مجلة حكمة
النجاح في المدرسة

النجاح في المدرسة

ملف من تنسيقإِلويز ليريتي (Héloïse Lhérété) 
إعدادالعربي القاسي

  ما الذي يصنع نجاح التلاميذ أو فشلهم؟ سؤال أرخى بظلاله على علم الاجتماع وعلوم المعرفة وكل حقول التربية. فعلم الاجتماع ينصب على دراسة تأثيرات الوسط الاجتماعي، في حين يهتم علماء النفس برصد الدوافع الشخصية للأداء (الحافزية، المثابرة، الثقة بالنفس، مجموع الانفعالات…). أما علماء الإدراك، فيقيسون الــذكاء (أو الذكاءات!) ويبغون فك طلاسم الدارات العصبية التي تحكم التعلم. ويؤكد علماء التربية على دور المدرس وعلى دور مناهجه في التدريس… وقد أصبح السوق اليوم* يتدخل في هذا، في ظل قلق الآباء، باقتراح تفسيرات وتطبيقات وبيداغوجيات جديدة. غير أنها ليست دائما تامة الِجدة ولا جيدة التأصيل.[1]

   لا يقدم هذا الملف جوابا شافيا لا لبس فيه ولا منهجا يُتَّبع. فلا طائل من أن نحاول ذلك، لكنه سيمَكن القارئ من فهم البراديغمات الكبرى في التربية فهما أفضل، في تطوراتها وتقاطعاتها الحالية. ونرى بالخصوص ظهور إشكالات ملموسة جدا لدى الباحثين، في ملتقى طرق علم الاجتماع وعلم النفس والبيداغوجيا: كيف يمكن للآباء أن يُوَرِّثوا أبناءهم «لذة الاجتهاد». فهل تستطيع المدرسة أن تغذي الثقة بالنفس أو المثابرة؟ أي دور يلعبه زملاء الفصل الدراسي في تطور الطموح المدرسي؟ أمَا وقد أضحت المدرسة تشك في أمرها، وتبحث عن نفسها، وأضحى الآباء قلقين وأصبحوا يضغطون على أطفالهم، وقد استشرى في نفوس التلاميذ المراهقين الرهاب من المدرسة، فقد أصبح من المفيد لنا أن نبحث في هذا التطلع إلى تحسين الأداء [التربوي في المدرسة وعند التلميذ، وأن نتساءل بداية:] هل النجاح في المدرسة أمر حاسم في نجاح المتعلم في حياته المهنية وحياته الشخصية؟

           كيف يصبح التلميذ تلميذا نجيبا؟

  النجاح المدرسي غير عادل لأنه يتوزع بين التلاميذ توزيعا مجحفا بما فيهم التلاميذ المجدون. ولكن هذه القسمة ليست حتمية**.  

    مكونات الوصفة معروفة. لكن يتعذر الوصول إليها. هكذا يمكننا اختصار حال المعارف المتراكمة حول النجاح والفشل الدراسيين. ومن تلك المكونات التي لا محيد عنها الذكاءُ، والحافزية، والرأسمال الثقافي، وجودة التدريس. لكن لا توجد خيمياء قمينة بتحويل طفل صغير إلى تلميذ ألمعي. وعليه ينبغي البدء بالتخلص من بعض الأفكار النمطية التي كثر تداولها. فأن ينشأ [التلميذ/ الطفل] في وسط متميز لا يضمن له النجاح حتما، ثم إن بعض الأطفال الأذكياء جدا يمكن أن يفشلوا بالتعليم الإعدادي. أضف إلى ذلك أن الحافزية لا تضمن للتلميذ فهم ما يُطلب منه، كما أن العمل لا يكلل دائما بالنجاح، بل إن بعض التلاميذ الكسالى [في الصغر] يبزغ نجمهم في سن العشرين دون أن يتوقع ذلك منهم أحد، وهكذا فإن النظريات المغرقة في الاختزالية والحتمية تصطدم في مجال التربية بعدد هائل من الاستثناءات[التي تثبت تهافتها]. فالكائن البشري دائما يخبئ المفاجآت لمن يحاول أن يرسم مساره مسبقا.

   لكن بقي أمر هام يعيشه كل مدرس يوميا. وهو أن هناك اختلافات كثيرة بين تلاميذ العمر الواحد. وهي اختلافات ذات طابع إدراكي، اجتماعي، سلوكي، عاطفي، اقتصادي، لغوي، ثقافي، نفسي. فهل تسمح هذه الفروق الفردية بتفسير التفاوت الحاصل في النجاح؟ كيف ندعم كل تلميذ بأفضل طريقة؟ هل توجد أسرار للتفوق؟ إن هذه الأسئلة فرضت نفسها منذ إقرار إلزامية التمدرس عام 1882 إذ صارت موضوعا للبحث العلمي الممنهج، بله رهانا سياسيا.

 -1) الذكاء، إنه مفيد…: استشعر الباحثون، منذ زمن طويل، أن الذكاء هو العامل الكبير الذي يفسر النجاح والفشل [في المدرسة]. فمنذ نهاية القرن التاسع عشر، أقام وزير التعليم العمومي لجنة لفهم سبب عدم استفادة جميع التلاميذ من التعليم المقدم لهم. وفي هذا الصدد، قام عالم النفس ألفرد بيني ( (Alfred Binetبتطوير أول اختبار للذكاء بمساعدة زميله تيودور سيمون (Théodore Simon)، ولم يكن هذا الاختبار وقتئذ يرمي إلى تحديد المتفوقين، بل إلى التعرف على التلاميذ «المتعثرين» قصد وضعهم في صفوف مناسبة سعيا إلى دمجهم فيها.     [2]   

   تتزايد الدراسات حول الذكاء بشكل كبير إذ صارت مثار نقاشات حادة. من أين يأتي الذكاء؟ هل يمكن شحذه وتنميته؟ (كان ڤيكتور هوگو يقول عن معلمي المدرسة بأنهم «بستانيو الذكاءات البشرية»*)؟ هل يوجد شكل واحد من الذكاء أم أن هناك أشكالا متعددة؟ وتعتبر نظرية عالم النفس الإنجليزي تشارلز سبيرمان المعاصر لبيني، من بين النظريات الشهيرة، والذكاء عنده عامل عام يدمِج القدرات الإدراكية الكبرى «عامل g»**. فعندما ينجح الطفل في مجال ما، فبإمكانه أن ينجح في غيره من المجالات. وقد وجد تصور الذكاء هذا امتدادات حديثة بفعل تأثير أبحاث التصوير العصبي [تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي مثلا] التي أظهرت أن القيام بمهام معقدة ينشط شبكات عصبية بأكملها فيحصل نتيجة لذلك تواصل بين مختلف مناطق الدماغ: الفص الجبيني والفص الجداري والفص الصدغي والقشرة الحزامية، إلخ.

   أما الباحثان ريكس يونج وريتشارد هايير(Rex Jung, Richard Haier) ، واضعا “نظرية الدمج الجبيني-الجداري” (عام 2007) فقد استخلصا أن الأفراد الذين يتمتع دماغهم باتصال جيد[بين الفص الجبيني والفص الجداري] أحرى أن يكونوا أكثر ذكاء: يحفظون جيدا، ويربطون المعلومات ببعضها بسهولة، ويفكرون بسرعة أكبر. ومهما بدت هذه النظرية اختزالية (بطرحها أن الذكاء شيء بسيط يتعلق بتواصل بيولوجي [في الدماغ])، فقد تعززت بتتبع حال عدد هائل من الأطفال. أي أن الذكاء، بهذا التعريف، برهن على أنه مؤشر جيد على النجاح المدرسي.

   أما عالم النفس الأمريكي هاوارد گاردنر (Howard Gardner) فقد طور طرحا مغايرا تماما عام 1983، ومفاد طرحه أن الذكاء ليس ذكاء واحدا، بل يتكون من تسعة أشكال من الذكاءات المستقلة: الذكاء اللغوي، الذكاء الموسيقي\النغمي، الذكاء المنطقي الرياضي، الذكاء البصري\المكاني، الذكاء الجسمي\العضلي، ذكاء المعرفة الذاتية\معرفة النفس، ذكاء معرفة الآخرين، الذكاء الطبيعي، الذكاء الوجودي. فــ«نظرية الذكاءات المتعددة» هاته، التي ما تزال محل نظر، لقيت نجاحا باهرا في عالم التربية، ومزيتها أنها أقل نخبوية من نظريات «عامل g». فإذا كان كل الناس يتمتعون بنوع من الذكاء الخاص، فإن كل فرد يمكنه أن ينجح في مجال معين ويكفيه أن يتعرف على مكمن قوّته.

(2 …شريطةَ إحسان استغلاله…:  

  وفي عام 1979 ظهر تفسير جديد في علم النفس [لفوارق التعلم عند التلاميذ] وهو نظرية إدراك الإدراك*. وهذا المصطلح الذي صاغه [الباحث الأمريكي] جون فلاڤيل (John Flavell) يحيل على «المعرفة التي يملكها المرء حول عمليته الإدراكية الخاصة به». وإدراك الإدراك شيء غيرُ الذكاء. فيمكن أن يكون للمرء معدل ذكاء (QI) ألبرت اينشتاين لكنه يواجه صعوبات في التعلم والمنهجية. وهذه هي المفارقة التي يعيشها بعض الأطفال النوابغ الذين يراكمون علامات سيئة: فمثلهم كمثل متسابق له سيارة سباق فاقعة الحمرة**. غير أنه ليس بحوزته مفاتيحها ولا دليل استعمالها؛ والنتيجة أن أولئك الذين يسلكون الطريق بجانبهم على متن دراجات هوائية (تتطلب مجهودا أكبر ولا شك) يتقدمون بشكل أوثق ولمسافات أبعد [ويحصلون على نتائج أفضل، وما ذلك إلا لأنهم أحسنوا استعمال الدراجات لأنهم يدركون طرق اشتغال آلياتها]. [3]

   إن إدراك الإدراك أمر مطلوب باستمرار من طَوْر الحضانة إلى التعليم العالي. ذلك أن إنجاز تمرين ما يقتضي [من التلميذ] تحليل التعليمات، التفكير في انتظارات المصحح، تحضير المعارف الدقيقة، منع ردود الفعل الفكرية السيئة، تدقيق عمله، تصحيحه… وهذه العملية الذهنية أكثر حسما من حاصل الذكاء (QI) بنفسه، فلا ترتبط به إلا ارتباطا جزئيا حسب ما ذهب إليه مارسيل ڤينمان (Marcel Veenman)، مدير معهد البحث حول إدراك الإدراك(بهولندا) حيث قال: «حتى الطلبة الأذكياء جدا يجب أن يكتسبوا كفايات إدراك الإدراك وإلا فلن يأمنوا الصعوبات حين تتعقد المواضيع أو يزداد ضغط الامتحانات. وبالمثل، فإن الكثير من الطلبة غير المتميزين يمكنهم أن يعوّضوا [نقص ذكائهم] بقدراتهم في إدراك الإدراك.

   ما أكثر من يريد التصديق بهذه النظرية رغم أن الدراسات التي أنجزت بهذا الصدد لا تزال ناقصة. فقد بادرت منذ الآن بعض دور النشر والمختبرات نظرا لِتَحَمُّس الآباء لهذه النظرية إلى إنجاز برامج لتطوير ملكات التركيز، أو الاستدلال المنطقي، أو الانتباه البصري.

  3)…وأن تعمل العمل بكل وجدانك…: لقد حظيت الأحاسيس التي تنتابنا باهتمام الباحثين في علم النفس منذ حوالي عشرين عاما. ذلك أنهم يبذلون ما في وسعهم ليفهموا جيدا الترابط الحاصل بين مختلف المكونات المتعلقة بالفكر، وبإدراك الإدراك، وبالحافزية، وبالعواطف والأحاسيس(نماذج التعلم الذاتي بدون إشراف)، لاعتقادهم أن حياتنا العاطفية تَروي باستمرار تمثلاثنا للعالم، وتحدد انخراطنا في الفعل [عموما]وفي العمل[خاصة]. وبالفعل فإن التلاميذ ليسوا كائنات مفكرة فحسب، بل يشعرون بأحاسيس متعددة على الدوام: كالرغبة، والتحمس، والتنافسية، والغضب، والخجل، والفخر، والخوف… ومن شأن هذه الأحاسيس أن تسهل عليهم التعلمات أو أن تثبطهم في حالات الضغط أو المعاناة.

  إلى جانب نظريات الحافزية هاته، أصبحت النماذج اليوم متنوعة جدا (ص:34). ويشدد بعض علماء النفس على الفضول والرغبة في التعلم (ستانسلاص دهين Stanislas Dehaene). في حين يلح آخرون على الشعور بالفعالية الذاتية والثقة بالنفس (انطونيو بندوراه Antonio Bandura)، وآخرون على الولع، والاستماتة، والميل للتحدي (كارول دويك، أنجلا داكوورث Carole Dweck, Angela Duckworth). أما غيرهم فيلحون على السيناريوهات الافتراضية التي يقوم بها كل واحد يوميا، طفلا كان أو راشدا (أوليفي أودي Olivier Houdé). إن تصور الشعور بالفخر قِبَلاً في حالة النجاح وتصور الشعور بالندم في حالة الفشل يكفي عادة لحث المرء على مباشرة العمل.

 (4 …أن تحظى بدعم العائلة…:

  إن علماء الاجتماع -على غرار علماء النفس رغم قلة تحاورهم معهم -يقدرون تأثير الوسط العائلي والاجتماعي. فقد أظهر كل من العالِمين بْيِير بورديو وجون كلود باسرون (Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron) عام 1964 في عملهما “الوَرَثة” كيف أن الآباء المنتمين إلى الطبقات المحظوظة يوَرِّثون مجموعة من الخصال لأبنائهم عن طريق “التلاقح” من قبيل: “العادات، والميولات، والمواقف التي تخدم التلاميذ مباشرة في مهامهم المدرسية“.

  إن كثيرا من علماء الاجتماع المعاصرين وإن كانوا ممتنين لبورديو وباسرون [على مساهمتهما هذه] يسعون إلى تجاوز نموذجهما. فالباحثة گائيل هنري‑پابابيير (Gaëlle Henri-Panabière) تستدرك مضيفة بأن هناك أيضا “ورثة في الفشل الدراسي” خاصة عندما يكون الآباء غير مكترثين بالمتطلبات المدرسية أو يحقرون المدرسين صراحة [على مسمع من الأبناء] (4). أما برنارد لاهير (Bernard Lahire) من جهته فيرى أن من أسرار النجاح المدرسي وجود “ميل عام إلى اللغة“. فإن [أيّ طفل] ترعرع في ثقافة [أسرية] تسودها القراءة والكتابة، (حيث يرى وفرة الكتب في بيته، ويرى أبويه يقرآن ويكتبان، ويلعب بلُعَب الحروف، إلخ)، فإن هذا يسمح له باكتساب علاقة تأملية باللغة، بصرف النظر عن مهنة أبويه ووسطهما الاجتماعي. فهذه الخصلة، مشفوعةً بجو عائلي هادئ، بمثابة مفتاح سحري يتيح للطفل فهم انتظارات المدرسة.

  أما الباحثة ساندرين كارسيا (Sandrine Garcia) ، فقد أعادت النظر حديثا في فكرة إجراء نقل “تلاقحي”  (osmotique) من الآباء إلى الأبناء، على غرار نقل مَلَكَة فكرية للأبناء في النجاح. وعليه، فقد استقصت سلوكات العائلات في الأوساط المشجعة [للتعلم] والتي تتفانى في خدمة أبنائها أكثر مما تصرح به: فهم يحرصون على مراقبة واجباتهم [الدراسية]، واستكمالها بتمارين إضافية. كما يتم إشباع الأنشطة الرياضية، والثقافية وحتى الأنشطة المنزلية بمتطلبات تربوية، ويعوِّدون أبناءهم على الاستفادة من دروس خاصة ومن الشبكات العلائقية بين الأشخاص (ص: 38). فهؤلاء الآباء أنفسهم يطوِّرون قدرات فعالة نافذة بخصوص التوجيه: اختيار الشُّعَب، المؤسسة، ويذهبون أحيانا إلى حد تغيير السكن للتمكن من وصول أبنائهم إلى ثانوية ذات سمعة طيبة. فهذا الجهد الملحوظ يعود بالنفع العميم على الأطفال، إذا لم يتحول إلى ضغط خانق. 

(5 أن تلتقي بأشخاص مناسبين:

   أخيرا عملت دراسات عديدة في علوم التربية على سبر أثر الأستاذ على نجاح التلاميذ، إلى جانب أثر الأتراب وأثر المؤسسة (ص: 56). إن من الصعب تحديد حجم تأثير خصال المدرس، وشخصيته، ومدى شغفه بمادته أو بتلاميذه. إلا أن هذه الأمور تكفي أحيانا لقدح شرارةٍ في الناشئ ليُقبل بنهم على تذوق مادة التاريخ أو الفلسفة مثلا فيزيد إقبالُه على المادة أستاذَه رضىًٰ عنه وتشجيعا له ويزيده هذا الرضى والتشجيع إقبالا على المادة. فهكذا كان حال الشاب مالو(Malo) الذي أنهى مساره بالمدرسة بفضل توجيه مُدرِّسة ودودٍ التقت به تدعى مائيل فيرا (Maël Virat) (44 :p). وأحيانا يحدث اللقاء الحاسم خارج أسوار المدرسة من قبيل اللقاء بمربٍّ مُلهِم، أو صديقة طموحٍ، أو محترِف متحمس [يحمس التلميذ بلسان حاله للاهتمام بدراسته].

    فما العمود الذي عليه المعول إذن؟ أهو الذكاء، أم مَلَكة إدراك الإدراك، أم الحافزية، أم رغد العيش، أم الوسط العائلي، أم الأساتذة، أم اللقاءات أم…؟ ولا يمكن أن يكون الجواب على هذا السؤال البتة إلا جوابا مختلفا حسب الأفراد متغيرا حسب الأوقات. فبعض التلاميذ يعبث في دراسته بتهاون وصلف، وبعضهم يسلك طرقا ملتوية في الدراسة [كالغش في الاختبارات مثلا] لكنهم يحرزون نجاحات مهنية أو حياتية باهرة في سن الرشد. وقد حظيتُ مؤخرا بفرصة الاطلاع على ما صار إليه زملائي القدامى [أيام دراستي] في مدرسة إعدادية عمومية بالبادية. فوجدت أن مــهــنهم المتنوعةَ جدا، لا تَـمُت بشيء إلى بيانات نقطهم [أيام المدرسة]: فمنهم مديرة مستشفى، ومنهم نجار من الطراز العالي، ورئيسة مطبخ في فندق فخم، ومصمم للرحلات السياحية، ومغني أوبِّرا، ومخترع ألعاب فيديو، ومراسل مُصوِّر (وهو الآن بصدد جولة حول العالم على متن دراجته ومعه آلة التصوير بعدما تخلى عن عمله كممثل تجاري)، وصاحب حانة، وبطل في لعبة الفريسبي (Frisbee)، بل إن منهم ممثلة شهيرة في السينما. وعليه، يستحيل معرفة ما جرى في حياة كل واحد منهم [حتى آل إلى ما آل إليه]: فقد تكون خيمياء معقدة، وقد تكون[خيمياء في منتهى البساطة] يحركها عنصر واحد صغير. وعدم اليقين هذا يعني شيئا واحدا، وهو أن نصيب كل طفل [تلميذ ومآلاته في الحياة] سؤال أكثر اتساعا مما يظهر للناظر.

(1) Rex Jung et Richard Haier, «The Parieto-Frontal Integration Theory (P-FIT) of intelligence: converging neuroimaging evidence», Behavioral and Brain Sciences, vol. XXX, n° 2, avril 2007.
(2) Marcel Veenman, http://research.unir.net/blog/ veenman-even-brighter-students-have-to-keepdeveloping-metacognition-skills/

(3) On peut se référer, par exemple, à la collection «Les petits cahiers» des éditions Retz.

 (4) Gaëlle Henri-Panabière, Des «héritiers» en échecscolaire, La Dispute, 2010.

              ماذا يعني الحديث عن “تلميذ نجيب”؟

  هل هو التلميذ الذي يعمل بجد ونشاط أم ذاك الذي تسعفه المسهِّلات*. يختلف الجواب عن هذا السؤال بحسب المدرسين، فهم أولوا الحكم في هذا المجال.

   لقد أصبح مفهوم «التلميذ النجيب» من أكثر المفاهيم نسبية اليوم لأنه مفهوم يتغير مع مرور الزمن. ذلك أن تلميذا نجيبا في التعليم الابتدائي يمكن أن يفشل بعد سنوات قلائل وقد يحدث العكس. كما يتغير معنى هذا المفهوم أيضا حسب مستوى القسم أو حسب كفاءة الشخص الذي يصدر الحكم عليه؛ فبعض المدرسين يعتمدون على ما حصّله التلميذ من نتائج لاغير. بينما ينظر آخرون إلى سلوكه أو إلى ما يبذله من جهد. ويتعللون ببعض المعايير المعتمدة في التميز عندما يُسألون. فالتلميذ النجيب [حسب رأي المسؤول] هو:  [4]

 – الأكثر تفوقا (Le meilleur): أي الذي يحصُل على أحسن العلامات، ويتمتع بقدرات خلاقة وثقافة معتبرة. يعمل بسرعة وبأفضل ما يكون، ويتبوأ “صدارة” ترتيب القسم. فهذا التعريف يتصادى وتعاريفَ التميز والهرمية المدرسية. لكن يجب أن نسجل أن هذا التصنيف لا يتوقف على كفايات التلميذ نفسه، بل يتوقف بقوة على مستوى تلاميذ القسم والمؤسسة الذين قورِن بهم**. فإن مدارس الأقسام التحضيرية مثلا تعج بــ”التلاميذ المتفوقين” في التعليم الثانوي الذين قد يجدون أنفسهم وقد أضحوا “أسوأ التلاميذ” جراء تصنيفهم الجديد. (1)

 –المتلهف(Le curieux): بعض المدرسين يرفضون قبول هذه النظرة التنافسية في منفسح المدرسة. فهم يقيمون اعتبارا للإتقان بدلا من آلية التصنيف، وللسلوك بدلا من العلامات المحصّلة، والمسار [الدراسي] بدلا من النتيجة: هل التلميذ فضولي، مهتم، منتبه، متحفز؟ هل يحرز تقدما؟ وهكذا تؤكد المدرسة السيدة ألغرا (Alegera) التي دَرَّست خمسة وثلاثين سنة في مدرسة ابتدائية بمنطقة پادوكالي (Pas-de-calais) أن “التلميذ النجيب إنما هو تلميذ ذو لسان سؤول، راغب في التعلم. وليس تلميذا ينجح لزوما، بل تحدوه رغبة في التعلم. يجد مشقة في ذلك، لكن يتمكن أخيرا من تجاوز عقابيلها. بيد أن التلميذ النجيب الذي يوثر الدعة والخمول لا يمكن أن يحقق شيئا يذكر(2).

المجتهد (Le travailleur) : تميز عالمة الاجتماع آن باريير (Anne Barrière) بين نوعين من المجتهدين في الصنافة التي اقترحتها لتلاميذ الثانوي(2): “المجد عن طيب خاطر”(le bosseur) ،”والمجد المُكره” (forçat le). فالأول يحصل على نتائج تنسجم وعمله الدؤوب؛ فإنه عندما يعمل ينجح ويرضي مدرسيه. في حين أن “المجد المكره” شخص مأساوي ومتناقض: فهو يجتهد بلا هوادة لكن نتائجه لا تنبئ بذلك. فهو «يرى نفسه من وجهة نظره الذاتية تلميذا ألمعيا متميزا جدا من الناحية الذاتية. لكنه لايعد كذلك من الناحية الموضوعية».

المبادر(L’autonome): أصبحت المبادرة [أو الاستقلالية] اليوم السمة الأساسية التي ينفرد بها التلميذ “المثالي”(4). فالتلميذ الكامل هو الذي اصطبغ طبعه بما يُنتظر منه في المدرسة. ففضلا عن أنه يتمتع بروح تنافسية، فإنه شخص مؤدب منضبط وشخص سهل الصحبة [لمعلميه ولوالديه]؛ فقد وطَّن نفسه منذ وقت مبكر على ما يُنتظر منه. ويلخص ذلك عالم الاجتماع فيليب پيرينو (Philippe Perrenoud) قائلا: “إنما التلميذ النجيب الذي يقول في نفسه: “هل اخترت التمرين المناسب؟ وهل اعتمدت المنهجية المناسبة في إنجازه؟ هل أخذت لوازمي؟ هل أنجزت واجباتي بنحو صحيح؟” فهو يراقب نفسه بنفسه باستمرار، كافيا معلميه وأبويه مؤونة ذلك دون أن يشعر(5).


 

(1) Carole Daverne et Yves Dutercq, Les Bons Élèves. Expériences et cadres deformation,Puf, 2013.
(2) Témoignage recueilli par Laure Sochala, « Qu’est-ce qu’un bon élève ? Représentations et attentes des élèves et des enseignants », master SMEEF soutenu à l’IUFM-Arras, 2013.

 (3) Anne Barrère, « Le bosseur, le fumiste, les touristes et le forçat. Formes du travail lycéen etpratiques d’évaluation », Correspondances, supplément au n° 11, juin 2001.

 (4) Héloïse Durler, L’Autonomie obligatoire. Sociologie du gouvernement de soi à l’école, Presses universitaires de Rennes, 2015.

 (5) Philippe Perrenoud, « Le métier d’élève », Unapec, Paris, 1996, www.unige.ch/ fapse/SSE/teachers/perrenoud/php_main/php_1996/1996_15.html

 * عنوان النص الفرنسي الأصلي «Réussir à l école» ، مجلة Sciences Humaines Octobre 2019, N° 318 ، عدد خاص Réussir à l école [النجاح في المدرسة] ، الصفحة: «29–33 .

أسماء الأعلام: اعتمدت، في التعريف بأسماء هذه الأعلام الأجنبية، على مصادر متنوعة باللغتين الفرنسية والانجليزية تسهيلا للفهم:

 Wikipédea l encyclopédie libre   

 -https://www.britannica.com                        موسوعة المعارف البريطانية                            

 –Encyclopædia Universalis [en ligne], 2018. URL :             موسوعة انفرساليس الفرنسية

http://www.universalis.fr/encyclopedie

 -ألفريد بينيه: 1857-1911) (Alfred Bine عالم النفس الفرنسي، لعب دورًا مهيمنًا في تطوير علم النفس التجريبي في فرنسا، قدم مساهمات أساسية في قياس الذكاء. انبهر بعمل طبيب الأعصاب جان مارتن شاركو في التنويم المغناطيسي في مستشفى شالبترير (Salpêtrière) (1857-1911). عمل مع ثيودور سيمون لتطوير مقاييس شديدة التأثير لقياس ذكاء الأطفال. نشر أعمالًا عدة منها: قابلية الإيحاء (1900) والهستيريا (1910)

هوارد جاردنر (Howard Gardner) 1943: كاتب وعالم النفس الإدراكي الأمريكي، اشتهر بنظريته حول الذكاءات المتعددة. من أعماله: نظرية الذكاءات المتعددة (1983)، النظرية في الممارسة (1993)…

ريتشارد هاير: (Richard Haier) عالم النفس، اكتشف أن الأشخاص الذين يؤدون أداءً أفضل في اختبارات الذكاء التقليدية غالبًا ما يظهرون نشاطًا أقل في الأجزاء المتصلة بالدماغ مقارنةً بأولئك الذين يؤدون أداءً أقل.

أوليفييه هودي Olivier Houdé) (، 1963 : مدرس وباحث وعالم نفس فرنسي. أستاذ علم النفس التنموي بجامعة باريس. عضو في أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية في فرنسا والأكاديمية الملكية للعلوم والآداب والفنون الجميلة في بلجيكا. انصبت بحوثه على تنمية الطفل وعلم الأعصاب الإدراكي. طارت شهرته في فرنسا والعالم أجمع من خلال تطوير نظرية جديدة في التطور الإدراكي والاستدلال المنطقي واتخاذ القرار بناءً على عملية التثبيط والتحكم المعرفي التي تعتمد على قشرة الفص الجبهي في مقدمة الدماخ.

  – ستانسلاص دهين (Stanislas Dehaene, 1965): عالم النفس، فرنسي متخصص في علم النفس العصبي. تركز أعماله على التمثلات الرياضية (الترقيم والهندسة) والقراءة واللغة والوعي، وقد تم تعميمها في أعمال مختلفة. يرأس حاليا المجلس العلمي للتربية الوطنية.

 – بيير بورديو ((Pierre Bourdieu(1930، 2002) ، عالم اجتماع فرنسي. أصبح، في السنوات الأخيرة من حياته، أحد الممثلين الرئيسيين في الحياة الفكرية الفرنسية. كان لفكره تأثير كبير في العلوم الإنسانية والاجتماعية حيث انصب على تحليل آليات إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية للسيطرة، ويصر على أهمية العوامل الثقافية والرمزية في إعادة الإنتاج الاجتماعي مركزا على ما يسميه العنف الرمزي.

جان كلود باسيرون (Jean-Claude Passeron) 1930:عالم اجتماع وعالم إبستيمولوجي فرنسي، ومدير الدراسات في كلية الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، عضو مؤسس لمركز أبحاث متعدد التخصصات: SHADYC (علم الاجتماع، التاريخ، الأنثروبولوجيا الديناميات الثقافية).

برنارد لاهير (Bernard Lahire)، 1963، عالم اجتماع فرنسي، وأستاذ علم الاجتماع في المدرسة العليا للأساتذة في ليون ومدير فريق التصرفات والسلطات والثقافات والتواصل الاجتماعي في مركز ماكس ويبر (CNRS).

فيليب پيرينو (Philippe Perrenoud) عالم اجتماع سويسري ولد عام 1944. حاصل على دكتوراه في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا. منذ عام 1994، عمل أستاذًا في جامعة جنيف في مجال المناهج وممارسات التدريس ومؤسسات التكوين. قادته أعماله حول صناعة التفاوتات والفشل المدرسي إلى الاهتمام بالممارسات البيداغوجية، تكوين المدرسين، آليات اشتغال المؤسسات المدرسية، تحولات نظام التعليم والسياسات المعتمدة في التربية…


    * سوق دور النشر والمدارس والجهات المعنية الأخرى.

   ** أي أنه لا ينبغي أن نفهم من هذا أن نصيب التلميذ من التعلم مُقدَّر مسبقا وأنه لابد واقع.

   – الكلمات بين معقوفتين [..] من إضافات المترجم استتماما للمعنى وتيسيرا للفهم.

 * أي أنهم يتعهدونها بالسقي والتهذيب. / ** g اختصار general أي عام.

 * إدراك الإدراك (métacognition):إدراك المُدرِك بأنه مُدرك ووعيه بطرق إدراكه وبالتالي قدرته على التحكم فيها من أجل توجيهها وتحسينها./ ** كناية عن سرعتها.

 * المسهِّلات (Facilités) من مواهب عقلية وظروف مادية واجتماعية سانحة/** أي أنه قد يكون أعور بين العميان فيعتبر متفوقا.