مجلة حكمة
هل جدي على القمر

هل جدي على القمر؟

الكاتببراجيا أغارو
ترجمةريناد الحبيشي

إحدى بناتي التوأم البالغة من العمر أربع سنوات مهووسة بـ الموت؛ تريد معرفة كل التفاصيل عنه، وكم ألحت عليّ لأخبرها عما يحدث عندما يموت الناس. في البدء كنت متفاجئةً بعض الشيء من افتتانها بأناس “موتى” كما تسميهم، بيد أنه اتضح لي لاحقًا أنها تستغرق بالتفكير فيه كلما كانت هادئة. تسألني كل ليلة قبيل النوم: “هلّا أخبرتيني  المزيد عن الموت؟ ماذا يحدث عندما يموت الناس؟”

أقول لها “أجسادهم تتوقف عن العمل. قلوبهم تتوقف عن العمل”

“هل هذا ما حدث مع نآنآ؟” نآنآ -والدي وجدهما- توفي في تشرين الثاني من العام الماضي. التقيا به التوأم كان مرة واحدة فقط كان ذلك قبل عيد ميلادهما الثالث حين زرنا الهند في عام ألفين وتسعة عشر؛ إلا أننا حاولنا التحدث بانتظام عبر “الفيس تايم”. كان من المقرر أن نزوره مرة أخرى في أوائل عام ألفين وعشرين، بيد أن جائحة كوڤيد كانت قد ضربت العالم، وشيئًا فشيئًا ازداد أبي مرضًا وضعفًا؛ كما أثرت عليه الوحدة والعزلة -بسبب الحظر الكلي-، ونقص الرعاية الصحية الكافية خلال هذه الأسابيع والأشهر.

بوسع الطفل دون سن المدرسة أن يستوعب الموت، ولكن فقط من خلال كمد والديه. وهذا ما يجري بوضوح هنا، إذ سافرت إلى الهند وبقيت أسبوعًا بعد جنازة والدي، كما كنت منفتحةً للغاية مع أطفالي بشأن حزني؛ أريدهم أن يفهموا أن جدهم قد مات، كما أريدهم أن يعرفوه أيضًا، ولو من خلال ذكرياتي فقط. كما أردت تطبيع الحديث عن الموت جنبًا إلى الحياة، خاصة مع وجود العالم -الآن- في خضم أزمة وبائية غير مسبوقة، يسمع أطفالي حديثي وزوجي عن الموت كثيرًا.

 أُدرك بشدة عدد المرات التي يُنحّى الأطفال عن حديث الموت لأن البالغين مترددون (بل ويتجنبون) مناقشة الأمر معهم؛ إذ يخشون ازعاج أو إخافة أطفالهم أو يقلقون من عدم تمكنهم من استيعاب مفهوم الموت. في بحثٍ أُجري عام ألفين وأربعة عشر بالاستناد على مقابلات مع أولياء أمور ومعلمين لأطفال تتراوح أعمارهم بين ثلاث إلى ست سنوات في الغرب الأوسط الأمريكي، لُمس ميلٌ بين الآباء المعاصرين للافتراض بأن الأطفال غير ناضجين عاطفيا لدرجة تؤهلهم لاستيعاب الموت. ووفقًا لمؤسسة Winston’s Wish الخيرية في المملكة المتحدة، والتي تقدر ثكل طفلٍ واحدٍ في بريطانيا كل إثنتين وعشرين دقيقة (أي ما يقرب من أربعةٍ وعشرين ألف طفلٍ سنويًا) ، لا يزال ثمة تردد واضح من الآباء في مناقشة الموت مع الأطفال، وقصور في فهم حول كيفية معالجة الأطفال للموت. وبدلاً من جعل الموت جزءًا طبيعيا من الحياة، يقوم الآباء بصد وحماية أطفالهم عن حقائق الموت.

أحاول لمس المسائل على مستوى براغماتي وعلمي وقريبة من الحقائق  بما أن الأبحاث تُظهر أفضلية الالتزام بشرح االموت عبر علم الأحياء للأطفال دون سن السادسة. أحاول العثور على كتب مثل “شبكة شارلوت” لِإي. بي. وايت (١٩٥٢) والتي ربما تساعد طفلي ذوا الأربعة أعوام على قبض الموت والخسارة دون اللجوء لبعد روحي وأكابد.

لا يوجد العديد من الدراسات البحثية التي تبحث آثار تواصل الوالدين والتنشئة الاجتماعية على فهم الأطفال للموت، وعلى الرغم من وفرة المواقع الإلكترونية التي تقدم نصائح حول كيفية التحدث مع الأطفال عن الموت، إلا أن معظمها محط تساؤل وتهمل التطور المعرفي للأطفال.نشرت طلبًا على “تويتر” بحثَا عن بعض عناوين الكتب المفيدة، بيد أن الردود أثبتت النقص الواضح في حقول أدب الأطفال الصغار الذين يتطرق لهذا الموضوع بطريقة براغماتية.

لا شك أن طريقة فهمنا للموت قد تغيرت من الناحية البيولوجية على مر السنين؛ فلفترة طويلة كان التعريف السريري للموت هو توقف دقات القلب؛ بيد أنه بوسع الآلات الآن ضخ القلوب المتوقفة؛ فتم تعديل التعريف ليشمل “التوقف النهائي لجميع وظائف الدماغ بالكامل، بما في ذلك جذع الدماغ”.يرتبط الموت السريري في المجتمع الغربي بثمانية معايير:

عدم الاستجابة العفوية لأي منبهات؛ انعدام الاستجابة حتى لأكثر المحفزات إيلامًا؛ قلة التنفس التلقائي لمدة ساعة واحدة على الأقل؛ غياب النشاط الموضعي أو البلع أو التثاؤب أو النطق؛ انعدام حركة العين أو إرماشة أو وميض في بؤبؤ العين؛ انبساط المخطط الكهربائي  (EEG) لمدة 10 دقائق على الأقل؛ اتعدام ردود الفعل الحركية؛ عدم التغير في المعايير المذكورة أعلاه بعد 24 ساعة.  يمكن لاعتبار “موت” شخص في ثقافات أخرى أن يكون أكثر تجريدية وأقل صرامةً؛ ففي بعض ثقافات جنوب المحيط الهادئ على سبيل المثال: حتى عندما يكون الشخص نائمًا أو مريضًا يمكن وصفه بأنه “ميت”؛ لذلك يمكن لشخص ما أن يموت عدة مرات قبل أن يموت من الناحية البيولوجية.

أتذكر المرة الأولى التي بدأ فيها أطفالي إدراك كلمة “مات”، حين رأوا خنفساء في الحديقة لا تتحرك وكانوا يتوسلون إليّ لكي أوقظها: “اجعليها تتحرك يا ماما”. ثم كانت هناك وفاة جارتنا المسنة قبل الحظر الأخير في عام ألفين وعشرين، ولا بد أنهم قد سمعونا نتحدث عنها. “هل ذهبت السيدة إلى مكان ما؟” سألتني إحداهن، ولكن بعد ذلك نسيت الأمر على الفور. بيد أن الأسئلة هذه المرة مستمرة.

من أين يأتي هذا الافتتان بالموت؟ لا يملك الرضع إحساسا به. يمكن للطفل قبل سن الثانية أن يتظاهر بأن الموت لا يحدث إذا لم يبصره. لا يملك الأطفال حسا بالموت حقيقة حتى سن الثالثة. قد يستشعرونه على أنه مختلف لكن لا يملكون حسا راسخا بالخسارة.  وربما يتأثرون برد الفعل العاطفي لوالديهم والقائمين على رعايتهم في حال وفاة أحد من الأسرة المباشرة  أو فقدان حيوان أليف.

كشف تحليل أخصائية علم النفس “ماريا ناجي” عام ألف وتسع مائة وثمانية وأربعين -والذي أصبح الآن كلاسيكيًا- استجابات حوالي ثلاث مائة وخمسين طفلٍ تتراوح أعمارهم ما بين ثلاث سنين إلى عشر سنين عن ثلاث مراحل ملحوظة في الطريقة التي يبدأون بها فهم الموت. فبين سن الثالثة والخامسة لا يزالون يرون الموت على أنه رحلة يمكن للمرء العودة منها، وقد يفهمون فقط أن البالغين في حياتهم يختبئون في ألعاب مثل الغميضة ثم يظهرون ثانية، أو أن والديهم يختفون في رحلات عمل لكنهم يعودون في وقت ما. لا يملك الأطفال دون سن الخامسة فكرة عن الانفصال حيث يفهمون أين يتواجد الميت.  بدلاً من ذلك يجسدون الموت ويفكرون فيه أحيانًا على أنه “الذهاب للنوم”. يصعب عليهم استيعاب مفهوم الديمومة. أظهرت دراسة ناجي أن الأطفال يعتقدون أن الموت مؤقت. يمكنهم استيعاب أن القلب يتوقف عن النبض، ولكن في كثير من الأحيان لا يمكنهم سوى التركيز على مفهوم واحد فقط في كل مرة، ويصعب عليهم فهم المدة التي سيستمر به الموت. يحاول الأطفال تبرير الديمومة عبر شرح أن الجنة بعيدة جدًا أو أن صندوق الكفن مغلق بإحكام بحيث يتعذر على الشخص المتوفى العودة. يبدأ الأطفال في سن السادسة تقريبا بفهم عدم انعكاسية الموت. ويفهمون تدريجيا السبب: أن فقدان وظائف الجسم يؤدي إلى الموت.

وفقًا لنموذج التطور المعرفي لعالم النفس السويسري “جان بياجيه” في عشرينيات القرن الماضي، والذي هو إعادة صياغة لنموذج سابق لعالم النفس الأمريكي “جي إم بالدوين”، ثمة تركيب منطقي لتشكيل الأطفال الصغار مخططات للعالم من خلال أفعالهم العقلية والجسدية. يقوم الأطفال بتجديد هذه المخططات تزامنَا مع حصدهم المزيد من المعرفة ومع اتساع نظرتهم التي كانت متحورة حول الذات لتشمل وجهات نظر أخرى ومفاهيم أكثر تجريدًا. وفي سن السادسة أو السابعة تقريبًا يدخل الأطفال ما أسماه “بياجيه” “مرحلة العمليات المادية المحسوسة” والتي تمكنهم من المزيد من التفكير المنطقي والاستنتاج: يبدو أنهم يفهمون عالمية الموت الآن، على الرغم من أنهم لا يزالون مرتبكين حول  ما يحدث عقب ذلك مباشرة.

حتى في هذا العمر، لا يزال بعض الأطفال يعتمدون على التفكير السحري لفهم الموت وربطه بشخصية يمكنهم تعيينها مثل شبح أو تجسيد مثل قابض الأرواح على سبيل المثال. ولكن مع انتقالهم إلى “مرحلة العمليات الشكلية المجردة” في حوالي سن الثانية عشر عامًا، فإن اتساع قدرتهم على التفكير العلمي يسمح لهم بإدراك مفاهيم أكثر رمزية وتجريدية عن الموت، بما في ذلك منظور نظري حول كيفية تصور الموت.قد يتسبب إخبار الأطفال بأن أحبائهم “في سلام الآن” أو أنهم “سعداء في الجنة” بزيادة الطين بلة.

 ينشأ فهم الأطفال للموت أيضًا من خلال خلفياتهم الثقافية والدينية وتجاربهم الحياتية الفريدة. تقدم وجهة نظر عالم النفس الأمريكي الروسي “يوري برونفنبرينر” إطارًا تنظيميًا مهمًا لفهم كيفية تأثير بيئة الأطفال على نموهم، وهو ما أطلق عليه في السبعينيات اسم “نظرية النظم البيئية”. يمكن أن تشمل هذه النظم البيئية الأسرة الممتدة بما في ذلك آرائهم وردود أفعالهم تجاه الموت، كما تضم بيئة المدرسة والأصدقاء والثقافة الأعم والأشمل. في دراسة أجريت في الهند عام ألفين وتسعة عشر وجد الباحثون أن الأطفال في سن ما قبل المدرسة أظهروا فهمًا أكثر نضجًا لعالمية الموت واستحالة العودة منه، مقارنة بفهمهم لمسألة توقف جميع وظائف الجسم. وفي دراسة أجريت في عام ألفين وأربعة عشر على مائة وثمانية وثمانين طفلٍ (منهم مسلمون بريطانيون وبريطانيون من البيض يسكنون لندن، ومنهم مسلمون باكستانيون يعيشون في ريف باكستان) ونُشرت في المجلة البريطانية لعلم النفس التطويري؛ وُجد أن الحياة الريفية أيضًا من شأنها التأثير على مفاهيم الموت؛ بحيث أن أطفال المسلمين الباكستانيين فهموا مبدأ استحالة العودة في وقت أبكر من الأطفال في كلا المجموعتين البريطانيتين.

للتعرض للموت والحرب والاضطرابات تأثيره أيضًا. يتضح هذا من خلال نظرية الهياكل المفاهيمية المركزية، وهي نظرية نيو-بياجيه اقترحها عالم النفس الكندي “روبي كيس” في التسعينيات، حيث اقترح أن الأطفال يتنقلون ذهابًا وإيابًا بين مراحل النمو والاستراتيجيات المختلفة حتى يتمكنوا من تطوير نهجٍ أكثر تكاملية في حل المشاكل. وربما وقفت اللغة المستخدمة عقبة أمام الطريقة التي يفهم بها الأطفال اختلاف الموت عن النوم، أو أنه ما من سبيل للعودة منه، بيد أن قدرتهم المعرفية لا تقف بالضرورة حائلًا أمام ذلك. ففي كثير من الأحايين يشرح البالغون الموت لأطفالهم بقولهم أن أحبائهم “في سلام الآن” أو “أنهم سعداء في الجنة”، الأمر الذي من منظور النمو المعرفي للطفل قد يتسبب في مضاعفات بما يتعارض مع فهمه البيولوجي للموت أو إزاحة المشاعر السلبية حول لماذا اختار الشخص المغادرة في المقام الأول، الإيعاز بأنه ذنبهم بطريقة ما لو غادروا.

ربما كان أسهل شيء بالنسبة لي هو إخبار أطفالي أن جدهم قد رحل ولن يعود أبدًا، فهذا هو ما يحدث عندما يموت الناس. بيد أنني لم أبلغ -بعد- مبلغًا يمكنني من أن أتحدث فيه عن رحيل والدي إلى الأبد. يبدو أن أطفالي يتصارعون الآن مع فكرة الاستمرارية، وهو شيء يجب أن أذكر نفسي به أيضًا من خلال محادثاتي معهم بأن والدي لن يعود. يمكنني أحيانًا أن أغمض عيني وأتخيله لا يزال هناك، في الهند، وأنسى حقيقة أنه لم يعد موجودًا. إن المسافة التي تفصلنا بآلاف الأميال تعني أنني كنت أفتقده دائمًا، منذ أن انتقلت إلى المملكة المتحدة قبل عشرين عامًا، وأحاول الآن تبيّن كيف أبدأ حزني على خسارته في حين كنت دائمًا في حزن على ابتعادنا.

وبطريقة ما، أعتقد أن دورة الحزن ليست مختلفة عند الكبار. المرحلة الأولى من الحزن والخسارة تكون مثقلة بالذنب، ومن نفس منطلق الأطفال الصغار العالقين في منظور العالم المتمحور حول الأنا بحيث لو جرى أي خطأ فلابد أن يكون ذنبهم؛ لا أزال أحمل نفسي ذنبًا: لو أنني تحدثت إلى والدي أكثر… لو أنني زرت الهند أكثر.. لو أنني فقط اعتنيت به. نواصل السير في هذا الطريق المعذّب، ونطرح أسئلة على أنفسنا ونوبخها ونحاول السيطرة على العجز الذي نشعر به. يفعل الأطفال الشيء ذاته ليس بقصده وسيلة لاستعادة بعض السيطرة، ولكن لأنهم حتى سن السادسة أو السابعة تكون دائرة مرجعياتهم صغيرة جدًا بحيث لا يرون العالم سوى من منظورهم فقط، ولم يستوعبوا بعد بأن الأشياء يمكن أن تبدو مختلفة باختلاف الأشخاص.

على الرغم من أنني وأطفالي نظرنا -في الصيف الماضي- إلى دورة حياة الفراشات والضفادع، وتحدثنا عن أنه عندما تموت حشرة، فهناك أخرى تفقس من البيض، وقد أخذوا هذه المسألة كشيء يحدث في الطبيعة، ولم يربطوها بالحوادث التي تحدث لنا أيضًا. إيسهل على الأطفال فهم الجانب البيولوجي للموت، بل حتى حتميته، بحيث يدركون أنه عندما يكبر أحدهم فالنتيجة الحتمية هي الموت؛ أو عندما يتأذون وينزفون الكثير من الدماء فإنهم قد يموتون؛ أو عندما يختنقون ولا يستطيعون التنفسفقد يموتون أيضًا. بيد أن المستوى الروحي لا يزال غائمًا عندهم. ترى أحد توأمي مقبرة عند عبورنا الكنيسة، ولديها العديد من الأسئلة حول ما يحدث للأشخاص تحت شواهد القبور. وجدتها في صباح اليوم التالي فوقي تسأل عما إذا كان بوسعنا إنقاذ جميع الأشخاص من القبور وإطلاق سراحهم. بطريقة ما، تتماشى فكرة تحريرهم مع الإيمان بأن الروح تنتقل إلى بُعد آخر بعيدًا عن دائرة الحياة والموت.

“هل يمكن أن نعيد نىنآ إلى هذه الغرفة حتى وإن كان مسجىً على الأرض؟” ثم تكلمت إحداهن فجأة: “إلى أين يذهب الناس بمجرد موتهم؟” وفي الحقيقة، لست متأكدةً من أين توصلوا إلى فكرة أن الجثة يجب أن توضع على الأرض.

أستحضر الآن الطقوس الجنائزية الهندوسية التي يوضع فيها المتوفى على الأرض، وأصابع قدمه مقيدة بخيط، وأقدامهم موجهة إلى الجنوب، باتجاه إله الموت “ياما”. لم يحدث أي منها عند وفاة أبي. لم أكن هناك أيضًا؛ كان يجب أن تُحرق جثته على عجالة، أيّ في غضون ساعات قليلة من وفاته، ومع عدد قليل من أفراد العائلة المقربين بسبب قيود فايروس كورونا. لم تكن هناك أية ترانيم أو تلاوة تعويذات، ولم تحرق جثته بالقرب من نهر الغانج. كان لا بد من حرقها بسرعة في محرقة كهربائية ولم أرى جسده الميت. كل شيء يبدو غير واقعيًا، سرياليًا حتى. هل حدث ذلك بالفعل، حتى لو لم أشاهده؟

من شأن حضور الجنائز أن يساعد الأطفال على الاعتراف بالموت والتعرف عليه، مما ينتج عنه إراحتهم ومعونتهم.

ومثل أطفالي، لا أعرف حتى مكان تواجد الناس عند موتهم. هل يختفون في الأثير؟ بينما كانوا هنا، قبل دقيقة واحدة يتنفسون أو ربما يصرخون ويغتاظون أو يضحكون،  ربما كانوا محبطين وربما بدوا فخورين وسعداء أو محزونون، ثم في الثانية التالية، وبضغطة زر، ينتفي وجودهم. كيف يحدث هذا؟ عقلي عاجز عن فهمه. باعتباري شخصً ذا نشأة هندوسية، ولكن لا يتبع أية أيديولوجية دينية، فأنا مترددة حيال فرض مفاهيم الجنة أو الخلود على أطفالي. ومع ذلك، بوسع الممارسات والعادات التي تدل على الخلود الرمزي أن تساعد الناس -وخاصة الأطفال- مواجهة الشعور بالموت. وفقًا لنظرية السيطرة على الفزع (TMT) التي اقترحها “جيف جرينبيرج” و “شيلدون سولومون” و “توم بيزكزينسكي” في عام ألف وتسع مائة وستة وثمانين المشتقة من “إنكار الموت” (1973) الكتاب الحائز على جائزة بوليتسر لعالم الأنثروبولوجيا الأمريكي “إرنست بيكر”، والذي يقترح أن من شأن المعتقدات الثقافية والهروب من الواقع التخفيف من رعب الأطفال وقلقهم حيال الموت والفناء.

 اقترحت عالمة النفس الأسترالية “فيرجينيا سلوتر” نموذجًا للمفاهيم الفرعية التي يوسع الأطفال من خلالها فهمهم للموت عبر طبقات مختلفة من علم الأحياء والروحانية.  يُنظر إلى الموت في بعض الثقافات على أنه جزء لا يتجزأ من الحياة. تحدثت عالمة الأنثروبولوجيا الثقافية الأمريكية كيلي سوازي في محاضرة ألقتها عبر منصة “تيد” بعنوان “الحياة التي لا تنتهي بالموت” (٢٠١٣)، عن سكان تانا توراجا في شرق إندونيسيا، والذين يشيرون إلى الشخص الميت على أنه شخص “مريض” فقط أو “نائم”. حيث يتم وضعه للراحة في غرفة احتياطية تستمر فيها جميع الطقوس اليومية للتغذية والرعاية، وتظل جزءًا لا يتجزأ من حياة الأسرة. خلال هذه الفترة الانتقالية، يمكن لأفراد الأسرة الأصغر سنًا التعرف على تلك المسافة الفاصلة بين الحياة والموت.

تساعدنا الطقوس -على نحو حاسم- التنفيس عن المشاعر التي قد نقمعها بطريقة أخرى. فعلى سبيل المثال: يمكن للأطفال أن يتعلموا كيفية التعامل بشكل أفضل مع ديمومة الموت إذا سُمح لهم بحضور الجنازة. أظهر خبراء أمريكيون درسوا الفاجعة وهم “فيليس سيلفرمان” و “جي ويليام ووردن” أن من شأن حضور الجنائز معاونة الأطفال على الإقرار بالوفاة، كما إراحتهم ومعونتهم. شملت دراستهم المجراة عام ألف وتسع مائة واثنين وتسعين، مائة وعشرين طفلاً ثكلًا، سُمح لخمسة وتسعين في المائة منهم بحضور الجنازة، وبعد عامين، أقر هؤلاء الأطفال بأن حضور الجنازة كان مهمًا في مساعدتهم على قبول الوفاة، كما في تلقي الدعم والراحة. كما أفاد علماء النفس السريريون الأمريكيون “ماري فريستاد” و “جولي سيريل” وزملاؤهم في دراسة أجريت عام ألفين وواحد أن جوانب معينة من الطقوس الجنائزية مثل الموسيقى والقراءات كانت ذات أهمية حاسمة في مساعدة الأطفال خلال هذه الأحداث المشحونة عاطفياً. وجدت دراستهم التي شملت ثلاث مائة وثمانية عشر شخصًا تتراوح أعمارهم بين الخامسة وحتى العام السابع عشر، أن الأطفال قد وصفوا المشاركة النشطة -اختيار الزهور على سبيل المثال- بالفائدة، كما أن رمزية الطقوس، مثل عزف أغنية مفضلة، جلبت لهم الراحة على المدى الطويل.

كما من شأن الطقوس ورواية القصص ومداعبة الأطفال التخفيف من الاضطرابات العاطفية لديهم ومعاونتهم على الإفصاح عن المشاعر التي قد يجدون صعوبة في التعبير عنها بطريقة أخرى. أتذكر عند وفاة جدي في السادسة أو السابعة من عمري، ذهبنا قاصدين البقاء في منزله لأسبوعين، ومن خلال جميع الطقوس الهندوسية التي استمرت حتى اليوم الثالث عشر حيث كانت تُقرأ الصلوات لتحرير روحه وخلاصها؛ كان جميع أبناء العمومة هناك، فكان لدى الأطفال مجموعة من الأقران من مختلف الأعمار بمثابة السند أمام خسارتنا وحزننا.

تغيرت تجربة الموت في الأسر المعاصرة بشكل ملحوظ عن السالف؛ نظرًا لأن العديد من الأطفال لا يشهدون حدث وفاة في أسرهم (المباشرة) حتى يكبر أفرادها. أما في الماضي البعيد، فقد كان الموت جزءًا كبيرًا جدًا من الحياة اليومية  نظرًا لارتفاع معدلات الوفيات، كما كانت معظم الوفيات تحدث في المنزل نتيجة للمرض. ونظرًا لأن الناس كانوا عادة ما يعيشون في مجتمعات وأسر كبيرة مترابطة؛ كان انخراط الأطفال في الطقوس الجنائزية جزءًا كبيرًا منها. بيد أن الأمر تغير مع انتقال العائلات بعيدًا، ومذ بدأ الناس بالعيش مدة أطول. انتقلت العديد من هذه الطقوس التقليدية إلى ممارسات عصرية مما يؤثر على كيفية إدراك الأطفال لحقائق الموت. حتى في الثقافة الأيرلندية والتي عادةً ما تعد في مصاف أكثر الثقافات وعيًا بالموت، تُولي أهمية كبرى للبعد الاجتماعي في التعامل مع الموت؛ إذ استبدل تقليد السهر على الجثة في المنزل  بطرق أسرع  مما قلل من مشاركة الأطفال في طقوس الموت وزاد من مسؤولية الآباء والمعلمين لجعل تعليم الحزن جزءًا من تعليم الأطفال.

 في الأيام هذه، ومع تفرق العائلات حول العالم، يواجه الكثير منا موت أحد الأحباء على بعد مسافة لا يمكن عبورها، الأمر الذي أعده من تبعات الوباء المعاصر؛ حيث أصبح من الصعب على الأطفال فهم كيف أن الشخص الذي كان بعيدًا بالفعل لم يعد موجودًا بالفعل. هذا الشعور بالخسارة -على الرغم من أنه قد يكون غائمًا- إلى جانب عدم وجود مساحة للتحدث عن مشاعرهم، يمكن أن يكون من الصعوبة بمكان عند الأطفال. في خضم كارثة “كوڤيد-١٩” في الهند، اكتظت وسائل التواصل الاجتماعي وبالأخص مجموعات الـ”واتس أب” WhatsApp العائلية كل يوم بأخبار موت أشخاص من الأصدقاء أو العائلة، وظللت أفكر في جيل من الأطفال سيكبرون دون أن يعرفوا أسلافهم أبدًا. سيتعين على المغتربين الآن التحدث إلى أطفالهم حول وفاة أحد الأحباء على بعد آلاف الأميال. هؤلاء الأجداد والأعمام والعمات الذين التقاهم الأطفال فقط عبر منصة “زوم” Zoom أو “فيس تايم” FaceTime من خلال ميادين رقمية. لا يدرك الأطفال -في كثير من الأحيان- ديمومة الموت إلا عند فقدهم الشخص المُتوفى. ويصبح هذا صعبًا -بشكل خاص- عندما يغيب معنى فقدان شخص بالغ. يصعب تفسير المسافات الفاصلة، كما يصعب استيعاب فقد الأشخاص الذين لا نراهم بشكل دوري لأن فكرة “الفقد” مستحيلة عندما لا يكون الشخص حاضرًا أصلًا في حياة الطفل.

من الواضح أن الأطفال لديهم القدرة على فهم الموت خاصة من منظورٍ أحيائي بيولوجي. وهو أمر عام وشائع، ولكن من الواضح أيضًا أن النضج العاطفي للأطفال يعتمد على بيئاتهم ومعتقداتهم الدينية أو الروحية. وهذا ليس عام.

 قد يعتقد الأطفال الذين نشأوا على معتقدات حول الحياة الآخرة مثلا  أن الوظائف الجسدية والعقلية تستمر بعد الموت، كما يستمر الشخص في العيش بطريقة ما. يمكن أن يكون هذا مريحًا للأطفال في مواجهة وفياتهم. يعتقد سكان قرية فيزو في ريف مدغشقر أنه بينما تتوقف الوظائف الجسدية، يمكن أن تستمر بعض الوظائف العقلية كالمعرفة والتذكر. أظهرت دراسة أجريت عام ألفين وعشرة على سكان القرية أنه حتى الأطفال البالغين من العمر خمس سنوات لديهم بالفعل فهم جيد للأساس البيولوجي للموت بوصفه توقفًا. حيث يشهدون ذبح الحيوانات، كما يحضرون الجنائز والمآتم، بالإضافة إلى أنهم مرغمين على النظر إلى والديهم المتوفين بغرض “إدراك” حقيقة أنهم لن يروهم مرة أخرى أبدًا. وبحلول سن الثانية عشرة، بدأ هؤلاء الأطفال بتطوير مفهوم مزدوج قوي للموت حيث تتكامل فيه الأبعاد البيولوجية والروحية معًا.

يتشكل فهم الطفل للموت إلى حد كبير عن طريق المحادثات التي يخوضها الكبار معهم لمنحهم مساحة للتحدث وطرح أسئلتهم لمساعدتهم على فهم إمكانية أن يكون هناك أكثر من تفسير واحد لما يحدث لشخص ما عندما يُتوفى. يمكن أن تساعد مثل هذه المحادثات الأطفال على استيعاب أنه حتى مع توقف الوظائف البيولوجية، فلا يزال من الممكن الإيمان بالحياة بعد الموت، أو أن المعتقدات الروحية يمكن أن تتوافق مع النموذج العلمي للموت.

“ربما يذهبون إلى القمر. أتخالين نآنآ قد ذهب إلى القمر؟”

لست ملتزمة دينيًا، بيد أنني لا أزال أرغب بالتصديق أنه، أجل، ربما ذهب والدي إلى القمر، ومن هناك ينظر إلينا.

“كيف وصل إلى القمر؟ هل ذهب على صاروخ خاص؟ من يقود هذا الصاروخ؟”

تأتي المداخلات الأخرى: “ربما هناك طيار يعرفه”.

تركتهن يكتشفن الأمر بينهن، الطريقة التي بدا الأمر بها أسهل. أبقى هادئةً على أمل أن يخلدن إلى النوم. أستلقي هناك في الظلام متماهية مع أفكاري لأربط جميع الأطراف السائبة عبر الأجيال ببعضها البعض، تلك الخيوط الملتوية من الحمض النووي التي تبدو مثل خيط احمر من البوجا على معصمي، ذلك الخيط الذي صنعناه لأبي في الهند في اليوم العاشر من وفاته. الخيط، مثل الحب الذي نكنه لبعضنا البعض، حتى وإن لم نصرح به. أخذت نفسًا عميقًا، رحت أتساءل عما إذا كان هذا مجرد خيال، أو ما إذا كان مفتاح حزني يكمن في هذا التفكير السحري والحالم المتمني، هذا العالم السحري الذي استحضرنه.

وعلى الرغم من اعتقادي بأنني أساعد أطفالي على فهم فكرة الموت، وأنا أعلم جيدًا الآن مدى أهميتها في نموهم الصحي، فقد بدا لي أن أسئلتهم ربما تعينني في التعامل مع حزني وخسارتي بشكلٍ أكبر عن طريق التحدث عن الموضوع على نحوٍ غير ممكن في كثير من الأحيان التحدث به مع البالغين حولي.

أتذكر عالمة النفس الأمريكية “أليسون جوبنيك” التي قالت إن عقول الأطفال مهيأة للتعلم، ومع تقدمنا في السن كبالغين، نبدأ في أخذ الكثير من الأمور بصفتها مسلمات. وعندما نأخذ الأمور على هذا النحو نجد صعوبة في إغفال ما نعرفه مسبقًا لأجل طرح الأسئلة الصحيحة. ثمة إمكانية للسحر والخيال في محادثاتي مع أطفالي، هناك فرصة لإعطاء مساحة لعالم بديل حيث قد لا يزال والدي موجودًا، وضمن هذه المساحة، لا تبدو أسئلتي حول الموت عرضية أو في غير مواضعها. بدأت أتنبه عبر أسئلتهم  إلى أني قلما سألت نفسي والآخرين من حولي لمساعدتي خلال عملية الحزن هذه، وكم حاولت التركيز على بقاء الأمور على ما يرام، حتى عندما لم تكن كذلك حقًا في أعماقي.

نظرًا للغياب الحالي للطقوس والممارسات الجنائزية الممتدة وفترات الحداد والتجمعات العائلية الكبيرة، ربما نحتاج إلى المزيد من الواقعية السحرية ورواية القصص. ربما يكون صاروخ سحري ورحلة إلى القمر هو الجواب في الوقت الحالي. ربما في محاولة التعامل مع الموت والخسارة، بدلاً من شرح المشكلة بطريقة عملية وعلمية، يجب أن يكون الانبهار الطفولي والفضول بشأن الموت (والحياة) إحدى الخطوات التي نتخذها. ربما هذا هو الجواب.

المصدر