مجلة حكمة
الدراسات المستقبلية

إعادة صياغة المفاهيم المستقبلية: حاجة وأمل – الينور ماسني / ترجمة: مها حمود المغامسي، مراجعة: عواطف الصقري


مقدمة المترجمة :

لقد تجاوزت الدراسات المستقبلية ادوار التنبؤ والاشتراطات العقلانية لتكون عبارة عن رؤى ومشاريع إبداعية تتوافق مع التعددية الثقافية، ومع الاهتمامات المعاصرة بالقضايا البيئية،وفي عالم اللايقين لا يكفي التنبوء من أجل البقاء وإنما هناك حاجة الى التطور والتغيير بطرق فريدة تعتمد على رؤى، يمكن صناعتها وإنشائها من خلال الحاضر لتكون المستقبل المرغوب فيه. وتتبع الدراسات المستقبلية منطلقات فلسفية وجذور تاريخية،التي تختلف باختلاف رؤى المستقبليون وعواملهم النفسية والاجتماعية.

وفي هذا المقال تستعرض الباحثة والمستقبلية الأوروبية ” Masini ماسني (2012) الأسس الفلسفية للتفكير المستقبلي ومراحل التطوير التي انتابت هذا الحقل منذ الحرب العالمية الثانية، وتقترح من خلال ماتستعرضه ان يتخذ المستقبليون دوراً موسعاً في الجمع مابين قدرات التحليل والخيال الابداعي والعمل المنتج. كما يلخص هذا المقال انتقادات نظريات الوصاية الحالية في العلوم الاجتماعية التي تأخذ في الاعتبار المركزية العرقية والتي لا تخرج سياقاتها عن نطاق الدول الغربية.. وأخيرًا، يقدم المقال وجهة نظر بديلة لديناميات المستقبل على أساس الثقافة كمتغير.


“إعادة صياغة المفاهيم المستقبلية “

“حاجة وأمل”

في البداية تهيئنا الكاتبة ماسني الى إمكانية النظر إلى المستقبل على مستويات مختلفة من أجل فهم العلاقات المتبادلة المتغيرة بين الإنسان والمجتمع والبيئة بشكل أفضل، بحيث تستند المستقبليات المتعددة إلى العلاقة المتبادلة بين الشخصية النفسية والاجتماعية، واحترام الثقافات الأخرى، والتعلم الموجه نحو الهوية والأسئلة اللانهائية عن الوجود.

وفي ذكر التقلبات السريعة في الاشياء والأحداث تقول “لاشك ان الأحداث والتغييرات تفاجئنا، لذلك تزداد حاجة الناس أكثر فأكثر إلى إعمال عقلهم بإيمانهم ومعتقداتهم من ناحية، وبالتعامل مع الأحداث من ناحية أخرى. ومن ذلك المنطلق نجد أن المفاهيم الأساسية والطرق والمنهجيات المعتمدة حالياً في الدراسات المستقبلية، بحاجة الى اعادة النظر فيها والتفكر في جدواها، تريد الكاتبة هنا ان لا نكتفي بتقنيات ومنهجيات الكم التي تفتقد الى العمق، وإنما اتخاذ خطوة في التغيير من أجل الارتقاء الذي يحدث اساساً في الفهم الانساني العميق.

وتتابع الكاتبة “والهدف من احداث مثل تلك التغييرات العميقة في الأساليب والمنهجيات التي يمارسها المستقبليون، لارتقاء الإنسانية؛ ويمكن القول ان الفرصة مازالت سانحة من اجل اجراء التغييرات، خاصة وأن التفكير المستقبلي موجه إلى ما سيحدث لاحقاً. وهي تتسأل: كيف يمكننا الانتقال من التطلع للمستقبل القريب إلى بناء المستقبل فعليًا؟

 

التفكير المستقبلي: من خلال الماضي والحاضر

وتقّر ماسني أن للدراسات المستقبلية، او حتى مجرد التفكير لنقطة لاحقة، له وجود واثر في الحقب الزمنية المختلفة فتقول “لا يعد حقل الدراسات المستقبلية حديث وإنما له تواجد قديماً، وتاريخياً يمكن تتبعه منذ بداية الحضارات القديمة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وبمجرد التفكير في المستقبل يسعى الناس للتخطيط من أجله ويصبح لديهم حسن تأمل، كما كان يقول جون ماكهيل John McHale ، المستقبل هو المساحة التي نرتب من خلالها الحاضر ونعطي المعنى إلى الماضي. وعلى مر الزمان ، تغيرت المواقف تجاه المستقبل في الفترات المختلفة سواء من حيث كيف ينظر الناس إلى المستقبل، أو من حيث مدى تأثير القيم على وجهات النظر المستقبلية.

وأنه من المثير للاهتمام إلقاء نظرة موجزة على بعض هذه التغيرات:

على سبيل المثال: تقوم رؤية المستقبل في جمهورية أفلاطون على العدالة. وتعّبر مدينة القديس أوغسطين عن رؤية مجتمع قائم على المحبة ويواجه “مدينة الإنسان” الدنيا القائمة على الكبرياء. ويؤكد أوغسطين أن مجتمعه المثالي يمكن تحقيقه من خلال التغيير الهيكلي في مدينة الإنسان.

أما رؤية أتلانتس لـ “فرنسيس بيكون” الجديدة، فهي تقوم على مفهوم الإنسان العظيم، وتؤكد يوتوبيا توماس مور على قيم الجماعة حيث تكون الملكية للجماعة، والفرد تابع للمجتمع، وهناك امثلة اجتماعية أخرى، توافق رؤى الاصلاح من خلال المثل الاجتماعية التي طرحها كونت وماركس، وبعض أفكار وتجارب الطوباويين الإصلاحيين الاجتماعيين منذ القرن التاسع عشر.

وتشير أنه يمكن القول أن جميع تلك الرؤى المستقبلية، في الأصل تنبع من الخلفية الفلسفية في النسق الاجتماعي الذي تنشأ منه، وهي في نفس الوقت ترتبط باحتياجات وآمال الناس في ذلك المجتمع.. أما احتياجات الوقت الحاضر تتطلب النظر إلى المستقبل بطرق تتجاوز ضلالات اليوتوبيا الخادعة. لذلك لا يكفي أن نتوقع المستقبل الذي نريد وإنما لابد من صناعته وبناؤه. فيما سبق تحاول الكاتبة ربط القيم التي منها ينبع الفكر الفلسفي، مع الاسس التي تقوم عليها الرؤية المستقبلية وهي القيم والاعتبارات الاخلاقية، وهذا يبرر التفاوت والتمايز بين المجتمعات، وترجّح الكاتبة الرؤية المستقبلية التي يمكن بناؤها وتنزيلها على ارض الواقع لإحداث طفرة وتغير ملموس.

وتستعرض ماسني في المقالة، المسار الزمني وتقول “ألان دعونا نتتبع التطور التاريخي للدراسات المستقبلية، من الحرب العالمية الثانية فصاعدًا، ثم نحاول فهم أساسها الفلسفي. بداية لقد سعت البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى معالجة التحولات السريعة والمتلاحقة، كما حاولت تحديد العواقب المستقبلية المحتملة للأحداث الجارية، من أجل حماية أنفسهم من تلك الاثار ولتجنب التعرض للصدمة بالأحداث.

ولقد بدأ السعي لتوقع الأحداث من خلال التحليل العلمي للمؤشرات والاتجاهات، باستخدام عنصر التنبؤ التكنولوجي للدراسات المستقبلية الحديثة – والذي تم تطويره أولاً في الولايات المتحدة. كما بدأ برتراند دي جوفينيل  de Jouvenel وآخرون في أوروبا من معالجة الأبعاد الفلسفية والاجتماعية للدراسات المستقبلية، مؤكدين أهمية التنبؤ بإمكانيات البدائل، والنظر بالتفصيل في العواقب طويلة المدى للسياسات والإجراءات الحالية.

ومع مرور الوقت،أصبح التبصر والتنبؤ من أجل المستقبل هاماً، ليس على مستوى امكانية تحديد كيف للمرء اللانتقال من هنا الى هناك، وإنما على مستوى تحديد واختيار المكان الذي يريد الذهاب إليه.

من جديد تطرح ماسني تساؤل يثير الى الاذهان التفكير عن المقياس الذي على اساسه يقوم المستقبل، فهي ترى أنه من خلال تحديد المستقبلات الممكنة والأكثر احتمالية، يمكن استشراف المستقبليات المرغوبة والمفضلة. ولكن يظل التساؤل حول المعيار الذي يحدد المستقبل “المفضل او المرغوب فيه“؟ هل هو على أساس اختيارات الفرد، أم على أساس اختيارات المجموعات أو على اساس الثقافات والأيديولوجيات؟ وتشير أنه مؤخراً لقد أصبحت الدراسات المستقبلية تتعلق بشكل كبير بالخيارات الفلسفية، من حيث المبدأ، ومن حيث كيف ينظر المرء إلى الواقع والإنسان والعلاقات المجتمعية.

تؤكد الكاتبة منحى الورقة انه سيكون في طرح المنظور الفلسفي لدراسات المستقبلية حسب الفترة الزمنية والنسق الاجتماعي الذي يتواجد فيه. وتقول” والجدير بالذكر أن أحد الاسباب من وراء كتابة هذه الورقة هو التأكيد على أهمية الأساسيات الفلسفية. ومن خلال الفترة الأولى التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، لقد درس المستقبليون الفرنسيون وبحثوا في الجوانب العلمية والسياسية للدراسات المستقبلية، وفي النصف الأخير من الخمسينيات من القرن الماضي، أسس غاستون بيرغر Gaston Berger مركزًا “للدراسات المستقبلية”. ويشير مصطلح “المستقبل”، كما بدأ استخدامه في أوروبا إلى اتخاذ القرارات ليس فقط على أساس الاحتياجات للأوضاع الراهنة، ولكن أيضًا على أساس العواقب طويلة المدى.

وبعد وفاة بيرغر Berger المبكر، واصل الخبير الاقتصادي بيير ماس Pierre Masse بصفته المفوض العام لخطة التنمية الوطنية الفرنسية، وكان ماس مسئولا عن إبراز نمط التفكير المستقبلي، مما ادى إلى اعتماد أول خطة وطنية فرنسية لعام 1985. وفي نفس الفترة، أعطى برتراند دي جوفينيل de Jouvenel للتحركات نحو المستقبل دفعة مهمة للغاية بدراساته حول السلطة وأساليب الحكم والخيارات السياسية. والسمة المركزية لفكر دي جوفينيل هي البعد العام للزمن – الماضي والحاضر والمستقبل – والذي وجده يمكنه تمكّين الإنسان من العمل في الساحة السياسية. وهذا هو الموضوع البحثي الذي يعمل عليه لغاية اليوم، وتحقيقا لهذه الغاية أسس الرابطة الدولية للمستقبل.

 

كما قدمت دول أوروبية أخرى مساهمات مهمة في مجال الدراسات المستقبلية من حيث الأسس الفلسفية، في هولندا، لقد وضع عالم الاجتماع فريد بولاك Polak نظرية تعد ولادة أبحاث مستقبلية من وجهة نظر معرفية في كتابه “صورة المستقبل (1961) The Image of the Future ((1961 وكتابه التنبؤات (1971) Prognostics (1971). وبين عامي 1966 و 1972، أبدت المؤسسة السياسية في هولندا بعض الاهتمام في الدراسات المستقبلية، وذلك من خلال إنشاء وحدة علوم السياسة في عام 1974. وتعد جهود فريق جان تينبيرجين Jan Tinbergen مهمة للغاية، ولا سيما التقرير الذي أعدت من اجله نادي روما في ريو، النظام الدولي الجديد.

وفي بريطانيا العظمى، تعد أعمال وحدة أبحاث سياسة العلوم بجامعة ساسكس (SPRU) مؤثراً جدًا،خاصة فيما يتعلق بمحاولة نقد النماذج العالمية، كما تحاول الوحدة من خلال فريق عمل متعدد التخصصات في إنشاء نظرية حيوية تسهم في دراسات الأبحاث المستقبلية.

وأيضاً قامت الدول الاسكندينافية بتطوير دراسات مستقبلية في السنوات الأخيرة، في محاولة منهم لإثارة المزيد من الاهتمام بالمستقبل، فلقد قاموا بعرض نتائج هذه الدراسات على حكوماتهم ومعاهد ومنظمات البحث. وفي لاكسنبورغ Lax boring، في النمسا، حقق المعهد الدولي لتحليل النظم التطبيقية (IIASA) شهرة كبيرة في جميع أنحاء أوروبا؛ ولقد تم إنشاء هذا المعهد بالتعاون المالي والعلمي مع العديد من الأكاديميات الوطنية، ولا سيما أكاديمية الولايات المتحدة للفنون والعلوم، وأكاديمية العلوم في الاتحاد السوفيتي، و تركز تحقيقات المعهد الدولي لتحليل النظم التطبيقية (IIASA) على تطبيق تحليل النظم لمختلف المجالات، وأهمها في مجال قطاع الطاقة؛ كما تشارك العديد من المجموعات الدولية في الدراسات المستقبلية.

فبالإضافة إلى نادي روما والرابطة الدولية للمستقبلات في فرنسا، ظهرت مجموعتان مستقبليتان ذات أهمية دولية في أوروبا – الانسان عام 2000، والاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية (WFSF) و الهدف من ” الانسان عام 2000Mankind 2000 (التي تأسست عام 1966 في هولندا، وانتقلت لاحقًا إلى بروكسل) هو تعزيز جميع جوانب الإنسان وجوانب التنمية البشرية في الفرد، في المجموعات، وحول مجتمعات العالم الناشئة.ولقد اكتسبت كلا المجموعتان قوة عظيمة من خلال المؤتمر الدولي الأول لبحوث المستقبل الذي عقد في أوسلو عام 1967، والذي نظمه معهد أبحاث السلام، ولم تظهر الحاجة الى مركز عالمي للدراسات المستقبلية من خلال مؤتمر أوسلو فحسب وإنما كان قبل ذلك بأعوام. وتتمثل الاهداف الرئيسية من الاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية (WFSF) في أن يكون بمثابة منتدى لتبادل المعلومات من خلال المطبوعات والمؤتمرات والاجتماعات، ولقد ركز المنتدى في البداية على أنشطة أعضائه على دراسة وتحليل الاحتياجات البشرية فيما يتعلق بالمجتمعات المستقبلية، وأصبح تدريجياً يعتني بالقضايا ذات العلاقة بالهوية الثقافية، وهو موجه في الوقت الحاضر نحو مستقبل المؤسسات السياسية ورؤى المجتمعات البديلة.

مما سبق تذكر ماسني امثلة لأكبر مجموعتان كان لهما السبق في اضفاء مقاربة التعدد والجمع للمستقبليات، وهما مؤتمر الانسان في عام 2000، والاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية، كما تشير من خلال هذا المقال،ان المستقبل من زواية سيوسولوجية هو ما ابرز القيم وتعدد الثقافات التي يحملها معنى إنسان، وهذا يشدد على دور علماء الاجتماع في التغيرات التي نالت حقل دراسات المستقبل.

التكهنات والتنبؤات في أوروبا الشرقية

تعّبر الكاتبة عن دور دول اوروبا الشرقية لتقول “لا شك ان الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية تستحق الاشادة بها لجهودهم في الدراسات المستقبلية. وفي الدول الاشتراكية يعد مصطلح النتبؤ المستخدم المستقبلية بمثابة العملية الاساسية التي تسبق تشكيل الخطة في الدراسات. ومن أجل تحديد انتظام العمليات العلمية والتكنولوجية الحديثة، تم تأسيس التخطيط للبنا الاجتماعية والاقتصادية. وبذلك تتضح الروابط بين الوضعية ومبادئ الشيوعية بفكر لينين وفقًا لمدرسته الفكرية، فإن التنبؤ هو المرحلة السابقة للتخطيط. ويختلف التنبؤ والتخطيط في مستويات الموضوعية والتعقيد ولكنهما مرتبطان بالضرورة.

وتشير الفلسفة المادية الديالكتيكية التي تطورت في أوروبا استناداً على كتابات كارل ماركس، أن المستقبل من حيث المبدأ احتمالي عشوائي لا يتم التنبؤ به بدقة وليس بالضرورة أن يكون مجرد إسقاط للماضي، ومن هذا المنطلق يحتوي المستقبل على قدر كبير من الإبداع. والدول الاشتراكية تركز على تحليل العملية العلمية والتكنولوجية من جهة وعواقبها المحتملة كعناصر للتقدم الاجتماعي. وعلى هذا الأساس العام، فإن المجموعات المستقبلية التي تطورت في البلدان الاشتراكية “الرئيسية” مثل رومانيا والمجر والاتحاد السوفيتي كان لها توجه مختلف في إبداء المزيد من الاهتمام بالتطورات الثقافية في المستقبل.تحاول الكاتبة ان تؤكد البعد الفلسفي فهي ترى ان الدول الاشتراكية و أروبا الشرقية تحمل اتجاهات تختلف عن الدول الغربية في المستقبل، بحيث ترمي الاولى الى نفي القدرة على التنبؤ المستقبلي لأنه ينطوي على التعددية الثقافية والإبداع، بينما الدول الغربية تؤكد على امكانية التنبؤ والتحكم في المستقبل، نقلاً عن الحتمية الوضعية.

الدراسات المستقبلية في أمريكا

تشير ماسني الى المستقبليات المتكاملة من خلال المراكز التي انشئت فيما بعد لتقول “لقد أجريت الدراسات المستقبلية الأولى في الولايات المتحدة من خلال الوكالات الحكومية والشركات التجارية. وبعد ذلك تم إجراء مثل هذه الدراسات في مراكز متخصصة من قبل الجامعات ومراكز البحث الخاصة، مثل مركز الدراسات التكاملية الذي يديره الراحل جون ماكهيل John McHale في جامعة هيوستن ولاحقًا في جامعة ولاية نيويورك / بوفالو بواسطة ماجدة ماكهيل Magda McHale. وتكشف انه ” يجري حاليًا إجراء دراسات مستقبلية للأنظمة من قبل هارولد لينستون Harold Linstone في بورتلاند، أوريغون، وجيمس داتور James Dator في هاواي، الذي أشرك المواطنين المحليين لتصميم مستقبلهم.وتحدد الفئات المستقبلية حسب التوجه :

ويمكن تقسيم المستقبليين الرواد في الولايات المتحدة وكندا مبدئيًا إلى الفئات التالية:

  • الفئة الاولى وهم ذوي التوجه التكنولوجي. بحيث تعتمد الدراسات المستقبلية على استخدام العمليات التكنولوجية. ومن بين ممثلي هذه المجموعة نذكر: هيرمان كان Herman Kahn وأولاف هيلمر Olaf Helmer وثيودور جوردون Theodore Gordon.

  • الفئة الثانية “ذوي التوجه الاجتماعي. يمكن ادراج : ألفين توفلر Alvin Toffler، وجيمس داتور James Dator، ودانييل بيل Daniel Bell، والراحل جون ماكهيل John McHale في الولايات المتحدة، وكيمون فالاسكاكزس Kimon Valaskakis في كندا يندرجون بسهولة ضمن هذه الفئة.

  • والفئة الثالثة وهم اصحاب التوجه نحو العولمة. تضم هذه المجموعة المستقبليين الذين عملوا في مشاريع نادي روما المختلفة (مثل دينيس ودونيلا Dennis and Donella

ميدوز وميهاجلو ميساروفيتش (Meadows, and Mihajlo Mesarovic وأولئك المرتبطين بمجموعة النظام العالمي في نيويورك

المستقبل في العالم الثالث

تحرص ماسني على اظهار الثقافات الآخرى في كتابة وجهة نظرها، اتجاه المستقبل لتقول “وتُظهر البلدان النامية اهتمامًا متزايدًا بالدراسات المستقبلية، على سبيل المثال المنطقة الفرنكوفونية في إفريقيا والمغرب هي من تقودا لأنشطة المستقبلية. اما في المنطقة الناطقة باللغة الإنجليزية، فتتصدرها تنزانيا و مصر.

ومن دول شرق اسيا :لدى كل من الهند وسريلانكا مجموعات مستقبلية، وبالطبع اليابان الذي يتبع بدوره نمط البلدان المتقدمة ومصالحها. وقامت أمريكا اللاتينية مؤخرًا بتوسيع أنشطتها في الدراسات المستقبلية، خصوصاً في المكسيك وفنزويلا والبرازيل.

ومن خلال اتباع الوصف الموجز السابق لماضي وحاضر للدراسات المستقبلية، نستطيع القول انه من المهم أن نرى التوجه الفلسفي العام الذي تسير وفقه هذه المجموعات،سواء بوعي او بدون وعي، أو باعتراف او بدونه. ترمي الكاتبة هنا الى التبعية ومقاومة التبعية في الدول التي تحاول ان تصنع لها فلسفة، والتي بطبيعة الحال لا تستطيع الفكاك عن المنظور الغربي المهيمن.

تحدد ماسني المدرسة التي تقدم رؤية ودعم مباشر للمستقبليات المتعددة لتكتب أنه “في المدرسة الفرنسية، ينصب التركيز الأساسي على الاهتمام الدائم في “المستقبل البديل”. بحيث لا يوجد مستقبل واحد، انما هناك العديد من المستقبلات، وأي من هذه المستقبليات يعتمد بالدرجة الاولى على خيارات الناس بأنفسهم، وكما يصفها ميشيل جوديت Michel Godet، “ان النهج المستقبلي… يعكس وعياً مستقبليا بإرادة حرة وقرار حاسم. وتسأل “كيف يمكننا الانتقال من البحث المجرد عن المستقبل الى بناء المستقبل فعلا؟ “

مرة اخرى تهتم ماسني في عرض المقاربات المستقبلية حول العالم وتكتب” أنه في هولندا، تعبر مقاربة فريد بولاك Fred Polak حول المستقبل مثيرة للاهتمام – بحيث يعتمد المستقبل على الرؤى والتصورات المستقبلية التي ترتبط بالمواقف التاريخية والمعتقدات والرغبات. ويرى بولاك أنه ” من اجل أن نحقق فهم أكثر للمستقبل، نحن بحاجة الى التحري عن اسسه المنطقية في أذهان الناس. و المستقبليون الآخرون في هولندا، يتجه أكثرهم نحو البحث عن الاتجاهات التي قد تؤدي إلى خيارات السياسة؛ و هو توجه العديد من الدراسات المستقبلية الاسكندينافية التي تميل الى التطبيق العملي.

وفي بريطانيا العظمى تتنوع الاتجاهات ولكنها موجهة بشكل عام نحو إدراك العالم ككل، مع مراعاة العلاقات بين الأفراد وبين الإنسان والمجتمع وبين العلاقات المجتمعية. كما يهتم المستقبليون البريطانيون بشكل خاص بتأثير التكنولوجيا الحديثة على المجتمعات، وفي النمسا تعد جهود المعهد الدولي لتحليل النظم التطبيقية IIASA ذات أهمية خاصة في مجال ربط موضوعات وفئات محددة بالنظام العالمي على مستوى كلي، كما في حالة الطاقة.

وتعتبر الدول الاشتراكية، ان الدراسات المستقبلية هي المرحلة السابقة للتخطيط وبالتالي فهي مفيدة لتوسيع منظور المخططين حول الأهداف. وتعتمد الولايات المتحدة وكندا المناهج الثلاثة للدراسات المستقبلية التي تم وصفها سابقاً ومالها من قواعد فلسفية مختلفة.

توضح الكاتبة أنه “لأغراض هذا المقال، يكفي أن نذكر أن مناهج معظم الدراسات المستقبلية، في الماضي القريب وحتى اليوم، مرتبطة بالمفاهيم الفلسفية الغربية – لا سيما تلك الخاصة بـ جون لوك John Locke و لايبنتز G.W Leibnitz و وفريدريك هيجل Friedrich Hegel و وإيمانويل كانط. Immanuel Kant

وتدافع ماسني عن أهمية اضافة البعد القيمي في الدراسات المستقبلية فتعّبر ” أنه لمن المهم أن نتتبع ليس فقط الأساس الفلسفي للدراسات المستقبلية، وإنما كذلك الاساس القيمي والأخلاقي. هذا وتتضمن دراسات المستقبل إمكانية النظر إلى المستقبل على مستويات مختلفة من أجل فهم العلاقات المتبادلة المتغيرة بين الإنسان والمجتمع والبيئة بشكل أفضل، وتعكس المستويات الثلاثة للتطلع إلى المستقبل من خلال ثلاث مقاربات فلسفية مختلفة تتعلق بالمستقبل. و تواصل في الربط بأنه لا توجد رؤية او مقاربة من دون بعد فلسفي تستند عليه.

 

المقاربة الاولى تنبّع من الحاجة لمواجهة التغيير السريع ومعرفة أين يتجه العالم. أي انها تتكون من بيانات الماضي والحاضر، والتي تحدد الطريق نحو ما هو ممكن و ما هو محتمل. على افتراض أن “شيئًا ما يتغير”. وهذا النهج او الاتجاه هو “التنبوء” الذي يعتمد على الاستقراء و استخدام المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية، وهو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بـ فلسفة جون لوك، على أساس البيانات التجريبية، ولقد تم استخدامه على نطاق واسع من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الستينيات.

المقاربة الثانية وهي مفتاح اليوتوبيا – المجتمعات المرغوبة. والذي يعني أن المستقبل مبني على أساس مانريد او نرغب في حدوثه. على نقيض نهج “التنبوء” الذ يتمحور حول الاحتمالات والممكنات، ويمكن أن نطلق على مقاربة “المرغوب فيه”بمسمى “الرؤى” لأنه يطمح إلى تحويل الحاضر الى الأفضل من خلال رؤى مستقبلية. ويرتبط الأساس الفلسفي لهذا النهج بـ ليبنيتز Leibnitz، ويستند إلى الاعتقاد بأنه “يجب تغيير شيء ما”؛ لذلك على المستقبليون أن لا يفكروا فقط في “الإمكانات” و “الاحتمالات”، بل يجب عليهم أن يحددوا “الأشياء المرغوبة”.

وتقوم المقاربة الثالثة للدراسات المستقبلية على كل من معرفة “الممكن” و”المحتمل” و “المرغوب فيه” – على النماذج والمثل العليا؛ وهو المستوى الذي يفكر فيه الناس في المستقبل من خلال برامج تغيير الواقع وفقًا لمؤشرات محددة توجهها اليوتوبيا، والمثل الاجتماعية، والنماذج والرؤى، مع مراعاة البيانات التجريبية في نفس الوقت عن الاتجاهات في الماضي، والظروف في الوقت الحاضر. ويرتبط الأساس الفلسفي لهذا النهج في المصطلحات الكانطية، “المثالية”، و المصطلحات الهيغلية “اللانهائيه”).

توجيه التفكير المستقبلي كرؤى مستقبلية :

فيما يلي تشير الكاتبة الى البعد القيمي الذي يوجد،ويتواجد حتى لو بالصورة الخفية فتقول “لقد اشرت سابقاً أن الرؤى المستقبلية تركز على “المستقبليات المرغوبة ” وعلى القيم،على الرغم من تواجد القيم دائمًا في جميع اتجاهات الدراسات المستقبلية.و غالبًا ما يعتمد المستقبليون الذين يعمدون الى تطوير رؤى مستقبلية،الى العودة الى ماهو موجود اصلاً في كتب الشعراء والعلماء والفلاسفة، وحتى صانعي السياسة ، و كان من الآحرى ان يطوروا رؤاهم الخاصة بهم.

وتصّرح ماسني أن الرؤى اشمل من التنبؤ فتقول “ما يميز الرؤى انها قادرة على ابداء مستقبلاً مغايراً تماما ً لما هو موجود في الحاضر، بالرغم ان جذور هذا المستقبل له تواجد في مساحة الحاضر والماضي، و هي انبثقت نتيجة الاستقراء في الماضي والحاضر ؛ وهي مجال لممارسة الحرية من خلال التدخل الواعي في بنية الواقع القائم بإتجاه المفضل، وهي تتولد من الابداع وتطوير الحدس في القدرة على الإنصات، والبحث الدوؤب، والإهتمام بما هو موجود بالفعل، غير انه غير واضحًا بعد، وقد يتطور لاحقًا.

وتطوير الرؤى أكثر أهمية من القدرة على التحليل المستقبلي، وهي مرتبطة بالأشخاص الذين يحملون بذور التغيير وليست مجرد تجريد. على سبيل المثال، عندما يعمد الاشخاص الى التكيف، او التلقي السلبي مع أي موجة تغيير تفرض نفسها بقوة، دون ان يكونوا فاعلين او مساهمين في صناعة هذا التغيير، فما يقومون به فعلاً هو مجرد التقبل، والإتباع بوعي أوبدون وعي و تستمر هذه العملية وتعزز نفسها،الى أن يظهر الأشخاص الذين يختارون بوعي التغييرات التي ينشّدون.

و حتي يعي الجميع أن الرؤى المغلفة بالعقلنة لا تكفي، تكتب ماسني “ان قوة المشاعر والعواطف ومستويات الحدس هي المصدر الحقيقي في إدراك ما أسميته بذور التغيير،لانها تتطلب أنماطًا جديدة من الفهم تتجاوز العقلانية،و غالبًا ما يقدم العقل اللاواعي مفاهيم أكثر ثراءً حتى لو كانت أقل وضوحًا من تلك التي يوفرها التحليل المنطقي وحده.

قبل أن تعّرف الكاتبة بالأشخاص المبدعين اشارت الى المستسلمين لواقعهم من اجل اكذوبة مصلحة المجتمع لتجادلويتم إعاقة القدرة على التعرف على بذور التغيير، في التسليم وتقبل معطيات التغيير بطريقة سلبية أو طوعية،لأن حدود اهتمام تلك الفئات ببساطة من أجل البقاء على قيد الحياة،وهذا مايعرف في البقاء رهين الطابع الاجتماعي.و يعرفّها” إريك فروم Erich Fromm أنها نواة بنية الشخصية التي يشترك فيها معظم أعضاء المجتمع نفسه. بحيث سيتصرف هؤلاء بالطريقة المتوقعة منهم للحفاظ على المجتمع من اجل الاستمرارية وبقاء الهوية فقط.

وتُضّيف بسؤال :فمن هم اذاً “الأشخاص القادرون على التقاط مثل هذه البذور الكامنة للتغيير؟ هم الاشخاص الذين لا يتلائمون مع النطاق الاجتماعي المحدد ،وهم اكثر حدساً وإصغاء لما حولهم، هم الآسرون، الذين يتجاوزون حدود المنطق، هم أولئك الذين يبنون رؤى تختلف عن الحاضر، هم من يتمتعون بقدراتهم البديهية والخيالية للتجاوز اسوار العقلانية. وتعلق ماسني بأنه :قد يفسر البعض أن قدرات هؤلاء الجامحين في الخيال، هي عبارة عن ضعف في قدرات الانسجام والاتحاد مع المجتمع بما يعرف “نظرية سوء التكيف”، و لكني أرغب في تجاوز هذا التفسير. في الواقع، إذا اعتبرنا الفنانين أو الكتاب أو الشعراء أو المضطهدين سياسيًا في الأنظمة القمعية خارج النظام الاجتماعي، لا يمكننا قبول المزيد من تفسير نظرية سوء التكيف.

وتشير هناك المجموعات المهمشة في النظام الاجتماعي والتي تشمل _ على ما أعتقد _ النساء والأطفال. سأتحدث عن الأطفال أولاً؛ فهم من ناحية عليهم أن يقبلوا النظام الاجتماعي الذي هم جزء منه، ومن ناحية اخرى هم أيضًا شهود صامتون للتغيير بسب قدراتهم في تقديم رؤى للمجتمع بطريقة مبتكرة ومختلفة عن المجتمع الذي يعيشون فيه. وأنه في حال تم رعايتهم والاستماع إليهم وتحفيزهم، سيطلقون ما هو كامن لديهم من قدرات. ولقد أظهرت الأبحاث الحديثة في إيطاليا أنه عندما يتم الاستماع إلى الأطفال – حتى ولو بطريقة مؤقتة – الرؤى تظهر بطريقة فريدة.

وكذلك النساء قادرات على اختراع بدائل تضمن تطور البشرية وتجاوز العديد من المحن والانقلابات الكارثية من خلال راؤهم القائمة على تصورات غير عقلانية، و هذا ما أظهرته المعارضة النسوية حيال التحولات الاقتصادية والتكتلات السائدة في المجتمع الغربي، ولقد تم التعبير عن هذه النقطة في المصطلحات العالمية من خلال رؤى المستقبل البديل الذي قدمته هازل هندرسون Hazel Henderson وعَالم السلام من إليز بولدينج Elise Boulding.

ويتضح من العبارات السابقة انه مهما كانت قوى التطويع موجودة في بِنّا المجتمعات، إلا أن حركات المقاومة تحفّز قوى ابداعية كامنة، يطلقها القهر والاستبداد على من اتخذ مسمى التهميش، الذي يختلف معناه ومضمونه من مجتمع لأخر ومن ثقافة لأخرى.

و تعمد الكاتبة الى التوضيح،حتى لا يظن أحد أن الرؤى خاصة بقدرات ابداعية فطرية خلاقّة، وإنما يمكن أن تُعلم فتقول “لم تعد الرؤى بعيدة عن العلم والاتساق معه، لذلك لابد من الاعتراف بها كقوة دافعة للتغيير بشكل جذري،وكذلك السعي الى تقدير اولئك الذين يحملون القدرات في صناعة الرؤى التي قد تبدوا غير منطقية ومستحلية،والمبادرة بالأخذ بها، بدلاً من مقاومتهم ورفضهم. فمتى ما تم ادرك قيمة هؤلاء في التقاط بذور التغيير وأن لرؤاهم مساهمة لسيرورة التاريخ سوف يكتسبون شعوراً بالفخر، ويؤمنون بأنفسهم. وبهذا المعنى، فإن رؤاهم لن تكون “يوتوبيا” بعد الآن.

وتشير ماسني الى الاتجاه السائد حول الرؤى لتكتب “لقد تعامل معظم المستقبليين مع الرؤى المستقبلية المختلفة على أنها ذات أهمية ثانوية، ولا تتخذ منتجات كّتاب الخيال أو الفلاسفة قيمة حقيقية من وجهة نظرهم؛ مقابل التنبؤات النابعة من التحليل الكمي حقًا، والجدير بالذكر أن الاستقراء في الرؤى لم يذكر إلا في النماذج العالمية للدراسات المستقبلية. لذلك يجب على الدراسات المستقبلية إعادة تقييم “الرؤى” والبحث عن المبدعين المستجيبين، لإيجاد بذور التغيير أينما كانوا – في الفن، ام في الحركات السياسية البديلة، وحتى بين النساء والأطفال، مما يجعل توقعاتهم أكثر من مجرد استقراء – بل تنبؤات أكثر ارتباطًا بجميع الاحتياجات، وغير المعلنة.

بناء المشروع: مسؤولية المستقبلي

تحاول الكاتبة هنا ان تعيد الاشارة الى القيمة او الهدف الذي من أجله كتبت المقال ” لقد شدّدت من خلال هذا المقال على أهمية “الرؤى” في التفكير المستقبلي وأيضًا على حقيقة أن مثل هذا التفكير يجب أن يكون متجذرًا في التغييرات التي تظهر كبذور في الازمان الماضية، ومن المهم أيضًا أن تصبح هذه “الرؤى”، جنبًا إلى جنب مع تحليل الاتجاهات الماضية، والحالية والمستقبلية. وأن الحصول على كم البيانات والمعرفة التي يستند إليها التحليل في تحديد الاتجاهات والتنبؤات التي قد تتطور في المستقبل لا تعد كافية،كما أن الرؤى المتجذرة في العملية التاريخية السابقة، لا تكون مجدية إذا ماتم توظيف جميع ما سبق واستخدامه، فيما يساعد على بناء “تصور “عظيم تتحقق الرؤية من خلاله بعد ذلك.

وتتابع أنه “بذلك تتجلى عناصر القوة والإرادة في اتخاذ القرار وتحديد الاختيار، في أن يصبح المستقبل كما نرغب أن يكون، وفي هذه المرحلة تظهر الاستراتيجيات وحتى التكتيكات، التي تقوم على الرغبات والتوقعات و الاحتمالات الممكنة.

ومفهوم “المشروع “او التصّور لم يتم استكشافه او الاعداد له حتى اللحظة الراهنة. وهناك إما مشاريع قصيرة الأجل حول طريقة التطوير، أو هناك مقترحات ضخمة للمستقبل، مثل تلك التي يقدمها العديد من الأيديولوجيين. ومع ذلك، فإن المطلوب هو مشاريع لها أساس من المعرفة السابقة والحالية، ودارسين المستقبل هم من يدركون المدى القصير، وقادرون على استلهام رؤى طويلة المدى.مماسبق يُلاحظ أن الحديث عن الرؤى، اتى متبوع بمصطلح “مشروع ” مما يعني ان الرؤى المستقبليىة،والمستقبليات الحضارية المتعددة يمكن تحقيقها كما هي مرغوبة في حال تحويلها الى مشروع،وهو التوفيق بين اليوتيوبيا والتنبؤات الوضعية الحتمية ؛وهي تثير التساؤل“هل من الممكن الدفاع عن بناء نموذج لليوتوبيا اخلاقياً من دون تحويله الى مشروع عمل”؟

من مسؤوليات المستقبلي ممارسة الحكم العقلاني في محاولة الحكم والتأثير على القرارات، وفي نفس الوقت يكون لديه تعبير عن الذات بشكل إبداعي،ويتم ذلك كله ضمن مرجعية القيم،بحيث يرتبط التعبير عن الذات بالتعبير عن ذات القيم، في حين أن التأثير العقلاني للقرارات يجب أن يشمل الحساسية لـ أفكار وقيم الآخرين.

تدعم ماسني هدفها من المقال في أهمية تواجد القيم، بسب انحسار تواجدها بالفعل،لتوضح” إذا قمنا بتحليل المناهج الثلاثة للدراسات المستقبلية الموضحة أعلاه، يمكننا أن نرى أن القيم والاختيار الأخلاقي هي الأكثر أو الأقل وضوحًا.والمستقبل هو المنطقة الزمنية الوحيدة التي يمتلك الناس سلطة عليها بحيث الماضي والحاضر دائمًا خارج نطاق السيطرة، والمستقبل هو المنطقة الوحيدة التي يمكن اختيارها بإرادة بشرية ومن خلال الحقائق، مما يعني أن المستقبل ينبثق من الاختيار بين النماذج المختلفة للواقع الذي يرغب البشر في بنائه.

وهذا تساؤل يدعم رؤيتها “لكن هل تكفي لبيانات والمعلومات لاستقراء مستقبل؟هل يكفي ان تكون هناك رؤى يتيوبية دون العمل على تحقيقها ؟ هذا موضوع يستحق أكثر من مناقشة فلسفية؟

تكتب ماسني موضحة من جديد الاثر العميق للبعد الفلسفي، وإن لم يكن مجتمعياً فهو فردياً لتقول “لاشك ان المستقبليون هم جزء من هذا العالم وجزء من تغيراته المستمرة،وهم بدورهم يحاولون وصف هذا العالم بهيئته المستقبلية، المستقبلي في هذا العالم يعيش واقع معين يعكسه في رؤاه المستقبلية، بناء على ثقافته لأنه مع عناصره الثقافية يعكس “شخصيته الاجتماعية” ؛وربما مزاجه الفردي،فهو لا يبني لنفسه برجًا عاجيًا مريحًا مثل بعض المنظّرين، في ما يسمى بالعلوم “البحتّة” ؛هذا وفي كثير من الأحيان عندما يعكس المستقبلي فلسفته وخلفيته الاجتماعية، هو قد لا يكون مدرك لهذا ويعتقد أنه يتحدث نيابة عن العالم،وحقيقة الامر هو يعبر عن تحيزاته الثقافية وتعليمه التأديبي، وشخصيته الاجتماعية. وتتابع مع مايحقق ايمانها بالتعددية المستقبلية “ان المستقبلي يحتاج ، أكثر من أي عِالم آخر إلى الاعتراف بوجود وقيم الثقافات والمواقف والأهداف، التي تختلف عن ثقافته.

ماسني تعلق انه لقد تغير الفكر المستقبلي، ولم يعد مرهون لا بضلالات اليوتيوبيا ولا تنبؤات الوضعية، فهي ترى أنه “لابد أن يكون التفكير المستقبلي مرتبطًا بالمسؤولية الاجتماعية والقيم الأخلاقية التي يتم التعبير عنها وتحديدها بوضوح، وهذا لا يعني وضع تعريفات صارمة تقّيد النظرة المستقبلية، ولكن مجرد أن المستقبلي يجعل قيمه – أو قيمها – منفتحة ومفهومة في مجال تصور التفكير المستقبلي، ليشمل التطوير والبحث عن الرؤى، وبناء المشاريع.

ومشاريع المستقبل والتي تعكس القيم المختلفة،بحاجة الى التعدد والاعتراف بتنوع القيم والثقافات. و ما يتم تقديمه في بعض الأحيان هو تصورات في الواقع مشاريع لبناء مستقبل يختلف عن الحاضر أو المعارضين له. ولكن مهما كان قناعهم، فإن المشاريع هي بيانات أخلاقية، وأعمال إرادة، وأعمال المستقبل تعكس قدرات المستقبلين في ارادتهم وقيمهم الاخلاقية في الترجمة الى واقع،ومشاريع المستقبل ليست مجرد اسقاط للماضي، وإنما مخططات لتخليد الحاضر وتتجلى فيها رغبة خاصة لتحقيق مستقبل أفضل. ومن هنا يتخذ بناء المستقبل الى الإجراءات اللازمة لتحقيقه؛ وهو ما يسميه برتراند دي جوفينيل وغيره من المستقبليين الفرنسيين “المستقبل” – يمثل قوة الرابط بين العلم والعمل.

ولهذا السبب يجب أن تعييد الدراسات المستقبلية إعادة تصور نفسها: يجب أن تصبح الدراسات المستقبلية تعمل من أجل المستقبل. تورد الكاتبة فيما سبق حقيقة تعدد المستقبليات، كإنعكاس لتعدد الثقافات واختلاف القيم،وأن مايجري على الواقع في رسم صورة المستقبل، لا يخلوا من مزيج تلك التأثيرات بطريقة مباشرة او غير مباشرة،وطالما أن مثل تلك التأثيرات واقعة بلا محالة، فتكون بطريقة واعية، من أجل بناء مشروع مستقبلي للأفضل، يلائم جميع تلك التعددات والتنوعات المجتمعية للحصول على مشروع مستقبلي حضاري.

تعلم التفكير المستقبلي:

من خلال هذا الجزء من المقال تحاول الكاتبة ان تلقي الضوء على تعددية الثقافات والقيم، والتي حتى تكون في سبيل القبول والاحترام من بين جميع الاقطاب حول العالم، هي بحاجة الى التعَلم والتعليم حتى يتم استيعاب حقيقتها وتأثيرها وقوة امتدادها عبر الزمان والمكان، وحتى يكون لها النصيب نحو المستقبل ليس الوحيد بالمنطق الغربي التجريبي، وإنما المتمازج مع العقل والإبداع، والقيم والأخلاق المترابطة مع الوجود الانساني، والاتصال الكوني لذلك تستهل في القول “أود أن أؤكد هنا أنه حتى يوطن التفكير المستقبلي نفسه في استشراف المستقبلات المغيرة للعالم،فسيتخذ من اجل تنفيذ ذلك سبيل العلم ومناحي التعلم.

والمستقبل مقاربة بحاجة الى البحث والتعلم من قبل المهتمين حتى يتمكنوا من مساعدة الآخرين الذين بدورهم عليهم تعلم المستقبل.وطريقة التعلم بجوانبها لاتعمل فقط من أجل الحفاظ على الماضي أو إدامة الحاضر، ولكن التعلم من أجل توقع وبناء المستقبل، ولا يعني أن ندرس المستقبل بمجرد التكيف مع المتغيرات في سبيل العيش، أو البقاء،وإنما من اجل صناعة قرارات ملائمة لكافة افراد المجتمع، وفئاتهم المختلفة لاعتبارات القيم الاخلاقية،والمسئولية الواعية.

ويتأثر المستقبل بطريقة او بأخرى بما نطلق عليه القيم التي تتوسط المستوى الوجودي للإنسان وهي عملية مستمرة للوجود الداخلي. وهي المبادئ التي تحكم العلاقات بين العالم المصغر (الإنسان) والعالم الكبير(الكون) ويمكن ان اسميه “مبادئ النظام الديناميكية في تدفق الحياة. وهذه القيم في لحظة تاريخية ومكانية معينة تخضع لتغيير مستمر فيما يتعلق بالزمان والمكان وبالتالي يتم استيعابها. في هذه المرحلة يكون التعلم مهمًا وحاسمًا للتفكير المستقبلي، وهذا النوع من التعلم هو الذي سيمنح البشر القدرة على العيش في عالم سريع التغير،والذي يبدو أنه يُضعف قدراتهم على البقاء والتطور نفسياً وروحياً.

و عملية التعلم المستمرة والمتغيرة هي استيعاب القيم بطريقة وجودية. بحيث أننا نتابع باستمرار التغييرات التكنولوجية والتغيرات السياسية والتغيرات الاقتصادية وما إلى ذلك، ومع ذلك لا يبدو أن هياكلنا النفسية والروحية الداخلية قادرة على استيعاب مثل هذه التغييرات، لذلك التعلم من خلال التعلم على طول الخطوط المشار إليها، واستيعاب القيم بطريقة وجودية، يمكننا أن نبقى ونتطور أيضًا، لأننا بهذه الطريقة نتبع مبادئ النظام التي هي خارج الزمن وتحكم العالم.و يستشهد إريك جانتش 17 باستنتاج أبراهام ماسلو بما يعرف” التسلسل الهرمي المعروف للاحتياجات: يكتسب الفرد القدرة على تحقيق الذات من خلال الإدراك التدريجي،كما أنه يعترف بالقيم المطلقة كمبادئ للنظام في تدفقات الحياة وسيرورتها، وفقًا لـ Jantsch هي” لحظة القيم الداخلية التي تفترض الابداع كما يرى ماسلو؛ بحيث يتجاوز دور الحدس والفهم الروحي بكثير الفهم من خلال العقل، الذي اعتمد عليه تطور الحضارة الغربية بشكل أساسي خلال القرنين الماضيين.

تفهم ماسني ان التعليم مهم وتقول “يجب أن يأخذ التعلم بعين الاعتبار قيم الفرد وسلوكياته وأنماط حياته وقيم الآخرين، باحترام ثقافة الفرد والوعي في نفس الوقت بالثقافات الاخرى. في عالم تعددي، يجب أن يكون التعلم موجهًا للهوية – أي أن تكون على طبيعتك، كفرد وكعضو في المجتمع: أن تكون فردًا يتغير باستمرار، وفي نفس الوقت جزءًا ديناميكيًا من المجتمع، بما في ذلك المجتمع العالمي.

وتتابع أنه “كما أن الوعي بالعلاقة بين الشخصية النفسية والاجتماعية. يعني الوعي بالتفاعل بين المزاج الفردي والشخصية الاجتماعية. لكل فرد مزاجه الفريد الذي ينبع من مكوناته الجينية، وتتطور هذه في ديناميات، مع الطابع الاجتماعي للأسرة، والمجموعة، والدولة، وما إلى ذلك، على النحو الذي حدده إريك فروم. والهوية هي القدرة على العيش المستمر في علاقة ديناميكية مع الذات والآخرين والبيئة دون أن يتم استيعابهم بالكامل.اي الانصهار فيهم.

 

وترى ماسني أنه :يجب أن يكون التعلم موجهًا لأسئلة الوجود النهائية عن : الموت، الحب، المأساة، الأمل، الولاء، القوة، معنى الحياة. يجب ألا يتجنب التعلم طرح مثل هذه الأسئلة ويجب أن يشجع بنشاط إنتاج إجابات أولية عليها. الهدف ليس إثبات صحة أي مجموعة معينة من الأجوبة بل تطوير القدرة على إدراك الإجابات المختلفة لمثل هذه الأسئلة ؛ على سبيل المثال، كيف تختلف مفاهيم الموت والحياة والحب في الثقافات المختلفة. فهم التعلم من خلال هذه المصطلحات اساسي للفهم المستقبلي والدراسات المستقبلية.

أي أنه من خلال تغيير التفكير المستقبلي والدراسات المستقبلية، يستطيع التعلم ان يكسر الحاجز بين ماهو موضوعي ومنطقي وبين ماهو معنوى ومادي ،لذلك يجب أن يفكر المستقبليون من حيث تطوير الرؤى، وتحقيق القدرة على البحث عن بذور التغيير والإصغاء إليها في عملية التاريخ، وبناء مشاريع للمستقبل من خلال أعمال تستند إلى قيم واضحة المعالم، مع الاعتراف بشرعية التصورات الأخرى. من هنا يجب أن تتغير الدراسات المستقبلية في هذه الاتجاهات حتى تصبح وسيلة ذات فائدة وقيمة.في النهاية تقرر المقالة بـ مابدأت به، أن التغير من أجل الفائدة والرقي الانساني الذي حتماً سيتحقق من خلال اعتراف الانسان بوجود الاخر، تماما ًكوجوده في فضاء الكون اللامحدود من الخيارات والتعددات.


المرجع:

Masini, Eleonora(2012). Reconceptualizing Futures A Need and a Hope, World Future Society Bulletin, v16 n6 p1-8 Nov-Dec 1982