مجلة حكمة

الحرب والمندرين وهابرماس: عن التواصل وتشييء الإنسان

الكاتبعبد الله الحميدي

 إلى قاتل

لو تأملت وجه الضحية وفكرت

كنت تذكرت أمك في غرفة الغاز

كنت تحررت من حكمة البندقية

وغيرت رأيك

«محمود درويش»

“دعونا نغنِّ.. دعونا نفرح أيها الأصدقاء، فقد تم القضاء على الصراصير، لنغن أيها الأصدقاء، فالله لا يخطئ أبدا” 1 هذا ما كانت تذيعه الإذاعة الرسمية الرواندية RTLM . في أحد صباحات يونيو من العام 1994، في سياق دعاية إعلامية شرسة للقضاء على أقلية التوتسي، والتي راح ضحيتها خلال مئة يوم أكثر من 800 ألف شخص. 

كل شخص من الهوتو كان مدعوا لقتل كل شخص من التوتسي. كثيرون قتلوا جيرانهم فقط لانهم من التوتسي، الكثير صرحوا فيما بعد أنهم أناس صالحين، ولم يكن يدور ببالهم أن يتحلوا فجأة إلى قتلة. في الواقع لم يدرك كثير من هؤلاء المتهمين في المجازر ان الفرق بينهم وبين ضحاياهم هو مجرد أنهم انخرطوا في نشاط ذهني أكبر في سبيل عمليه نزع الإنسانية عن ضحاياهم، فقد كانت الإحالة إلى الصراصير أحد الوسائل لتحقيق ذلك، ولم تم تبادل الأدوار لكانت النتيجة ذاتها.

ما تقوم به عمليه نزع الأنسنة في الواقع يكمن إلغاء البعد الفردي للشخص، والزج به في جماعة متخيلة يمكن تضمينها الكثير من الحمولات السلبية، إن إخراج الفرد من سياقه العادي تعني إحالته من كائن يومي إلى كائن تاريخي. ما يعنيه الكائن اليومي هو الإنسان الفرد في تاريخيه البسيط، ملامحه، انشغالاته، ذلك الكائن الذي يبدو معتكر المزاج لأنه أضاع محفظته في السوق. على عكس مقاربته ككائن تاريخي، حيث تبدو تصرفاته بمثابة نتيجة منطقية لأحداث جرت منذ عشرات أو مئات السنين. فهو لا يمثل ذاته، إذ ليس هناك ذات في الكائن التاريخي، بل ذوات تمتد في الماضي. إذ لا يمكن الإحالة عليه بـ”هو” بل “هم”. الأمر الذي يتعذر التعاطي معه في ظل مقاربته ككائن يومي حيث يفقد العنف كثيرا مبرراته. وهو – أي العنف – الذي يتغذى على الصور والإحالات النمطية الكثيرة التي يتيحها الكائن التاريخي.  

ليس فعل العنف أو القتل فعلا ماديا فحسب، فالقاتل لا يقتل ضحيته مباشرة، بل يحيلها إلى مادة أو إلى شيء ما، مجردا إياها من بعدها الإنساني أولا قبل أن يشرع في إفنائها. تبدو الحرب هي التجلي الأكثر وضوحا لآليه الإحالة هذه، فالأشخاص الذين يطلقون أزرار الصواريخ من على مكاتبهم تجاه هدف ما، لا يفكرون إلا في مدى الدقة التي يصيب بها الصاروخ هدفه، دونما اعتبار إلى حجم المعاناة التي سيخلفها هذا الصاروخ، فليس الضحايا سوى هويات مغفلة، مجرد أجساد دون أسماء أو ذكريات أو أرقام تذكر عرضا في نشرات الأخبار.

«إن الجندي المنتصر يكون أشبهَ بكارثة طبيعية. عندما تمتلكه الحربُ فإنه، مثَلُه كمَثَل العبد، وإنْ بطريقة أخرى، يصبح شيئًا، وتفقد الكلماتُ سلطانَها عليه مثلما تفقد سلطانَها على المادة. فكلاهما، إذا ما مسَّتْه يدُ القوة، يقع تحت تأثيرها الذي لا يخطئ والذي يجعل الذين تمسُّهم إما بُكْمًا أوصُمًا.» 2

 فاستمرار حالة العنف أو الحرب مرهون قبل كل شيء في قابلية الذات للتشييئ، وإحالة كل ذات أخرى تقف في طريقها إلي شيء، لكن بمجرد إعادة الاعتبار للإنساني في العدو سيكتشف القاتل في الضحية ربما «وجه أمه» حسب تعبير درويش، بيد أن اكتشاف الإنساني هذا لا يمكن أن يترسخ إلا من خلال الحوار، وفق هذا المعنى انتهت حاله صراع عندما قرر مقاتل قوقازي شرس أو – بالأحرى – وجد نفسه منخرطاً في حوار بسيط وعادي إن جاز القول مع عدوه. هذا ما تدور عليه رائعة المخرج الجورجي زازا أورشاديز  Zaza Urushadze ( المندرين ) Tangerines  2013

تجري أحداث الفلم في إطار الصراع الجورجي الأبخازي الذي اندلع في آب أغسطس في العام 1992 من قبل مجموعة من القوات الحكومية الجورجية بمساندة مجموعة من بعض الميليشيات الجورجية المقيمة في أبخازيا، وبين مجموعة من القوات الانفصالية المؤلفة من أبخاز وأرمن بمساندة انفصاليي الشمال القوقازي مع دعم غير رسمي من قبل القوات الروسية، تبدأ أحداث الفلم في قرية صغيرة كان قد هجرها سكانها الأستونيين، باستثناء شخصين أحدهما يدعى إيفو ويعمل نجاراً، والأخر يدعى مارجيوس يعمل بجهد لجني محصول مزرعته من المندرين قبل أن يغادر إلى بلده أستونيا. وبينما كان مارجيوس يعمل في مزرعته، يندلع اشتباك عنيف بالقرب من منزله بين مجموعه من المسلحين الجورجيين ومقاتلين قوقازيين، يهرع إيفو إلي مكان الحادث ليجد الجثث ملقاة على الأرض باستثناء شخصين مصابين إصابات بليغة ليأخذهما إلى منزله لمعالجتهما ، ليكتشف أن كلا منهما يمثل أحد طرفي النزاع، وعندما يبدأ أحمد ( المقاتل القوقازي) بالتماثل للشفاء، يكتشف أن من يرقد في الغرفة الأخرى هو عدوه الجورجي نيكا، ليتعهد أمام أيفو أنه سيثأر منه حالما يسترد عافيته، يقرر إيفو أن أحدا منهما لن يقتل الآخر ما داما في منزله.  بعد عدة أيام وحين يبدأ كلا منهما باسترداد عافيته، يجدا نفسيهما يتناولان الطعام على مائدة واحدة، مرغمان في الوقت ذاته على عدم الاقتتال احتراما لإيفو الذي أنقذ حياتهما، غير أن وجودهما تحت سقف واحد جعلهما مجبران على «التواصل»، والحديث، وعلى الرغم من أن هذا التواصل لا يتناول سوى اشياء عادية وبسيطة إن جاز القول. إلا نيران الحرب تبدأ بالخبو داخل كل منهما، حيث يبدأ كل واحد منهما باكتشاف الآخر، باعتباره مشاركا في الإنسانية ومتعاليا على الأيديولوجيا والقومية واعتبارات الحرب.

هنا تبرز نظريه هابرماس في الفعل التواصلي باعتباره «فعلا غير مرتبط بحاجيات السياسة بل بحاجة الفهم»، 3 حيث يبدأ الفعل التواصلي بالكشف عن نفسه ليس فقط بوصفه آليه لتجاوز معضلة التقنية التي تعمل على اغتراب وتشييء الإنسان وتحويله إلي سلعه، بل أيضا تجاوز ما تقوم به الإيديولوجيات الشمولية من حيث كونها تقوم بذات الدور التي تقوم به التقنية، ولكن من زاوية إحالة الإنسان إلى مجرد حامل وحسب لمقولاتها، ومجرد رقم ضمن جماهيرها.

كان هذا هو مأزق الحداثة الذي حاولت مدرسة فرانكفورت توصيفه ونقده في الوقت ذاته، والذي تمثل فيما اصطلح على تسميته «بالعقل الأداتي» الذي يحيل إلى كل من الأغتراب والتشيؤ. بمعنى اغتراب البشر عن إمكانياتهم وماهياتهم من خلال تسلط النظم البيروقراطية وأساليب القمع الإداري 4 كنتيجة لإلغاء البعد القيمي أو المعياري للإنسان والنظر إليه بوصفه وسيلة ومادة خام من شأنها تحقيق غايات كل من الاقتصادي أو السياسي.

 لكن إذا كان الفضل يعود إلى الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت في توصيف ونقد هذا العقل الأداتي لأول مره عند كل من ماركيوز وهوركهايمر وأدورنو، إلا أن ذلك لم يتعدَ إلى محاولة تقديم بديل أو تصور بديل يحد من جموح هذا العقل وتسلطه، 5 وهي الخطوة التي قام بها هابرماس من خلال اقتراح  ما أسماه بأخلاق التواصل الإنساني المعقلن أو التواصلية العقلانية communicative rationality ، كحل للإشكاليات التي تثيرها هيمنة هذا العقل الأداتي الذي يبدو بمثابة أداة ووسيلة في خدمة “المطلق” السياسي أو الديني أو الأيديولوجي. فمن منظور هذ المطلق لا يمكن للإنسان أن يكون مدركا لكون أفعاله خاطئة أو معيبة، إذ ليس ثمة ضمير فردي هنا، وليس ثمة عبء أخلاقي يمكن أن يثيره هذا الضمير، حيث الضمير الشامل أو المطلق هو من يتحمل هذا العبء في أحسن الأحوال، ومن ثم فالتساؤل عن صوابية فعل ما أو خطأه لا محل لها هنا أو لا يمكن أن تثار بالنسبه للضمير الفردي طالما لم يكن ثمه عبء أخلاقي يترتب عليها. فجيمع الأفعال لا يشكل اقترافها جريمة طالما كانت تتوافق مع هذا المطلق، وهذا الضمير هو الي سبق وأن أطلق عليه ماركيوز « بالضمير السعيد» والذي سيغدو بحسب ماركيوز سمة لعصر بكامله، عصر الشمولية التي تحيل كل شيء إلى مجرد آله أو رقم، فليس ثمة معيار للخطأ والصواب إلا بالنسبة للمطلق أو الأيديولجيا فلا يوجد « محل في عصر الضمير السعيد للشعور بالذنب والإثم، فالحساب يتولى أمر الضمير، وعندما يكون كل شيء بمثابة لعبة، لا يكون هناك جريمة، إذ ليست الجريمة إلا إهمال هذا الكل أو عدم الدفاع عنه»  حيث ليس ثمه مجال للشعور بالإثم أو تأنيب الضمير، فطالما كان هذا الضمير متوحدا مع الكل أو المطلق فمن الإستحالة أن يرتكب جريمة، حيث لا جريمه إلا « في إهمال هذا الكل أو عدم الدفاع عنه» 6 وأقصى ما يمكن إن يقع فيه هؤلاء الاشخاص الذين ينتمون إلى هذا «الكل» – الأيديولوجيا، الدين، الوطن .. – هو أخطاء لا ترقى لأن تشكل جريمه في حد ذاتها.

  بيد أنه ومن خلال التواصل والحوار في وسط خال من الهيمنة، يتم تفكيك سلطة هذا العقل أو «الضمير السعيد» وإعادة الاعتبار للأبعاد القيمية والمعيارية للإنسان، فما إن تشرع الذات في الحديث أو في التواصل مع الآخر حتى تجد من نفسها قد سلمت بشكل أو بآخر بمعايير أخلاقية ما، تخضع بواسطتها جميع الحجج إلى نوع من التوافق والاجماع والاحتكام إلى المشترك العقلاني. فكل التصورات الشمولية تنسحب تدرجياً إلى الخلف، الحجاج العقلاني فقط، هو من يفرض نفسه في عملية التواصل هذه. كما أن الانخراط في في الحوار أو التواصل العقلاني من شأنه جعل أي فلسفة أو ايديولوجيا غير قادرة على الاتكاء على مقاولاتها المطلقة والكلية طالما قررت الانخراط في التواصل العقلاني، فبحسب هابرماس فإن الفلسفة العقلانية التواصلية تقوم على علاقة بين ذوات يسعي كل منها إلى ضبط علاقته بالغير وإخضاع مجمل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية داخل المجتمع إلى شكل من أشكال أخلاقيات النقاش والحوار بوصفه مدخلا لكل تعقاد اجتماعي يمكن للجميع الاحتكام إليه.

فالشيئ الأساسي الذي يتيحه الحوار والتواصل العقلاني هو اكتشاف مسألة «القابلية للخطأ» 7 وهي المسألة التي تغيب تماما في ظل الأيديولوجيات الشمولية والمطلقة، من ثم يبدو الحوار وبمثابة رغبة في اكتشاف شيء غير موجود لدى الذات، الأمر الذي يجعل من كل فعل تواصل أو حوار يتضمن وجود تواضع معرفي كفضيلة أخلاقية لكل فعل تواصلي.  فاكتشاف الإنساني في “الآخر” مرهون في تخلي الذات عن تعاليها وتفردها، بحيث يصبح حضور هذا “الآخر” حضوراً تأسيسا لوعي الذات بنفسها. وهو أمر يتعذر إلا من خلال فضاء عمومي محايد مثل منزل إيفو الذي أجبر الإيديولوجيا القتالية التي تبناها كل من أحمد ونيكا على أن تخضع لأخلاقيات الحوار والتواصل وإيجاد مشتركات عقلانية مع الآخر. لتتخلى بذلك عن شموليتها وتعاليها المطلق، وليصبح في غيابها “الآخر” كغاية في ذاته بالمعنى الكانطي، وليس مجرد آداه لتحقيق أهداف سياسية وأيديولوجية. ففي منزل إيفو تعالى الإنساني على السياسي والقيمي على الإيديولوجي.


  • 1- سيمون، فايل، الإلياذة قصيدة القوة، ترجمة محمد علي عبد الجليل في
  • http://www.maaber.org/issue_march09/spiritual_traditions1_a.htm
  • 2- http://www.globalmediajournal.com/open-access/remembering-the-rwandan-genocidereconsidering-the-role-of-local-and-global-media.php?aid=35262
  • 3- سالم يفوت، فلسفة التواصل عند هابرماس
  • ttps://modernitysite.wordpress.com/2018/03/04/مقدمة-لفلسفة-ما-بعد-الحداثة/
  • 4-  عامر عبد زيد، التأويليه النقدية والعقلانية التواصليه عند هابرماس، في : يورغن هابرماس: العقلانية التواصليه في ظل الرهان الإيتيقي في النقد العلموي والديني والسياسي، ابن النديم للنشر، الجزائر،2013. ص42-23
  • 5- ذكرت تسمية العقل الأداتي لأول مرة في كتاب جدل التنوير لهوركهايمر وأدورنو عام 1972 وكتاب هوركهايمر أفول العقل 1972، وكتاب ماركيوز، الإنسان ذي البعد الواحد 1964. أنظر أبو النور حمدي، يورغن هابرماس: الأخلاق والتواصل، دار التنوير، بيروت،2012، ص 132-133
  • 6- هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب: بيروت. ص 120
  • 7- تيودور أدورنو، في جوديث بتلر، الذات تصف نفسها. دار التنوير، بيروت،2015ص 185-186