مقدمة :
العين عضو معقد التركيب والوظيفة، قادر على منح الإنسان القدرة على رؤية الأشياء القريبة والبعيدة (الأفق مثلا) بنفس الحدة والدقة. كما يمنحه الحماية في التعرف على مواضع الخطر والابتعاد عنها بمجرد رؤيتها دون الاضطرار إلى الاستعانة بحاسة أخرى.
لا يوجد حديث أو نقاش عن الخلق أو التطور إلا وتأخذ العين البشرية حيزا كبيرا منه.يستخدمها مؤيدوا الخلق كدليل على تصميم ذكي لا يمكن أن توجد دون صانع/خالق. في حين يستخدمها مؤيدوا نظرية التطور كوسيلة للرد على معارضيهم.
سيتم استعراض فيما يلي أهم الأراء التي تؤيد الخلق أو التطور من خلال استعمال العين كحجة، كي يتسنى للقارئ التعرف على هذا العضو الذي طالما كان محور نقاش في فلسفة الوجود والنشأة بين اللاهوت والعلم.
وليام بيلي ” اللاهوت الطبيعي”
صدر كتاب وليام بيلي “اللاهوت الطبيعي” عام 1802 والذي استخدم الساعة كمثال لتأكيد وجود خالق للكون فيقول:
“لنفترض وخلال مروري بمرعى تعثرت قدمي بحجر وسئلت من أين أتي الحجر؟ سيكون جوابي على الأرجح، لعدم علمي بأي شي عكس ذلك،بأن الحجر كان قابعا هناك منذ الأزل.ولن يكون من السهل إيضاح سخف هذه الإجابة.ولكن لنفترض أني وجدت ساعة ملقاة على الأرض ووجب البحث عن السبب الذي جعلها تتواجد في ذلك المكان. سيصعب علي التفكير أن تكون الإجابة هي نفسها التي أدليت بها من قبل.”
قارن بيلي بين العين والمرقاب (التلسكوب) لإثبات حجته ففي رأيه صممت العين للنظر كما صمم المرقاب لمساعدته، كلاهما خضعا لقوانين معينة مكنتهما من نقل وتنظيم انكسار الضوء. ضرب مثال عن أنه كي يتم انتاج صورة واضحة في العين يجب على الضوء أن ينكسر على سطح أكثر تحدبا في البيئة المائية منه لو كان الضوء يمر في الهواء ولذا فإن عدسة الأسماك محدبة أكثر من عدسة الحيوانات البرية، هذا المثال والذي قد ينسف أي مقاربة بين المرقاب والعين في نظر بيلي كونه يظهر العين كعضو مدرك مقارنة بأداة جامدة إلا أنه يعود ليؤكد أن كلا من العين والمرقاب أداتان تعملان على إنتاج صورة ولذا فإن الميكانيكية التي يعمل بها المرقاب لإنتاج صورة واضحة ومشابهة لتلك التي في العين فهما يخدم الغاية نفسها. يحتوي المرقاب على زجاج من مختلف الأنواع في مقابله تحمل العين سوائل مختلفة تعمل نفس عمل زجاج المرقاب في كسر الضوء ليتسائل كيف من الممكن إثبات وجود صانع لأحدهما وإنكاره على الآخر بالرغم من أن دلائل والمقاربة في صنعهما متشابه؟
ثم قارن وظائف العين وشكلها التشريحي في مختلف أنواع الحيوانات ليخرج بنتيجة أن العين في كل الفصائل تحمل تشابها واختلافا لوجود خطة عامة واحدة على أن تفاصيلها اختلفت باختلاف مقتضايتها والحاجة لها عند تطبيقها.
في وصف أقرب ما يكون للشاعرية في تأمله النظر وكيفية تكون الصورة في قاع العين. يتعجب بيلي من أن صورة بالحجم الطبيعي يتم نقلها لقاع العين بكل تفاصيلها الدقيقة وخطوطها وألوانها في قطر لا يتجاوز نصف الإنش. ليذكر “إن كان هناك شي يخفف من إعجابنا بصغر قرص النظر مقارنة بمداه فهو التأمل بما يقوده لنا معاينة الطبيعة بأن في يد الخالق العظيم و الصغير يعدان لا شئ”
دارون “أصل الأنواع
تحول تشارلز دارون (عالم طبيعة إنجليزي) إلى أيقونة يشار إليها في أي حديث يدار في البيولوجيا نتيجة ملاحظاته واستنتاجاته التي قام بنشرها عام 1859 تحت عنوان “أصل الأنواع” والذي كان حجرة أساس لنظرية التطور فيما بعد في محاولة منه لتسليط الضوء على ما أطلق عليه جون هرشل (عالم فلك ورياضيات إنجليزي) “لغز الألغاز”.
ينتهي دارون بأن كل نوع من الكائنات الحية لم يخلق مستقلا عن الآخر إنما إنحدروا بتنوعهم من أنواع سبقتهم وبذلك يتشاركون نفس الأصل. بمعنى أن من ينتمون لنفس الجنس ينحدرون مباشرة من نوع مختلف منقرض بنفس المبدأ الذي يعترف بأن الاختلاف التنوعي في الجنس واحد إنما ينحدر من سلالة نفس النوع .
يعزو دارون بأن هذا كان نتيجة اختلاف بسيط في تكوين أفراد معينة من نفس النوع عن أقرانهم مما زاد من فرصة بقائهم ونجاتهم في ظروف بيئية مختلفة والذي أطلق عليه مصطلح “الانتقاء الطبيعي” وهو يعتمد على أن تغيرا حدث في هؤلاء مما مكنهم من البقاء وتدرج هذة التغيرات إلى السلالات القادمة وانقراض الأنواع التي لم يحدث لها انتخابا طبيعيا فكانت النتيجة “تفرع السمة” في أنواع السلالات الناجية.
تحت فقرة بعنوان “أعضاء بكمال وتعقيد مفرط” في الفصل السادس من كتابه لم يستطع داروين أن يفسر تطور العين تحت نظام الانتقاء الطبيعي فيذكر ” الافتراض بأن العين بكل إعجازها الخلقي من تعديل الرؤية بمختلف المسافات، إلى التحكم بالضوء النافذ و تصحيح الزيغ الكروي واللوني قد حدث عن طريق الانتقاء الطبيعي يبدو_وعلي أن اعترف بذلك_ سخف فى أعلى مستوياته “. ثم قام بوضع فرضية ” إن المنطق يخبرني لو كان بالإمكان وجود عين بسيطة غير مكتملة تدرجت منها العين الكاملة المعقدة. حيث كل تدرج يخدم مالكه، وهو الحاصل أساسا، وإذا كان بالإمكان للعين أن تتمايز وهذا التمايز ينتقل وراثيا ،كما هو حاصل أيضا،بحيث يكون خادما للكائن في بيئته المتغيرة فإن صعوبة التصديق بأن عين كاملة ومعقدة نتجت عن الانتقاء الطبيعي ،وهو أمرعصي على خيالنا تصوره،لا يجب أن نعتبره ناسفا للنظرية”
يرى دارون أن العين البدائية يجب أن تتكون من عصب بصري، خلايا صبغية محيطة به وأن تكون مغطاة بغشاء شفاف في أبسط صورة لها دون أن تحتوي على عدسة أو جسم قابل على كسر الضوء. كانت مشكلة دارون بالنسبة للعين هي عدم وجود مراحل انتقالية لتطورعضو بهذا الحد من الكمال من شكله البدائي المفترض وإنه وإن تحقق مع المحافظة على تركيبة العين فإن تغيرات كثيرة يجب أن تكون قد حصلت في الوقت نفسه والتي لا تتماشى مع فكرة الإنتقاء الطبيعي. إلا أنه يبرر أن التغيرات الكثيرة ليست بالضرورة قد حصلت بنفس الوقت وأن المراحل الإنتقالية لتطور العين تشمل أساسا العصب والخلايا الصبغية والجلد المحيط أما البقية فهم ليسوا ذو دور أساسي في عملية الإبصار ولذا ظهورهم وتطورهم قد يكون حصل في أي مرحلة من المراحل.
استخدم دارون مثال بيلي (العين والمرقاب) في محاولة لإثبات جدوى نظريته فصور العين كطبقة سميكة من الجلد بمساحات معبأة بسائل مرتبطة بعصب حساس للضوء ليتغير كثافة كل سائل ببطء في حجرة معينة ليتميز عن غيره في الحجرات الأخرى بكثافة وسمك معين مع تغير شكل السطح على أن تكون الحجرات متباعدة بمسافات معينةعن بعضها. ليأتي دور الإنتقاء الطبيعي أو البقاء للأصلح ويحافظ على أي تعديل في الحجرات من شأنه التوصل إلى صورة واضحة، هذا التعديل سيتم إنتاجه بالملايين والذي سيتم الحفاظ عليه حتى تظهر نسخة أفضل منه فيتم إلتلاف ما سبق إنتاجه من التصميم القديم. وبما أن الكائنات الحية تتكاثر بعدد لا نهائي تقريبا حاملة معها تمايزها والتعديلات التي تطرأ عليها وهذه العملية تجري لملايين السنين على ملايين من الأفراد من الأنواع والأصناف المختلفة، يتساءل داورن كمحاولة لختم المسألة” هل يمكننا عدم التصديق بتفوق الآلة الحية_يقصد العين_ على تلك المصنوعة من زجاج كماهي أعمال الخالق لتلك التي من عمل الإنسان؟”
فرانسيس هيتشينغ “عنق الزرافة أو أين أخطأ دارون”
في كتابه الذي نشر في 1982 يحاجج فرانسيس نظرية دارون باستخدام العين فيذكر بأنها كي تعمل لابد من حدوث خطوات متسقة بكمال تنظيمي بين أجزائها. فأولا عليها أن تكون نظيفة ورطبة وهذا ما تعمله الدموع والجفون المتحركة التي تحمل رموشا تقيها من الشمس. ثم على الضوء المرور بالقرنية الشفافة إلى العدسة ومنها إلى الشبكية التي يتم تركيز الضوء فيها وتحويله من خلال الخلايا الحساسة للضوء (العصية والمخروطية) بتفاعلات ضوئية كيمائية إلى دفعات كهربائية يتم نقلها إلى الدماغ.
يرى فرانسيس أنه إذا حدث أي خطأ بسيط خلال هذا المسار كوجود سحابة على القرنية أوعدم قدرة البؤبؤ على الاتساع أو عتامة في العدسة أو خلل في البعد البؤري للضوء فإنه لن تتكون صورة يتم التعرف عليها.
يقول:
” العين إما تعمل ككل أو لا تعمل على الإطلاق. إذا كيف تطورت ببطء وتأني بشكل متناهي الصغر من خلال تحسينات داروينية صغيرة؟ هل يعقل أن آلاف فوق آلاف من الطفرات بالحظ وعن طريق الصدفة حصلت اتفاقا في العدسة والشبكية، والذي لايمكن لأحدهما العمل دون الأخرى، بتطور متزامن؟ وأي قيمة للنجاة في عين لا ترى؟!”
ريتشارد دوكنز “صانع الساعات الأعمى”
قام دوكنز في كتابه صانع الساعات الأعمى الذي نشره في 1986 بالرد على فكرة المصمم والتي ذكرها بيلي في مثاله “صانع الساعة” ليشير دونكز أن الساعاتي الحقيقي عليه أن يملك بعد نظر وأن تكون لخططه في الخلق مغزى مستقبلي يفكر به. على أن الإنتقاء الطبيعي الذي اكتشفه دارون أعمى، غير واعي وتلقائي. والذي يراه دونكز تفسيرا للوجود والحكمة الشكلية لكل أنواع الحياة، فالإنتقاء الطبيعي” لا يحمل غاية في عقله، ليس له عقل ولا عين العقل. إنه لا يخطط للمستقبل . ليس له نظر ولا بعد نظر ولا بصيرة على الإطلاق.إذا كان من الممكن القول بلعبه دور الساعاتي في الطبيعة فهو دور الساعاتي الأعمى”. في الفصل الرابع من كتابه يتطرق دونكز للعين بكثير من التفصيل ليطرح في بدايته عدة أسئلة:
-
هل يمكن للعين أن تنتج مباشرة في خطوة واحدة من حالة اللاعين؟
-
هل يمكن أن تكون العين نتجت من شي مختلف قليلا عنها يمكن أن يطلق عليها “س”؟
-
هل هناك سلسلة من “س” المتغيرةالتي بإمكانها ربط العين الحديثة بحالة اللاعين؟
ليجيب على الأول بـ(لا) قطعية ويذكر”الاحتمالات ضد أن تكون الإجابة بنعم هي أكثر بملايين المرات من عدد ذرات الكون”. أما الإجابة على السؤال الثاني في رأيه هي (نعم) على أن يكون الاختلاف بين العين الحديثة وسلفها المباشر صغيرا وأن يكونا متقاربين في تركيبة أجزائهم. يفصل دونكز في شرحه أكثر حيث على “س” أن يحصل بها متغير واحد كي تصبح عينا وعليه إن وجدت “س” يتم البحث عن سلفها الذي بمتغير واحد أصبح “س” حتى نصل إلى أن العين الحديثة مرتبطة بشي ليس مختلفا قليلا بل مختلفا كثيرا عنها. يجيب دوكنز عن السؤال الثالث بـ(نعم) شريطة إيجاد عدد كافي لصنع سلسلة من”س” المتغيرة على أن “س” لا تحصل إلا مرة واحدة في كل جيل،ليطرح سؤالا آخر هل كان هناك وقت كافي لتسلسل هذة المتغيرات من جيل إلى آخر حتى الوصول إلى حالة العين الحديثة؟ لو علمنا أن أقرب أسلافنا يبعد عننا بمئات الملايين من الأجيال ولذا المتغير “س” في تلك الأجيال يعد بمئات الملايين وعليه يجب أن ننشأ رابطة معقولة ومتسلسلة تربط العين البشرية لأي شي كان، إلا أننا لم نتمكن من إثبات أن سلسة من هذه المتغيرات موجودة. ولذا يطرح سؤلان آخران:
-
هل من الممكن اعتبار أن كل “س” في السلسة التي تربط العين البشرية بحالة اللاعين ناتجة عن طفرة عشوائية في أسلافها؟
-
من خلال النظر لكل “س” متغيرة في السلسة التي تربط العين والبشرية بحالة اللاعين، هل من المعقول أن كل واحدة منهم عملت بكفاءة لمساعدة الحيوانات المعنية في نجاتها وتكاثرها؟