مجلة حكمة
المسار الديكارتي هوسرل وديكارت

مدخل إلى الإرجاع في الفينومينولوجيا : المسار الديكارتي – ديليا بوبا / ترجمة: الحسين بوتبغة


      لئن كانت الفينومينولوجيا المتعالية قد زعمت في وقت مبكر أنها وريثة الديكارتية، فلأنها رأت في هذه الفلسفة النموذج المثالي لإصلاح جميع العلوم، بالانطلاق من بداهة يقينها مطلق. بيد أن المشروع الفينومينولوجي لـ هوسرل لا يمكن أن يقدم وكأنه مجرد استعادة أو استئناف للمشروع الديكارتي. فالفينومينولوجيا، كما يوضح ذلك إ. هوسرل في الفقرة الأولى من كتابة “تأملات ديكارتية“، تسعى إلى أن تطور بشكل جذري المنهج المعتمد عند ديكارت والموضوعات التي عالجتها فلسفته. وبعيدا عن الاكتفاء بالتشديد على، أو الاكتفاء بإعادة التعامل مع بعض جوانب فلسفة ديكارت، فإن هوسرل أخذ على عاتقه مهمة التفكير فيها مجددا وتعميق رهاناتها، معلنا عن توجه نحو التخلي عن المضمون المذهبي لفلسفة ديكارت في كليته. وسوف أعمل في ما يلي من فقرات على تسليط الضوء على هذا القرب المتميز من ديكارت، والذي لا يتعارض مع اتخاذ مسافة نقدية من موقفه الفلسفي، بل رفضه. بهذا الشكل وحده، يمكن الاقتراب من “المسار الديكارتي” للإرجاع الفينومينولوجي، في نفس الوقت الذي سنتقصى فيه حدوده ومكامن ضعفه[1].

نسجل أولا أن موضوعان محوريان من كتاب ديكارت “تأملات ميتافيزيقية” نالا اهتماما خاصا لدى هوسرل : فالقدرة على إرجاع المعرفة إلى حدوس مطلقة لا يمكن الوصول إلى ما هو أعلى منها (ص 18 من تأملات ديكارتية)، وبناؤها -أي المعرفة- على تجربة ترتكز على الذاتية،  هما ما جعل هوسرل يكتب بأن “الفلسفة، والحكمة، ينبغي أن يشكلا بمعنى ما، بالنسبة للفيلسوف “مسألة شخصية” (ص 19 – تأملات ديكارتية).هذه التجربة التي على الإنسان أن يعيشها “على الأقل مرة واحدة في حياته” تتمثل في “الانكفاء على الذات، والعمل، من الداخل، على قلب جميع العلوم التي تلقيناها، ومحاولة إعادة بنائها من جديد.” (ص 18 ت.د). إن ضرورة الوصول إلى بديهية تتمتع بيقين قطعي، وضرورة الارتكاز على البعد الذاتي للمعرفة من أجل بنائها عليها مجددا، مهمتان مترابطتان، مع العلم أنه لا يمكن ضمان وحدة وكونية المعرفة إلا بعملية اكتساب تدريجية وفريدة. ولكن، لماذا ينبغي لضرورة إعادة بناء المعرفة تنطلق من بداهة يقينها قطعي أن تمر عبر عملية قلب للمعرفة؟ إن هذا الاقتضاء المزدوج الذي وضعه هوسرل في المنطلق، يوجه الانتباه نحو مشكلين معرفيين، هما في أصل نشأة الفينومينولوجيا: مشكل معرفة نسيت أسسها وغاياتها، ومشكل المغالاة في الموضوعية objectivisme التي تنغمس فيها هذه المعرفة.

 والان، ما هو المنهج الملائم لهذه المسيرة نحو البداهة الحدسية التي انطلقت ابتداء من اللحظة التي “نقر فيها بفقرنا في ميدان المعرفة”؟ (ص 19 ت.د). إنه منهج الشك – أبرز ما تمت استعارته من ديكارت – مطبقا على جميع المعارف وعلى جميع المسلمات، حتى الوصول إلى حقيقة التجربة الحسية التي يعطى لنا فيها العالم في خضم الحياة اليومية” (ص 20 ت-د). إن منهج الشك يكشف أن الاعتقاد في وجود العالم يبنى على مجموع معارفنا التي لم تخضع أبدا للمساءلة والنقد. واعتبارا لكون هذا الاعتقاد غير مؤسس على بداهة يقينها قطعي، فمن الضروري تعليق وجوده هو نفسه. هكذا ننتقل منذ ذلك الوقت   من الشك الذي هو اختبار مختلف أصناف اليقين لدينا إلى تعليق “أطروحة”، وهذا ما يشكل خطوة هامة نحو الطابع الجذري المميز لمشروع هوسرل، مقارنة بمشروع ديكارت.

ما هو هذا الاعتقاد الأصلي الذي يتعين علينا أن نتخلى عنه حين نشرع في ممارسة عملية ” الإرجاع”؟ إن الأمر يتعلق بالرابطة الأكثر حميمية التي تشدنا إلى العالم الذي نعيش فيه، والتي بفضلها ننصهر فيه دون تفكير، أي بصفة عمياء. ويتمثل اليقين الحسي الذي يحتج به هوسرل ويستدعيه، في أن العالم يشكل المجال البدئي للمعرفة، المجال الذي تتحدد داخله بصفة قبلية وجهة هذه المعرفة، وكذا تطبيقاتها. نحن في العالم باعتباره موقعنا الوجودي والمعرفي الأول، وهذا ما يحول دوننا وإدراك أن العالم ليس معطى لنا بشكل قبلي، أي أنه ما ينبغي على الدوام أن تسعى المعرفة إلى الإمساك به. إن الاعتقاد في الوجود المسبق للوجود يحجب إذن سيرورة المعرفة التي شرعنا فيها باتجاهه والتي بموجبها يكتسب العالم معنى بالنسبة إلينا. إن الطابع الأصلي للعالم، وكذا تلازمه الحميمي مع الفكر، هما ما ينبغي أشكلتهما بتعليق الاعتقاد الذي نمنحه له (أي العالم) وذلك بهدف الوصول إلى الطابع الأصلي للمعرفة التي تعيدنا إليه. لنمعن النظر في تساؤل هوسرل : لكن، ما القول لو أن العالم ليس في نهاية المطاف المجال الأول للحكم، لو أنه مع وجود هذا العالم نفترض مجالا لوجود لذاته سابق عليه (un être en soi antérieur)؟ هل يتعلق الأمر بمجال شروط قيام المعرفة التي صاغها إ. كانط؟ إن هوسرل، رغم تأثره بكانط، قد سعى “إلى الذهاب أبعد من كانط : فمشروعه سيكتشف ليس فقط الأفعال القصدية التي توجه علاقتنا بالعالم، لكن كذلك المنتوج الذاتي لهذه الأفعال. هكذا، يبدو المتعالي كما تصوره هوسرل باعتباره مركز إنتاج عفوي، إنتاج تم اختبار طابعه المتحرك، الهارب، خاصة في التحليلات الخاصة بزمنية الوعي. في إطار مقارنة قام بها أوجين فينك E. FINK بين فلسفة هيجل وفلسفة هوسرل، تم كشف الخصوصية النوعية للفينومينولوجيا في محاولتها تأمل ليس فقط شروط إمكان تجربة العالم، ولكن كذلك وبالأساس تأمل مصدر العالم نفسه: من الضروري الإشارة إلى أن العالم ليس موجودا بصفة سابقة على المعرفة، وأن معنى وجوده هو من خلق المعرفة. هكذا يميز “فينك” ثلاثة مستويات لتشكل معنى العالم: مستوى الحياة الطبيعية حيث ننخرط في العالم بشكل عفوي، مستوى الوعي الواضح للتمثلات وللأفعال الإرادية التي بفضلها يمكن لهذا الانخراط أن يتم، وأخيرا مستوى انتاج تمثلاث ومعارف واضحة، حيث يتشكل وعي العالم نفسه باعتباره ملازما للوعي.

إن تعليق الاعتقاد في وجود العالم يسمح برؤية مجال سابق على الوصول المباشر إليه والذي يخفيه علينا حضوره، ويتعلق الأمر بمجال الحياة التأملية التي بفعلها يمثل لنا العالم في حضوره. وبهذه الطريقة، فإننا نكتشف أن العالم لا يأتي في المرتبة الأولى في سلم المعرفة، وبأن هناك شيئا يسبقه ويشرطه، وهو دائرة أفعال المعرفة المتمركزة حول ذاتية متعالية فاعلة. هذا يعني أن العالم لا يتحكم في المعرفة ولا يوجهها، بل أنه هو الذي يخضع، باعتباره معنى العالم بالنسبة إلينا، للأفعال التأملية، ولطريق الحياة المتعالية التي تتولد عنها تلك الأفعال. إن الفرق بين الفكر وبين العالم، وهو ما يصير واضحا حين نقوم بتعليق وجود العالم، يسمح بتصور حياة أخرى، مخفية بمعنى ما، في ثنايا الحياة الطبيعية، إنها حياة الفكر التي يسعى إليها الفيلسوف، وهي مصدر جميع الحقائق الممكنة والصادقة والأساسية.

إن دائرة التأملات تنكشف، منذ ذاك، كمصدر لصفاء جميع البديهيات الممكنة، كما تنكشف الذات المتأملة باعتبارها موجودة “بشكل لا يحتمل أي شك، وغير قابلة لأن تزاح أو أن تحذف، حتى ولو كان هذا العالم غير موجود “(ص 20 – ت.د). إن الذاتية التأملية تشكل نقطة البدء المطلق الضروري لإعادة بناء موضوعية للمعرفة، بل لكل حياة فلسفية. وباعتماد لغة جددتها الكانطية، فإن هوسرل لا يقتفي أثر ديكارت حين يصف مجال الفكر باعتباره مجالا يقينيا يقينا قطعيا، والذاتية المتعالية باعتبارها مصدر كل حقيقة تجريبية. وما يميزه عن ديكارت هو الطريقة التي سيوظف بها اكتشافه: فهو، على العكس من ديكارت، لن يكتفي بعزل يقين الفكر كي يبني عليه فيما بعد يقين العالم، ولكنه سيختار توسيع مداه (أي اليقين القطعي). إن السمة الفينومنيولوجية حقا المميزة لمشروع هوسرل هي: سبر أو اكتشاف ما هو محجوب حين يكون وجود العالم معلقا، ويتعلق الأمر هنا “بمجال الوجود في ذاته” السابق على الوجود، والذي يشرطه. وبهذا الاعتبار، يصبح من المهم جدا التأكيد أن وضع العالم بين قوسين لا يضعنا أمام “عدم محض”، بل بالعكس يتيح لنا إمكان تملك مرتكزات حياتنا باعتبارها حياة المعنى.

بهذه الطريقة، فإن ما يصبح ملكا لنا، ملكا لي أنا الذات المتأملة، هو “حياتي الخالصة” مع مجموع وضعياتها المعاشة ومجموع مكوناتها القصدية، أي باختصار هو كونية الظواهر (ص 46-ت.د).

في الوقت الذي يتم فيه وضع العالم بين قوسين، فإن ما تبقى هو ظاهرة الوجود المتولدة من الإنجازات الخالصة للفكر. وبعيدا عن أن تشكل مظهرا خداعا، فإن “ظاهرة الوجود” هي التي تحتضن معنى وجود العالم نفسه. إن الظاهرياتية المبنية في مستوى التمثلات على الأساليب التي بواسطتها ينكشف لنا العالم، هي التي تشكل مجال المتعالي والطريق الذي يقود إلى هذا المجال ليس إلا الإرجاع الفينومينولوجي المتعالي. مع ذلك، فلو تأملنا المسألة عن قرب لوجدنا أن ليس كل ما في مجال الإنجازات المتعالية متسما بصفة اليقين القطعي. وفي هذا الصدد، فإن مثال الذاكرة والأفكار غير الواضحة ذو دلالة كبيرة. فالمتعالي لا يحمل بالضرورة علامة اليقين التي ليس لها من ضمانة إلا الحضور لذاته للفكر، وإلا الانعكاس التأملي الذي يعيد الفكر إلى ذاته. إن الفكر لا يمكن أن يدرك ذاته باعتباره يقينا إلا انطلاقا من “التجربة المتعالية للأنا” التي بواسطتها “تصل الذات إلى أعماقها بطريقة أصيلة(ص 49. ت.د). وحياة الفكر تستفيد من “نواه” أو أصل هو “الحضور الحي للأنا بالنسبة لذاته” (ص 49) الذي عليه سيبني هوسرل يقين المعرفة. فالماضي (وهو على الدوام غير جلي) والمستقبل مع كل ما يمثل للفكر بشكل غامض وغير محدد، لا يشكلان إلا بنية أفق لأصل التفكير هذا الذي لا ينفك هو سرل يدعونا إلى العودة إليه. بيد أنه إذا كان من الضروري الإشارة إلى أن اليقين مقصور على حضور الأنا أمام ذاته، فإن من المهم كذلك الإشارة إلى أن إمساك الأنا بذاته يترافق بالضرورة مع أفق مفتوح لعدم التعيين يتضمن جميع الإمكانات التي يمكن أن تنقلها تجربتنا من القوة إلى الفعل. و هذه الضرورة التي تربط نشاط الوعي بأفق السلبية، دفعت هو سرل إلى التساؤل:”بأية كيفية يمكن للأنا المتعالي أن يخطئ حول ذاته، وإلى أي مدى تمتد – بالرغم من هذا الوهم المحتمل – المعطيات المطلقة اليقينية يقينا قطعيا؟” (ص 50- ت.د). الأمر يتعلق، كما يقول هوسرل “بنقطة خطيرة” بقمة حادة” يغدو فيها الابتعاد عن ديكارت أمرا بديهيا،ورهان هذا الابتعاد كبيرا، يقول: “لنتقدم بهدوء وثبات في أعلى هذه القمة. إنها مسألة حياة أو موت بالنسبة للفلسفة.” (ص 50-ت.د). حين توقف ديكارت على عتبة مجال الإنجازات المتعالية، فإنه وقع ضحية خطر يتهدد البحث الفلسفي في مساره، حيث يتعلق الأمر باتخاذ قرار ذي صلة بوضع الذاتية المتعالية داخل انجازاتها نفسها. وهذا الخطر هو الذي صنفه هوسرل ضمن دائرة الواقعية السيكولوجية بأصنافها المتعددة. فعوضا عن التوجه نحو تعميق وضع الذاتية المتعالية، فصل ديكارت الحديث عن “أنا أفكر” وكأنه أولية يقينه يقينا قطعيا، تبنى انطلاقا منها حقيقة العالم. هنا يظهر ثقل الإرث المدرسي وتأثير فكرة مسبقة مصدرها الانبهار بالعلوم الرياضية. وهوسرل نفسه يعترف بأنه وقع تحت تأثير افتراضات من هذا النوع، “تأثير هذا الإرث العتيق الذي ينبغي أن نحترس منه.” (ص 51- ت.د)

تؤكد “تأملات ديكارتيكية” على خطأ ديكارت المتمثل في الخلط بين الذاتية المتعالية وبين قطعة صغيرة من اليقين في أعماق الكائن البشري، مع الفكر كمركز أو كمصدر لليقين. وهذا الافتراض الموجود في قلب الاكتشاف الديكارتي لا ينفع بتاتا لقاعدة الشك التي بموجبها لا يمكن قبول أي شيء على أنه يقيني، إلا ما يمثل للفكر على أنه كذلك فعلا. فالالتزام بهذا المبدأ بدقة لا يقود إلى أولية يقينية، وإنما يفتح على تجربة متعالية تقود إلى احتواء العالم، لا باعتباره شيئا واقعيا وإنما باعتباره وحدة معنى.

من هذا العرض الموجز للمسار الديكارتي في بناء تجربة الإرجاع ينبثق مشكلان ملحان :   الأول هو مشكل الأنا وحدية (le solipsisme).وفي هذا الاتجاه، فإن الأنا يبقى وحيدا مع نفسه، مضطرا – في سبيل الوصول إلى مصدر حقيقة يقينية يقينا قطعيا – إلى التخلي عن تواطأه الأولي مع العالم حيث يدرك نفسه إنسانا مع آخرين. إن الطريق نحو التجربة المتعالية يبدو كأنه نوع من “نزع طابع الإنسانية”، كأنه فقدان لما نشترك فيه مع الكائنات الأخرى من يقينيات، بشرا كانت هذه الكائنات أم غير ذلك. والواقع أن الفينومينولوجيا لا يمكن أن ترتد إلى أنا وحدية، خاصة أنها تجتهد من أجل بناء معرفة موضوعية وكونية ذات قيمة بالنسبة لجميع الذوات.

 أما المشكل الثاني المرتبط بـ المسار الديكارتي ، فهو ذو صلة بوضع الذاتية باعتبارها شبيهة “بنقطة أرخميدس“. الأمر يتعلق هنا بذاتية متعالية لا يمكن الخلط بينها وبين الأنا الفردي النفسي – الفيزيائي. فليس كافيا أن أتملك نفسي باعتباري فردا كي أقوم بالإرجاع الفينومينولوجي، بل لابد من الذهاب بعيدا في عملية بناء المعرفة حتى الوصول إلى مستوى الإنجازات المتعالية التي تحدد وجود فرديتي وتسقط معنى تجربتي الشخصية على التجربة الكونية للمعنى. هكذا، وبهذا المعنى، لا تعود الفلسفة “قضيتنا الشخصية” إلا إذا تجاوزت إطار تجربتنا الخاصة كي توجهنا نحو مصدر المعنى بالنسبة لأي تجربة ممكنة. وفي هذا التمييز بين الذاتية التجريبية لأنا فيزيائي وبين الذاتية المتعالية، يكمن الفرق الهائل الذي يفصل هوسرل عن ديكارت. إن المسألة بالنسبة لهوسرل مسألة مبدأ: فلأن الأنا الفيزيائي – النفسي ينتمي إلى العالم، ولأن الاعتقاد بوجود العالم تم تعليقه، فيجب بالضرورة كذلك تعليق الأنا.


  • ملحوظة: جميع الاستشهادات المشار إليها بالرمز ت.د داخل المقال ، مأخوذة من :

Edmond Husserl : méditations cartésiennes- traduction E. LEVINAS et G. PREIFFER – PARIS, VRIN,1986.


[1]– DELIA POPA : «Introduction à la réduction phénoménologique : la voie cartésienne » -PHENICE, Numéro spécial , Janvier 2008 PP : 13-18