مجلة حكمة
هابرماس الفعل التواصلي

النظرية التواصلية لدى هابرماس “فيلسوف النقد والتواصل”

الكاتبنادية سريجي، مي فراش، نورة الجعيد، نهى بكري، خيرية نجوم

المستخلص: (التواصلية و الفعل التواصلي)

تهدف ورقة عمل “النظرية التواصلية لدى هابرماس “فيلسوف النقد والتواصل”” إلى التعرف على نظرية الفعل التواصلي لدى هابرماس، عن طريق عدد من القراءات الإستقرائية لعدة مراجع عربية وأجنبية، وقد قام بجمع هذه المادة طالبات الدكتوراة لمادة نظريات في علم الاجتماع.

تناولت الورقة الحديث عن يورغن هابرماس للتعرف على الإطار الذي بنى عليه للنظرية الاجتماعية في الفعل التواصلي ورسم فلسفته من خلال عدد من التقاليد الثقافية إبتداءاً بالفكر الفلسفي لإمانويل كانت والتقاليد الماركسية، كما تناولت المنظور السسيولوجي لنظرية الفعل التواصلي بوصفها فعلاً اجتماعياً لا فعلا له صلة بالوعي الإنساني، والمنطلقات السسيولوجية والعلمية والفلسفية واللغوية التي استند عليها هابرماس لنظرية الفعل التواصلي حسب تأثره بعلماء الاجتماع، والتعرف على مفهوم نظرية الفعل التواصلي وهو أن التواصل عبارة عن علاقة موازية حرة بين فئات المجتمع المتعددة من خلال مجموعة من القوانين، والتعرف على الغاية من النظرية التي تخبرنا بأنه ليس من شأن الفلسفة أن تتأمل في معرفة المطلق بل عليها أن تقلع عن التفكير لأن الغاية القصوى للنظرية هي تحقيق التفاهم.

كما تناولت المداخل إلى فلسفة النظرية التي تناولت نقد الفلسفة الذاتية واللغة والنظرية التداولية والعقلانية إضافة إلى أخلاقيات النقاش (قواعد إيتيقا النقاش)، وتناولت الورقة شروط نظرية الفعل التواصلي وهي التفاعل داخل سياق العالم المعيش من خلال اللغة والحوار الذي له قواعد أخلاقية حتى لا يكون تواصلاً مشوهاً ، كما تناولت الورقة التحول في نظرية الفعل التواصلي لدى هابرماس للجمع بين النظرية والتطبيق فالنشاط التواصلي لا بد أن يتجسد في خطاب سياسي ديمقراطي تواصلي يبدأ بالحديث عن فضاء عمومي خال من السيطرة من خلال ديمقراطية تشاورية، وختاماً تعرضت لورقة لعدد من الانتقادات الموجهة للنظرية تعرضت لورقة إذ اعترض الكثيرين على نظرية الفعل التواصلي واتهامها بالعقم والطوباوية وبالثقة المفرطة في إمكانية بناء أرضية للتفاهم, على اعتبار أن اللغة لا تعني دوما التفاهم فقد توظف للخداع والزيف والتلاعب.


  • المقدمة

لقد شكلت التحولات الحضارية الجديدة مناخا فكريا لولادة أنظمة فكرية تتسم بطابع الذكاء والتعقيد والتكامل في الآن الواحد، وهذه الولادة الذكية جاءت تعبيراً عن وعي إنساني جديد يتميز بطابعه النقدي المتمرد، وفي هذا السياق يمكن أن نقف عند محورين إشكاليين أساسيين لمرحلة ما بعد الحداثة وهما إشكالية العلاقة بين العقلانية والذاتية من جهة وإشكالية التكاملية من جهة أخرى، وتعتبر العقلانية من بين أهم السمات الفلسفية للحداثة، وهي صفة ملازمة للذاتية وتعني إخضاع كل شيء لقدرة العقل ( سبيلا 2007).

وقد اعتقد هابرماس أن الفاعلية التواصلية طورت من خلال مـسار التـطور الطـبيعي للعقلانية والأنسنة وديمُقرطة المجتمع من الناحية المؤسساتية والإمكانية العقلية المتأصلة في الفاعلية التواصلية التي هي حالة متفردة للنوع الإنساني، لكن المجـتمع المعاصر الـذي يقمع في أغلب الأحيان عن طريق المجالات الرئيسية للحياة الاجتماعية، مثل السوق، الدولة، والمنظمات سيطر عليه عن طريق العقلانية الاستراتيجيِة/ الأداتية.

يشرح هابرماس وجهة نظره من خلال تفسير هيمنة التقدم العلمي والتقني المحرك لقوى الإنتاج فيقول:

“ما أحاول أن أبينه هو أن العلم قد اتخذ بفعل منهجه ومفاهيمـه، وسيلة لتعزيز عـامل ظلت فيه السيطرة على الـطبيعة مرتبطـة بالسيطرة على الإنسـان فالطبيعـة المعقولة والملجومة من قبل العلـم، ما تزال ماثلـة في جهـاز الإنتاج والتدمير التقني الذي يضمن للأفراد حيـاتهم ويسهلها، والذي يخضعهم في الوقت نفسه لأرباب الجهـاز، وهكذا يتداخل تسلسل العقل الهـرمي مع تسلسل المجتمع الهرمي، ومن هنا فإنه لو طرأ تغير على اتجاه الـتقدم فحطم العلاقة الوثيقة القـائمة بني عقلانية التقنية وعقلانية الاستغـلال، إن ما جعل من العلـم قوة إنتاج ذات شأن في المجـتمع المعاصر المتقدم، ارتبـاطه بالتقنية والصناعة الحربية والتصنيع المدني والتسيير الإداري وعملية صنع القرار، وهذا ما جعل العلم يتعرض لعملية تسييس هو والتقنية“.

ويتابع هابرماس بثقة نحو تثبيت دعائم فكره لينتقل من التقنية باعتبارها أضلت طريقها من خلال المسيـطرين عليهـا بهدف الشرعـنة ليتحـول إلى المفهوم الأوسع وهـو المعرفة وعلاقتها بالمصلحة ففي مقدمـة كتابه المعرفة والمصلحـة يميز هابرماس بين ثلاثة أنواع من المصالح: أولاً- المصلحة التقـنية أو الأداتية الـتي تتحدد في كون دلالة عـباراتها ذات الطابع التجريبي تـكمن في قابليتها للاستغلال التقني وهذا هو سر الارتباط بين المعرفة التجريبية والمصلحة التقنية.

 ثانياً– المـصلحة العلمية ومجـالها التواصـل بين البشر وتنطلق من فهـم المعنى عبر قناة التأويل، كتأويل الخطابات والنصوص.

 ثالـثا– المصلحة من أجل الـتحرر، ومجالها العلـوم الاجتماعية النقـدية وتعتبر أن التأمل النقدي يحرر الذات من سلطة الأوهام وقوى الجمود، ويعتبر هابـرماس أننا دائماً نطور المعرفـة لغرض معين، وتحقيق ذلك الغرض هو أساس مصلحتنا في تلك المعـرفة (عكنان 2018).

وتؤدي اللغة وهي الوسيلة الأخرى التي يحول بـواسطتها البشر بيئتهم إلى ظـهور ما يدعوه هابـرماس المصلحة العملية وبرز ذلك في كتابه “نظرية الفعل التواصلي” 1981 وقدم فيه أطروحة أبرزها على مرحلتين:

  • المرحلة الأولى، يدعو إلى ضرورة الانعتاق من منظومة الفكر التجريبي.

  • المرحلة الثانية، يمكن أن يتخذ الفعل صـورتين، الفعل الاستراتيجي وفعل التواصل.

ويترتب على فعل التواصل عدة أمور منها العقلانية بهذا المعنى ليس مثال نقتنصه من السماء، بل هو موجود في لغتنا ذاتها، تستلزم نسقاً اجتماعياً ديمقراطياً لا يستبعد أحداً، إضافة إلى أنه ثمة نظام أخلاقي ضمني يحاول هابرماس الكشف عنه، وهو الأخلاق الكلية الذي لا يتوجه إلى تحليل مضمون المعايير بقدر توجهه إلى طريقة التوصل إليها، والتوصل إليها حسب هابرماس- عبر نقاش حر عقلاني، هنا تبرز صلب فلسفته التي تعتمد على الثالوث الفكري للعالم المصلحة والتقنية والتواصل من أجل الفهم.

و في ورقة العمل هذه “النظرية التواصلية لدى هابرماس “فيلسوف النقد والتواصل” سيتم التعرف على نظرية الفعل التواصلي من خلال عرض مفهوم النظرية والمنطلقات التي انطلقت منها وشروط ومراحل النظرية، إضافة للتحول في نظرية الفعل التواصلي لدى هابرماس ومعاودة ظهوررها بشكل امتدادي يجمع النظرية والتطبيق من خلال كتابه “القانون والديمقراطية”، سائلين الله التوفيق والسداد.

 

  • من هو يورغن هابرمـاس

يعد هابرماس واحد من أهم المنظِّرين الاجتماعيين وأوسعِهم انتشارًا في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وُلِدَ في مدينة دوسلدورف عام ١٩٢٩، وترعرع في كنف أسرة ألمانية من الطبقة المتوسطة تأقلمت مع النظام النازي دون انتقاد ودون تأييده تأييدًا فاعلًا، تبلورت آراؤه السياسية الخاصة للمرة الأولى عام ١٩٤٥ عندما كان في السادسة عشرة من عمره عندما انضم إلى حركة شباب هتلر (فينلسون 2015).

تتلمذ هابرماس على عدد من المدارس كمدرسة الفلسفة وعلم الإجتماع على يديّ المنظرين النقديين كماكس هوركهايمر وثيودور وأدورنو في معهد البحث الإجتماعي/مدرسة فرانكفورت، وكان سبباً للخلاف بين الإثنين على أطروحته، وكما اعتقد أن مدرسة فرانكفورت أَصبحت مشلولة بالشكوكية – skepticism والإزدراء السياسي للثقافة الحديثة، أنهى دراسته في العلوم السياسة في جامعة ماربورج في المانيا، وقد أتت دراسته تحت عنوان “التحولات البنيوية للأوضاع الاجتماعية: تساؤلات ضمن أصناف المجتمع البرجوازي”The Structural Transformation of the Public Sphere: an Inquiry into a Category of Bourgeois Society.

بنى هابرماس إطاراً شاملاً للنظرية الاجتماعية ورسم الفلسفة من خلال عدد من التقاليد الثقافية: إبتداءاً بالفكر الفلسفي لإمانويل كانت والتقاليد الماركسية نظرية كارل ماركس والنظريات الاجتماعية لماكس ويبر والفلسفة اللغوية ونظريـات الفعل الخطابي مثل جون سيريل وغيره من المتخصصين في مجال الألسنية وعلم نفس النمو لجين بياجيه والتقاليد البراغماتية الأمريكيِة لتشارلز ساندرز ونظرية النظم الاجتماعية لـتالكوت بارسونز (عكنان 2018).

عكف هابرماس على الكتابة منذ نحو ٥٠ سنة، فكتب عن موضوعات متنوعة جدًّا، كالأخلاقيات البيولوجية، وتكنولوجيا الجينات، والإرهاب، والسياسة الخارجية الأمريكية بعد الحادي عشر من سبتمبر، وله إنتاج فكري ضخم، إضافة إلى شهرته كمُنَظِّر اجتماعي وسياسي، فهو واحد من أبرز المفكرين في الشأن العام في أوروبا حاليًّا. فهو عميد اليسار الديمقراطي في ألمانيا ومصْدر إلهامه، ويبادر بالتصريح بآرائه النقدية الغزيرة في الشأنين العامَّين الألماني والأوروبي حول أمور لها أهمية ثقافية وأخلاقية وسياسية عامة (فينلسون 2015).

اعتبر هابرماس أن إنجازه الرئيس هو تطوير مفهوم ونظرية العقلانية التواصلية الذي يميزه عـن التقليد العقلاني بـتحديد العقلانية في بنى الاتصـال اللغوي الشخصي تقدم هذه النـظرية الاجتـماعية أهداف الانعـتاق أو التحرر الإنـساني ضمن الأخلاق، وهو يستند إلى حجّة تدعى البرجماتية الشاملة الأفعال الخطابية لها نهاية متـأصلة في الفهم المتبادل وأن البشر يمتلكون القدرة التواصلية لجلب مثل هذا الفهم (عكنان2018).

 

  • المنظور السسيولوجي لنظرية الفعل التواصلي

يتناول هابرماس التواصل من منظور السسيولوجيا بوصفها فعلاً اجتماعياً لا فعلا له صلة بالوعي الإنساني وبهذا الخصوص يعترف هابرماس بفضل علماء الاجتماع في بلورة هذا المنظور للتواصل، وهو الهم الذي دفعه باعتباره الإشكال الذي اعتزمت فلسفة التواصل الإجابة عنه، من خلال الإجابة على السؤال كيف يكون الاندماج الاجتماعي ممكناً؟  إذ يقول:

“إن تحول المنظور الذي انتقل من الفعل الغائي إلى الفعل التواصلي بدأ مع ميد ودوركهايم فهؤلاء إلى جانب ماكس فيبر ينتمون إلى جيل المؤسسين للسسيولوجيا الحديثة” والإجابة على السؤال كيف يكون الفعل الاجتماعي التواصلى ممكناً؟ إذ يقول “رغم أن نظرية التواصل وظيفة حل المسائل ذات الطابع الفلسفي والتي تهم ابستمولوجيا العلوم الاجتماعية وأسسها فإني أرى لها علاقة وثيقة جداً بالمسائل التي تطرحها نظرية التطور الاجتماعي” (Habermas 1987).

وفي هذا السياق نرى أن تطور هابرماس الفكري ارتبط بالمنعطف اللساني لديه، الذي حصل بتأثير غادمير Gadmer H.G. عليه خصوصاً في الاعتقاد بأن منطق العقلانية الاجتماعية يتجلى في اللغة اليومية الطبيعية، إن هذه الأخيرة هي عماد كل تفاعل اجتماعي سيتحول اهتمامه عندئذ نحو مبحث اللغة والتداول الذي ظل الغائب الأكبر في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت مع جيلها الاول، وهذا ما قاده إلى تحويل علم الاجتماع و نظريته الاجتماعية إلى فلسفة للتواصل (M.Pusey 1987).

  • المنطلقات التي استند عليها هابرماس لنظرية الفعل التواصلي حسب تأثره بعلماء الاجتماع

  1. المنطلقات السوسيولوجية

هربرت ميد، “تأثر هابرماس بعلماء الاجتماع الأمريكيين، كالعالم هربرت ميد، الذي أخذ عنه فكرة دور الآخر في تشكل الأنا” (علوش 2013)، حيث يعتبر ميد الذات عنصرا نشطا وليس تبادليا سلبيا يستقبل الأشياء ويستجيب لها حسب الدافع. كما ان الذات تتحدد بمفهوم آخر هو الفرد، ويمكن أن يظهر ذلك من خلال العلاقات المتبادلة بينه وبين الأفراد الآخرين (الزيباري 2017).  

تالكوت بارسونز، استفاد منه في معالجته لإخفاقات منهجيات التأويل في تشخيصه للطريقة التي تفرض بها خارجيات المجتمع البنيوية كالاقتصاد والسياسة وكيف أنها تقتحم العوالم الخاصة بالفاعلين الاجتماعيين باستعمار العالم المعيش (المحمداوي د.ت)

  • 2. المنطلقات الفلسفية

كارل ماركس، يعتبر ماركس مرجعا الفلسفية المهمة في فكر هابرماس بصفة خاصة ومدرسة فرانكفورت بصفة عامة، إلا أن هابرماس تجاوزه لاحقا في كتابه ” ما بعد ماركس”، تدخل هابرماس لإعادة بناء المادية التاريخية سوسيولوجيا للتمييز بين العمل والتفاعل: فليست القيم المادية فقط ما ينتجه ويتبادله الناس (العمل الاجتماعي) هناك أيضاً القيم المعيارية الرمزية لنفس فعل الإنتاج والتبادل (مجال التفاعل)، فزاوج هابرماس بين المجالين ليعيد تأسيس المادية التاريخية في صيغتها الكلاسيكية.

هيغل، وجد هابرماس ضالته في التحديد الهيغلي للذات (تعريف النفس في الآخر)، ذلك من خلال علاقة من الذات للآخر والعكس (الاعتراف المتبادل) ورفض أن تكون تمثلا لما بين الذاتية إنما طريقة للتنشئة الاجتماعية، حسب هيغل فإن الإنسان لا يستقبل إحساسه إلا بكونه يستقبل ذات الآخرين كذلك، والهوية تتم بالعودة إلى الموضوع انطلاقا من الذات (الاعتراف بالموضوع/ الذات ) من هنا ركز على الحوار كتفاعل (من المصدق 2005)

هوسرل، استقى منه فكرة العالم المعيش ووظفها في نظريته، وقد ميز هوسرل بين نوعين من العوالم: المعيش (حقائق تاريخية) الموضوعي (حقائق ذات تجارب وخبرات لها سياقات ثقافية) (من المصدق 2005).

كانط، استفاد منه على المستوى السياسي والأخلاقي، فقد وظف هابرماس مفهوم الكلية الأخلاقية لتأسيس أخلاقيات المناقشة بديلا عن اخلاقيات الواجب والمنفعة، كما وظف مفهوم الفضاء العمومي في كتاباته لطرح نظرية الديموقراطية التشاورية، إضافة لتأثره بمشروعه حول السلام الدائم ودعوته إلى المواطنة الكوسومبوليتية.

  • 3- المنطلقات اللغوية

أوستين وسيرل وفينغشتين، اعتبر الكلام بصيغته الاوستينية والسيرلية ابتكار رائع كونها تركيب بين اللغة من جهة والفعل من ناحية أخرى (الخليفي: د.ت) وعلى ذلك استعار هابرماس التمييز المهم الذي وضعه أوستين بين أفعال الكلام التقريرية والإنجازية.

  • 4- المنطلقات العلمية

بياجيه وكولبرغ، شكلت ابحاثهم المرجعية لإعادة بناء الفلسفة الماركسية لفهم طبيعة الصراعات داخل المجتمعات، حيث وضحت هذه الأبحاث مراحل تطور الوعي الأخلاقي المتوافق مع مراحل أهلية التفاعل (الأشهب 2007).

  • ما المقصود بنظرية الفعل التواصلي لدى هابرمـاس؟

عرف هابرماس  التواصلية  بأنها:

“تلك الكفاءات التي يتفق فيها المشاركون على تنسيق خططهم العملية بمهارات عقلية، وحين يحصل التوافق الذي يتحدد بالقياس إلى الاعتراف التذا وتي بإعادة الصلاحية، يتميز النشاط التواصلي أن الأنساق البشرية من خلال أن كل فرد يحفز الاخر للفعل بطريقة مشتركة عن طريق الكلام” (زوراق 2015).

كما حدد هابرماس الافعال التواصلية على النحو التالي ” هي تلك الافعال التي تكون فيها مستويات الفعل بالنسبة للفاعلين المنتمين الى العملية التواصلية غير مرتبطة بحاجيات السياسة، بل مرتبطة بأفعال التفاهم” (Habermas 1987)، ولتعزيز تصوره للفعل التواصلي من أجل فهم أفضل للعلاقات الاجتماعية داخل المجتمع ذهب إلى أن الفعل التواصلي يتميز عن غيره من الأفعال الأخرى بأنه لا يسعى للبحث عن الوسائل التي تمكنه من التأثير في الغير بل يبحث عن كيفية التوصل الى تفاهم معه و توافق متبادل دونما إكراه أو قسر كيفما كان نوعهما (2013 عالي).

وعرف هابرماس نظرية الفعل التواصلي بأنها:

  “صياغة نظرية لتواصل وبلورة القوانين التي تتحكم فيه، وهذا التواصل عبارة عن علاقة موازية حرة بين فئات المجتمع المتعددة ومتباينة العلاقة، تتوخى بناء وعي حر لا تحكمه المؤسسات أو الأيدولوجيات المفروضة من قبل الأنظمة السياسية”، إن نظرية الفعل التواصلي لدى هابرماس تكون بصياغة القوانين من أجل التواصل الذي يعمق التواصل بين الأفراد والمجتمع (أبو النور 2004).

  • مراحل الفعل التواصلي، إن الفعل التواصلي حسب هابرماس مر بثلاث مراحل

  1. مرحلة التفاعل الذي تتوسطه رموز، وهذه المرحلة تقوم على فاعلتين : الأول القول والثاني الفعل وعن طريق الرمز التواصلي (القول) يتم التعبير عن رغبة في السلوك ما وعن طريق النية في تحقيق هذا القول (الفعل) يتم تلبية تلك الرغبة، ومن خلال هذه التبادلية يمكن أن يشكلان الحوار البيذاتي.

  2. مرحلة الخطاب المتميز بالنسبة لمضمونه، في هذه المرحلة ينفصل القول عن الفعل فلا يمكن الاستناد إليهما بالنسبة لشخص الفاعل فقط، بل يدخل هنا موقف الشخص الملاحظ والمشارك في الحوار وهنا يمكن التبادل في التصورات بين المشاركين في الحوار.

  3. مرحلة الخطاب البرهاني ( الحجاجي)، هنا تتشكل مقتضيات الصلاحية التي ترتبط بين جانبين، الأول أفعال اللغة المنجزة في المرحلة الأولى، والثاني معالجة افتراضات المعايير بحيث تكون قابلة لأن تكون شرعية أو غير شرعية (هابرماس 2002).

 وقد ميز هابرماس بين هذه الثلاثة مراحل لتكوين الفعل التواصلي وذلك من خلال تحول الفعل الرمزي إلى مرحلة الخطاب، من خلال الحوار والمناقشة مروراً إلى البرهنة من خلال الحجاج للإقناع.

  • الغاية من نظرية الفعل التواصلي لدى هابرمـاس

في زمن التحولات الكبرى على صعيد الفلسفة وعلى صعيد الخارطة الجيوسياسية العالمية عقب سقوط حائط برلين وانهيار الايديولوجيات الكبرى؟ حمل هابرمس حملة شعواء على الميتافيزيقا تستعيد تقليد مدرسة فرانكفورت، حيث التأكيد على أنه ليس من شأن الفلسفة اليوم أن تتأمل في معرفة المطلق بل عليها أن تقلع عن التفكير، اعتقد هابرماس أن الفلسفة المطلقة كانت تشكل عائقاً أمام تطور العقلانية حين تصورت أنها تملك الحقيقة والعقلانية التي يريدها هابرماس في المجتمع المعاصر مجتمع ما بعد الحرب العالمية الثانية عقلانية تواصلية نقدية إجرائية مندمجة في العالم المعيش، ولتوسيع هامش هذه العقلانية الجديدة وبلورتها انتقد الاتجاهات الوضعانية الجديدة المعجبة بالعلم إلى حد تأليهه، فعلى الفلسفة مسؤولية التصدي لكل هيمنة تعمل على تشيئ الإنسان وتحويله إلى سلعة بذلك ستسعى  الفلسفة إلى خلق حوار داخل مجتمع خال من هيمنة العلم والتقنية تلعب دوراً بارزاً في إزالة كل الآثار التي شوهت الحوار الذي بإمكانه أن يوصل النوع البشري الى مستوى النضج و الرشد.

وإذا كان التفاهم الغاية القصوى للفعل التواصلي، فإنه لا يمكن تصوره بين الأطراف المتحاورة إلا بشروط من أهمها عدم تأثير طرف على آخر لأن ذلك لو حصل يؤدي حتماً إلى فشل التواصل يقول هابرماس:

“إن نشاط التفاهم المتبادل خضع لشرط أساس به يحقق المعنيون مشروعاً لاتفاقهم المشترك فهم يسعون لتفادي خطرين: يتمثل أوهما في فشل التفاهم المتبادل و سوء الفهم، بينما يتمثل الثاني في فشل مشروع الفعل والإخفاق التام فتنحية الخطر الأول شرط لابد منه لتلافي الثاني”

شتان إذن ما بين الاتفاق الذي هو سليل التفاهم، والتأثير الذي هو سليل الإكراه و الضغط ويتسم فيه الفعل التواصلي بالهيمنة (2013 عالي).

  • المدخل إلى فلسفة نظرية الفعل التواصلي والتواصلية لدى هابرماس

أولاً- نقد فلسفة الذاتية، إن المدخل إلى فلسفة التواصل لدى هابرماس هو نقد فلسفة الذاتية، وهو نقد اتخذ طابعاً راديكالياً حينما انفتح على رؤوس الفلسفة التحللية أمثال فتغنشتين وأوستين وسورل، فقد اعتبرا التقليد الديكارتي طبع تاريخ الفلسفة بأن حول المعرفة إلى عملية تتم بين ذات وموضوع (Habermas 1987)، إن المذهب الذي يقترحه هابرماس بديلاً لفلسفة الذات هو الفلسفة العقلانية التواصلية نظراً لأنها تقوم على العلاقة بين الذوات كما تسعى إلى ضبط علاقة الفرد بالغير وإخضاع العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية داخل المجتمع إلى أخلاقيات النقاش والحوار بوصفه مدخلاً لكل تعاقد اجتماعي يحتكم إليه (2013 عالي).

ثانياً- العقلانية، بدأ مشروع هابرماس التواصلي من خلال تحرير الوعي الاجتماعي وتأسيس نظرية تقوم على التواصل الإنساني والأخلاق التواصلية وتحليل الأبنية الاجتماعية ووضع الشروط اللازمة لإقامة حياة اجتماعيه على أسس عقلية ومزاوجة عقلانية تجمع التأمل الفلسفي المجرد والتحليل السوسيولوجي التجريبي (أبو النور 2012)، وتستلزم اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ ﻧﺴﻘﺎً اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺎً ديمقراطياً ﻳﺸﻤﻞ الجميع وﻻ يستبعد أحداً هدفه ليس اﻟﻬﻴﻤﻨﺔ ﺑﻞ الوصول إﻟﻰ اﻟﺘﻔﺎهم (الشقيران 2013).

 كانت النظرية العقلانية عند ماكس فيبر مرجعا أساسياً في مشروع هابرماس الفلسفي حيث قسم ماكس فيبر النشاط العقلي إلى ثلاث مجالات: مجال الموضوعية العلمية، مجال المعايير والمشروعية، مجال القيم والدلالات الرمزية، أعاد هابرماس النظر في هذه المجالات (العلم، الأخلاق، الفن) التي فصلها فيبر عن بعضها (أبو السعود 2002) ومن خلال نظرية العقلانية عند ماكس فيبر أسس هابرماس العقلانية بحيث يجمع بين هذه البناءات العقلانية ويدمجها بعضها مع بعض لكي تتعاون لإحداث نوع من الاستقرار، وقد صرح هابرماس على أن فيبر هو أول من حاول التأكيد على ثنائية الربط بين الحداثة والعقلانية، كون هذه العلاقة هي السبيل الوحيد الذي لولاه لما كان للحداثة الأوروبية أن تشق طريقها نحو ظهورها التقني والسياسي (المحمداوى 2015).

بينما نجد أن مدرسة فرانكفورت متمثلة في هوركهايم وأدرنو انتقدت المجتمع البرجوازي المعاصر وأعلنت أن العقلانية تتسم بنزعة علمية تؤدي إلى إفناء الذات وجعلوا العقل النقدي في مواجهة العقل الأداتي واستندت إلى النموذج الجمالي والفن، وينظر هوركهايم إلى العقل نظرة تفكيكية لمعرفة أوجهه المختلفة وفهم الأسباب التي أدت بالعقل المعاصر إلى السقوط في براثن اللاعقل، ويرى هابرماس أن الحضارة الحديثة تتميز بالتركيز الشديد على التكنولوجيا كأداة للتحكم في نطاق التفاهم والتواصل، وتهميش الاتجاهات التأملية والنقدية والجمالية في النفس البشرية، ولهذا يرى أن التركيز الأحادي الذي جوهره سيادة العقل الأداتي ينقص من استخدام الإمكانيات الإنسانية والجمالية في تنظيم المجتمع والتركيز على الترشيد وفق متطلبات النظم الإدارية والاقتصادية والسياسية، والتي تفترض أنها ستزيد من تحكمه في الواقع وهو ما يؤدي إلى ضمور الإنسان ( قاره 2013).

وبالتالي يمكن التمييز بين العقل الأداتي والتواصلي كما يلي: مفهوم العقل الأداتي هو العقل المهيمن في المجتمعات الرأسمالية الحديثة الذي فقد فيها العقل دوره كملكة فكرية وتم تقليصه إلى مجرد أداة لتحقيق أهداف معينة كما أصبح أداة لتوفير الوسائل دون تساؤل عن مضمون هذه الحلول والغايات وما إذا كانت إنسانية أو معادية للإنسان وينظر إلى الطبيعة والواقع من منظور التماثل وأن الإنسان جزءاً من الطبيعية المادية، أما العقل التواصلي مفهوم صاغه هابرماس لمحاولة تنمية البعد الموضوعي والإنساني للعقل وهدفه بلورة إجماع يعبر عن المساواة داخل فضاء عام ينتزع فيه الفرد جانبا من ذاتيته ويدمجها في المجهود الجماعي الذي يقوم بالتفاهم والتواصل العقلي (أبو النور 2012).

وهنا يؤكد هابرماس أن مفهوم العقل الأداتي لدى ماركيوز الذي يتفق مع مفهوم العقل التقني هو ذاته الأيدلوجيا، فالتقنية هي السيطرة ذاتها على الطبيعة والانسان وهي مشروع تاريخي اجتماعي تنعكس فيه ما يريد المجتمع والمصالح المسيطرة أن تفعله بالبشر والأشياء (هابرماس 2003) كما يؤكد هابرماس أن المركزية الغربية تعني عقلاً أداتياً مشيع بالبعد الغائي، الحسابي، العلمي، والتي لا تعير اهتماما للأبعاد الجمالية والأخلاقية للعقلانية التواصلية ويقول هابرماس “إن ما يصنعه العلم تقنيًا بتصرفنا، يجب أن يكون خاضعًا لرقابة أخلاقية” (باغورة 2005).

ثالثاً- اللغة والنظرية التداولية، تعد فلسفة اللغة أحد أهم الروافد الأساسية في تكوين نظرية الفعل التواصلي، فقد اهتم هابرماس اهتماماً خاصاً بأعمال اللغويين وفلاسفة اللغة، إذ اعتبر اللغة الوسيط الأساسي في النشاط التواصلي وعن طريقها يتم الوصول إلى نوع من التفاهم، وقد تبين الكثير من المقاربات التداولية حول اللغة وتوصل لنتيجة مفادها لا يمكنه تأسيس نمط تواصلي جديد يعبر عن مجتمع جديد دون أن يبلغ النقد أداة التواصل الأولى ذاتها، وهي اللغة سواء تعلق الأمر بالتواصل الذاتي أو البيذاتي، فالتفسير الذي لا يتركز على دور اللغة في المجتمع لفهم الأفعال الاجتماعية و هو ما دفع هابرماس إلى التركيز على اللغة في نظريته الخاصة فيما يعرف عنده بالمنعطف اللغوي، لأنه يمثل لديه السياق الذي يشكل عملية التفاهم بين الذوات (زوراق 2015)، اعتبر هابرماس أن للغة أهمية ووظيفة في التواصل إذ رأى أن اللغة هي الممثل الرئيسي للتواصل بين الأفراد في ظل حديث مثالي غير مشوه أو اتصال بين الأفراد أو على نظام الحوار المسند إلى أدلة وحجج عقلية، فما هو دور اللغة في التواصل؟ يؤكد هابرماس أن اللغة تمثل جانباً واحد من جوانب الواقع وأن ثمة عوامل أساسية تشكل العلة الموضوعية التي يمكن من خلالها استيعاب الأفعال الاجتماعية من اللغة والعمل والسلطة، ويفترض هذا الإخضاع للغة من خلال تضمين عناصر أخرى نزعة واقعية نظرية يمكن في ضوئها رؤية اللغة بوصفها مرتكزة على شيء غير ذاتها (أبو النور 2004).

واللغة عند هابرماس تمثل عمق وتشكيل للخاصية الاجتماعية وتشمل المجتمعات الانسانية كلها، فاللغة تمثل الخط الموجه الذي يجمع ويفصل معا بين الفردية والاجتماعية وهذا يؤسس الفعل التواصلي (الصفدي 1987).

إن اهتمام هابرماس باللغة والتواصل والبرهنة المرتبطة بشكل أساسي بإشكالية المركزية المتعلقة بالعقلنة والحداثة استدعى منه تطويرها وتعميقها بقاعدة نظرية نعتها بالنظرية التداولية (رشيدة ووفاء 2013) هابرماس مدين لهذا المبحث في تحوله إلى فلسفة التواصل وفي هجرانه لنظرية المعرفة والايديولوجيا، فرضت النظرية التداولية نفسها كبعد ثالث مكمل للتركيب والدلالة، وبذلك تحولت التداولية إلى مبحث جديد يولي عناية كبرى للشروط خارج اللغوية المتعلقة بالسياق والأعراف التفاهمية ومقاصد المتكلمين، لقد أملى هذا الانفتاح على التداولية مشروع هابرماس الرامي إلى بناء عقلانية في المجتمع المعاصر، وهو أمر لا يتحقق دون ضمان شروط التفاهم باعتبارها تضمن نجاح الممارسة التواصلية اليومية، وتتمثل أهمية التداولية بالنسبة لهابرماس في إبراز الشروط الممكنة للتفاهم أو ما سماه بالفعل التواصلي، وحدد هابرماس للتداولية المهام التالية:

  1. وصف الأشياء بواسطة اللغة.

  2. التعبير عن مقاصد المتكلم.

  3. تأسيس علاقات بيذاتية بين المتكلمين المتحاورين.

وفي هذا الصدد يقول في منطق العلوم الاجتماعية:

يتعين على كل متكلم أن يختار تعبيراً مفهوماً واضحاً لكي يتمكن المتكلم والمستمع من التفاهم فيما بينهما، إذ بجب على المتكلم أن يكون لديه قصد تبليغ مضمون قضوي حقيقي لكي يتمكن المستمع من مشاطرته معرفته، كما عليه أيضا أن يفصح عن مقاصده لكي يتمكن المخاطب من تصديق أقواله، وأخيراً يتعين على المتكلم اختيار عبارات صحيحة تلتزم حدود المعايير و المقاييس الجاري بها العمل لكي يتمكن المخاطب من قبول تلك العبارات بكيفية تجعل المتكلم و المخاطب في وضعية تؤهلهما للاتفاق” (Habermas 1987).

على هذا النحو تستطيع الذوات المتفاعلة تحقيق التفاهم و قد اعتبر هابرماس أن نظرية الأفعال اللغوية واعدة في هذا الصدد خصوصاً وأن هابرماس ينظر إلى اللغة لا في بعدها المعرفي كما يفعل تشومسكي بل في بعدها التواصلي والاستعمالي التداولي متسائلاً عن شروط الممارسة الاجتماعية القائمة على التداول السليم لشروط التداول المثالى للغة، وجد هابرماس في نظرية الأفعال اللغوية سنداً ودعماً لنظريته في الفعل التواصلى، فإذا كان أوستين قد ربط اللغة والمعنى بالسياق، فان هابرماس سيدمج آراء أوستين وسورل  في نظرية الفعل التواصلي معتبراً أنه ما دام الفعل التواصلي موجهاً نحو التفاهم، فإن الفعل الكلامي ينبغي الحكم عليه باعتباره حكماً مقبولاً عندما يحصل ذلك التفاهم.

رابعاً- أخلاقيات النقاش (قواعد إيتيقا النقاش)، في هذا السياق انشغل هابرماس بسؤال الأخلاق لا في بعده الميتافيزيقي بل في بعده التواصلي، وهو ما شكل منعطفاً بارزاً في تفكيره، ضمنه كتابه “الوعى الأخلاقى والفعل التواصلي” 1986 بين فيه أن هدفه هو بلورة نظرية الفعل التواصلي انطلاقاً من أخلاقيات النقاش أو الحجاج، أخلاقيات المناقشة لا ينظر إليها هابرماس على أنها موضوع للتنظيم بل يعتبرها منهجاً أو إجراء يسمح بتحديد معايير عادلة لزاوية النظر الأخلاقية وجعلها نظرية تبحث في الطرق والإجراءات السلمية التي تمكن الذات المتفاعلة فيما بينها من التواصل عبر الحوار إلى صياغة تلك المعايير الأخلاقية (Habermas 1929).

هذا ما جعل بعض المهتمين بأفكار هابرماس يذهبون إلى اعتبار أخلاقيات النقاش تأسيساً للمجتمع المدني، رفض هابرماس هذا الاختزال السياسى لأخلاقيات النقاش معتقداً أنها نظرية في التواصل على وجه العموم وقد يكون البعد السياسى أحد أبعادها.

إن السؤال الأساسي لتلك الأخلاقيات هو على أي مرتكز يمكن تأسيس المعايير و الأوامر؟ المعايير الأخلاقية هي تلك التي يقبلها أعضاء الجماعة التواصلية المعنيون بها بحيث تراعي مصالحهم المشتركة و يكون طابعها كونياً، وهي ما قد يكفل التوازن الدولي ويدعم تنمية المجتمعات، هذا و قد دعم هابرماس أطروحته هذه بالنظرية الحجاجية فاستمد منها القواعد الصورية التي بجب على المتحاورين الالتزام بها قصد تحقيق الاجماع أو اتفاق العقول، وبانفتاحه على النظريات الحجاجية كان هابرماس يهدف إلى تأسيس مبدأ استدلالى في أخلاقيات النقاش يتشبه بذلك الموجود في العلوم الحقة، والقواعد التي اقترحها هابرماس هي التالية:

  1. لكل من هو قادر على الكلام و الفعل نصيب كامل في النقاش.

  2. لكل الحق في إثارة اي اشكال أو إعتراض على أي تأكيد كيفما كان، يندرج ضمن هذا الحق حق الاعتقاد في آراء ما والتعبير عنها.

  3. لا يحق منع أي كان منع المتحاورين من النقاش و لا استعمال أسلوب الإكراه عليه.

تفترض جميع هذه القواعد المشاركة والندية بين المتحاورين أن لكل الحق في أن يدلي بدلوه ويفصح عما عنده دون مضايقة قصد تحقيق الاجماع، إضافة الى القواعد السالفة زاد قاعدتين أخريين في صيغة افتراضيين مفادهما أن الدعاوى المعيارية للصلاحية تتضمن معنى معرفياً ويجوز التعامل معها بوصفها دعاوى للحقيقة لذا ضرورة الدخول في نقاش حقيقي لتأسيس المعايير والأوامر اعتماداً على العقل المتواصل المتحاور وليس على العقل الفردي، وتعني صفة المعرفية أن الشيء قابل للقبول أو الرفض خلال عملية الحوار.

عليه فإن أخلاقيات النقاش هي في العمق أخلاقيات المسؤولية وهذا ما أكد عليه زميل هابرماس ورفيقه في الدرب كارل اوتو آيل والحقيقة أن أخلاقيات المسؤولية تحولت في الآونة الأخيرة إلى تقليد فلسفي في ألمانيا وهي من إبداع الفيلسوف الألماني هانز يوناش في كتاب شهير له يدعى مبدأ المسؤولية: أخلاقيات الحضارة (عالي 2013).

  • شروط تحقيق التواصلية والتجربة التواصلية لدى هابرمــاس

حدد هابرماس لـ تجربة تواصلية ناجحة شروط حتى لا تكون تواصلاً مشوهاً لأنه حوار للفاعل مع ذاته ومع ذوات فاعلة وأهم هذه الشروط:

  1. إن النشاط التواصلي لن يتم إلا من خلال علاقة تفاعل بين فردين أو أكثر داخل سياق العالم المعيش، ولذلك فمن حق كل شخص له القدرة على الكلام والفعل أن يشارك في التجربة التواصلية، على أن يعلن اعترافه مزاعم ومطالب الصدق المتفق عليه.

  2. أن تتم عملية التواصل من خلال اللغة التي يتم بواسطتها علاقة بين المشاركين وفي التفاعل بين العالم الخارجي بينهم وبين الذوات الأخرى باعتبار اللغة الوسيط الأساسي في النشاط التواصلي، وعن طريقها يتم الوصول إلى نوع من التفاهم بتوظيف الجمل والعبارات التي يتلفظ بها أعضاء الجماعة المشاركة في التواصل سواء متحيثين أو مستمعين، وتعتبر اللغة هي الوسيط الأساسي في النشاط التواصلي من خلال العبارات التي يتبادلها المتفاعلين كما أنها تعتبر الأساس للاتفاق بين الذوات (أبو السعود 2004).

  3. يفترض المشاركون في التواصل أن الحوار له قواعد أخلاقية التي من أهمها توفر ظروف تضمن الإجماع الذي لن يتم الوصول إليه إلا عن طريق قوة الأطروحة الأفضل، فالحوار يخضع لمعايير يمكن التبرير عليها بحجج وأدلة وبراهين كما يجب أن يكون الحوار خالي من كل الضغوطات والقهر أي أن يكون بين ذوات حرة.

  4. على كل مشارك في عملية التواصل أن يعبر بصدق وأن تكون له القدرة على تبريرموقفه في عملية الحوار و التفاهم والتبادل وذلك باختيار تعبيرات معقولة تمكن المستمع من الفهم دون صعوبة (أفاية 1998).

  • التحول في نظرية الفعل التواصلي لدى هابرماس

عاود هابرماس الظهور وبطريقة متفردة ومميزة وبشكل امتدادي وتواصلي مع عمله الأصل، والوجه الثاني لشخصيته التي تجمع بين النظرية والتطبيق من خلال كتابه “القانون والديمقراطية” بين ما هو كائن وما يجب أن يكون (Habermas 1979).

وهي نظرية جديدة للقانون والمعايير القانونية والعدالة والديمقراطية تأخذ من جديد نظرية الفعل التواصلي وتجددها وتعيد صياغتها، ونفهم من ذلك أن النشاط التواصلي لا بد أن يتجسد في خطاب سياسي ديمقراطي تواصلي يبدأ بالحديث عن فضاء عمومي خال من السيطرة يتجه نحو العالم المعيش ويقوم على الحوار المرتكز على الأخلاق ويهدف إلى التفاهم والاتفاق، يقول هابرماس “المنطق النابع من نظرية الفعل التواصلي” وجوهر النظرية الديمقراطية عند هابرماس هو نظرية المناقشة ومبدأ الحوار الذي هو في حد ذاته لا ينفصل عن التواصل والعقل التواصلي، وتعمد نظرية المناقشة إلى خلق التوازن بين الجانب السياسي والاجتماعي من خلال تحديد الإجراءات وشروط التواصل التي تشارك في التكوين السياسي للرأي والإرادة لخلق التوازن المطلوب بين السلطة والفضاء العمومي ولذا يربط الديمقراطية بالمفاهيم الثلاثة العقلانية والسلطة والرأي العام وأخلاقيات التواصل.

وهو يشيد مفهوم الديمقراطية لا يتخلى عن هدفه في بناء نظرية للمجتمع من خلال تقديم نموذج معياري ضمن تصور السياسة المداولاتية وتعدد أشكال التواصل التي من خلالها تتكون إرادة جماعية، فالمجتمع لديه ليس فقط مجموعة إنتاجية بل هو مجتمع يقوم على القيم الثقافية والأخلاقية، ويحاول هابرماس ضبط مفهوم الديمقراطية من خلال الاستئناس بمدلولين الإرادة الشعبية وحقوق الإنسان لمفهوم مصطلح دولة القانون.

وذلك الحيز الوسيط الذي تمارس فيه الديمقراطية التواصلية والذي ينشأ بين المجتمع المدني والدولة هو الفضاء العمومي وهو ما يعرف بأنه مقولة مركزية لفهم النسق الديمقراطي التواصلي يقول برهان غليون “أن الفضاء العمومي هو مفتاح الممارسة الديمقراطية عند هابرماس” (مصدق 2005) وهذا يعني أن التواصل يتطلب مجالاً وملعباً له، وهذا لن يكون إلا في إطار فضاء مفتوح يضم الجميع من أجل بلورة رأي عام وفي هذا الصدد يقول هابرماس: “إن موضوع الفضاء العمومي هو الجمهور الذي يمثل الدعامة لرأي عام يرتبط بوظيفة نقدية” (Habermas 1978). إنه ما يجمع بين ملاين المواطنين ويقدم الشعور بالمشاركة الفعلية في الحياة السياسية فهو يشترط جمهور من نوع خاص يتمتع بالسيادة والاستقلالية وبالقدرة على بلورة الأفكار والآراء والقيم عن طريق الحوار، فالنشاط التواصلي يجد تجسده بالفعل في النشاط الديمقراطي، وهو ما يحقق مواطنة عالمية وسلم دائم (مقورة 2013).

بينما ذكر عبد الرحمن 2011 أن نظرية الديمقراطية التشاورية عند هابرماس تأسست على معطيات الفلسفة التداولية حيث كرس لها هابرماس أعماله المتأخرة ابتداء من التسعينات، وتعد أهم انجاز في ميدان الفلسفة السياسية المعاصرة و توسيعاً لمجال الفعل التواصلي، إذ لا يمكن فصل التشاور عن هذا الفعل التواصلي.

بنى هابرماس نظريته حول “الديمقراطية التشاورية” على أنقاض نقد الدولة الرأسمالية وايديولوجيتها التكنوقراطية، لكنه هنا لا يرى في الرأسمالية أساساً مرحلة يمكن أن تنحرف فتؤدي إلى كوارث، لكنها عنده ليست شراً مستطيراً وهنا نقطة خلافه مع الرعيل الأول لمدرسة فرانكفورت، بحيث ركز الجيل الأول للمدرسة على ظاهرة الهيمنة التقنية والعقل الأداتي السائد في هذا النظام، كما بنى أيضاً نظريته في الديمقراطية من منطلق أساسه نقد للتصورين أوالنموذجين الليبرالي والجمهوري (عبد الرحمن 2011).

هكذا نلاحظ التحول الكبير الذي حصل في فلسفة التواصل لدى هابرماس من تأسيس التواصل على اللغة إلى تأسيسه سياسياً وهو تحول أتى في مطلع التسعينات من القرن المنصرم، إن الفكرة المحورية لمشروع هابرماس في كتابه الديمقراطية التشاورية هي تأسيس الديمقراطية على أساس جماعة متواصلة خالية من أية هيمنة عدا هيمنة أفضل حجة، كما أن مفهوم التشاور المرتبط بالأخلاقيات يعد مفهوماً مركزياً لديه، ففي التشاور يعطى لكل عضو في الجماعة الحق في الكلام و الفعل بخصوص القضايا السياسية والمطروحة في الفضاء العمومي، وفي ظل ذلك النقاش العقلاني المؤسس يتشكل الرأي العام و الإرادة السياسية العامة للمواطنين في المجتمع الديمقراطي الذي يلعب فيه التشاور دوراً مركزياً، هكذا تمثل مساهمات هابرماس في مجال الفلسفة السياسية و خاصة في نظرية الديمقراطية التشاورية مساهمة نوعية تندرج في اطار نقد أشكال الأنظمة الشمولية كالنازية.

  • أبرز الانتقادات التي وجهت لنظرية الفعل التواصلي

  1. لم يثبت ولا يستطيع أن يثبت أولوية فعل التواصل على الفعل الاستراتيجي.

  2. مرتبط بالنقد الأول أن أطروحته حول الانعتاق والتحرر لم تثبت، ويظهر أن مشروع هابرماس يعاني بمجمله من تناقض في الأهداف، فإن أخذنا مشروعه الأكبر بأوضح معانيه، فسيظهر أن محاولة تأمين أولوية التواصل في فلسفة اللغة، تجـهضها تلك التفرقة التي يقيمهـا بين النسق والحياة اليومية وهـكذا إن إعطـاء الأولويـة لطرف على آخـر في معادلـة الفعل أو البنيـة تقوض نظـرية هابرماس (عالي 2013).

  3. عارض الفيلسوف الفرنسي المعاصر جون فرنسوا ليوتار مفهوم الاجماع لدى هابرماس معتقداً أن جوهر الأمور هو الاختلاف والنزاع ولا إبداع بدونهما، متهماً في نفس الوقت هابرماس بأنه يدافع عن مشروع الحداثة المؤسس على فكر الأنواريين ويسعى إلى بناء خطاب فلسفي يتخد الاجماع هدفاً له، بينما يعتبر ليوتار الحداثة خطاباً متجاوزاً تظل كل محاولة لرد الاعتبار له محاولة يائسة (عكنان 2018).

  4. اعتراض الكثيرين على التداولية الصورية ونظرية الفعل التواصلي واتهامها بالعقم والطوباوية وبالثقة المفرطة في إمكانية بناء أرضية للتفاهم، على اعتبار أن اللغة لا تعني دوما التفاهم فقد توظف للخداع والزيف والتلاعب (رشيدة ووفاء 2013).


قائمة المراجع (التواصلية والفعل التواصلي)

  1. أبو السعود، عطيات(2002) الحصاد الفلسفي للقرن العشرين، منشأة المعارف جلال جزي وشركاء البلد: د.ت.
  2. أبو السعود، عطيات (2004) نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس، مجلة أوراق فلسفية، العدد 10.
  3. أبو النور، حمدي أبو النور حسن (2004) يورغن هابرماس، الأخلاق والتواصل، بيروت: التنوير للطباعة والنشر.
  4. أبو النور، حمدي أبو النور حسن (2012) الأخلاق والتواصل عند يورغن هابرماس، لبنان: التنوير للطباعة.
  5. أحمد، محمود سيد (1993) البراجماطيقا عند هابرماس، القاهرة: دار الثقافة للتوزيع والنشر.
  6. أفاية، محمد نور الدين (1998) الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، نموذج هابرماس، ط2، بيروت: أفريقيا الشرق.
  7. تورين، ألان (1997) نقد الحداثة، ترجمة: أنور المغيث، مصر: المجلس الأعلى للثقافة.
  8. جاكلين، روس (2011) مغامرة الفكر الأوروبي، ترجمة: أمل ديبو، الإمارات العربية المتحدة: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث.
  9. ذيبون، حياة (2014) “حديث النهايات العقل التواصلي بديلا عن العقل الأداتي”، مجلة مقاليد، العدد7، د.ت.
  10. رشيدة ووفاء، دونان و دايب (2013) إشكالية الغيرية عند يورغن هابرماس، رسالة ماجستير، جامعة عبدالحميد بن باديس-مستغانم-.
  11. الزواوي، باغورة (2005) الفلسفة واللغة، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر.
  12. زوراق، خديجة (2015) العقلانية التواصلية، هابرماس نموذجاً، رسالة ماجستير، الجزائر: جامعة محمد بو ضياف.
  13. سليم، ودينة(2008) فلسفة التداوليات الصورية وأخلاقيات النقاش عند يورغن هابرماس، رسالة ماجستير، جامعة منتوري.
  14. شباب، عبد الرحمن (2019) “نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس وعلاقتها بالثقافة الشعبية والاعلام”، مجلة مدارات (د.ت), د.ت.
  15. الشيخ، محمد (2008) نقد الحداثة في فكر نيتشه، بيروت: الشبكة العالمية للأبحاث والنشر.
  16. الصفدي، مطاع (1987) التداولية والتواصلية، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 46، بيروت: مركز الإنماء القومي.
  17. عالي، حسن (2013) المنظور السوسيولوجي للتواصل عند هابرماس، مجلة الحكمة، كنوز الحكمة للنشر والتوزيع، العدد 18، 200-214.
  18. عبد الرحمن، نشوى محمد (2011) “الديمقراطية الرقمية وعلاقاتها بالديمقراطية التشاورية بالتطبيق على ثورة 25 يناير”، الحوار المتمدن، العدد 3436.
  19. عكنان، منى (2018) النظرية الاتصالية عند يورغن هابرماس، شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية، العدد158، 159-172.
  20. علوش، سعيد(1986) المقاربة التداولية، بيروت: مركز الانماء القومي.
  21. قارة، صباح (2013) “إشكالية تشيؤ الإنسان في الحداثة الغربية من منظور عبد الوهاب المسيري”، مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير، جامعة فرحات عباس.
  22. فينليسون، جيمس جوردن (2015) يورجن هابرماس: مقدمة قصيرة جدًّا، ترجمة أحمد محمد الروبي، كلمات للنشر والتوزيع: د.ت .
  23. محمد، سبيلا (2007) الحداثة وما بعد الحداثة، ط3، المغرب: دار توبقال، الدار البيضاء.
  24. المحمداوي، علي عبود (2015) الإشكالية السياسية للحداثة: من فلسفة الذات إلى فلسفة التواصل. منشورات ضفاف لبنان: د.ت.
  25. مصدق، حسن (2005) يورغن هابرماس مدرسة فرانكفورت، النظرية النقدية التواصلية، ط1، بيروت، المركز الثقافي العربي.
  26. مقورة، جلول (2013) هابرماس: النشاط الديمقراطي في خدمة الفاعلية التواصلية، مجلة الحكمة، مركز كنوز الحكمة للنشر والتوزيع، العدد 16، 80-99.
  27. النبواني، خلدون (2019) دراسة نقديّة في فكر هابرماس السياسيّ هابرماس وجه فلسفي- سياسيّ والديمقراطيّة التداوليّة على الرابط https://cutt.us/QAVcZ
  28. هابرماس، يورغن (2002) بعد ماركس، ترجمة محمد ميلاد، ط 1، سوريا: دار الحوار للنشر والتوزيع.
  29. هابرماس، يورغن (2003) العلم والتقنية كإيديولوجيا، ترجمة: حسن صقر، ألمانيا: منشوارت الجمل.
  30. http://www.habermasforum.dk/index.php?type=biography (تاريخ دخول الرابط:23/10/2019م)
  31. Jürgen Habermas: Droit et démocratie “Entre faits et norms” tra : 1979 p.324.
  32. Jürgen Habermas : logique des sciences sociales et autre essais, tra par : rainer rochiltz, presses universitaires de France. Paris, 1978, p.288.
  33. Habermas, La science et Ia technique comme idiologie, p.167.
  34. Habermas, L’Ethique de Ia discussion, Trad. M.Hungadi, Paris, 1992, p.35-36.
  35. Pusey, Jurgen Habermas, London, 1987, p.64.

Trad .JM , Theorie de I’agir communicationnel, J.Habermas, Ferry, Paris, 1987, T.1, p.9.