مجلة حكمة
فهم الإديولوجيا

في فهم الإديولوجيا

الكاتبمبارك بوالزيت

أول من نظر لـ الإديولوجيا أو ما اتفق اللغويون على تسميته الادلوجة هو دي ترايسي. و قد كان التعريف الأولي الذي وضعه للأدلوجة هو أنها ”علم الافكار” هكذا على وجه الإطلاق. الإديولوجيا مفهوم فائق التشابك و التعقيد، لكن هذا التعقيد يختفي ما أن نقارب الإيدولوجيا على ضوء الابستومولوجيا أو العقلانية العلمية. قد يقال أن الاديولوجيا سياقها هو الرأي و الوهم، باستثناء الرأي الواقعي السديد طبعا، بينما الابستومولوجيا و العلم سياقهما هو الملاحظة و التجريب و الاستنتاج. لا وجود طبعا لتخلص كامل من الإديولوجيا لأنها لابد ملازمة لكل لغة تستعمل كوسيط بين الإنسان و الواقع. كما يصعب جدا التفريق بين الثقافة والإديولوجيا لارتباطاتهما الكثيرة. ويكاد يتفق الدارسون على أنهما تلتقيان و متصاديتان في أوجه عديدة.

  الثقافة هي مجموع العادات و التقاليد التي تربط مجتمعا ما على رقعة جغرافية محددة و تدخل فيها الرموزوالتمثلات وما اتفق الناس على إدخاله في ثقافتهم وجعله موروثا خاصا بهم دون غيرهم. تفهم الثقافة من هذا المنطلق على أنها طريقة عيش وهي كذالك برمجة من نوع ما. هذا في التعريف الأنثروبولوجي لـ الثقافة. والثقافة من جهة أخرى قد تحيل على مجموع الفلسفات والاخلاقيات الجيدة، أو ما قد نجمله في أفضل ما قيل وكتب (بكسر القاف وفتح التاء) وليس للثقافة هنا إلا أن تنفتح على روافد كثيرة تأخذ منها تؤثر فيها وتتأثر بها. و تكون ها هنا ضالة المفكر المتفرد و الطالب المجد، يجمعان ما يجدان من الأفكار المستنيرة بغية الاستفادة والإفادة. يبدو أن الثقافة لا تؤمن بالتعريفات إذ غدت بناءا متجددا بفعل الأفراد تنتج مفردات ومعها معاني جديدة تساير تقدم العصر في المجالات المختلفة. مئات الكلمات تضاف للقواميس مع كل طبعة جديدة لكي لا يبقى الفرد حبيس كلمات قليلة أو وعي منغلق في واقع نام متجدد.

الإديولوجيا مرتبطة أكثر بأهداف جماعة ما. كما في الأهداف التي يسطرها حزب أو مجموعة، وغالبا ما تكون هذه الأهداف نتاج استعمال مقنع لما يمثل أساسا روحيا أو ماديا لتلك المجموعة التي ينتمي إليها الفرد داخل الحزب أو المجموعة. وغالبا ما يذوب الفرد في هكذا جماعات لما توفره من حماية.  الحزب الشيوعي في روسيا، بعدما رأى لينين أن الامبريالية المتوحشة هي النهاية الحتمية للرأسمالية، بنا أسس الحزب على  تنحية الفروقات الطبقية التي فرضتها هذه الأخيرة، وسعى في ذلك كل السعي استنادا الى ‘اليتوبيا’ التي وصفها ماركس أول ما كتب ”الإديولوجيا الألمانية”، حيت أكد على أن محدد الوعي ليس هو المثالية الفوقية كما في فلسفة هيكل، بل الظروف الاجتماعية للأفراد—ماركس قصد طبعا العمال دون غيرهم—وسعى تبعا لذلك للتنبؤ بنهاية الرأسمالية على هذا الأساس. استقلال إرادة الفرد عن ظروفه المادية أقصر طريق إلى تعريف عمل الايدولوجيا.

الإديولوجيا ها هنا تزييف للواقع في سياق ينتجه العمل المضني للعامل المحشور في معامل يصنع فيها وهوالمغلوب على أمره سيارات فارهة كما قد يعبئ طعاما لذيذا لكنه يغادر إلى منزله على معدة فارغة في اغتراب مضن. لكن ما أدرانا و الحق يقال أن هذا العامل غير سعيد كل السعادة و هو في طريقه إلى البيت؟ الإيديولوجيا فيما سبق كأنها قناع يحجب علاقات الاستغلال المادية المختلفة والمولدة لدينامية استغلال محددة في سياق المعمل دون غيره، يتولد عنه اغتراب نفسي وعقلي تفرضه بنية فوقية متحكمة بقوانين زجرية. وحيثما أصبحت القوانين تعبيرا رديئا عما يطمح إليه الأفراد فها هنا تعمل إيدولوجيا المقاومة عملها. وحيت يوجد الاستغلال توجد بالضرورة مقاومة خفية كانت او معلنة. كان يصعب جدا على العامل الأروبي في بداية القرن العشرين قبول فكرة أن يستثمر رب المعمل حتى في راتبه حين يقترح عليه عطلا تقتطع من راتبه الهزيل اصلا قبل أن يعود مجددا إلى مكانه في المعمل.

 في سياق آخر فهم كرامشي و لويس التوسير الأدلوجة كهيمنة خفية (hegemony and interpellation) تجذب وتهيمن على الأفراد كما في الخوف الكامن في نداء الشرطي على فرد أعزل في زقاق فارغ والذي ما يلبث يلملم شحوب وجهه ودقات قلبه المتسارعة. كرامشكي اعتبر الإيديولوجيا تكريسا لهيمنة موجودة والتي تعززها أعين الشرطي و القس والإداري ذو البعد التقني. الإديولوجيا قد تفهم كذلك على أنها عقلية الإنسان ذو البعد الواحد. أو في عقلية فرد يستعمل المطلق لفهم المحدود، أو كالذي يقيس الشاهد على الغائب في غير سياقه على رأي الجابري. اما الاديولوجيا في الفلسفة فهي عندما لا تكون أسئلتها واهتماماتها—أي الفلسفة—مشاكل واقعية من خارج القواميس و اللغة فيستبدل الحس السليم وهموم الإنسانية بكلام مرسل أو معقد. 

 لكن هذا الفهم ما بعد البنيوي في رأي التوسير مثلا يجب أن لا يلغي بالطبع ماهية الفرد الحر الواعي بأغلال الأدلوجة خصوصا عندما تسلب العقل و الحرية كمن فهم الدين على أنه استعباد أو كمن فهم الحرية على أنها خلاعة. أول الحرية هو الوعي بهذه الأغلال ومنه فالفرد الحر العاقل متخلص من الأدلوجة بالضرورة. وهو كذلك واع بما له وما عليه، لا يمارس النقد السلبي، أو هذا الوعي اللحظي بالحقوق وهو لا يؤدي ما عليه من واجبات. كما لا يجب أن يلغي فهمنا لهذا الجانب من الاديولوجيا إمكانية وجود عامل كسول يعمل بشرط وجود زجر و رقابة مستمرة. 

سعت الرأسمالية في مهدها سعيا حثيثا لاستيعاب تناقضاتها الذاتية، فوفرت للعامل المغترب راتبا يقيه غلاء الأسعار وآثار الاغتراب مع استثناءات كثيرة طبعا كما تؤكده نشاطات وتجمعات أحزاب العمال في كل العالم. 

قد تكون الادلوجة انتهت في السياقات التي حددها ماركس وأتباعه. إذ أصبحت تعمل في غير السياق الرأسمالي المحض كما نرى في توجيه نتائج فائض القيمة إلى سياقات هي أشبه بالفيودالية.إن نقيض الإديولوجيا هو العلم. تهرب الإديولوجيا تبعا لذالك من سياقات جغرافية بلغت فيها العقلية العلمية مبلغا لم تترك فيه للأدلوجة موطئ قدم إلى أوطان هشة تستغل فيها شر استغلال. كما في الأهداف التي تسطرها دول رأسمالية لاستهداف دول هشة لكن غنية بمواد تسلب الألباب. أو في جماعات تستغل المقدس لأغراض شخصية أو إستيهامات ذاتيه أو نفسية، ولن نورد الأمثلة هنا لأنها لا تعد ولا تحصى.

 تعمل الادلوجة عملها في الأفلام و القصاصات بغية الربح، تعمل كذلك داخل العائلة الواحدة و بين الأفراد وقد تكون تعبيرا عن حقد لجماعات محددة او لغات او أعراق من طرف جماعات أخرى تعاني من التعبئة العمياء أو الترف السلبي ، فتوجه كل أهدافها إلى جماعات قد لا تكون مؤذية. كما في ما فعله هتلر باليهود أو في ما فعله ستالين بالاكران أو في ما فعله الإسرائيليون بالفلسطينين أو الصينيون بالإيغورأوفي ما فعله الاستعمار بالأفارقة و الأمريكيون بالهنود وهلم جرا بأمثلة كثيرة.

تنتهي الادلوجة ببزوغ شمس الفرد العاقل الحر. الفرد الذي يؤمن بمبدإ التخطيئ العلمي، على أن لا يفهم على وجه الإنكارأوالخوف من الجديد، فلا ينكر الواقع ولا يسلم عقله لأوهام الأدلوجة في مناحيها السلبية، كما في تراكمات العادة، كما في قصة الشيخ و المريد والسيد والعبد. تنتهي الادلوجة—إذا فهمنا أنها براكماتية عمياء—بنهاية الطمع، ولكن هذه النهاية تبدو ربما مستحيلة واقعا، إلا إذا أراد الواحد منا ألا ينظر إلى نتائج استغلال الآخرين للدين أوللإنسان. يجب ألا يفهم أن الاديولوجيا استغلال للدين فقط لأنها تستغل كل شيء. الحرية مطية لها و الشرف كذلك، تستغلل الغرابيب السود والجلابيب البيض وربطات العنق.  وهذا الاستغلال، حين يبلغ مبلغا متوحشا، يأذن بميلاد إديولوجيا ما بعد الإنسان او ما بعد الملة خصوصا في السياقات التي يساء فيها استغلال الدين والإنسان معا لأطماع مبطنة. قد تنتهي الإديولوحيا بموازنة الحق والواجب في ذهن الفرد. وقد تنتهي بانتهاء الفرد السلبي الذي يرى في مصلحة شخصية نهاية يومه. سئل جحا يوما أيهما افضل: السير أمام الجنازة أم خلفها. قال: لا تكن في النعش وسر حيت تشاء.

 أكد كانط على أمرين أوصلا الانسان المستنير إلى ما هو عليه اليوم حيث نادى بالفرد المواطن المتسلح بالواجب الأخلاقي أولا قبل كل شيء، والذي يرى في صلاح مجتمعه صلاحه كذلك في علاقة مجتمعية تكاملية واضحة بغض النظر عن كل الانتماءات الضيقة. نادى كذلك بالفرد الذي فطن لعاداته العمياء والتي طبعا لا تتبدى للفرد إلا بما تحسنه آلة العقل النقدي و تقبحه، فيرحل عنها — أي هذه العادات—إلى غير رجعة. رسم كانط كذالك حدودا للعقل ليترك للاعتقاد حيزا يشغله وهو ربما نفس الحيز الذي تستغله الإديولوجيا شر استغلال إلى اليوم. خير الكلام ما قل و دل. فليضع الفرد منا ثقته في عقله وليس يضع عقله في يد غيره.