، من جهة أخرى، بلغة غير لغة الأهالي، فتنقل هكذا إلى مدونة للدلالة مختلفة ومثقلة بحمولات نظرية غير مصرح بها. من ذا الذي يستطيع أن يزعم أنه استنفذ تحليل عمليات تفكيك التناص وإعادة بنائه؟ هل يمكن إعادة تشكيل تغيرات التراث وتنوع الأنظمة التقليدية في فضاءات إثنو ـ ثقافية واسعة كفضاءات المغرب الكبير، ومركبة كفضاءات مصر أو إندونيسيا، بدون اللجوء إلى التاريخ، والحال أن المجتمعات التي يبحث فيها ” الأنثروبولوجي” قد عرفت كلها تغيرات قبل زمن البحث ؟ أضف إلى ذلك الاضطرابات الكبرى التي تعرضت لها جميع المجتمعات التي تقع خارج “الغرب ” منذ 1945.

إن أقل ما يمكن أن يقال هو أن مجموع العلوم الاجتماعية هي أبعد من أن تكون قد أخذت بعين الاعتبار جميع العمليات الكبرى التي تقف وراء التفتت والتشظي والذوبان وإعادة التشكيل، وعمليات التقدم والنكوص، والتعقيد والانقطاعات والاستلابات والتحولات الوحشية والاختلالات التحتية والخفية التي تثير فعلا دهشة الملاحظين الذين يستعجلون كثيرا ويحتاطون قليلا. إننا نعيش منذ عشرين سنة بداخل زَبَد إسلاموي هائل يضخم تضخيما من طرف وسائل الإعلام وحلفائها من علماء السياسة على غرار الفقاعات المالية المضخمة والمقزمة، من أسبوع لآخر، في البورصات العالمية.

يمكن أن يبدو هذا الحكم ظالما إزاء مساهمات المؤرخين المهتمين بالتاريخ الاجتماعي على المدى المتوسط -القرنان 19 و 20- والمسلحين بالميل نحو التدقيق الذي تتميز بهما الدراسات التاريخية التي تتناول الحوادث الفردية المحدودة (الميكرو ـ تاريخ) والتي تزاوج، بهذه الدرجة أو تلك من التوفيق، بين إشكاليات كل من علم الاجتماع وعلم النفس التاريخي واستكشافات كل من الإثنوغرافيا والإثنولوجيا. فالباحثة فاني كولونا، التي تهتم اهتماما خاصا بالتقييم النقدي، تواصل العمل على الخط الذي سار فيه كل من إ.جيلنر, وج. بيرك, وبـ. باسكون, وس ل. جريتز … في هذا المجال. ويستحق كتابها الأخير آيات المناعة، الثبات والتغير في المجال الديني بالجزائر المعاصرة، (مطبوعات المؤسسة الوطنية للعلوم السياسية 1995)، فحصا مطولا لا يمكنني إدراجه هنا وإلا ابتعدت عن الموضوع الذي أعالجه. لذلك سأقتصر على الإشارة إلى أن المؤلفة خصصت خاتمة قصيرة، مع تذييل، للدفاع عن موقفين مركزيين بحمية الباحث المتحمس الذي يسعى، في آن واحد، إلى إعادة النظر في طريقة الممارسة العلمية المهيمنة على الدراسات الخاصة بالمغرب العربي من جهة، وإلى إعادة بناء ماض وحاضر تمت مصادرتهما كلية من طرف الجزائر الرسمية، من جهة أخرى. وهكذا، فمن الناحية العلمية تقرر الباحثة أن العلوم الاجتماعية لم تعرف كيف تعالج الأبعاد المحلية والرهانات الثقافية لتاريخ المغرب العربي؛ ومن الناحية السياسية تقرر أن المعرفة العميقة بمنطقة معروفة بقوة هويتها، منطقة جبال الأوراس، تسمح بالقول إنه بعد الاستقلال “كان من الممكن أن تسير الأمور على غير ما سارت عليه… ويمكن أن تصبح في المستقبل على غير ما كانت عليه وما هي عليه اليوم ” ( ص ، 374 ).

شخصيا، كنت دائما من الذين خاضوا هذه المعركة التي تتعلق بالماهية الثقافية والروحية وذلك من أجل الإعلاء من شأن ما أسميه بحقوق الفكر إزاء صنوف الأمر الواقع التي يفرضها التاريخ الذي يطبعه العنف والعداء الشديد للمصالح الجوهرية للمجتمعات والمجموعات، وضدا على القضايا التي باسمها شنت معارك التحرير المزعوم وتمت عمليات التصفية لأبرياء كي تستخدم في ما بعد كقيم عليا لإضفاء الشرعية على سلطة جماعة من المغتصبين. إن من واجب العلوم الاجتماعية القيام بتعرية وتفكيك وجلاء حقب من الماضي مصنوعة، وفترات من الحاضر محرفة، وتصورات حول المستقبل وهمية، يراد منها جميعا سجن الفكر في استلابات تعيد نفسها باستمرار. ومع تقديري الكامل للشجاعة الفكرية التي اتسم بها عمل الباحثة فاني كولونا فإني أبدي تحفظات حول طريقة استخدامها للمعجم الخاص بالفكر الإسلامي. إنها تعرف اعتراضاتي؛ لكنها، ككثيرين غيرها، لم تفهم على حقيقتها مهام ومقاصد نقد العقل الإسلامي كما مارسته منذ مدة طويلة، منطلقا، ابتداء، من نفس البواعث التي حركتها كجزائرية إلى أن تشارك، وبتعاطف كبير، أهل الأوراس في قيمهم ومفاخرهم ونجاحاتهم كما في الاخفاقات عانوا منها والتي لا يستحقونها. إن دعوتها المتكررة لكتابة تاريخٍ لأنماط التفكير، على جميع مستويات الحياة الاجتماعية-الثقافية، ولإنشاء “علم اجتماع تاريخي للأفكار ينطلق من أسفل”، تجد مكانها في إلحاحي على توجيه الكتابة في تاريخ الفكر الإسلامي نحو الطرح الإشكالي الذي تقدمه جدلية القوى والبقايا، وهي الجدلية التي نجدها في جميع المجتمعات والتي أكدت عليها في أبحاثي الخاصة بالمغرب العربي منذ 1974.

وفي نفس الخط، هذا الذي أعرض فيه هنا لمنجزات العلوم الاجتماعية، خصوصا منجزات تاريخ مطبق على الفضاء المغاربي على صورة أنثروبولوجيا نقدية للماضي وللحاضر، أجد لزاما علي هنا الإشارة، باحترام وتقدير واعتراف، إلى المساهمة الاستثنائية التي أنجزها تادوس ليفيسكي T. Lewicki . فقد انكب هذا العالم بلا كلل، وطوال خمسين سنة، على ترميم مجموعة الوثائق الإباضية التي سبق أن جمعها السيد ز. سموغورزيفسكي Z. Smogorzewski ، في العشرينات من هذا القرن، في خزانة مدينة لووو Lwow (بأكرانيا) ، والتي نقلت في ما بعد إلى كراكوفيا. وأنا أحتفظ باسم ت. ليفيسكي ضمن باحثين لامعين آخرين غيره ليس فقط بالنظر إلى غنى مساهماته واتساع مداها، بل أيضا لأنه في أعماله تلك يجعل في المستطاع تسجيل وإبراز المواقف التي تكرر نفسها لدى المغاربيين: مواقفهم إزاء ماضيهم وتراثهم وإزاء الظروف الواقعية لحياة الجماعات التي ينتسبون إليها, والمجتمع الشمولي الذي يسمونه اليوم “المغرب” Maghreb ، المغرب العربي الكبير، الشعب المغاربي. فنحن نعرف أن لمجموعة بني مزاب هوية دينية اجتماعية وثقافية ما زالت أكثر تميزا وأكثر بروزا أمام الملاحظ من هويات جماعات أخرى معروفة في الفضاء المغاربي. إنهم ينتمون للفرقة الكلامية الفقهية الإباضية التي حاربها الأمويون كغيرها من فرق الخوارج. وعند سقوط دولتهم الإمامية بتاهرت سنة 909 التجئوا إلى جنوب الجزائر حيث عملوا على قيام نوع من الوطنية البربرية، دينية وإثنوـ ثقافية ومؤسسية، ما زالت قائمة حتى أيامنا هذه . ونظرا لوضعيتهم كأقلية دينية وإثنية فقد اضطروا إلى التقية، يمارسون بحذر معتقداتهم وسط أغلبية سنية مالكية عربية اللسان. لقد حافظوا على مذهب ديني هو من الناحية الشعائرية جد صارم، ولكنه من الناحية الفكرية أشبه ما يكون بذلك الذي ساد في مجموع الفضاء الإسلامي منذ القرن 15. ليس هناك أية دراسة هي من العمق بحيث تمكننا من بيان الكيفية التي اجتازت بها هذه الجماعة السنوات الستة والثلاثين التي استغرقتها الهيمنة السياسية القسرية التي مارستها عليها دولة جبهة التحرير الوطني: فنحن لا نعرف ما الذي تبقى من استقلالها الذاتي العريق ولا من مؤسساتها ولا من قانونها العرفي الذي كان يطبقه علماؤها الإباضيون، ولامن عمرانها واقتصادها المرتبط بالواحات، ولا من ذاكرتها الجماعية وقيمتها كشاهد عيان، كالطوارق، على مغرب كبير مدفون تحت عديد من الطبقات التاريخية المتراكمة فوق بعضها والتي تتطلب عملا أركيولوجيا في جميع الميادين ؟ هناك خزانات خاصة يحتفظ بها أصحابها بحرص شديد، فحرمت غيرتهم عليها الباحثين من الاطلاع عليها دون أن يقوم أولئك أنفسهم بما يلزم من تهيئتها وإعدادها وفق الأساليب الحديثة، من أجل نشرها الذي كان يجب أن يتم منذ مدة. وتلك وضعية تعرفها المخطوطات في جميع مناطق المغرب العربي. و نحن لا نرى كيف سيغدو في الإمكان يوما إنشاء مؤسسات، لا تستهدف أية منفعة وذات رسالة إنسانية، تضع تحت تصرف الباحثين، أخيرا، جميع المخطوطات التي تتعرض الآن لجميع مخاطر الضياع. وإلى جانب ما تبقى من تلك المخطوطات تظل هذه الشهادة المحركة للعواطف التي أدلى بها هذا الباحث البولوني [ المذكور ] الذي كرس حياته لإيجاد مكان ومصير، لجماعة صغيرة مقموعة تم تجاهلها والتنقيص من قيمتها من طرف السلطات المتعاقبة، في التاريخ العام المشترك، في هذا الفضاء الجغرافي السياسي الذي ساهمت فيه بوصفها أحد الفاعلين الأساسيين .

لا علاقة لهذه المواقف النقدية بتلك التي سادت من قبل والتي تستنكر “العلم الاستعماري” من منطلق أيديولوجي محض وتتبناها وتكرسها اليوم عقول سلفية مشدودة إلى شعارات الخطاب الوطني الذي كان موجها ضد ما كان بالفعل موجة أنثروبو ـ سوسيو ـ إثنوغرافية، أعني علما استعماريا بامتياز! إنه من الضروري القيام بجرد نقدي جديد لمظاهر اللامسؤولية، غير المعترف بها بعد، والتي اقترفتها العلوم الاجتماعية والسياسية التي ساهمت في النفخ في الزبد الإسلاموي بأكثر مما فعلت من أجل تكييف جهازها المفاهيمي واستراتيجياتها المعرفية وإرادتها في المعرفة مع متطلبات القيام بتفكيك جذري، وبلا تنازل، لما أسميته قبل قليل بالتراجيديات المخططة والتي عانت منها جميع المجتمعات المحررة من الهيمنة الاستعمارية بعد 1945. إن مفهوم التخطيط التاريخي، السوسيولوجي والسياسي، لتطور يشق طريقه شقا حسب خطى ثقيلة الوطأة خطتها الأجيال السابقة، مفهوم سبق أن شرحه باحثون آخرون، أخص بالذكر منهم روني ريمون ومارسيل كوشي بفرنسا. فانطلاقا من النقاش الواسع الذي يعرفه المجتمع الفرنسي اليوم يتتبع هؤلاء الباحثان مجرى التاريخ من أجل إعادة بناء السيرورات والقوى والأفكار التي تلقي الضوء ليس فقط على الكيفية التي تكونت بها المشاكل المعاصرة، بل أيضا على الشرعية الثقافية للنقاشات المتقدمة، بالمقارنة مع الصدامات التي تجري اليوم. ويمكن التعرف على مدى خصوبة هذه المقاربة، التي تمت في سياق من البحث يراعي تداخل العلوم وتعددها، من خلال كتابين حديثين : كتاب ر. ريمون : الدين والمجتمع بأوربا، محاولة حول علمانية المجتمعات الأوربية في القرنين 19 و 20 ،(دار النشر سوي، باريس 1998)؛ و كتاب م. كوشي : الدين في إطار الديمقراطية، مسارات العلمانية (دار النشر غاليمار 1998).

بالإمكان الإشارة هنا إلى عدد أكبر من المؤلفات، باللغات الأوربية، يتضح منها أن الباحثين في العلوم الاجتماعية يعالجون، بهذه الدرجة أو تلك من العمق ووثوق الصلة بالموضوع، مشاكل مجتمعاتهم الخاصة، ويضعون أصابعهم الآن، أكثر من أي وقت مضى، على مشاكل الاتحاد الأوربي الذي أضحى فضاء تاريخيا واجتماعيا وسياسيا مشتركا. إن هذا الدور الفصل الذي للعلوم الاجتماعية هو أبعد من أن يكون في متناول مجموع المجتمعات التابعة فكريا وثقافيا وعلميا للمراكز العليا التي تنتج المعارف وتراقبها. لقد غرست الأيديولوجية التي قادت الكفاح ضد الاستعمار في المخايل الاجتماعية فكرة أن تحقيق الاستقلال السياسي يفتح بالضرورة طريقا ملكية للاستقلال الاقتصادي، والاستقلال التكنولوجي، والاستقلال العلمي ومعه الاستقلال الفكري بطبيعة الحال. لقد ساد الاعتقاد في إمكانية حرق المراحل واختصار الطريق والاستغناء بالتالي عن الأسئلة ذات الطابع الكوني العام التي طرحتها الحداثة الفكرية والعلمية بأوربا من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين. وقد ظلت مختلف الأنظمة التي قامت بعد الاستقلال تخلط بين الأولوية التي يجب أن يحظى بها النضال من أجل تقليص الحدود المفروضة في كل مكان وباستمرار على الانتشار الحر للفكر الإنساني، وبين الأسبقيات الظرفية لمعارك الاستيلاء على السلطة. صحيح أن إدراك هذا التمييز وتحيينه في الفعل التاريخي كان يتطلب أن يكون في مقدور الفاعلين الاجتماعيين الاستناد إلى مرجعية من الفكر النقدي؛ وهي المرجعية التي خلا منها المغرب العربي باستمرار. ومن وجهة النظر هذه فإن الخلفية الفكرية الثاوية في خطاب التحرر الوطني خلفية مسجونة في أنواع من الخلط الفكري والمواقف الدوغماطيقية هي نفسها السائدة اليوم في الفكر الأصولي الإسلاموي الذي يريد أن يستلم راية العمل التحريري.

لقد دافعت الحركات الوطنية خلال معارك التحرير بالمغرب العربي عن تصور للأمة، في كل من تونس والجزائر والمغرب، مستنسخ تماما من النموذج اليعقوبي الفرنسي، وهو نفسه النموذج الذي دشنته الملكية بفرنسا والذي تم تعضيده وتوسيعه سياسيا من طرف الجمهورية الثالثة. وبالاستناد إلى هذه المرجعية تعامل المستعمرون والسياسيون الفرنسيون باستهزاء، وتبعهم في ذلك أصناف من المثقفين، مع ما أطلق عليه اسم الأمة التونسية والأمة الجزائرية والأمة المغربية. أما المثقفون والباحثون المغاربيون –وعلى كل حال فقد كان عددهم قليلا إلى حدود السبعينات- فإنهم بانسياقهم الجماعي مع منطق الضرورات التاريخية للبناء الوطني، لم يفكروا قط في القيام بمراجعة نقدية لعملية استيراد نموذج لا يستجيب لمتطلبات الفضاء المغاربي الذي مازالت فيه الممارسة العلمية، على مستوى التاريخ والأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، ممارسة هزيلة، وفي الأغلب الأعم تطبق تطبيقا سيئا في مجال إعادة بناء الروابط مع كل من الساحة المتوسطية، واللغات والثقافات الإفريقية، وأنماط ودرجات الحضور الذي كان, حسب الأزمنة والجهات, للغة والثقافة العربية الإسلامية. إن جدلية القوى والبقايا() (التي تتمثل في التعارض المشهور في المغرب الأقصى بين المخزن / السيبة ) تسود دائما في علميات بناء المركز السياسي على حساب كل من الأقليات والذين يعيشون على الهامش واللغات المنافسة، وهي العناصر التي تصنف ضمن ما عفى عليه الزمن وما لا أهمية له، وتنسب إلى البدعة والتمرد والفوضى… لنلاحظ هنا أنه في الإسلام كما في المسيحية سرعان ما شيدت الثيولوجيا السياسية (علم الكلام) إطارا للتفكير يسمح من خلال مفهوم الدين الحق، الذي لا يحق لأية سلطة بشرية أن تجادل فيه، بإضفاء الشرعية على الرقابة الصارمة لـ “البدع” التي يمارسها الحراس الرسميون للفرقة الدينية “الرسمية”- “الأورثودوكسية “.

إننا نعرف في أية ظروف مأساوية بالجزائر -ولحسن الحظ هي أكثر سلمية بالمغرب وموريتانيا وتونس()– تتواصل عملية البناء الوطني وتشييد المجتمع المدني. إن بعض الخيارات السياسية التي لها علاقة مباشرة بمصير المثاقفة بالمغرب الكبير كانت لها آثار مضاعفة على الوضعية غير الملائمة الموروثة من التجاوزات الإيديولوجية التي فرضها الكفاح التحريري. سأشير بسرعة لسياسة للتعريب، ديماغوجية وظلامية، جاهلة أو متجاهلة كليا للإرث الثقيل الذي يجره الفكر واللغة العربيين معهما منذ القرنين 13 و 14. إنها سياسة ليست أقل اعتباطية تكرس التقليد من أجل إنعاش شخصية عربية ـ إسلامية “أصيلة” على أنقاض الانشطارات والإقصاءات وضروب الإهمال التي تنسب إلى النشاط العدواني للمستعمر، وحده دون غيره. وهكذا يتم القفز فوق ما يسمى بقرون الانحطاط من أجل البحث في العصر الذهبي ( التراث ) للحضارة الموصوفة بكل بساطة بالعربية، عن القيم والبواعث والإنجازات والأبطال ناشري الحضارة، الشيء الذي يُنشَد من ورائه تحقيق انبعاث يصل بالشخصية العربية الإسلامية إلى شاطئ النجاة. وحتى تونس بورقيبة، الذي نعرف جرأته النقدية والإصلاحية، لم تستطع مقاومة هذه النوازع التي تضفي الطابع الأسطوري على الأشياء والتي يستحثها ماض يعيد المناضلون صنعه، في الوقت الذي يظل فيه عمل هائل في مجال الترميم التاريخي والأنثروبولوجي ينتظر أن يخطط له ويصار به إلى النجاح.

إن التحديد الإيديولوجي المختزل لـ ” الشخصية ” أو لـ” الهوية ” المغاربية مازال يحول دون الإسراع في تدشين بحث محايد يستكشف آفاق مجموع الفضاء المغاربي بواسطة أدوات تفكير متحررة، أخيرا، من أطر التأويل المكرس من قبل السرديات التاريخية العربية ـ الإسلامية التي يغلب عليها التوجه الكلامي-الديني، ومتحررة أيضا من الإشكاليات البالية المرتبطة بالظاهرة الاستعمارية ثم بالهيمنة الغربية. وفي الوقت الذي يحتل فيه الدين حيزا لا حدود له في الحياة اليومية وفي الفكر السياسي لدى المغاربيين، فإن الشأن الديني مازال يشكل اللامفكر فيه الأكبر لما لم يرق بعد، لهذا السبب ولأسباب أخرى، إلى ما يمكن أن نسميه الفكر المغاربي. هناك جهود في هذا المنحى جديرة بالتنويه؛ وأنا أحيي، مع متمنياتي بالنجاح الأكيد، ميلاد مجلتين واعدتين بالمغرب : مجلة فكر ونقد ، وهي مجلة شهرية يديرها محمد إبراهيم بوعلو ومحمد عابد الجابري ( وقد ظهر منها 17 عددا )؛ ومجلة برولوغ (مقدمات) المزدوجة اللغة، ويديرها عبده فيلالي أنصاري. وليس من قبيل التقليل من أهمية المسرح الفكري والثقافي المغاربي الإشارة إلى ضروب التأخر المتراكمة، وبشكل خاص إلى الهوة القائمة بين ما هو متوافر معروض وبين الطلبات الملحة لجمهور شاب متعطش. إن الجهود والمبادرات ما زالت معزولة واستثنائية وجد متواضعة وبدون صدى دائم في مجتمعات تعاني من البطالة والتهميش وظروف وجود هشة، ومن وسياسة تربوية غير ملائمة، وتعاني بكيفية خاصة من وطأة الثقافة الشعبوية التي تعمل كإطار لإعادة تشكيل فظة لمعتقدات إسلامية تسربت إليها شذرات متنافرة من حداثة تُرفَض مبادئُها رفضا. إنني أعرف طلبة يفضلون الابتعاد عن الموضوعات التي لا تمس (تابو) والعلوم التي لا تفتح آفاقا للكسب الجيد ولا أبوابا لولوج الدوائر المقصورة على المحظوظين، آملين بذلك تحاشي الالتحاق بصفوف الخريجين العاطلين، المرشحين للهجرة. أما الأعمال التي تنجز بالخارج، فمع أنها ذات قيمة، فهي غير مقروءة بما فيه الكفاية من طرف جمهورها الطبيعي, فالكتاب المطبوع بالخارج والمكتوب بلغة أوربية هو كتاب لا يمكن حيازته إلا بصعوبة: فهو باهظ الثمن، موزع توزيعا سيئا، ومن الصعب جدا العثور عليه في مكتبات قليلة العدد ورديئة التجهيز. أما المعربون الذي يعرفون اللغة العربية وحدها والذين يتزايد عددهم باطراد فلم يعد في مقدورهم حتى التفكير في التحرر من هذه العوائق الخطيرة المفروضة على أبواب الحداثة. وأما الفرانكوفونيون الذين لا يجيدون غير الفرنسية فهم يغامرون بطمأنينة بالغة، إن لم يكن أحيانا بغرور، في فكر إسلامي يجهلون مصادره الوضعية ومناهجه وقضاياه وإشكالاته. والنتيجة هبوط الثقافة المدرسية بل والجامعية إلى مستوى الكتب المدرسية التي لم تعد مواكبة والمختصرات المستنسخة والمقالات الموجهة لعامة الجمهور، بل وإلى الأدبيات التمجيدية المناضلة التي توزع مقابل أسعار زهيدة.

يجب الدفع بهذا النوع النقدي من التحليل والجرد في اتجاه سوسيولوجيا منهجية لنشر الكتاب والفيلم والبرامج المتلفزة بالعربية والفرنسية وباللغات الأوربية الأخرى، سوسيولوجيا تعنى بالكيفية التي تتم بها عملية الاستقبال والرفض للأنماط والأشكال والمستويات الثقافية في كل مجتمع؛ سوسيولوجيا للممارسة الدينية وللصيغ والمضامين الثقافية التي تصاحبها لدى مختلف الجماعات اللسانية ( بربرية ، عربية ، فرنسية )، مع العناية بإبراز الأوضاع الاجتماعية ـ الاقتصادية ومستويات الثقافة المقابلة لها، داخل كل جماعة. يجب أيضا الدفع بتحليل الأنظمة التربوية والبرامج المدرسية وتوجهات البحث في العلوم الاجتماعية إلى أبعد مما فعلت هنا. يجب القيام بجرد المصادر الثقافية الضائعة و التي هي في طريق الضياع بسبب غياب سياسة للثقافة متحررة من النماذج الإيديولوجية التي كرست سياسات اللاثقافة والجهل الممأسس.

كيف تتمثل كل مجموعة اجتماعية، مميزة بواسطة لغتها الراهنة، كلا من ماضيها وحاضرها ومستقبلها ودرجة اندماجها أو عدمه بداخل المجتمع الشامل الذي تنتمي إليه؟ ما هي الاتفاقيات الخاصة بالتعاون والتبادل في مجالات اللغة والثقافة والتعليم التي تقبلها وترغب فيها، أو تتجنبها وترفضها، مختلف الدول المغاربية، من بين جميع ما يمكن أن تعرضه عليها دول العالم أجمع، وبكيفية خاصة دول المجموعة الأوربية() ؟ إننا نعاني من نقص المعلومات الدقيقة بخصوص كل هذه المسائل المهمة، ولا ندري هل يتعلق الأمر بقصور راجع إلى علوم لا تنمي الفضول وحب الاطلاع في هذا الاتجاه، أو بكون الباحثين يصطدمون ببيروقراطية ومراقبة بوليسية تحبط أحسن الإرادات وأفضلها. ونفس الشيء يقال بالنسبة للاستكشافات الإثنوـ سوسيولوجية .

وباعتبار ما تقدم يمكن أن يفهم القارئ الدواعي التي جعلتني لا أكف عن التنديد بالكتابات السياسوية التي تكتفي بكتابة حواش وتعليقات انتقادية على الخطابات “الإسلاموية، “الأصولية”، والتي يذهب بها الأمر إلى حد التنظير لصدام الحضارات! وتلك مسألة يتوجب على فكر مغاربي نقدي أن يمارس فيها، بصورة أوسع مما فعل، مسؤوليته العلمية والفكرية.

  • حظوظ المثاقفة بالمغرب الكبير

إن “المحاضر” السلبية التي قمت بعرضها هاهنا لم تمليها عليّ نظرة متشائمة إلى التطور الذي عرفه المغرب الكبير بعد الاستعمار. إن مهمة العلوم الاجتماعية تتمثل في الإفصاح عن الرهانات الثاوية وراء سياسة من السياسات، والكشف عن الآليات العميقة التي تحكم حياة المجتمعات وعن البواعث الخفية أو اللاشعورية التي توجه اختيارات الفاعلين. كما وأن مهمة العلوم الاجتماعية تتمثل أيضا في التصريح عن صنوف اللامفكر فيه وغير القابل للتفكير فيه الذين تكرسهما بصورة متواصلة الخطابات الرسمية، بما في ذلك خطابات كل من المثقفين العضويين والقيِّمين على وجهة النظر الدينية “الرسمية”، مغلقة بذلك الباب، في كل فضاء اجتماعي ـ سياسي، أمام ما هو قابل للتفكير فيه. يمكن أن تناقَش تلك “المحاضر” في إطار القواعد المعمول بها في العلوم الاجتماعية، لكن –بكل تأكيد- ليس انطلاقا من المواقف الإيديولوجية للفاعلين السياسيين ولا من المسلمات الكلامية- الدينية لحراس وجهة النظر الدينية التي تقدم نفسها على أنها وحدها “الدين الحق”. وأنا أقدم هذه التوضيحات بقصد الرد مقدما على أنواع الاعتراض والإدانة والرفض التي قد تصدر عن أولئك الذين هم كثيرون، والذين لا يميزون بين حقول الواقع وأطر الفكر، ولا بين مستويات التحليل واستراتيجيات التدخل العلمي، ولا بين ما يهم المعرفة وما يخص الخطب الخاصة بتعبئة المخايل الاجتماعية .

نتمنى أيضا أن تساعد جميع هذه التشخيصات والمعلومات والتوضيحات على فتح فضاء جديد للمعقولية والعمل، فضاء يتم فيه تجاوز العوائق والإكراهات التعسفية وأنواع الجهل وضروب اللاتكيف التي سبقت الإشارة إليها. ما هي حظوظ المثاقفة بالمغرب الكبير في السياق الجديد لعولمة تتميز بكونها علمية وتكنولوجية ، ثقافية وفلسفية، وليست فقط اقتصادية ونقدية؟. إن للأولوية الوظيفية التي تعطى للاقتصاد والنظام النقدي الحالي على الثقافات، وبالتالي على ظروف وجود الإنسان، انعكاسات لا يمكن أن تضبطها إلا اليقظة النقدية للعقل الذي يعمل على حماية حقوق الفكر، التي تتوج على المستوى الفلسفي، حقوق الأفراد ـ المواطنين [“حقوق الإنسان“]. وإذا كنت أضع الفكر وحقوقه في المقدمة وأعطيهما الأولوية فليس لأني أناصر الرجوع إلى تلك النزعة التوفيقية الفلسفية ـ الدينية التي نشرتها الأفلاطونية المحدثة والنزعات الصوفية التي كرست على مدى قرون، في الشرق والغرب على السواء، تلك الثنائية الروحانية التي تضع الروح في مقابل الجسد والفكر في مقابل المادة. إن النقاش الذي جرى مؤخرا حول هذا الموضوع بين بول ريكور و ج.ب. شانجو لم سفصل – وأنى له ذلك!- في مسألة الشكوك التي تقف في وجه قيام أي يقين حول موضوع العلاقة بين كل من الروح والفكر والعقل واللغة والمادة. وبما أني ذكرت الفكر هنا فإني أود فقط لفت الانتباه لهذه الحظيرة، التي نسميها النفس، حيث تتم جميع أعمال الفكر متداخلة متشابكة مع أنواع التفاعل والتراتب التي لا تستقر على حال والتي تجري بين العقل والخيال والذاكرة والإرادة. إن أي نقد جذري لرهانات المعنى الثاوية وراء جميع أنواع الخطاب التي ينتجها الإنسان لا يمكن أن يدعي لنفسه الصدق والصواب ما لم يتمكن من التعرف على الوظائف والأوضاع التي تعطيها كل ثقافة لما تدعوه العقل، والخيال، والمخيال، والذاكرة، والإرادة. إن الموقع السياسي الذي تحتله الاستعمالات الأصولية للعقل، في غير ما اعتبار لما يجتهد كل من العقل العلمي والخيال المبدع لإقراره في مجال احترام حقوق الفكر، وإن الخلط الذهني المتعددة مظاهره، والناجم عن أنواع التفسير الفج للنصوص الدينية المؤسسة التي تعطي كلها المقام الأول لتقدم الإنسان كفكر، كما وإن الضغوطات التي تمارسها النظريات العلموية الاختزالية على الخطابات الدينية التي تواصل العمل بطريقتها الخاصة على التعبير عن طموح الإنسان لمواجهة مصيره بوصفه فكرا وجسما : كل ذلك يفرض الارتفاع بالنقاش إلى المستويات المتشابكة المتداخلة التي يعمل فيها التفكير الفلسفي الجذري، كما هو قابل للتداول في هذه المرحلة من تطور معارفنا. فبدافع من كون هذا الطموح إلى تجذير الفكر النقدي لا يجد مجراه في الفكر المغاربي أولا ولا في الفكر الإسلامي ثانيا ولا في الحوار بين الأديان ثالثا، أجدني أتحفظ من الكلام عن فكر مغاربي، وفكر إسلامي حديث، وفكر ديني، على غرار الفكر الذي تعبر عنه الجهود المبذولة في مجال تجذير المعرفة [ في الغرب ] والتي تجد ما يمثلها خير تمثيل في الحوار الذي جرى بين ريكور وشانجو وكذا في بعض المسارات الفلسفية المعاصرة.

لماذا كل هذا الإلحاح في البحث عن فكر مغاربي غائب ؟ هل لأن هناك مهام مستعجلة وخاصة تنتظره؟ هل لأنه ينتظر منه أن يقدم مساهمة نوعية في الجهود المبذولة من قبل أنماط أخرى من الفكر، في مسارات تاريخية أخرى، من أجل تكريس أولوية التماس المعنى على القبول بالأمر الواقع الذي تفرضه دائما وفي كل مكان إرادات القوة ؟

أعتقد أنه لا يمكن الحديث عن فكر مغاربي إلا عندما يتم تدشين العمل في مشروع واعد يكون عليه وعليه وحده: إلقاء أضواء كاشفة على العلاقات التي تربط حاضر المغرب الكبير بالحقب التي يغلب فيها الانفصال على الاتصال في تاريخه، والتي تشده إلى جغرافيته السياسية ومكوناته اللسانية والأنثروبولوجية والإيكولوجية، تلك العلاقات التي لا يمكن اختزالها في اختيار إيديولوجي واحد يوضع في منأى من كل تدخل نقدي. إن مهمة التوضيح هذه تقع على عاتق جميع المجموعات الاجتماعية التي تطمح إلى اجتياز الفترة التاريخية للدولة-الأمة. من أجل ذلك فإن فكرا مغاربيا يقدم جوابا قابلا لأن تجد فيه بغيتها المجموعات العديدة التي تناضل من أجل تحصيل هويتها الوطنية، سيساعد بكل تأكيد في الدفع إلى الأمام بالنقاش الحالي الذي يجري حول التناقضات التي لم يتم بعد تجاوزها، والتي تقوم بين أولوية تحصيل المعنى الهادف إلى تفتح الإنسان على وجوده وكينونته وبين الضرورات التاريخية التي تفرض الارتكاز على إرادات القوى للولوج إلى صرح الوجود الوطني والعمل داخل هذا الصرح المستعاد، من أجل احترام حقوق الشخص-الفرد–المواطن.

عندما كنت طالبا بكلية آداب الجزائر استمعت إلى أندري مندوز يحاضر عن القديس أوغسطين أسقف عنابة، وإلى روجي لوتورنو يستشهد بابن خلدون المؤرخ المغاربي النقدي، في حين أنه بقريتي التي فيها مسقط رأسي، تاوريرت ـ ميمون، والتي تقع بمنطقة “القبائل الكبرى”، كانت إحدى عماتي، التي ينيف عمرها عن المائة سنة، قد سبق لها أن أروت طفولتي بالثقافة الشفوية المحلية. إن هذه المرجعيات الكبرى الثلاث تحيل إلى مكونات تقوم بينها علاقة انفصال وتتشكل منها ذاكرة تاريخية، كما تشير إلى بعد جغرافي-سياسي لم يحدث لحد الآن أن قام، في الفضاء المغاربي، أي شكل من أشكال الفكر ولا أية لحظة من لحظاته بالتقريب بينها والإمساك بها في رؤية إجمالية متسائلة، تجمع بين النظر إلى الماضي والنظر إلى المستقبل. لم يكن بمستطاع الجهاز الذهني السائد في العصر القديم المتأخر كما في العصر الإسلامي الأول أن يسمح بانبثاق مثل هذه الرؤية. إن التحول إلى دين جديد يكون مصحوبا بالبغضاء، بالكراهية التي تدمر العوالم والثقافات السابقة التي تقاوم توسع المنظومة الجديدة، الداعية إلى الإيمان بمعتقدات والكفر بأخرى. لقد وعى ابن خلدون هذا الانقطاع بين حضارة البدو الرحل وحضارة الحضر وعيا عميقا جعله يقول قولته المشهورة التي تحدد موقعه من الصراع الدائر في عصره، أقصد قوله: ” إذا عرِّبتْ خُرِّبتْ”. بيد أنه لم يكن يستطيع، حتى بوصفه وريثا لثقافة عربية إسلامية رحبة، أن يدرك رهانات المعنى والثقافة الثاوية وراء القطيعة التي أحدثها الإسلام، الذي اعتقده الناس وعاشوه بوصفه دين الحق، في فضاء متوسطي تعرض من قبل وبقوة لمفعول قطائع أقل عمقا بين المسيحية والثقافات الإغريقية ـ الرومانية. لقد ظهرت في السنوات الأخيرة مؤلفات تجديدية، صدرت في برينستون عن دار النشر داروين بريس، في مجموعة تحمل اسم studies in late antiquity and early Islam [دراسات في العصر القديم المتأخر والإسلام المبكر]. لقد عملت هذه المؤلفات على تجاوز التقابل الاختزالي التي انشغل به هنري بيرين في كتابه محمد وشارلمان (1936)، التقابل بين إسلام فاتح كاسح و حلف روماني pax romana يشمل جنبات البحر الأبيض المتوسط المسمى آنذاك بحر الظلمات Mare Nostrum .

أما الأبحاث الفرنسية التي تناولت شمال إفريقيا منذ 1980 فقد سبق أن كانت موضوعا لأنواع من التقويم النقدي. ولن أتعرض إلى هذه الأعمال إلا من أجل إبراز كيف أن الإيديولوجيا الاستعمارية قد بالغت، إلى الحد الذي لا مزيد عليه، في إضفاء الطابع الإيديولوجي على المشاكل التي تخص الذاكرة التاريخية في المغرب الكبير، هذه الذاكرة التي أحاول فعلا تحريرها من المغالط المضاعفة التي يرجع بعضها إلى الموقف الاستعماري وبعضها الآخر إلى رد الفعل الوطني: فالموقف الاستعماري قد أولع بتركيب استمرارية موهومة بين روما المسيحية وفرنسا ما بعد الثورة، قافزا على الفاصل الطويل الذي لم يستكشف بعد كاملا، والذي يشكله الحضور العربي الإسلامي. أما رد الفعل الوطني فقد أراد أن يمحي جميع شوائب الاستعمار الروماني-الفرنسي- المسيحي ليرسي الشخصية العربية الإسلامية على كمالها وطهرها وأصالتها. وهنا يذكر البربر من أجل إدانة الاستعمار الروماني، والتنديد أكثر وأكثر بالاستراتيجية الفرنسية التي أرادت أن تعارض العرب بالبربر. وفي إطار هذا التنديد حكم بالجب والاستئصال على ما تبقى من آثار اللهجات والعادات البربرية بوصفها بدعا أو مظاهر وثنية من الجاهلية التي ندد بها القرآن. ونقطة القوة في هذا النوع من التصرف بالذاكرة التاريخية الذي مارسه فاعلون لا يعرف بعضهم بعضا ولا تربط بينهم أية رابطة، هي فيما يبدو لي، ذلك الجمع الذي زاوجوا فيه بين تمثلات المخيال الاجتماعي وبين مسلمات العقل المناضل، عقل عصر الأنوار؛ المسلمات التي تؤسس العلوم الاجتماعية وبالأخص التأريخ الوضعي الذي ساد في القرن التاسع عشر. لقد ترتب عن ذلك نشوء عدة طبقات رسوبية، يتحتم اليوم تفكيكها، في كل من الخطاب الاستعماري والخطاب الوطني الذي يشكل الرد الجدلي عليه. أما طبقة الخطاب الديني، التي تعرضت لكبت نسبي في الخمسينات والستينات، فقد عادت إلى السطح لتغزو الساحة السياسية التي يدين لها بالتبعية كل من الحقل الفكري والثقافي والعلمي. لقد بينت أعلاه كيف أن الظاهرة الدينية، وهي بالتحديد الإسلام، هي اليوم اللامفكر فيه الأقوى تأثيرا على نتائج النقاشات الفكرية الراهنة بالمغرب الكبير؛ كما أوضحت كيف، ولماذا، يوجد الحقل الديني اليوم موصدا من طرف إرادات سياسية متنافسة. ذلك ما يبرر مشروع نقد العقل الإسلامي الذي يرمي إلى تحقيق مطمحين اثنين: نزع الشرعية عن التحالف الخطير بين الدين والسياسة، والارتفاع بالمسألة الدينية إلى الفضاءات الجديدة التي تفتحها اليوم، في وجه الفهم والتأويل، العلوم الاجتماعية والنقد الفلسفي.

مجلة الجابري – العدد التاسع عشر