مجلة حكمة
الإخوة الأعداء

بنية اللغة وصراع الأصوات في رواية “الإخوة الأعداء” – نور الدين محقق

الإخوة الأعداء الرواية رواية
غلاف كتاب رواية (الإخوة الأعداء)

تشكل اللغة في أي عمل أدبي جدير بتسميته هاته، تلك المرآة الشفافة التي من خلالها نرى ما يعتمل داخل صدره من صراعات اجتماعية وفكرية وإيديولوجية، فاللغة ليست بريئة، كما يذهب إلى ذلك رولان بارت. إنها تحمل معها آثار الزمن الذي انبثقت فيه ومنه، وآثار المكان الذي تشكلت بنياتها ضمنه. وبما أن الرواية هي الجنس الأدبي الأكثر قدرة على احتواء تجليات اللغة هاته في اختلافيتها الرؤيوية المتعددة، إذ داخلها يخضع التعدد اللغوي “لتشييد أدبي” كما تخضع أيضا “الأصوات الاجتماعية والتاريخية التي تعمر اللغة، وتعطيها دلالاتها الملموسة” لنفس هذا التشييد، بعد أن تشكل داخل نسق أسلوبي متكامل، يجمع تناقضاتها ويوحدها داخل بوتقة واحدة، تعبر عن مختلف التوجهات التي تحملها معها دون الانحياز لأي توجه منها بشكل كلي(1).

تأسيسا على هذا، أصبحت الرواية هي الجنس الأدبي الأكثر تعبيرا عن التنوع الاجتماعي للغات، حسب تعبير ميخائيل باختين، والأكثر قدرة على تشخيص ما يقع فيه من أحداث، فاحتلت من جراء ذلك موقع الصدارة ضمن الأجناس الأدبية الأخرى، فكان أن التجأ إليها معظم الكتاب بمختلف مشاربهم من أجل الإفصاح عن ذواتهم، ليس كذوات فردانية إذ أن جنس الشعر هو الكفيل بتحقيق ذلك، وإنما كذوات متشظية، كل ذات منها تحمل في طياتها صراعا قويا بين أفكار ورؤى شتى، ولعل هذا الأمر كان من ضمن الأسباب التي حدت بالكاتب نيكوس كازانتزاكي، وهو الكاتب المتعدد الاهتمامات إلى الاتجاه إلى هذا الجنس الأدبي، أي الرواية، دون غيره من باقي الأجناس الأدبية الأخرى التي كان يتقن فن كتابتها، لتصوير ذلك الصراع الرهيب الذي حدث بين أبناء اليونان وجرهم إلى الاقتتال فيما بينهم بضراوة من أجل تحقيق حلم طرف منهم والقضاء على حلم الطرف الآخر المناقض لحلمه والمشكل عائقا أمام تحققه. وذلك في روايته الحاملة لهذا العنوان الدال: “الإخوة الأعداء” التي سنتخذها موضوعا لدراستنا التحليلية هاته، بغية الاقتراب من العامل الأدبي الباذخ الذي أبدعه هذا الكاتب العملاق.

1 – بنية العنوان ودلالته الكبرى:

إن أول ما يستوقفنا في عملية تحليل بنية لغة هذه الرواية، أي رواية “الإخوة الأعداء” وصراع الأصوات داخلها هو عنوانها ذاته، فهذا العنوان الذي يشكل العتبة الرئيسة حسب تعبير جيرار جنيت(2) للولوج إلى عالمها، يحتضن بين طياته بؤرة المضمون العام لما يقع فيها من أحداث، إذ أنه يحدد لنا منذ البداية خاصيات هذا الصراع والطرفين المشكلين له، فالصراع هنا هو صراع داخلي لأنه لا يقع بين أناس أغراب عن بعضهم البعض، وإنما يقع بين إخوة، يجمع بينهم بالبداهة علاقة الدم والأرض، والعداوة المستنبتة بينهم، قد حصلت نتيجة أمور طارئة عليهم، من السهولة بمكان إن هم أرادوا أن يتخلصوا منها أن يفعلوا ذلك، فتعود المحبة بينهم من جديد. إلا أن ما يضاعف من تجذر هذه العداوة في قلوبهم، هو تشبت كل طرف منهما بلغته الخاصة وعدم إصغائه للغة الطرف الآخر المخالف له مما نتج عنه تفرع هاتين اللغتين الكبيرتين إلى لغات صغرى. وكل لغة من هذه اللغات الصغرى تجد الناطق الرسمي بها والمدافع القوي عن وجودها. وحتى يسهل علينا ضبط آليات هذا الصراع والخصائص المميزة له، لا بد في البداية أن نضبط تعددية هذه اللغات وتحديد الآفاق الرؤيوية الحاملة لها.

2 – التعدد اللغوي ومستويات التعبير:

تتأسس البنية اللغوية لـ رواية “الإخوة الأعداء” على عملية احتواء لمجوعة من اللغات المختلفة، منها ما ينتمي إلى الماضي بكل حمولاته الأدبية والفكرية ومنها ما ينتمي إلى الحاضر بجميع قضاياه وأساليبه التعبيرية هو الآخر، ومنها أيضا ما ينتمي إلى المستقبل عبر التطلع إليه والأمل في التواجد فيه بشكل من الأشكال، ومن بين أهم هذه اللغات التي تفرض ذاتها بقوة على متن هذه الرواية، هناك أربع لغات كبرى يمكن الحديث عنها على الشكل التالي:

أ – اللغة الدينية المتعالية: تحضر اللغة الدينية في شكلها المتعالي على ألسنة القساوسة المساندين لخط الكنيسة، هؤلاء القساوسة الذين يمثلهم في النص الروائي بشكل واضح الراهب الحامل لحزام العذراء، والذي لم يمنحه السارد أي اسم بغية جعله صورة واضحة عن كل القساوسة – الرهبان الآخرين الذين يعيشون معه في الجبل المقدس، والذين لا هم لهم في هذه الدنيا سوى توفير عيشهم الرغيد ومساندة السلطة حفاظا على امتيازاتهم المتعددة، وهم يستغلون الدين المسيحي من أجل تحقيق مآربهم الدنيوية والحصول على أكثر ما يمكن من المال. يتجلى هذا الأمر في النص الروائي في الحيل التي يلجأون إليها لتحقيق مقاصدهم تلك، وآخرها حيلة الحزام الذي نسبوه إلى العذراء أي السيدة مريم، وبدأوا يطوفون به قصد دفع الناس البسطاء لبذل ما لديهم من مؤن لهم. يقول راهب الجبل المقدس، في هذا الصدد، حاثا الناس على ذلك ما يلي: “أمنحكم بركتي يا أبنائي، وتمنحكم العذراء البتول بركتها أيضا. اذهبوا إلى بيوتكم وابحثوا عن هباتكم للسيدة العذراء نقود أو خبز أو خمر أو جبن أو صوف أو زيت أو أي شيء، أحضروا ما لديكم وتعالوا لتركعوا” (ص 35). من هنا يتبين لنا أن هذه اللغة الدينية التي توظف فيها الرموز المسيحية الكبرى من أجل التأثير في نفسية المتلقي لها، تبدو قوية، فاعلة، لأنها تستمد مشروعيتها من التقاليد والعادات المترسبة في الأذهان من جهة، ولأنها تكون متحدة مع ما يكون الأجهزة الفاعلة في الدولة من جهة أخرى، إنها بتعبير ميخائيل باختين تقتضي منا أن نعترف بها وأن نتمثلها بغض النظر عن درجة إقناعها الداخلي لنا(3). وهذا ما نلاحظه تماما في هذا النص الروائي، إذ ما أن سمع هؤلاء الناس البسطاء دعوة هذا الراهب لهم بالبحث عن شيء يقدمونه هبة لحزام العذراء، حتى لبوا دعوته دون تفكير في الحالة المزرية التي يعيشون فيها، ودون تقدير حتى لدرجة الفقر الشديدة التي وصلوا إليها، ذلك أن تأثير هذه اللغة الدينية في نفوسهم كان قويا، لدرجة لم يكن لهم معها إلا أن يطيعوا ما تأمرهم بفعله. يقول السارد في هذا الصدد ما يلي: “… وانتشر الناس يبحثون عن شيء يقدمونه” ص 36. ونظرا لقوة هذه اللغة وشدة تأثيرها، فلا يمكن مقاومتها إلا من داخلها، أي انطلاقا من تفكيك بنية الرموز التي تستعملها وتحويل جهة توجهها ذاته، وهذا ما ستسعى للقيام به لغة دينية أخرى، منبثقة منها ولكنها مغيرة لتوجهها الأمر هذا، عن طريق إعادتها إلى الأصل الذي انطلقت منه في البداية، أي أصل التوحد بالشعب والدفاع عن قضاياه، والتي يمثلها في النص الروائي صوت الأب ياناروس.

ب – اللغة الدينية المناهضة: هي اللغة الدينية التي تبدو مرتبطة بالشعب معبرة عن القضايا الاجتماعية التي يعيشها، وهي لغة دينية متحررة من ضغط السلطة الدنيوية التي يمثلها القومندان سوفوكليس من جهة، وبعض رهبان الكنيسة المستفيدين من مراكزهم فيها من جهة أخرى، وهي لغة ثائرة متحدية، لا تهاب أية سلطة أخرى تواجهها، ويمثلها في النص الروائي صوت الأب ياناروس. هذا القسيس المتمرد الذي يصفه السارد على لسان كرياكوس على الشكل التالي: “… إنه الخوف والرعدة، رجل رهيب، لا يكلم أحدا، ومهما تقل أو تفعل أمامه، يعقد ما بين حاجبيه، فهو لا يرضى أبدا… هو رجل مقدس، لكنه غير عادي” ص 37. ونظرا لأهمية هذه اللغة داخل مجتمع النص الروائي، لأنها تستمد هي الأخرى قوتها وفعاليتها من الدين المسيحي، فإن اللغات الأخرى المغايرة لتوجهاتها تخشى من هذه القوة التي تملكها وهذه الفعالية المتوفرة فيها، لهذا فهي تحاربها بشدة وتسعى للقضاء عليها. يتمثل لنا ذلك في المواجهة التي تقع بين الأب ياناروس وبين القومندان تارة، وبينه وبين الأب مندراس تارة أخرى، يتجلى ذلك بالنسبة للحالة الأولى في الحوار الشديد اللهجة الذي دار بين الأب مندراس وبين القومدان: “لماذا تنظر لي هكذا يا أب يانروس؟ (قال القومندان)، ورد العجوز بصوت متحرج ومتحفظ: -ألا تخجل؟- ألا تخاف الله إذن أيها القومندان؟ -وقبض القائد، أي القومندان، على سوطه ورفع يده، كما لو كان يريد أن يضربه. لكن الأب ياناروس استمر يدنو منه. وفي صوت أجش، عاد يقول وقد وصل إلى حيث لمست لحيته وجه القائد: -هل أنت إنسان لا تزال؟، الناس على حق، حين يسمونك الجزار، لكن ألا تعرف على الأقل من هي هذه الحملان التي تذبحها؟ افتح عينيك وانظر يا تعيس- إنهم إخوتك وأخواتك…” ص113. أما بالنسبة للحالة الثانية، فيتجلى ذلك في المقطع السردي-الحواري التالي: “كانت العاصفة تجتاح الشعب، فتدفع أمواجه كأمواج البحر. ولوح الأب ياناروس بذراعيه، فهدأ الحشد، وعاد صوت العجوز يتردد عميقا: -مباركة يا أبنائي هذه اللحظة التي يصل فيها الشعب إلى الهاوية، ويرى أمامه فجأة أعماق الجرف- فيمد يده ليتعلق بثوب الله! وقد مدت كاستللوس يدها فأمسكت بثوب الله. وهكذا جاء الخلاص, وعوى مندراس العجوز : -كلمات! دائما كلمات! تكلم بالتحديد. ما الذي تآمرت عليه في أعلى الجبل مع ابنك الخائن؟ اذهبوا وابحثوا عن القومندان! لقد ضعنا. انصت لي جيدا يا أب ياناروس! احذر على نفسك إذا حاولت أن تسلم مفاتيح كاستللوس! هل تسمعني؟ هل تسمعونني يا أهل كاستللوس، ويا أهل الكفور؟ هذا ما أقول لكم. لقد سمعتم أحدنا وسمعتهم الآخر. وعليكم أن تختاروا” ص 309. تأسيسا على هذا يمكن القول إن هذه اللغة الدينية المناهضة للفساد المستشري في قرية كاستللوس، وللظلم المحيق بأهلها، تبقى هي اللغة الأقوى من حيث الحضور والامتداد داخل النص الروائي، إذ أنها لغة بالرغم من وثوقيتها في ذاتها، فإنها كثيرا ما تسائل هذه الذات، وتراجع مواقفها تبعا للأحداث المحيطة بها، وهي لغة مستنيرة، منفتحة على كل اللغات المتواجدة معها، بالرغم من الصراع الذي تفرضه قوة هذا التواجد كله. ولعل عدم انتمائها إلى أي صوت من الأصوات المتصارعة في النص الروائي، هو السبب القوى الذي أدى إلى عزلها عن كل هذه الأصوات، ودفع هذه الأصوات ذاتها للقضاء عليها. يقول الأب يانروس، ممثل هذه اللغة الدينية المناهضة، بعد أن أدرك استقلاليته المطلقة هاته ما يلي: [إنني ذاهب، سأفعل ما قلت، سأذهب من قرية لقرية أصيح: “يا إخوتي، لا تصدقوا الحمر ولا تصدقوا السود، لكن تصالحوا أنتم!” فلا بد لكل قرية من مجنون، وسأصبح أنا هذا المجنون، مجنون اليونان الذي يصيح”] ص 356. إلا أن هذه اللغة بالرغم من رغبة اللغات الأخرى، كما اتضح لنا، قتلها، فإنها قد استطاعت أن تخترق بنية هذه اللغات بالذات، وأن تغير من طبائعها الوثوقية، وأن تفتت من كياناتها واحدة تلو الأخرى.

ج – اللغة الدنيوية الآمرة: هي تلك اللغة الهادرة التي تريد أن تحتوي كل اللغات الأخرى داخلها، فهي لا تكاد تعترف بأي لغة تخالفها في الرأي، أو تحمل بذور الانشقاق عنها، وهي تفرض هذا الوجود بمختلف الوسائل المتاحة لها، ذلك أنها تمثل ذلك الكلام المرتبط “عضويا بالماضي”، ذلك “الكلام الآمر الذي ينتمي للمحرم” على حد تعبير ميخائيل باختين(4) الذي لا يسمح لأي كان بالقيام بانتهاكه دون معاقبته، ويمثل هذه اللغة الدنيوية الآمرة في النص الروائي، أي رواية “الإخوة الأعداء”، صوت القومندان سوفوكليس. فهذا القومندان، كما يقدمه لنا السارد ّذو وجه عابس، ضئيل الحجم، نحيف، في خده الأيمن ندبة غائرة، له حاجبان عريضان، منقوشان، يحيطان بعينين صغيرتين مستديرتين مثل عيني القنفذ” ص 109. كما أنه يمتلك تجربة كبيرة في المجال الحربي، اكتسبها في المعارك السابقة التي خاضها ضد أعداء بلاده، والتي أهلته لاحتلال منصبه الرفيع ذاك. من هنا فهو قد اتحد بالسلطة القائمة عبر تنفيذه لأوامرها والإخلاص الكلي لتوجهاتها، ومعاقبة كل من يخالفها. يتبين لنا ذلك من خلال المحاكمات الكثيرة التي كان يقيمها لكل الخارجين عنها. إنه يتحول لحظتها إلى كائن آخر، كائن سلطوي رهيب، كائن لا تحتمل صرامته “كل شيء فيه ينذر بالشر: عيناه وشفتاه وشاربه” ص 109. كما يتحول كلامه من إطاره العادي إلى إطار ملؤه التهديد. يقول موجها كلامه هذا إلى مسجونيه ما يلي: “يا عصابة الخونة، يا عصابة الخونة! يا أوساخ…” ص 109. إن هذه اللغة الدنيوية الآمرة التي يمثلها، كما تبين لنا ذلك، القومندان سوفوكليس، لا تكتفي بذاتها لتحقيق سيادتها المطلقة على باقي اللغات المتواجدة معها، داخل النص الروائي. إنها تجمع حولها مجموعة من اللغات الصغرى التي تقوم بعملية تأويلها والقيام بإطرائها بشتى الوسائل. وخير من يمثل هذه اللغات التابعة لها أصوات كل من الأب مندراس أكبر أصحاب الأملاك في القرية وشيخ أعيان القرية وأتباعهما الكثيرين. وبالرغم من هيمنة هذه اللغة على مجتمع الرواية، فإن السارد يقدمها وهي تكاد تعيش لحظاتها الأخيرة، أمام قوة ضربات اللغات الأخرى المناهضة لها. وتأتي في مقدمة هذه اللغات، اللغة التي يمثلها “الأنصار” المعتصمون في أعالي الجبال، والحاملون معهم تصورا جديدا، إن للعالم المحيط بهم من جهة وإن لطريقة تسيير شؤون قريتهم كاستللوس ومن خلالها باقي القرى اليونانية الأخرى، من جهة أخرى.

د – اللغة الدنيوية الثائرة: هي تلك اللغة الدنيوية الواقعية المنبثقة من آلام الشعب، والتي تجسدت في “الأنصار” الذين قرروا مناهضة اللغة الدنيوية الآمرة والخروج من هيمنتها والالتجاء بعيدا عنها، إلى أعالي الجبال، من أجل رفع شعار التمرد والمقاومة. وهي لغة تستمد كيانها من التعاليم الاشتراكية، ويمثلها في النص صوت الكابتن دراكوس والملتفين حوله. إنها لغة تدعو إلى سيادة الحرية والعدالة والمساواة الاجتماعية، كما يقدمها النص الروائي، وهي إضافة إلى ذلك لغة تأخذ صبغة العالمية، فهي غير مقتصرة على اليونان وحدها، بل هي لغة مشتركة بين كل شعوب الأرض، لأنها لغة منبثقة من الواقع الأرضي، وليست لغة متعالية عنه. يصفها الأب ياناروس بقوله وقد أرهبته حمولتها الفكرية ما يلي: “لا، لا. هذه اللغة الجديدة التي يتكلمها الأنصار، لا يمكن أن تكون من عند الله، فلو كان المعزى على رأسهم حقا، لما تكلموا بهذه الطريقة على الأمور المادية، ماذا نأكل؟ كيف نتقاسم المنافع؟ كيف نقتل الأعداء؟ ثم لماذا لا يتكلمون أبدا عن السماء؟. إن عيونهم لا تحملق إلا في الأرض. يفكرون قبل كل شيء في أن يملأوا البطن الكبيرة، أن يملأوا كل بطون العالم، ثم ينظرون بعد ذلك إلى أي شيء آخر. لا يهم سوى البطن لا القلب ولا الحياة الأبدية. فما أغرب هذا المعزى إذن!” ص 102. ونظرا لأنها هي الأخرى بدأت تفرض وجودها داخل مجتمع النص الروائي، وتؤكد عملية انتشارها، فإنها كذلك أصبحت تتعرض للهجوم المكثف من لدن اللغات الدينية المحيطة بها من جهة واللغات الدنيوية التي لا تشاركها نفس التوجه من جهة أخرى، وبالرغم من أن السيادة ستكون لها في النهاية، إذ سيستطيع حاملو أصواتها، أي “الأنصار” أن يفتحوا قرية كاستللوس، ويستولون على عملية تسييرها، فإنها مع ذلك تبقى لغة حاملة هي الأخرى، كما يقدمها النص الروائي، بذرة تفتتها الداخلي، لأنها سرعان ما ستتحول بعد أن تمت لها السيطرة على باقي اللغات، إلى لغة وثوقية، مرتبطة بالجهاز السلطوي الأمر. إنها أيضا لا تريد أن تسمع لغة أخرى بجانبها. إنها تريد أن تبقى اللغة الوحيدة. وهو الآمر الذي يهددها بالموت إن هي لم تصلح من ذاتها وتسمح اللغات الأخرى بالبقاء بجانبها. وهو ما يوحي به السارد ولو من طرف خفي وفي كامل الهدوء.

3 – مسألة الصراع وتغيير المتخيل.

إن لعبة الصراع القائمة هنا بين شخوص رواية “الإخوة الأعداء”، كما أوضحنا ذلك، يتلخص كما يقول بيشو في “الصراع من أجل كلمة، ضد كلمة أخرى”(5). ذلك أن الكلمة تحمل داخلها بنية متخيل بأسره، ومن أجل تغيير متخيل جماعة بشرية، عملية ليست سهلة، إنها تتطلب صبرا جميلا وتحملا قويا. فالمتخيل المسيحي كما صاغه رهبان الكنيسة، حسب وصف السارد له، متخيل مبني على الطاعة المطلقة لكل ما ينسب إلى السيد المسيح، دون تمحيص أو مناقشة، في حين أن المتخيل الجديد الذي أراد الأب ياناروس بعثه من جديد يتأسس على الإدراك للحكمة الإلهية ولآلام المسيح. لهذا فهو لم يقم بعملية رسمه، “في الصورة قاسيا، غاضبا، كما جرى العرف، بل رسمه حزينا شاحبا متألما” ص 195. يناصر الفقراء ويقف بجانبهم، وهو لا يطلب منهم أية هدايا، بل إنه هو الذي يمنحهم إياها، أما المتخيل الدنيوي الذي ركزت لغة “الأنصار” على رسمه فهو متخيل يعتمد على توفير الحاجيات الضرورية للجميع، وإقامة العدل بينهم. وهو متخيل واسع بحيث يشمل الإنسانية كلها، ولا يقتصر على شعب دون آخر. إنه متخيل أممي. وبالإضافة إلى وجود هذه المتخيلات الثلاثة، توجد متخيلات صغرى تقف بجانبها، تتأسس كينونتها انطلاقا من اللغات الصغرى الموجودة في هذا النص الروائي، وفي مقدمتها اللغة الشعرية الحالمة ولغة الحكمة المستنيرة المستمدة من تجارب بعض الشخوص الروائية، ولغة كل من الحب والكراهية ولغة الأمثال الشعبية… كل هذه اللغات والمتخيلات التي تعبر عنها، هو ما يمنح لـ رواية “الإخوة الأعداء” الكبيرة خصوصية الانفتاح على العوالم الممكنة المحيطة بها من جهة ويؤسس حواريتها الخصبة مع معظم التوجيهات الفكرية والإيديولوجية المتواجدة ضمن بنية المجتمع اليوناني الذي سعت لتصويره من جهة من جهة أخرى. ويجعل من رواية “الإخوة الأعداء” في الأخير إحدى أهم التمثلات الروائية المعبرة عن هذا الجنس الأدبي الهادر بقوة في هذا الزمن الإبداعي الممتد إلى ما نهاية.

مراجعة رواية (الإخوة الأعداء) من مجلة الجابري – العدد التاسع


الهوامش

1 – ميخائيل باختين: الخطاب الروائـي، ترجمة محمد برادة، دار الأمان، الرباط 1987، ص 60.

2 – Genette (Gérard): Seuils éd. Seuil 1987, p. 79.

3 – ميخائيل باختين، نفسه، ص 97

4 – ميخائيل باختين، نفسه، ص 97.

5 – بيير زيما: النقد الاجتماعي، ترجمة عايدة لطفي، دار الفكر، القاهرة 1991، ص177.

Pecheux (Michel): Les vérités de la paliceParis Maspéro, 1975, p. 194.

ملاحظة:

الرواية المدروسة، أي “الإخوة الأعداء“، هي من ترجمة إسماعيل المهدوي، دار ابن رشد، بيروت 1979.