مجلة حكمة
من هو هربرت سبنسر

هربرت سبنسر: فلسفته وأعماله الكاملة

مدخل حول المبادىْ الأولى لـ هربرت سبنسر وأسس علمي الاجتماع والنفس، والنفعية الليبرالية لـ  سبنسر؛ نص مترجم لد. ديفيد واينستين، ومنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة)، ومن ترجمة: حسام جاسم، محمد الرشودي، سيرين الحاج حسين. ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد يطرأ عليها بعض التعديل من فينة لأخرى منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم، واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة. نسخة PDF


من هو هربرت سبنسر؟

يعتبر هربرت سبنسر (1820–1903) عادة من دعاة الداروينية الاجتماعية وإن كان هذا الاعتبار خاطئًاًّ تمامًا. فسبنسر هو من صاغ التعبير الشائن “البقاء للأصلح” وليس داروين، الأمر الذي دفع جي. إي. مور (G. E. Moore) إلى استنتاج خاطئ في كتابة (أسس الأخلاق) (1903)، وهو أن هربرت سبنسر ارتكب المغالطة الطبيعية. وفقًا لمور، كان المنطق العملي لهربرت سبنسر معيبًا للغاية، حيث زُعم أنه خلط بين مجرد البقاء على قيد الحياة (خاصية طبيعية) وبين الخير ذاته (خاصية غير طبيعية).

وبعد ما يقرب من خمسين عاما، كرس ريتشارد هوفستاتر (Richard Hofstadter) فصلاً كاملاً من (الداروينية الاجتماعية في الفكر الأميركي) (1955) لـ هربرت سبنسر، زاعماً أن رواج سبنسر المؤسف في أواخر القرن التاسع عشر في أميركا كان سبباً في إلهام أندرو كارنيغيAndrew) Carnegie) ورؤى ويليام جراهام سومنر (William Graham Sumner) للرأسمالية الجامحة والوقحة. في نظر هوفستاتر، كان سبنسر (محافظاً للغاية) وكان الفقراء بالنسبة له مخلفات غير صالحة. كانت فلسفته الاجتماعية “تتماشى” مع ردود الفعل، الأمر الذي جعلها لا تزيد إلا قليلاً عن “اعتذار بيولوجي عن سياسة عدم التدخل” (راجع Hofstadter, 1955: 41 and 46). ولكن لمجرد أن كارنيغي فسر نظرية هربرت سبنسر الاجتماعية على أنها تبرر المنافسة الاقتصادية القاسية، فلا ينبغي لنا أن ننسب مثل هذه المعتقدات تلقائيًا إلى سبنسر. وإلا فإننا نجازف بقراءة حقيقة مفادها أن سبنسر أحدث تأثير على عامة أهل الداروينية الاجتماعية في تفسيرنا له. ونحن نجازف بالوقوع ضحية لما يسميه سكينر بإدراك “الأساطير المرتبطة بالاستدلال”.

لم تسلم سمعة هربرت سبنسر بشكل كامل من التشويه التفسيري المبالغ فيه الذي صورة مور وهوفستاتر، مما أدى إلى تهميشه إلى المناطق النائية للتاريخ الفكري، رغم أن المنح الدراسية الأخيرة بدأت في استعادة إرثه وإصلاحه. ومن حسن الحظ أن بعض الفلاسفة الأخلاقيين بدءوا في إعادة تأهيله يقدرون مدى أهمية تفكيره العملي بشكل أساسي. وعلى نحو مماثل، بدأ بعض علماء الاجتماع في إعادة تقييم سبنسر. تتم إعادة كتابة التاريخ الفكري إلى الأبد لأننا بالضرورة نقوم بإعادة تفسير نصوصه الأساسية وأحيانًا نعيد ترشيح المفكرين المهمشين للنظر القانوني.

يحتم علينا تغير الموضات الفلسفية والأجنـدات الأيديولوجية إعادة بناء تراثنا الفكري باستمرار بصرف النظر عن الانضباط. ولنأخذ النظرية السياسية كمثال. كان انشغال أشعيا برلين (IsaiahBerlin)  بمفهوم الشمولية دافعًا له لقراءة توماس هيل غرين (T. H. Green) وبرنارد بوزانكيت (Bernard Bosanquet) بصفتهما متواطئين عن غير قصد بقدر ما يُزعم أن كلاهما يعادل الحرية مع هيجلية جديدة (neo-Hegelian) غنية إلى حد خطير بشأن تحقيق الذات. و للأسف أن إعادة البناء الأيديولوجي لليبراليين الجدد (new liberals) من أمثال غرين وبوزانكيت مستمرة إلى حد كبير (راجع Skinner, 2002: 16).

ولكن مع تحول مشاعرنا الإيديولوجية فقد بات بوسعنا الآن أن نباشر إعادة قراءتها بتحيز أقل. ويمكن قول ذلك أيضًا حول الكيفية التي نستطيع بها الآن إعادة قراءة الليبراليين الإنجليز المهمشين في القرن التاسع عشر مثل هربرت سبنسر. ومع تلاشي ظل الشمولية الأوروبية، تتغير العدسة التي نصنع من خلالها التاريخ الفكري ويمكننا بسهولة قراءة سبنسر كما كان ينوي أن يُقرأ أو على وجه التحديد باعتباره نفعياً يريد أن يكون ليبرالياً بنفس القدر. وكمثل جون ستيوارت مِل ( J. S. Mill)، كان سبنسر يناضل لجعل النفعية ليبرالية أصيلة بغرسها بمبدأ المطالبة بالحرية والحقوق الأخلاقية القوية. فقد كان على اقتناع مثل مِل، بأن النفعية يمكن أن تتكيف مع الحقوق بقوة أخلاقية مستقلة ومع ذلك تظل عواقبيه حقا. ويمكن عند تفسيرها بشكل جيد أن تحاكي النفعية الليبرالية الأخلاقية بشكل أفضل.

1. المبادئ الأولى

2. أسس علم الاجتماع عند سبنسر

3. النفعية “الليبرالية” لـ هربرت سبنسر

4. النفعية العقلانية مقابل التجريبية

5. الحقوق السياسية لدى هربرت سبنسر

6. الخلاصة

• المراجع

المصادر الأولية: (أعمال هربرت سبنسر)

المصادر الثانوية

• الأدوات الأكاديمية

• مصادر الإنترنت الأخرى

• مداخل ذات الصلة


1. المبادئ الأولى

كان إنتاج هربرت سبنسر شاسعاً، حيث غطى العديد من التخصصات الأخرى إلى جانب الفلسفة، مما صعّب فهم فلسفته بشكل منفصل عن كتاباته غير الفلسفية. وهناك الكثير لنفهم سبنسر منه، أي عدة آلاف من الصفحات المطبوعة[2]. وإلى جانب الأخلاق والفلسفة السياسية، كتب سبنسر باستفاضة عن علم النفس، وعلم الأحياء، وخاصة علم الاجتماع. وتمر موضوعات معينة وفق السياق عبر الكثير من هذا المقال. يتطلب التعامل مع سبنسر وقياس إرثه خبرة في كل هذه المجالات، وهو ما لا يتمتع به أحد اليوم.

على الرغم من هذا التحذير، يبدو من الإنصاف القول أنه بجانب الأخلاق والفلسفة السياسية، كان تأثير هربرت سبنسر الدائم أكثر وضوحًا في علم الاجتماع. وفي كثير من النواحي فإن علم الاجتماع يؤسس ويوجه الأخلاق والفلسفة والسياسة. وعلى هذا فمن الأفضل أن نناقش مسألة علم الاجتماع أولاً قبل أن ننتقل إلى نظريته الأخلاقية والسياسية.

ولكن تبني نظريته الاجتماعية يتطلب معالجة مع البديهيات الأولية التي تقوم عليها “الفلسفة التركيبية” بأكملها، والتي تتألف من (أسس علم الأحياء) (The Principles of Biology) (7-1864)، و(أسس علم النفس) (The Principles of Psychology) (1855 و (2-1870)، و(أســــس علم الاجتماع) (The Principles of Sociology ) (96–1876) و(أسس الأخلاق) (The Principles of Ethics) (93-1879).

صدرت (المبادئ الأولى) (First Principles) في عام 1862 كبداية بديهية للفلسفة التركيبية، وانتهت بإصدار المجلد النهائي من (أسس علم الاجتماع) عام 1896. على الرغم من التنكر في شكل الفيزياء التأملية لمنتصف القرن التاسع عشر، فإن (المبادئ الأولى) ميتافيزيقية في الغالب وتشمل جميع التغيرات غير العضوية والتطور العضوي. تهدف الفلسفة التركيبية إلى توضيح تفاصيل مجنونة في كثير من الأحيان مما يلي المبادئ الأولى.

وفقاً لـ هربرت سبنسر في (المبادئ الأولى)، يوجد ثلاثة مبادئ تنظم الكون، وهي قانون استمرار القوة، وقانون عدم استقرار المتجانس وقانون تعدد التأثيرات. وعلى الرغم من تجانس الكون في الأصل، إلا أنه أصبح غير متجانس بشكل متزايد، وذلك لأن القوة أو الطاقة تتوسع بشكل غير موحد. فالتجانس غير مستقر لأن القوة غير مستقرة ومتغيرة. وبسبب قانون تعدد التأثيرات، فإن العواقب غير المتجانسة تنمو بشكل أكبر (أضعاف مضاعفه)، مما يؤدي إلى تسارع وتيرة التجانس إلى الأبد وتطورها إلى عدم التجانس. يفترض سبنسر ولو بشكل غير قطعي أن الكون سيتوازن في النهاية، ويذوب نحو التجانس.

وباستخدام مصطلحات هربرت سبنسر الأخرى، يصبح الكون أكثر تعقيداً باستمرار، وينقسم إلى الأبد لمجموعات متنوعة. ومع تزايد تمايزها، تصبح مكوناتها متباينة بشكل أكبر، مما يؤدي إلى تسريع العملية بالكامل وجعل الكون غير متجانس بلا نهاية إلى أن يحدث التوازن. أو بشكل أكثر بساطة:” يمكن تعريف التطور على أنه تحول من تجانس غير متماسك إلى عدم تجانس متماسك، يصاحبه تبديد الحركة وتكامل المادة.”(راجع Spencer, 1915: 291).

بالنسبة لـ سبنسر، فإن كل الظواهر العضوية وغير العضوية كانت تتطور، وأصبحت متكاملة وغير متجانسة بشكل دائم. وكما أكد هربرت سبنسر بعد أعوام، فإن هذا يحمل التطور الاجتماعي البشري نفس القدر من الأهمية:

 الآن، نقترح في المقام الأول بيان أن قانون الارتقاء العضوي هو قانون كل تقدم. سواء كان ذلك في تطور الأرض، وفي تطور الحياة على سطحها، وفي تنمية المجتمع، الحكومة، المصنوعات، التجارة، اللغة، الأدب، العلوم، والفن، فإن هذا التطور نفسه من البسيط إلى المركب من خلال أوجه تمايز متعاقبة، يستمر في الحدوث. وسنجد من التغييرات الكونية الأولى التي يمكن تتبعها وصولاً إلى النتائج الأخيرة للحضارة، أن تحول المتجانس إلى غير المتجانس، هو الذي يتكون فيه الارتقاء أساسًا. (راجع Spencer, vol. I, 1901: 10)[3].

باختصار، لم تصبح المجتمعات البشرية أكثر تعقيدًا وتباينًا وتماسكًا فحسب. لقد أصبحت مترابطة بشكل أكبر وأصبحت مكوناتها، بما في ذلك أعضاءها، أكثر تخصصًا وتميزاً.

2. هربرت سبنسر وعلم الاجتماع

كتاب (أسس علم الاجتماع) لـ هربرت سبنسر

غالبًا ما يعتبر (أسس علم الاجتماع) (The Principles of Sociology) أساسيًا في تطوير علم الاجتماع الحديث من حيث طريقته وكثير من محتوياته. مليء بأمثلة لا نهاية لها من الماضي البعيد والماضي القريب والحاضر، تصف الشكل الكامل للتطور الإجتماعي البشري[4]. فالجزء الخامس، (المؤسسات السياسية) (Political Institutions) وثيق الصلة بشكل خاص بفهم أخلاقيات هربرت سبنسر. تتوج (المؤسسات السياسية) إلى جانب (مبادئه الأخلاقية) الفلسفة التركيبية. فهما بيت القصيد[5].

وبالنسبة لحساب هربرت سبنسر، يتكشف التطور الاجتماعي من خلال أربع مراحل عالمية هي:

  1.  المجتمعات “البدائية” التي تتميز بالتعاون السياسي العرضي (غير رسمي).
  2. المجــتمعات “المحاربة المتشددة” التي تتميز بالسلطة السياسية الهرمية الصارمة.
  3. المجتمعات “الصناعية” حيث تنهار الهيمنة السياسية المركزية، مما يفسح المجال للأسواق المنظمة بشكل محدود.
  4. وشكل تلقائي، “ذاتي التنظيم”، سوق اليوتوبيا التي تتلاشى فيها سلطة الحكومة.


يؤدي الاكتظاظ السكاني الذي يسبب صراعات عنيفة بين الفئات الاجتماعية إلى تغذية دورة الاندماج والانقلاب التي لا يوجد مجتمع محصن ضدها.

بتعبير أدق، كلما ازداد عدد مجموعات القرابة الجنينية، “أصبحوا مترابطين في كل مكان بطريقة بعضهم البعض”. (راجع Spencer, vol. II, 1876-93:37 ) وكلما احتشدت هذه المجتمعات البدائية مع بعضها البعض، كلما أصبحت أكثر عنفاً ومحاربة على المستوى الخارجي. يتطلب النجاح في الحرب قدراً أعظم من التضامن والتماسك على الصعيد السياسي والقسري. تدخل الحرب المستمرة وتضفي الطابع الرسمي على السيطرة السياسية، مما يقضي على المجتمعات التي تفشل في التوحد بشكل كاف. تتشكل العشائر في أمم ويصبح رؤساء القبائل ملوكًا. وبينما تقوم المجتمعات الناجحة عسكريًا بإخضاع واستيعاب منافسيها، تميل أيضًا إلى الاستقرار و”التركيب” و”إعادة التجميع”، مما يحفز تقسيم العمل والتجارة.

يحول تقسيم العمل وانتشار التبادل التعاقدي المجتمعات “المحاربة” الناجحة والمستقرة إلى مجتمعات “صناعية منظمة سلبيًا” تمنح الحرية الفردية والحقوق الأساسية حيث تتراجع الدولة عن حماية المواطنين من القوة والاحتيال في الداخل والاعتداء من الخارج.

ولكن توجد أمور أخرى مثل أن المجتمع الذي تتمتع فيه الحياة والحرية والملكية بالأمان، والذي ترى فية كافة المصالح بشكل عادل لابد أن يزدهر أكثر من مجتمع لا يتمتع بالمساواة؛ وبالتالي، بين المجتمعات الصناعية المتنافسة، لابد من الاستعاضة تدريجياً عن تلك التي لا يتم فيها الحفاظ على الحقوق الشخصية بشكل كامل، بتلك التي يتم الحفاظ عليها بشكل كامل ومصان”.(راجع 93:108-Spencer, vol. II, 1876) والمجتمعات التي يتم فيها الحفاظ على الحقوق بشكل كامل سوف تتحد معًا في الوقت المناسب في توازن سلمي دائم التوسع.  

وكما لوحظ سابقاً، فإن التوازن يكون دائما غير مستقر، مما يؤدي إلى خطر الانحلال والتراجع. في الواقع، كان هربرت سبنسر بنهاية حياته أقل تفاؤلاً بشأن المجتمعات الصناعية التي تتجنب الحرب[6]. وعلى الرغم من تشاؤمه المتزايد فيما يتصل بالتقدم الليبرالي والوفاق الدولي، إلا أن المدى الذي بلغه وضع التنظير المعياري في علم نظريات سبنسر الاجتماعية واضح وملموس. علم الاجتماع والأخلاق يتشابكان. سنرى قريبا كيف كانت النفعية وكذلك الفردية.

أصر العديد من المترجمين المتأخرين لـ هربرت سبنسر، وخاصة علماء الاجتماع، على أن نظريته الاجتماعية وأخلاقياته لا ترتبطان ببعضهما، وأن سوسيولجيته قائمة بذاتهها، وبالتالي يمكننا استبعاد نظريته الأخلاقية في جهودنا لفهم إرثه في العلوم الاجتماعية. على سبيل المثال، ناقش جون ديفيد بيل (J. D. Y. Peel) أن علم اجتماع هربرت سبنسر “مستقل منطقياً عن الأخلاقيات عنده “. يوافق جوناثان اتش تورنر (Jonathan H. Turner) على ذلك زاعماً ان أخلاقيات هربرت سبنسر وأوجه القصور الأيديولوجية الأخرى “تعترض طريق النظر إلى هربرت سبنسر كمُنظر استمرت أفكاره [السوسيولوجية] (في حال إعادة كتشافها فقط)”. بالنسبة لتورنر، فإن “إن علم الاجتماع مدوّن بحيث يمكن تجاهل أوجه القصور هذه بسهولة”.

نظرية هربرت سبنسر

يستشهد كل من  روبرت كارنيرو (Robert Carneiro) وروبرت بيرين (Robert Perrin) بتقييم بيل ويثنّون عليه[7]. ومؤخراً، يشير مارك فرانسيس (Mark Francis) إلى نفس الشيء إلى حد كبير، حيث كتب أن نظرية هربرت سبنسر للتغيير الاجتماعي “تعمل على مستوى مختلف عن نظريته الأخلاقية”[8]. ولكن لأنه يمكننا -بعد مرور سنوات عدة- الحصول على شيء من نظرياته الاجتماعية مع تجاهل أخلاقياته، وهنا نعني أيضًا أي شيء آخر بخلاف النظريات الاجتماعية التي دوّنها، فإننا نعتقد خطأً بأننا فسرنا هربرت سبنسر بشكل صحيح، ناهيك عن التفكير في أننا فسرنا حتى علم اجتماع هربرت سبنسر تفسيرًا صحيحًا. إن اكتشاف تنبؤ مفكر سابق بتفكيرنا الحالي حول هذه المسألة أو غيرها شيء، ومحاولة تأويل المفكر السابق بأفضل ما نستطيع شيء آخر تمامًا.

لا يوجد مكان تترابط فيه الأخلاقيات وعلم الاجتماع عند هربرت سبنسر بشكل واضح أكثر من لاماركيته (Lamarckism)، بيْد أنه يوجد خلاف في كمية ما اقتبسه هربرت سبنسر من لامارك مقابل داروين. ومع ذلك، ناقش بيتر ج. باولر (Peter J. Bowler) مؤخرًا بأن كلاً من هربرت سبنسر وداروين يعتقدان أن وراثة الخصائص المكتسبة والانتقاء الطبيعي معًا يقودان التطور. بالنسبة لباولر، ليس من الخطأ أن ننظر إلى هربرت سبنسر بصفته مدينًا بكل شيء للامارك أو بالقليل جدًا[9]. يدعم تقييم باولر بادعاءات هربرت سبنسر في مقالتين متأخرتين من 1886 و 1893 بعنوان (عوامل التطور العضوي) “The Factors of Organic Evolution” و(قصور الانتقاء الطبيعي) “The Inadequacy of ‘Natural Selection.’[10].

يدّعي المقال السابق أن أهمية التطور بالانتقاء الطبيعي تنخفض​​ مقارنةً باستخدام الوراثة مع تطور القدرات العقلية والأخلاقية للإنسان. يحل هذا الأخير تدريجياً محل الأول باعتباره آلية التغيير التطوري. تربط مقالة (عوامل التطور العضوي) بإيجاز بين استخدام الوراثة وعلم النفس الارتباطي والحدس الأخلاقي والمنفعة. تميل الأفعال التي تنتج المتعة أو الألم إلى إحداث روابط عقلية بين أنواع الأفعال والملذات أو الآلام. تُكمل أيضًا مشاعر الموافقة والرفض هذه الارتباطات، فنميل بطبيعة الحال إلى الموافقة على الأفعال التي تولد المتعة ونرفض تلك التي تسبب الألم.  وفق الاعتقاد بالوراثة، تتكثف مشاعر الموافقة والرفض هذه في غرائز أخلاقية راسخة للموافقة والرفض، ثم تصبح تدريجياً بديهيات أخلاقية مصقولة.

فإلى أي مدى كان علم اجتماع هربرت سبنسر الوظيفي أيضًا موضع صراع؟ وفقًا لجيمس جي كينيدي (James G. Kennedy)، ابتكر هربرت سبنسر الوظيفية[11]. يبدو أن اعتبار هربرت سبنسر كعامل وظيفي هو طريقة أخرى للنظر إليه باعتباره عواقبيًا في المصطلحات المعيارية المعاصرة. أي أن التطور الاجتماعي يحابي المؤسسات الاجتماعية والممارسات المعيارية التي تعزز التضامن البشري والسعادة والازدهار.

تراجعت سمعة هربرت سبنسر في علم الاجتماع، ويتذكره قلة من المنظرين الاجتماعيين، وهذا قد يتغير بطريقة ما، أما الفلاسفة الأخلاقيون فقد نسوه في الأغلب، مع أن النفعيين الكلاسيكيين في القرن التاسع عشر مثل مِل وهنري سيدجويك (Henry Sidgwick)، والمثاليين من أمثال توماس هيل غرين (T. H. Green) وجون ستيوارت ماكنزي (J. S. Mackenzie)، والليبراليين الجدد من أمثال ديفيد جورج ريتشي (D. G. Ritchie) قد ناقشوه بإسهاب وإن كان في الغالب بشكل نقدي.

كما شعر النفعيون المثاليون في القرن العشرين مثل مور وهاستينغز راشدال (Hastings Rashdall) وحدسيون أكسفورد -مثل ويليام روس- (W. D. Ross ) بأنهم مضطرون إلى إشراكه. كان هربرت سبنسر جزءاً كبيراً من سياقهم الفكري، فقد وجه تفكيرهم بشكل لا يستهان به. لا يمكننا تأويل هؤلاء تأويلًا صحيحًا ما لم نأخذ هربرت سبنسر على محمل الجد أكثر مما نفعل.

3. النفعية “الليبرالية” لـ هربرت سبنسر

كان هربرت سبنسر عالم اجتماع بشكل جزئي، لكنه كان أقرب إلى كونه فيلسوفًا أخلاقيًا. لقد كان ما نشير إليه الآن على أنه المنفعة الليبرالية أولاً الذي تداول بكثافة في نظرية التطور من أجل شرح كيفية ظهور إحساسنا المنفعي الليبرالي بالعدالة.

وعلى الرغم من أن هربرت سبنسر كان نفعياً، إلا أنه كان يتعامل مع عدالة التوزيع (distributive justice) بقدر من الجدية لا يقل عن جون ستيوارت مِل. بالنسبة له كما بالنسبة لـمِل، كانت الحرية والعدالة متساويتين. وفي حين أن مِل ساوى العدالة الأساسية مع مبدأ الحرية عنده، فقد ساوى هربرت سبنسر العدالة بالحرية التي ترى أن “حرية كل فرد، مقيدة بالحرية المماثلة للجميع، هي القاعدة التي يجب أن يُنظّم المجتمع وفقا لها”. (راجع 9Spencer, 1970: 7 ).

بالإضافة إلى أن الحرية عند هربرت سبنسر مقدسة -كما هي عند مل-، مما يضمن أن نفعيته كانت أيضًا شكلاً من أشكال حسن النية لليبرالية. بالنسبة لكليهما، فإن احترام الحرية وسيلة للتوصل إلى النفعية الأفضل لكل الأمور التي تم أخذها في الاعتبار. وبالتالي، فإن كلًّا من الحرية الغير قابلة للإلغاء، والتي تم صياغتها صياغةً صحيحةً، والمنفعة متوافقتان توافقًا تامًا.

والآن في حالة هربرت سبنسر، خاصة في (أسس الأخلاق) (93-1879)، استندت هذه القابلية على علم النفس الأخلاقي التطوري المعقد الذي يجمع بين الترابط، واستخدام الوراثية اللاماركية، والحدس، والمنفعة. يميل النشاط المنتج للمتعة إلى توليد ارتباطات بيولوجية وراثية بين أنواع معينة من الأفعال والمشاعر الممتعة ومشاعر الاستحسان. تدريجياً، تصبح النفعية بديهية[12]. وحيثما تزدهر البديهيات النفعية، تميل المجتمعات إلى أن تكون أكثر حيوية واستقرارًا. يفضل التطور الاجتماعي الثقافات التي تستوعب القواعد النفعية بشكل بديهي.

فالسلوك “المقيد ضمن الحدود المطلوبة [المنصوص عليها في مبدأ الحرية المتساوية]، لا يدعو إلى العواطف العدائية، ويفضل التعاون المتناغم، ويُرْبح المجموعة، ويُرْبح، ضمنًا، متوسط الأفراد “. وبالتالي فإن “المجموعات المكونة من أعضاء لديهم هذا التكيف للطبيعة” تميل إلى “النجاة والانتشار”. (راجع Spencer, vol. II, 1978: 43). وحيثما تزدهر المنفعة العامة، تزدهر المجتمعات، فإن المنافع العامة والقوة الثقافية يسيران جنباً إلى جنب. وتزدهر المنفعة العامة بشكل أفضل حيث يمارس الأفراد قدراتهم ويطورونها ضمن المعايير التي تنص عليها الحرية المتساوية.

باختصار، تفضل الحرية المتساوية – المجتمعات التي تستوعبها، مثلها كمثل أي مخطط أخلاقي، وتستحضرها في نهاية المطاف بوعي ذاتي. وحيثما تحتفل المجتمعات بالحرية المتساوية كمبدأ نهائي من مبادئ العدالة، تزدهر الرفاهية وتنتشر الليبرالية النفعية.

وعلى نحو مماثل، تعامل هربرت سبنسر مع الحقوق الأخلاقية تعاملًا جادًا، فيستلزم القدر اللائق من الاحتفاء بالحرية القائمة على المساواة الاعتراف بالحقوق الأخلاقية الأساسية والاحتفاء بها باعتبارها “نتيجة طبيعية”. فالحقوق الأخلاقية تحدد الحرية المتساوية، وتجعل متطلباتها المعيارية أكثر وضوحاً بشكل جوهري. فهي تنص على أكثر مصادر السعادة أهمية لدينا، ألا وهي الحياة والحرية.

إن الحقوق الأخلاقية في الحياة والحرية شروط السعادة العامة. فهي تضمن لكل فرد الفرصة لممارسة قدراته أو كلياته وفقًا لأضوائه الخاصة. والتي تشكل مصدراً للسعادة الحقيقية. فإن الحقوق الأخلاقية لا تجعلنا سعداء، بل تمنحنا الفرصة المتكافئة لجعل أنفسنا سعداء على أفضل نحو ممكن، وبالتالي، فهي تعزز السعادة العامة بشكل غير مباشر. وبما أن هذه المبادئ “نتائج طبيعية” تتسم بالحرية المتساوية، فإنها ليست أقل قيمة من مبدأ الحرية المتساوية ذاته.

تنشأ الحقوق الأخلاقية الأساسية كبديهيات أيضاً، ولو أنها أكثر تحديداً من تقديرنا البديهي المعمم للبراعة النفعية المتمثلة في الحرية المتساوية. وبالتالي فإن الاستيعاب الذاتي الواعي لإحساسنا البديهي بالحرية المتساوية وتنقيحه، وتحويله إلى مبدأ من مبادئ التفكير العملي، يعمل في نفس الوقت على تحويل حدسنا المعياري الناشئ بشأن قدسية الحياة والحرية إلى أسس قانونية صارمة. وهذه ببساطة طريقة أخرى للادعاء بأن المنفعة العامة تزدهر بشكل أفضل حينما نحتكم إلى الأسس الليبرالية بجدية، فالمجتمعات الأخلاقية هي مجتمعات أكثر سعادة وأكثر حيوية ونجاحًا في التمهيد.

مع أن هربرت سبنسر يصف الحقوق الأخلاقية الأساسية بالحقوق “الطبيعية” أحيانًا، فلا ينبغي أن يضللنا هذا الوصف -كما حصل مع بعض بعض العلماء. تحدث المناقشة الأكثر استدامة ومنهجية عن الحقوق الأخلاقية لدى هربرت سبنسر في الفصل الختامي [بعنوان] (الخرافة السياسية العظمى) “The Great Political Superstition”، من كتاب (الإنسان مقابل الدولة) (1884) The Man Versus the State. حيث يقول فيه أن الحقوق الأساسية طبيعية، بمعنى أنها تثمن “العادات” و”الأعراف” التي تنشأ بطبيعة الحال بصفتها وسيلة لتخفيف الاحتكاكات الاجتماعية. وعلى الرغم من الممارسات التقليدية، فإن الحقوق المحددة هي وحدها التي تعزز رفاه الإنسان تعزيزًا فعالًا. تزدهر فقط تلك المجتمعات التي تحتضنها بالصدفة.

أساء العلماء المتأخرون تفسير نظرية الحقوق لهربرت سبنسر، وذلك لأنهم أساءوا فهم دوافع هربرت سبنسر وراء كتابة (الإنسان مقابل الدولة)، بجانب عوامل أخرى. إن المقال عبارة عن احتجاج جدلي للغاية باسم الحقوق القوية باعتبارها أفضل ترياق للمخاطر المترتبة على الإصلاحات التشريعية التدريجية التي تعمل على إدخال الاشتراكية سراً إلى بريطانيا. ومن المؤكد أن لغتها معادية للاشتراكية، ومسؤولة أحيانًا عن الكثير من الخطاب البغيض للداروينية الاجتماعية، والذي لا مثيل له في كتابات هربرت سبنسر الأخرى على الرغم من مقاطع متفرقة في (أسس الأخلاق) و(أسس علم الاجتماع) (96- 1876)[13].

 وبالتالي، كانت المؤهلات النفعية “الليبرالية” التي يتمتع بها هربرت سبنسر قوية ومقنعة كما يشهد عليه تبادل الرسائل مع مِل في عام 1863، فبين مجموعة ما ورد لنظرية المنفعة في مجلة فريزر في عام 1861 وبين نشرها في عام 1863 ككتاب، كتب هربرت سبنسر لمِل، محتجًا على إشارة مِل الخاطئة إلى أنه كان معاديًا للنفعية في حاشية بالقرب من نهاية الفصل الأخير (الصلة بين العدالة والمنفعة) (Of the Connection Between Justice and Utility). وبالاتفاق مع النزعة البنثامية على أن السعادة هي الغاية “المطلقة”، فإن هربرت سبنسر يعارض ذلك بشده على اعتبار أن الغاية يجب أن تكون “قريبة”، ويضيف:


لكن وجهة النظر التي أناقش لأجلها هي أن الأخلاق المسماة تسميةً صحيحةً -علم السلوك السليم- لها هدفها في تحديد كيف ولماذا تكون أنماط معينة من السلوك ضارة، وأنماط معينة أخرى مفيدة. ولا يمكن أن تكون هذه النتائج الجيدة والسيئة عرضية، بل يجب أن تكون عواقب ضرورية لدستور الأشياء. وأنا أتصور أنه من اختصاص العلم الأخلاقي أن يستنتج من قوانين الحياة وظروف الوجود، ما هي أنواع السلوك التي تميل بالضرورة إلى إنتاج السعادة، وما هي الأنواع التي تنتج التعاسة.

بعد القيام بذلك، يجب الاعتراف بما يُستنبط منها بأنها قوانين للسلوك؛ ويجب الالتزام بها بغض النظر عن التقدير المباشر للسعادة أو البؤس (راجع 9-Spencer, vol. II, 1904: 88).[14]

باختصار، تعمل أنواع محددة من الأفعال على تعزيز المنفعة العامة بشكل أفضل على المدى الطويل ولكن ليس دائمًا في اللحظة الحالية. وبينما قد لا تروج لها دائمًا بشكل قريب ومباشر، إلا أنها ترجع للها دائمًا في النهاية أو، بعبارة أخرى، بشكل غير مباشر. تشكل أنواع الافعال هذه “قوانين سلوك” معيارية صارمة. وبهذا الشكل، فإنها تحدد معايير الحرية المتساوية. أي أنها تشكل حقوقنا الأخلاقية الأساسية. لدينا حقوق أخلاقية لأنواع الأفعال هذه إذا كان لدينا حقوق أخلاقية لأي شيء تقريباً.

وبالتالي، كان هربرت سبنسر يدعو إلى النفعية غير المباشرة كمِل بإبراز الحقوق الأخلاقية القوية. بالنسبة لكلا المُنّظرين، فإن النفعية الموجهة نحو الحقوق تعزز السعادة العامة بشكل أفضل لأن الأفراد ينجحون في إسعاد أنفسهم أكثر عندما يطورون ملكاتهم العقلية والبدنية بممارستهم لما يرونه مناسباً، وهو ما يتطلب بدوره قدراً أعظم من الحرية. ولكن نظرًا لأننا نعيش عيشة اجتماعية، فإن ما نطلبه عمليًا هو مساواة في الحرية تتجسد بشكل مناسب من حيث نتائجها الطبيعية للحق الأخلاقي.

تعمل الحقوق الأخلاقية في الحياة والحرية على تأمين الفرص الأكثر أهمية لإسعاد أنفسنا قدر الإمكان. لذا، إذا ظل مِل وثيق الصلة بقوة لأن إرثه من النفعية الليبرالية المعاصرة ما يزال مصدر إلهام، فيجب علينا إذًا وضع هربرت سبنسر في عين الاعتبار أكثر مما نفعله، مع الأسف، في الوقت الحالي.

بيد أن النفعية “الليبرالية” لهربرت سبنسر مختلفة عن مِل في العديد من الجوانب، بما في ذلك خاصةً التشدد الذي نسبه هربرت سبنسر إلى الحقوق الأخلاقية. في الواقع، اعتبر مِل هذا الاختلاف فرقًا أساسيًا بينهما. رد مِل على خطاب هربرت سبنسر الذي أعلن فية الولاء للنفعية، مشيرًا إلى أنه يتفق تمامًا مع هربرت سبنسر في أن النفعية يجب أن تتضمن “المبادئ الأوسع والأكثر عمومية”، والتي يمكن أن تكون ممكنة. ولكن على النقيض من هربرت سبنسر، يحتج مِل قائلاً بأنه “لا يستطيع أن يعترف بأن أياً من هذه المبادئ ضروري، أو أن الاستنتاجات العملية التي يمكن استخلاصها منها عالمية (مطلقة)”[15]( Duncan, ed., 1908: 108).

4. النفعية العقلانية مقابل التجريبية

أشار هربرت سبنسر إلى قاعدته النفعية على أنها نفعية “عقلانية”، والتي ادعى أنها حسنت من نفعية بنثام “التجريبية”. وعلى الرغم من أنه لم يصف مِل مطلقًا بأنه نفعي “عقلاني”، فمن المفترض أنه كان يعتبره واحدًا.

لا ينبغي التقليل من أهمية النفعية “العقلانية” التي كانت توحي بها نظرية الميتا-أخلاقية لهربرت سبنسر. وبتعريف نفسه على أنه نفعي “عقلاني”، نأى هربرت سبنسر بنفسه عن الداروينية الاجتماعية قطعًا، موضحًا لماذا كان حكم مور سيء السمعة في غير محله.  وفي رده على اتهام توماس هنري هكسلي (T. H. Huxley) بأنه خلط بين الخير و”البقاء للأصلح”، أصر هربرت سبنسر على أن “الأصلح” و”الأفضل” ليسا متكافئين. ولقد اتفق مع هكسلي على أن الأخلاق سابقة لصراع الوجود الطبيعي حين ظهر البشر، وذلك بالرغم من إمكانية تفسيرها من الناحية التطورية.  يستثمر البشر التطور بـتقصيات أخلاقية، مما يجعل التطور البشري مختلفًا نوعياً عن التطور غير البشري.

تشكل النفعية “العقلانية” الشكل الأكثر تقدمًا من التقصي الأخلاقي بقدر ما تحدد “الحدود العادلة لأنشطة [الفرد]، والقيود التي يجب فرضها عليه” في تفاعلاته مع الآخرين. (راجع 28- Spencer, vol. I, 1901: 125)[16] باختصار، بمجرد أن نبدأ في تنظيم حدسنا النفعي غير المكتمل بمبدأ الحرية المتساوية وحقوقه الأخلاقية المشتقة، نبدأ بـ “تقصّي” الصراع التطوري من أجل البقاء بمهارة ودقة غير مسبوقين. نحن نستثمر نفعيتنا بوعي ذاتي مع أسس ليبرالية صارمة من أجل تعزيز رفاهيتنا كما لم يحدث من قبل.

يبدو الآن أن هنري سيدجويك قد فهم ما يعنيه هربرت سبنسر بالنفعية “العقلانية” بشكل أفضل من معظم الناس، على الرغم من أن سيدجويك لم يفهم هربرت سبنسر تمامًا أيضًا. أشرك سيدجويك هربرت سبنسر بشكل نقدي في مواضع عدة. كان اختتام الكتاب الثاني من (طرق الأخلاق) (The Methods of Ethics ) (1907)، بعنوان (مذهب المتعة الاستنتاجي) (Deductive Hedonism)، انتقاد مستمر -وإن كان مستتراً- لهربرت سبنسر.[17]

بالنسبة لسيدجويك، كانت نفعية هربرت سبنسر مجرد استنتاجية، على الرغم من القول بأنها علميّة وعقلانية بشكل صارم أكثر من النفعية “التجريبية”. ومع ذلك، يفشل مذهب المتعة الاستنتاجي لأنه، على عكس ما يعتقده أتباع المتعة الاستنتاجية مثل هربرت سبنسر، لا يوجد علم عام لأسباب اللذة والألم، مما يضمن أننا لن ننجح أبدًا في صياغة قواعد أخلاقية عالمية غير قابلة للنقض لتعزيز السعادة. كما يصعّب هربرت سبنسر الأمر حين يزعم أن بإمكانيتنا صياغة قواعد أخلاقية غير قابلة للإلغاء لبشر ذوي أخلاق مثالية من الناحية النظرية.

  • أولا، في رأي سيدجويك، بما أننا لا نستطيع تصوّر الشكل الذي سيبدو عليه البشر ذوي الأخلاق المثالية، فلن نستطيع أبداً استنتاج نظامًا (code) أخلاقيًا مثاليًا للأخلاق “المطلقة” بالنسبة لهم.
  • ثانيًا، حتى لو استطعنا -بطريقة ما- تصور نظام كهذا، فإنها مع ذلك ستوفر إرشادات معيارية غير كافية للبشر كما نجدهم بكل رغباتهم الفعلية وعواطفهم وميولهم غير العقلانية.[18] بالنسبة لسيدجويك، فكل ما لدينا هو الفطرة النفعية، والتي يمكننا ويجب علينا محاولة صقلها وتنظيمها وفقًا لمتطلبات ظروفنا المتغيرة.[19]

إذن، انتقد سيدجويك هربرت سبنسر لخداع نفسه بأنه نجح في جعل النفعية “التجريبية” أكثر صرامة من خلال جعلها استنتاجية وبالتالي “عقلانية”. كان هربرت سبنسر يقدم ببساطة جوانب متنوعة أخرى من النفعية “التجريبية” بدلاً من ذلك.  ومع ذلك، كانت نسخة هربرت سبنسر من النفعية “التجريبية” أقرب بكثير إلى نسخة سيدجويك والتي اعترف بها الأخير. لم يتعقب هربرت سبنسر ملِ تعقبًا ضمنيا كبيرًا فحسب، بل تعقّب سيدجويك تعقبًا منهجيًا أيضًا.

في مقدمة الطبعة السادسة من كتاب (طرق الأخلاق) ((The Methods of Ethics (1901)، كتب سيدجويك أنه عندما أدرك بشكل متزايد أوجه القصور في الحساب النفعي، أصبح أكثر حساسية تجاه الفعالية النفعية للفطرة السليمة “على أساس الافتراض العام الذي منحه التطور، وهو أن المشاعر والآراء الأخلاقية تشير إلى سلوك يؤدي إلى السعادة العامة…” (راجع Sidgwick, 1907: xxiii).

بعبارة أخرى، إن الأخلاق الفطرية الحسية السليمة إجراء موثوق به، ويمكن الاعتماد عليه لاتخاذ القرار الصحيح لأن التطور الاجتماعي قد فضل ظهور المشاعر الأخلاقية العامة التي تولد السعادة.  وكلما خذلتنا الفطرة السليمة في توجيه إرشادات متضاربة أو ضبابية، فليس لدينا خيار سوى الانخراط في استعادة النظام والحساب النفعي، ويعمل الأخير جنبًا إلى جنب مع الأول، حيث يقوم بصقله وتنظيمه إلى الأبد.

تعمل النفعية “التجريبية” لهربرت سبنسر بنفس الطريقة على الرغم من أن هربرت سبنسر قد طمس هذه التشابهات من خلال التفريق بين النفعية “التجريبية” والنفعية “العقلانية” المفترض تفوقها. يرى هربرت سبنسر كسيدجويك أن أحكامنا الأخلاقية المنطقية تستمد قوتها البديهية من قوتها المثبتة في تعزيز النفعية والوراثية من جيل إلى آخر. على عكس ما أكده النفعيون “التجريبيون” مثل بنثام عن طريق الخطأ، فإننا لا نجري حسابات نفعية في فراغ خالٍ من البديهة.

لا يقتصر تعزيز المنفعة أبدًا على اختيار الخيارات، خاصة عندما نخاطر [بالشيء] الكثير، من خلال حساب المنافع ومقارنتها بشكل نقدي وحاسم.  بدلاً من ذلك، يبدأ ظهور المنطق العملي النفعي حيثما تنهار بديهياتنا الأخلاقية. تختبر العلوم الأخلاقية بديهياتنا الأخلاقية وتحسنها، حيث غالبًا ما تثبت بديهياتنا أنها “غامضة بالضرورة ” ومتناقضة.

من أجل “جعل التوجيه من قبلهم مناسبًا لجميع المتطلبات، يجب تفسير إملاءاتهم وتحديدها بواسطة العلم؛ ولتحقيق هذه الغاية، يجب أن يوجد تحليل لتلك الظروف لاستكمال المعيشة التي يستجيبون لها، ومن المضادات والمعاكسات التي نشأت معها “. يستلزم مثل هذا التحليل دائمًا الاعتراف بسعادة ” كل واحد، باعتبارها الغاية التي تتحقق بواسطة الوفاء بهذه الشروط”.(راجع Spencer, vol. I, 1978: 204)

النفعية “التجريبية” …”حدثت بلا وعي” من “النتائج المتراكمة للتجربة البشرية السابقة”، مما يفسح المجال في النهاية للنفعية “العقلانية” التي “يحددها العقل” (راجع Spencer, 1969: 279 ff). بالإضافة إلى ذلك، فإن الأخير “يشير ضمنيًا إلى الاستنتاجات العامة التي ينتج عنها تحليل التجربة”، وحساب “الآثار البعيدة” على الحياة “بشكل عام” (راجع Spencer, 1981: 162-5).

باختصار، تعتبر النفعية “العقلانية” نقدية وتجريبية، وليست استنتاجية. إنها حازمة على الرغم من أنها تتبنى بحكمة الحقوق الأخلاقية التي لا يمكن إبطالها كشرط ضروري للسعادة العامة، مما يجعل النفعية ليبرالية صارمة. وكانت تطوريةً أيضًا إلى حد كبير، كما زعم سيدجويك. بالنسبة لكل من هربرت سبنسر وسيدجويك، يفضح المنطق العملي النفعي البديهيات الأخلاقية الكامنة لدينا، ويصقلها وينظمها، وهي قد تطورت حتى الآن على الرغم من قلة تقدير فائدتها. وبينما وصف هربرت سبنسر هذا التقدم نحو النفعية “العقلانية”، أطلق سيدجويك عليه بشكل أفضل “التقدم في اتجاه ذو مسافة أقرب إلى النفعية [التجريبية] المستنيرة المثالية” (راجع Sidgwick ,   1907: 455).

على الرغم من أوجه التشابه بين نسختيهما من النفعية التطورية، إلا أن هربرت سبنسر وسيدجويك اختلفا في ناحيتين أساسيتين:

  • أولاً، بالنسبة لهربرت سبنسر، فإن النفعية “العقلانية” تنقح النفعية “التجريبية” من خلال مقاربة حقوق أخلاقية غير قابلة للإلغاء، وبالنسبة لسيدجويك، فإن التنظيم لا يتوقف أبداً. بدلاً من ذلك، يستمر تنظيم الفطرة السليمة إلى أجل غير مسمى من أجل مواكبة تقلبات ظروفنا الاجتماعية. وتتطلب الاستراتيجية النفعية المثلى مرونة وليس تشددا صارما في الحقوق الراسخة. في الواقع، كانت نفعية هربرت سبنسر أكثر ليبرالية بشكل دوغمائي مقارنة بأذواق سيدجويك السياسية الأكثر اعتدالًا ومرونة.
  • ثانياً، كان هربرت سبنسر لاماركياً بينما لم يكن سيدجويك كذلك. بالنسبة لهربرت سبنسر، يعمل تطبيق القوة الأخلاقية على صقل البديهية الأخلاقية لكل فرد. ثم تصبح هذه البديهيات ذات سلطة موثوقة ومتزايدة في الأجيال المقبلة، نظرًا لكونها قابلة للتوريث بيولوجيًا (وليس ثقافيًا فقط)، وتفضل تلك الثقافات أن تصبح الفطرة السليمة الأخلاقية أكثر صرامة في تسوية الأشياء. في نهاية المطاف، يبدأ أعضاء المجتمعات المفضلة في الإدراك بشكل واعي، ثم يحسنون بشكل متعمد، القدرة على توليد المنفعة للبديهيات الأخلاقية الموروثة. تحل النفعية العلمية “العقلانية” ببطء محل الفطرة السليمة والنفعية “التجريبية” بينما نتعلم القيمة التي لا تضاهى للمساواة في الحرية وحقوقها الأخلاقية المشتقة كإجراءات اتخاذ قرارات نفعية يومية.[20]

كان هربرت سبنسر مع ذلك منفعيًا مثل سيدجويك، ​​ بغض النظر عن خلافاتهما، وذلك مما أدركه الأخير تمامًا. على الرغم من أننا يجب أن نتردد في وصف هربرت سبنسر بأنه منفعي كلاسيكي كما نسمي سيدجويك الآن.


بالإضافة إلى ذلك، لم يكن سيدجويك الوحيد في مطلع القرن العشرين في تصوير هربرت سبنسر باعتباره منفعيًا بشكل أساسي. حيث نظر إليه جون هنري مويرهيد ( J. H. Muirhead) باعتباره منفعيًا وكذلك فعل ويليام روس  (W. D. Ros)في أواخر عام 1939.(راجع Muirhead, 1897: 136; Ross, 1939: 59) حتى العلماء في ألمانيا في ذلك الوقت قرءوا هربرت سبنسر باعتباره منفعيًا. على سبيل المثال، نظر إليه سنكلير (A. G. Sinclair) على أنه منفعي يستحق المقارنة مع سيدجويك. في عام 1907، خلص سنكلير في كتابة (نفعية سيدجويك و هربرت سبنسر) إلى أن:


 “Daher ist er [Spencer], wie wir schon gesagt haben, ein evolutionistischer Hedonist und nicht ein ethischer Evolutionist”                                                                         

والتي يمكننا ترجمتها عن الألمانية : “(هربرت سبنسر) مناصر مذهب المتعة التطورية كما رأينا بالفعل، وليس من أنصار التطورية الأخلاقية “.(راجع Sinclair, 1907: 49)
لذلك، مهما وقعنا في العادة الخاطئة المتمثلة في اعتبار هربرت سبنسر أقل استثماراً في نفعية القرن التاسع عشر، فلم يتم فهمه بهذه الطريقة من قبل معاصريه المباشرين في كل من إنجلترا وأوروبا القارية.

5. الحقوق السياسية لدى هربرت سبنسر

إذن هربرت سبنسر لم يكن “دارويني اجتماعي” فعلًا بفهم الداروينية الاجتماعية، كذلك كان أيضًا أقل ليبرتارية بشكل لا لبس فيه كما جعله البعض، مثل إريك ماك وتيبور ماشان. لا يقتصر الأمر على مذهبه النفعي الأساسي فحسب، بل أيضًا في التفريق الذي لم يتخل عنه أبدًا بين “الحقوق التي تسمى على النحو الصحيح كما ينبغي” والحقوق “السياسية”، مما يجعل من الصعب قراءته كليبرتاري.

وبينما “الحقوق المسماة على النحو الصحيح كما ينبغي” مواصفات حقيقية للمساواة في الحرية، فإن “الحقوق السياسية” ليست كذلك. إنها أدوات مؤقتة مشروطة بنقصنا الأخلاقي. وبقدر ما يتطلب كوننا غير كاملين أخلاقياً إنفاذ الحكومة للحقوق الأخلاقية السليمة، فإن الحقوق السياسية تضمن أن تظل الحكومة حميدة في معظمها بالرغم من ذلك، ولا تنتهك أبداً الحقوق الأخلاقية نفسها على نحو غير مبرر.

إن “الحق في تجاهل الدولة” والحق في الاقتراع العام حقان سياسيان أساسيان لهربرت سبنسر. يقول هربرت سبنسر في كتابه (الإحصائيات الاجتماعية) (Social Statics): “لا يمكننا الاختيار ولكن نعترف بحق المواطن في تبني شرط الخروج الطوعي عن القانون “. كل مواطن “حر في قطع الاتصال بالدولة (حرية إسقاط صلته عنها) والتخلي عن حمايتها ورفض الدفع مقابل دعمها “.(Spencer, 1970: 185). وبالنسبة لهربرت سبنسر، فإن هذا الحق يساعد في تقييد الحكومة لحماية الحقوق الأخلاقية السليمة لأنه يسمح للمواطنين بأخذ أعمالهم الى مكان آخر عندما لا يحدث ذلك.

ومع ذلك، تبرأ هربرت سبنسر في النهاية من هذا الحق السياسي المجرد البسيط. على سبيل المثال، في (سيرته الذاتية) (An Autobiography) عام 1894، أصر على أنه نظرًا لأن المواطنين “لا يمكنهم تجنب الاستفادة من النظام الاجتماعي الذي تحافظ عليه الحكومة”، فليس لهم الحق في الانسحاب من نطاق حمايتها.(راجع Spencer, 1904, vol. 1: 362).

وليس لهم أن يأخذوا أعمالهم بصورة مشروعة في أماكن أخرى كلما شعروا بأن حقوقهم الأخلاقية الأساسية تتعرض لسوء الحماية. لأنه تخلى في النهاية عن “الحق في تجاهل الدولة”، ويجب ألا نفسر هربرت سبنسر كما جاء في نوزيك 1974.(راجع p. 289–290, footnote 10, the text of which is on p. 350) حيث تمت الإشارة إليه لدعم هذا الحق. وعلى نحو مماثل، تضاءل التزام هربرت سبنسر بحق الاقتراع العام في كتاباته اللاحقة.
وبينما يعتبر الاقتراع العام في كتابه (الإحصائيات الاجتماعية) وسيلة يمكن الاعتماد عليها لمنع الحكومة من تجاوز واجبها والتمسك بحماية الحقوق الأخلاقية بشكل صحيح، لكنه يستنتج وفقاً [لكتابه] المتأخر (أسس الأخلاق)، أن الاقتراع العام فشل في القيام بذلك بشكل فعال وبالتالي تخلى عن دعمه له.

ثم خلص فيما بعد إلى أن حق الاقتراع العام يهدد احترام الحقوق الأخلاقية أكثر من حمايتها. حيث شجع الاقتراع العام، خاصة عندما يشمل النساء، “الإفراط في التشريع”، مما يسمح للحكومة بتولي مسؤوليات لم تكن من اختصاصها.

كان هربرت سبنسر آنذاك أكثر استعدادًا لتعديل الحقوق السياسية بما يتماشى مع تقييمه المتغير لمدى ضمان هذه الحقوق في تأمين الحقوق الأخلاقية الأساسية التي تعتمد عليها فضيلة تعزيز السعادة. وكلما ازداد اقتناعه بأن بعض الحقوق السياسية تؤدي بالتالي إلى نتائج عكسية، كلما كان أكثر استعدادًا لتخليه عنها وأصبح أقل ديمقراطية، وإن لم يكن ليبرتارياً بشكل واضح.

وبالمثل، فإن تضاؤل ​​حماس هربرت سبنسر لتأميم الأراضي (الذي وجده هيليل شتاينر (Hillel Steiner ) مؤخرًا ملهمًا للغاية)، إلى جانب الشكوك المتزايدة التي جاءت كنتيجة طبيعية لمبدأ الحرية المتساوية والتي تشهد على تراجع راديكاليته.[21] وفقًا لهربرت سبنسر في كتابه )الإحصائيات الاجتماعية(، فإن حرمان كل مواطن من الحق في استخدام الأرض بالتساوي كان “جريمة لا تقل شأنا عن جريمة سلب أرواحهم أو حرياتهم الشخصية”. (راجع Spencer: 1970, 182) كانت ملكية الأراضي الخاصة غير متوافقة مع الحرية المتساوية لأنها حرمت معظم المواطنين من الوصول المتساوي إلى سطح الأرض الذي تعتمد عليه ممارسة الصلاحية والقوة والسعادة جوهرياً.  

ومع ذلك، ومن خلال كتابه (أسس الأخلاق)، تخلى هربرت سبنسر عن الدعوة إلى تأميم شامل للأراضي، مما أثار حفيظة هنري جورج (Henry George). كان جورج، الأمريكي، قد اعتبر هربرت سبنسر في السابق حليفاً هائلاً في حملته العنيفة لإلغاء ملكية الأراضي الخاصة. ثم تنصل هربرت سبنسر من الحق الأخلاقي في استخدام الأرض والحق السياسي في تجاهل الدولة، وكذلك الحق السياسي في الاقتراع العام، يقوض تمييزه بين النفعية العقلانية والتجريبية.

في تنازله عن الحق في استخدام الأرض – لأنه أصبح مقتنعًا لاحقًا بأن تأميم الأراضي يقوض المنفعة العامة بدلاً من تعزيزها – يخون هربرت سبنسر النفعية التجريبية التقليدية التي كان عليها. وقد تخلى عن تأميم الأراضي ليس لأنه خلص إلى أن الحق في استخدام الأرض لا يتبع بشكل استنتاجي مبدأ الحرية المتساوية، بل لأنه أصبح مقتنعًا بأنها كانت استراتيجية ذات نتائج عكسية تجريبياً لتعزيز المنفعة.

والأمر الأكثر وضوحاً هو أنه كشف من خلال نبذه للحقوق السياسية مثل “الحق في تجاهل الدولة” وحق الاقتراع العام كذلك عن مدى تفوق الاعتبارات النفعية التجريبية على كل شيء آخر في منطقه العملي. لم يكن هربرت سبنسر ليبرتاريًا ملتزمًا أو ثابتًا فقط، ولكنه أيضًا لم يكن في صف المنفعة العقلانية بمبالغة كذلك. في النهاية، كان هربرت سبنسر في الغالب على ما نسميه الآن نفعية ليبرالية، مثل مل إلى حد كبير، حاول الجمع بين الحقوق القوية والمنفعة، لكن هربرت سبنسر اعتبر الحقوق الأخلاقية غير قابلة للإلغاء بعكس مل.

6. خاتمة

اقترح آلان جيبارد(Allan Gibbard)  شيئا يرتبط بسيدجويك، في صقل الفطرة السليمة وتنظيمها، وهو أن نحول “النفعية اللاواعية” إلى “نفعية واعية”. نحن “نطبق تقنيات علمية للتقييم الدقيق لتعزيز تحقيق الهدف القديم اللاوعي” (راجع Gibbard in Miller and Williams, eds., 1982: 72). كانت النفعية “الليبرالية” لهربرت سبنسر علمًا أخلاقيًا مقارناً. بينما، كان سيدجويك يهدف ببساطة إلى ” التقدم في اتجاه تقريب أقرب إلى النفعية المستنيرة تمامًا “(راجع Sidgwick, 1907: 455).

وعلى عكس ذلك، كان لدى هربرت سبنسر تطلعات أكبر لإصلاح النفعية. كان مجرد التحرك نحو “النفعية المستنيرة تمامًا” تحت الطموح العلمي. وكانت النفعية “المستنيرة” بالكامل متاحة من الناحية المفاهيمية، وربما تكون سياسية عملية حتى. وقد اكتشف هربرت سبنسر سر ذلك، ألا وهو الحقوق الأخلاقية غير القابلة للإلغاء.

 إذن، يستحق هربرت سبنسر قدرًا أكبر من التقدير إذا لم يكن هناك سبب آخر غير أن سيدجويك، إلى جانب مل، قد أخذه على محمل الجد باعتباره زميلًا منفعيًا يستحق اهتمامه النقدي. لسوء الحظ، كان التاريخ الفكري المعاصر أقل لطفًا، مفضلاً سردًا أكثر ملاءمة وتبسيطًا للقانون الليبرالي الذي يستبعده.

كانت النفعية “الليبرالية” لهربرت سبنسر أكثر جرأة ويمكن القول إنها غير مستقرة أكثر من مل أو سيدجويك . تبع مل استثمار النفعية بحقوق أخلاقية قوية على أمل إبقائها جذابة من الناحية الأخلاقية دون التخلي عن تماسكها المنهجي. وبينما يتراجع مبدأ المنفعة إلى الخلف كمقياس للتقييم المعياري الشامل، فإن الحقوق الأخلاقية تعمل كمصادر يومية للالتزام الأخلاقي المباشر، مما يجعل هربرت سبنسر لا يقل نفعية من مل بشكل غير مباشر.

لكن النفعية غير المباشرة لهربرت سبنسر أكثر تقلبًا، وأكثر خطورة من الناحية المنطقية، لأن هربرت سبنسر أثقل كاهل الحقوق دون جدوى بينما جعلها مل صارمة، ولكن يمكن تجاوزها مع ذلك اعتمادًا على حجم المنفعة المعرضة للخطر. بالنسبة لهربرت سبنسر، نحن لا نساوم أبدًا على الحقوق الأساسية ونترك السماء تسقط. لكن بالنسبة لمل، فإن احتمال سقوط السماوات من شأنه أن يبرر بسهولة اللجوء مباشرة إلى مبدأ المنفعة على حساب احترام الحقوق الأخلاقية.

والآن، أخذ نقاد النفعية من ويليام ويلي (William Whewell) (1794-1866) إلى ديفيد ليونز (David Lyons) مؤخرًا بإلقاء المسؤولية على عاتق مل والنفعيون الليبراليون اللاحقون لمحاولة الحصول على كعكتهم النفعية وتناول ليبراليتهم أيضًا. من خلال فرض قيود قانونية ليبرالية على السعي وراء المنفعة العامة كما يناقش ليونز، يقدم مل مقياس معياري ثانٍ مع “القوة الأخلاقية” المستقلة التي تهدد نفعيته. إنه يخاطر بتبني تعددية القيمة إذا لم يتخلى عن النفعية تمامًا. وإذا كانت نسخة مل الليبرالية من النفعية مجرد تعددية للقيم في التمويه والتستر، فإنه لا يزال يواجه معضلة أخرى تتعلق بكيفية تحكيم التعارض بين المنفعة والحقوق.

إذا كانت المنفعة تتفوق على الحقوق فقط عندما يكون ما يكفي منها على المحك، فلا يزال يتعين علينا أن نسأل ما هو المقدار الكافي؟ وأي إجابة منهجية قد نقدمها ببساطة تضخ مقياساً معياريًا آخر في المنطق الإشكالي لحساء المنفعة الليبرالية لدينا منذ أن قدمنا ​ مقياساً ثالثًا أعلى يشرع التناقضات بين القوة الأخلاقية لمبدأ المنفعة والقوة الأخلاقية للحقوق.[22]

إذا كانت هذه المعضلات تنطبق على نفعية مل، فإن الآثار ستكون أفضل وأسوأ على حد سواء بالنسبة لهربرت سبنسر. وعلى الرغم من أن المنفعة بالنسبة إلى مل، تتفوق دائمًا على الحقوق عندما يكون ما يكفي من السابق في خطر، فمع هربرت سبنسر تتفوق الحقوق الأساسية دائمًا على المنفعة بغض النظر عن مدى تعرض هذة الأخيرة للخطر. ومن ثم، لا يحتاج هربرت سبنسر إلى تقديم معايير تكميلية خفية للفصل في التعارض بين المنفعة والحقوق لأن الحقوق غير قابلة للإلغاء، ولا تفسح المجال أبدًا لمطالب المنفعة أو الفوضى مهما كانت فورية ومهما كانت واعدة أو كارثية.

باختصار، بالنسبة لهربرت سبنسر، فإن الحقوق الأخلاقية الأساسية تحمل دائمًا القوة الأخلاقية الأكبر عملياً (إن لم تكن رسمياً). تحل الليبرالية دائمًا محل النفعية في الممارسة بغض النظر عن مدى إصرار هربرت سبنسر على التظاهر بالولاء للنفعية.

وبطبيعة الحال، يمكن للمرء أن ينقذ هذا النوع من أصالة النفعية من خلال التأكيد بشكل غير معقول على أن الحقوق الأخلاقية غير القابلة للإلغاء دائمًا (بمعنى حرفيًا بدون استثناء) تعمل دائمًا لصالح النفعية الأفضل على المدى القصير والطويل.
كما يقترح واين سومنر (Wayne Sumner) بشكل صحيح، “الحقوق المطلقة ليست نتيجة مستحيلة لمنهجية عواقبية” (راجع Sumner, 1987: 211) في حين أن هذه المناورة ستنقذ بالتأكيد النزاهة المنطقية لنسخة هربرت سبنسر الليبرالية من النفعية، إلا أنها تفعل ذلك على حساب مصداقية الفطرة السليمة.

وحتى لو صحّ بأعجوبة القول بأن احترام الحقوق دون استثناء حدث لتعظيم المنفعة على المدى الطويل، فإن إثبات هذه الحقيقة تجريبيًا سيثبت بالتأكيد أنه يمثل تحديًا في أحسن الأحوال. بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من المعقولية العملية لهذه المناورة، يبدو مع ذلك أنها تتسبب في جعل النفعية تتقاعد “موقفًا متبقيًا” لا يستحق في الواقع ان يطلق عليه “تسمية النفعية” (راجع Williams in Smart and Williams, 1973: 135).  من غير الواضح ما إذا كان هربرت سبنسر قد تصور بالفعل مصلحته النفعية بهذه الطريقة.

على أي حال، بقدر ما كان يعتقد أيضًا أن التطور الاجتماعي يميل نحو الكمال الأخلاقي للإنسان، كان بإمكانه أن يقلق بشكل أقل حول ما إذا كانت النفعية القائمة على الحقوق مشروعًا فلسفيًا معقولاً. زيادة الكمال الأخلاقي تجعل إجراءات القرارات الثانوية مثل الحقوق الأخلاقية الأساسية غير ضرورية كاستراتيجية لتعزيز المنفعة. لماذا نهتم بتعزيز المنفعة العامة بشكل غير مباشر بعد أن تعلمنا الترويج لها بشكل مباشر مع التأكد من النجاح؟

لماذا نهتم بالمصادر البديلة للالتزام الاحتياطي بينما ستفعل النفعية ذلك، كوننا قد أصبحنا أحد القديسين الأخلاقيين؟ لكن عدم احتمال الكمال الأخلاقي ليس أقل معقولية من احتمال الاحترام المتعصب للحقوق الأخلاقية الأساسية الذي يعمل دائمًا من أجل النفعية الأفضل.[23] على أي حال، تمامًا كما تتسبب الاستراتيجية الأخيرة في انسحاب النفعية تمامًا لأغراض عملية، فإن الاستراتيجية السابقة ترقى إلى الليبرالية التي تتقاعد تمامًا بدورها. ومن ثم، يجب اعتبار نسخة مل من النفعية “الليبرالية” أكثر إقناعًا وواعدة بالنسبة لأولئك الذين ما زالوا منجذبين بعناد إلى هذا المشروع الفلسفي الإشكالي.

ومع ذلك، فإن النفعية القائمة على الحقوق لدى هربرت سبنسر لديها الكثير لتوصي به على الرغم من ميزاتها غير التقليدية وآثارها غير المعقولة. حتى أكثر من مل، فهو يقترح كيف يمكن أن يحاول النفعيون الليبراليون تعديل النفعية بطرق أخرى، مما يمكنهم من الاحتفاظ بقدر معين من الجاذبية الأخلاقية الكبيرة. ترتدي نفعية هربرت سبنسر ليبراليتها ليس فقط من خلال تقييد السعي وراء المنفعة خارجيًا عن طريق نشر حقوق أخلاقية قوية بقوة أخلاقية مستقلة وملموسة.

إنها تظهر أيضا، وبنجاح أكبر، كيف يمكن للمنفعيين تحرير نفعيتهم من خلال بناء قيود داخلية في أهدافهم القصوى. إذا قمنا باتباع هربرت سبنسر بجعل توزيع أهدافنا إلى أقصى حد حساسًا من خلال تضمين سعادة الجميع بداخله، بحيث يحصل كل فرد على نصيبه العادل، فعندئذٍ نكون قد أنقذنا نوعًا من الأصالة العواقبية مع ضمان السلامة الفردية في نفس الوقت.

لقد أنقذنا النفعية باعتبارها وسيلة عواقبية لتعزيز السعادة، إن لم تكن لتعظيم السعادة. لأن الجميع “يجب أن يحسبوا لواحد، لا أحد لأكثر من واحد” ليس فقط كمصدر لتوليد المنفعة ولكن أيضًا لأنه يستحق تجربة حصة منها، فلا يجوز التضحية بأحد بلا حدود من أجل مصلحة البقية.[24] لا يجوز معاملة أي شخص كوسيلة فقط ولكن يجب معاملته على أنه غاية أيضًا.

لنفعية هربرت سبنسر الكثير لتوصي به لأهميتها التي لا تقدر بثمن في تطوير الليبرالية الحديثة (بل مقدره بأقل من قيمتها الحقيقية). إذا كان مل وسيدجويك مهمين لفهم قانوننا الليبرالي، فإن هربرت سبنسر لا يقل أهمية. إذا كان كلاهما حاسمًا للتعامل مع رولز (Rawls) على وجه الخصوص، وبالتالي مع ما بعد الرولزيانية (Rawlsianism) عمومًا، كما أعتقد بشدة، فإن هربرت سبنسر يستحق بالتأكيد الأفضل من التاريخ الفكري الحديث. التاريخ الفكري أحد العديد من الروايات المهمة التي نرويها ونعيد سردها لأنفسنا. يا له من عار عندما نستسلم للكسل العلمي الأكاديمي في بناء هذه الروايات لمجرد أن هذا الكسل يسهل مواجهة التحديات التربوية لتدريس التقليد الليبرالي والاستجابة لحاجتنا إلى هوية فلسفية متماسكة.


المراجع

 • المصادر الرئيسية: (كتب هربرت سبنسر)

  • ·       1851, Social Statics, Robert Schalkenbach Foundation, 1970.
  • 1855, The Principles of Psychology, London: Longman, Brown, Green, and Longmans.
  • 1862, First Principles, Williams and Norgate, 1915.
  • 1864–1867, The Principles of Biology, 2 volumes, London: Williams and Norgate.
  • 1868–74, Essays: Moral, Political and Speculative, 3 vols., London: Williams and Norgate, 1901.
  • 1873, The Study of Sociology, Ann Arbor: University of Michigan Press, 1969.
  • 1879–93, The Principles of Ethics, 2 volumes, Indianapolis: Liberty Classics, 1978.
  • 1884, The Man Versus the State, Indianapolis: Liberty Classics, 1981.
  • 1893, “The Inadequacy of ‘Natural Selection’,” The Contemporary Review, 63: 153–166, 439–456.
  • 1897, “M. De Laveleye’s Error” in Various Fragments, New York: D. Appleton and Co., 1898.
  • 1897, The Principles of Sociology, 3 volumes, New York: D. Appleton and Co., 1876–96.
  • 1904, An Autobiography, 2 volumes, London: Williams and Norgate.

• المصادر الثانوية

  • Den Otter, Sandra M., 1996, British Idealism and Social Explanation, Oxford: Oxford University Press.
  • Duncan, David, 1908, The Life and Letters of Herbert Spencer, London: Methuen and Co.
  • Francis, Mark, 2007, Herbert Spencer and the Invention of Modern Life, Stocksfield: Acumen.
  • Francis, M. & M. Taylor (eds.), 2015, Herbert Spencer: Legacies, London: Routledge.
  • Gibbard, Allan, 1982, “Inchoately Utilitarian Common Sense: The Bearing of a Thesis of Sidgwick’s on Moral Theory,” in Harlan B. Miller and William H. Williams, (eds.), The Limits of Utilitarianism, Minneapolis: University of Minnesota Press.
  • Gray, John, 1983, Mill on Liberty: A Defence, London: Routledge and Kegan Paul.
  • –––, 1989, “Mill’s and Other Liberalisms,” in John Gray, Liberalisms: Essays in Political Philosophy, London: Routledge and Kegan Paul.
  • Hoftstadter, Richard, 1955, Social Darwinism in American Thought, Boston: Beacon Press.
  • Huxley, T. H., 1893, “Evolutionary Ethics” in T. H. Huxley, Evolution and Ethics and Other Essays, New York: D. Appleton and Co., 1929.
  • Mill, J. S., 1861, Utilitarianism in John M. Robson (ed.), The Collected Works of John Stuart Mill, 33 vols., Toronto: University of Toronto Press, 1969, vol. x.
  • Moore, G. E., 1903, Principia Ethica, Cambridge: Cambridge University Press, 1984.
  • Muirhead, J. H., 1897, The Elements of Ethics, London: John Murray.
  • Nozick, Robert, 1974, Anarchy, State, and Utopia, New York: Basic Books.
  • Offer, John, 1994, “Introduction,” in John Offer (ed.), Herbert Spencer: Political Writings, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 2014, ‘Herbert Spencer,”, in W.J.Mander (ed.), The Oxford Handbook of British Philosophy in the Nineteenth Century, Oxford: Oxford University Press, 257–284.
  • –––, 2010, Herbert Spencer and Social Theory, Houndmills: Palgrave Macmillan.
  • Paxton, Nancy, 1991, George Eliot and Herbert Spencer, Princeton: Princeton University Press.
  • Riley, Jonathan, 1988, Liberal Utilitarianism: Social Choice Theory and J. S. Mill’s Philosophy, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Ritchie, D. G., 1891, The Principles of State Interference in Peter P. Nicholson (ed.), Collected Works of D. G. Ritchie, 6 vols., Bristol: Thoemmes Press, 1998.
  • Ross, W. D., 1939, Foundations of Ethics, Oxford: Oxford University Press.
  • Schneewind, Jerome, 1977, Sidgwick’s Ethics and Victorian Moral Philosophy, Oxford: Oxford University Press.
  • Sidgwick, Henry, 1902, Lectures on the Ethics of T. H. Green, Mr. Herbert Spencer and J. Martineau, London: Macmillan.
  • –––, 1907, The Methods of Ethics, 7th edition, Indianapolis: Hackett Publishing Co., 1981.
  • –––, 1880, “Mr. Spencer’s Ethical System,” Mind, 5(18): 216–226.
  • Sinclair, A. G., 1907, Der Utilitarismus bei Sidgwick und Spencer, Heidelberg: Carl Winter’s Universitätsbuchhandlung.
  • Skinner, Quentin, 2002, “A Third Concept of Liberty,” London Review of Books, 24(7): 16–18.
  • Sumner, W. L., 1987, The Moral Foundations of Rights, Oxford: Oxford University Press.
  • Taylor, Michael W., 2007, The Philosophy of Herbert Spencer, London: Continuum.
  • Weinstein, D., 1998, Equal Freedom and Utility: Herbert Spencer’s Liberal Utilitarianism, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 2000, “Deductive Hedonism and the Anxiety of Influence,” Utilitas, 12(3): 329–346.
  • Williams, Bernard, 1973, “A Critique of Utilitarianism,” in J. C. C. Smart and Bernard Williams (eds.), Utilitarianism: For and Against, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Young, R. M., 1970, Mind, Brain and Adaptation in the Nineteenth Century, Oxford: Oxford University Press.

الأدوات الأكاديمية

How to cite this entry.
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
Look up this entry topic at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر الإنترنت الأخرى


 مداخل ذات الصلة


Bentham, Jeremy
| consequentialism | consequentialism: rule | Darwinism | evolution | evolution: concept before Darwin | liberalism | Mill, John Stuart | Sidgwick, Henry | sociobiology


الهوامش:

[1] Weinstein, David, “Herbert Spencer”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2019 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/fall2019/entries/spencer/>.

[2] اخبرني (ج . ب .شنيويند) ذات مرة انه اشترى مؤخرا (حظائر) سبنسر، مشددا على مقدار ما كتبة سبنسر في العديد من المواضيع المتنوعة.

[3] يبدو ان سبنسر مدين لفريدريك فيلهيلم يوزف شيلن بفكرة أن جميع الأنواع كانت عرضة لزيادة التفرد ولكارل إرنست فون بايربفكرة أن التجانس يفسح المجال دائمًا لعدم التجانس. راجع كتاب مايكل تايلور (رجال ضد الدولة: هربرت سبنسر والفردانية الفيكتورية المتأخرة (Michael Taylor’s Men Versus the State: Herbert Spencer and Late Victorian Individualism (Oxford: Oxford University Press, 1992) للحصول على مناقشة أكثر شمولاً للاستمرارية بين نظريات سبنسر عن التطور غير العضوي والعضوي والاجتماعي.

[4] قبل البدء في أسس علم الاجتماع، نشر سبنسر دراسة علم الاجتماع في عام 1873 والتي يستكشف الكثير منها التحيزات المختلفة، مثل الطبقية والدينية، التي تلوث عادةً جميع المحاولات الاجتماعية. كما أصدر أول مجلد من كتابه “علم الاجتماع الوصفي” في نفس العام والذي تضمن 15 مجلداً وأكمله محررين لاحقون في عام 1934 بعد فترة طويلة من وفاة سبنسر. علم الاجتماع الوصفي عبارة عن فهرس ضخم للبيانات الإثنولوجية، منظم بشكل قاطع، من مجتمعات متنوعة تاريخيًا وجغرافيًا. في تقسم العمل في المجتمع، انتقد إميل دوركهايم سبنسر لاختياره حقائق عشوائية دفاعًا عن مزاعمه الاجتماعية. انظر هربرت سبنسر، السيرة الذاتية

(Herbert Spencer, An Autobiography (London: Williams and Norgate, 1904), vol. II, 374)

[5] انظر هربرت سبنسر، السيرة الذاتية (Herbert Spencer, An Autobiography (London: Williams and Norgate, 1904 vol. II, 374 (حيث يقول سبنسر إن “نظامه بالكامل كان في البداية، واستمر في كونه أساسًا لقاعدة صحيحة للحياة …”

[6] كما أخذ دوركهايم على عاتقه  سبنسر في مسؤولية التفكير في أن المصلحة الذاتية الضيقة المتضائلة ستجعل الحكومة يومًا ما غير ضرورية. في الواقع بالنسبة لدوركهايم، إن المجتمعات من دون دولة ستكون اسيره لمأزق التدمير الذاتي .

[7] راجع ( جون ديفيد بيل، هربرت سبنسر: تطور عالم اجتماع ؛ و جوناثان إتش تورنر, هربرت سبنسر  و كذلك روبرت كارنيرو و روبرت بيرين “مبادىء هربرت سبنسر لعلم الاجتماع : استعراض و تقييم المئوية ” (J. D. Y. Peel, Herbert Spencer: The Evolution of a Sociologist (London: Heinemann, 1971), 84; Jonathan H. Turner, Herbert Spencer (Beverly Hills: Sage, 1985), 83 and Robert Carneiro and Robert Perrin, “Herbert Spencer’s Principles of Sociology: A Centennial Retrospective and Appraisal,” Annals of Science, 59 (2002), 233) وعلى الرغم من ذلك، يقول بيرين أيضًا إن بيل قد “يبالغ” في قضيته لمناقشة أن علم الاجتماع والفلسفة الأخلاقية لسبنسر يمكن قراءتهما بشكل مستقل عن بعضهما البعض. (235 ) .

[8] مارك فرانسيس، “مقدمة” في كتاب مارك فرانسيس ومايكل دبليو تايلور (محرران) ، هربرت سبنسر: المواريث

.( Mark Francis, “Introduction” in Mark Francis and Michael W. Taylor (eds.), Herbert Spencer:

Legacies (New York: Routledge, 2014), 13)

[9] بيتر باور “هربرت سبنسر و اللاماركية”( Peter J. Bower, “Herbert Spencer and Lamarckism” in Francis and Taylor, especially 204).

[10] إن المقالة الأخيرة جزء من مطارحته مع وايزمان.

[11]جيمس ج. كينيدي، هربرت سبنسر(James G. Kennedy, Herbert Spencer (Boston: Twayne Publishers, 1978), 101 ). سواء كان سبنسر يعتقد أم لا أن المجتمعات كائنات اجتماعية تشبه إلى حد كبير الكائنات البيولوجية، فقد كانت مسألة خلاف. في كتابه الأخير بعنوان “العلاقات بين علم الأحياء وعلم النفس وعلم الاجتماع” ،( The Relations of Biology, Psychology and Sociology,” Popular Science Monthly, 50 (1896), 169–70 )، أكد على أن التشبية لا يجب أن “يؤخذ كأساس للتفسيرات الاجتماعية”. كان قد أصر سابقًا في أسس علم الاجتماع، وكان القصد منه ببساطة هو التأكيد على “التوازي” بين الأجزاء المعتمدة على بعضها البعض في كل من الكائنات الحية والمجتمعات.

[12] في كتابه السابق، الإحصائيات الاجتماعية ما قبل التطورية (1851) ، شرح سبنسر التطور الأخلاقي، والجمع بين علم النفس المعنوي وعلم فراسة الدماغ. انظر ((Weinstein, 1998: Ch. 2 انظر ايضا (Young, 1970).  بالنسبة إلى اللاماركية، انظر المدخل على لامارك على صفحات الويب الفيكتورية: جان بابتيست, لامارك. بالنسبة لعلم فراسة الدماغ (الفرينولوجيا)، جون فان ويهي ، تاريخ علم  الفرينولوجيا على الويب ….

[13]  انظر، على وجه الخصوص ، Hofstadter, 1955: 40–1، للحصول على سوء فهم شنيع لسبنسر, والذي يعمل معًا في تفسيره على أنه داروينيا اجتماعيا ومؤيدا للحقوق الطبيعية التقليدية. للحصول على مثال أكثر حداثة , فالحقوق الطبيعية  تنسب بشكل خاطئ الى سبنسر، راجع( Offer، (ed.)،1994: xxv – vi. ) انظر أيضًا ( Spencer، vol. II ، 1978: 195 )، للاطلاع على سرد سبنسر للحقوق الأخلاقية الأساسية باعتبارها اتفاقيات ناشئة وغير قابلة للإلغاء.

على سبيل المثال  للداروينية الفجة في (الإنسان مقابل الدولة  The Man Versus the State ، انظر 113-4)حيث يدين سبنسر الإصلاح القانوني الضعيف لإجباره المواطنين “الدؤوبين والادخارين” “على دفع المال الذي قد لا يعاني منه الأشخاص”. علاوة على ذلك ، فإن أولئك “المتعاطفين لدرجة أنهم لا يستطيعون ترك النضال من أجل الوجود يجلب معاناة لا يستحقونها نتيجة لعجزهم أو سوء سلوكهم، هي غير متعاطفه لدرجة أنها يمكن، عن عمد، جعل النضال من أجل الوجود أكثر صعوبة على المستحقين ، وإلحاق الضرر بهم. والحاق الشرور الاصطناعية بهم و بأطفالهم بالإضافة إلى شرور طبيعية عليهم تحملها! ” وللحصول على مثال أكثر من نفس الشيء في أسس الأخلاق ، انظر( 9vol. II: 40).

[14] اعتبر سبنسر رسالته التوضيحية لمِل مهمة لأنه أعاد طباعتها بشكل جزئي في كتاب (أسس الأخلاق)، وبشكل كامل في كتاب (السيرة الذاتية). فقد أضاف في (أسس الأخلاق) أن النفعيين التقليديين يتبعون بينثام تبعية فشلوا فشلا ذريعا في الاستنتاج من “المبادئ التأسيسية، يجعل الشيء واجب الضرر، وما يجعله واجب المنغعة” (vol. I: 92).

[15] راجع الهامش الثاني الذي ألحقه مِل إلى الفصل الأخير من كتابه (النفعية) في معرض ردّه على رسالة الشكوى من سبنسر، حيث يقول: “مع استثناء كلمة “ضروري”، فليس عندي أية معارضة أفصح عنها لمذهب [سبنسر]؛ وبحذف هذه الكلمة، لا نعلم أي محامٍ معاصر عن النقعية يقول بغير هذا الرأي”.

[16].بالنسبة لاتهام هكسلي بأن التفكير الأخلاقي لسبنسر خاطئ لأنه يثني على “نظرية المصارعة للوجود” ، راجع محاضرة رومانيس المثيرة للجدل عام 1893 ، “الأخلاق التطورية”(Evolutionary Ethics” in Huxley, 1929: 80–2.). راجع أيضًا (Spencer’s “M. De Laveleye’s Error” in Spencer, 1898: 116.)

[17].راجع أيضًاSidgwick, 1880 and Sidgwick, 1902  لمزيد من تقييم سيدجويك لسبنسر. وللحصول على رد سبنسر على سيدجويك، انظر، على سبيل المثال، (Spencer, 1881 reprinted as “Appendix E” in Spencer, vol. II, 1978) انظر أيضًا Weinstein)

,( 2000 for Spencer’s undervalued role in Sidgwick’s thinking.

[18] انظر بشكل خاص، (sidgwick, 1907: 467ff.).

[19]. من أجل نظرية سيدجويك الأخلاقية، انظر Schneewind) ، (1977. انظر أيضًا العدد الخاص من Utilitas، نوفمبر 2000 لإحياء الذكرى المئوية لوفاة سيدجويك.

[20].انظر) Sidgwick، (1902: 138 وما يليها.قدم لرفضه اللاماركية. يبدو أن سيدجويك قد فكر جيدًا في الجوانب الأخرى لنظرية سبنسر الاجتماعية. بخصوص المجلد II من أسس علم الاجتماع كتب سيدجويك أنه “كمقال مفيد نحو بناء علم الاجتماع العلمي ، لا أعرف شيئا جيدا”. انظر (A. S. Sidgwick and E. M. S. Sidgwick, Henry Sidgwick: A Memoir (London: Macmillan, 1906). ريتشي بالمثل رفض لاماركية سبنسر في محاولة لتضخيم خلافاته مع سبنسر.

كان ريتشي تطوريًا وليبراليًا منفعيًا ، وتبعًا لسبنسر ، حل التفكير العملي النفعي محل الحدس الأخلاقي حيث حل “الاختيار العقلاني” الحكيم محل الانتقاء الطبيعي العرضي باعتباره الآلية التي تقود التقدم الاجتماعي والرفاهية. للاطلاع لانتقادات ريتشي لسبنسر ، انظر بشكل خاص ريتشي ، “مبادئ تدخل الدولة”

 (Ritchie, “The Principles of State Interference” in Nicholson, ed., vol. 1, 1998.) انظر أيضًا(Weinstein, 2002: 83–90) لمناقشة تفصيلية للتشابهات التي تم التغاضي عنها بين سبنسر وريتشي. انظر(Den Otter, 1996: 93–8) للحصول على وجهة نظر سبنسر ضد ريتشي. وانظر (Weinstein, 1998: 26–9 )، من أجل التبادل النقدي لسبنسر مع اوغست وايزمان حول معقولية اللاماركية.

[21] إعجاب شتاينر بسبنسر لتوقع نسخته الخاصة من الليبرتارية اليسارية ، انظر) Hillel Steiner، “Land، Liberty and the Early Herbert Spencer،” History of Political Thought، 3 (1983). انظر أيضًا Hillel Steiner, “Liberty and Equality,”) Political Studies, 29 (1981)).

[22]. للحصول على نظرة عامة تاريخية عن نقاد النفعية الليبرالية، كرر العديد منهم مؤخرًا على نحو غير معروف ما سبق ان قاله المنتقدون السابقون، انظر (Weinstein, 1998: “Introduction.” ) للحصول على تفسيرات مواتية عن النفعية الليبرالية الملية، انظر(Gray, 1983 and Riley, 1988. ). تراجع جراي مؤخرًا عن دفاعه عن مل بشكل خاص، والنفعية الليبرالية بشكل عام،( Gray, “Mill’s and Other Liberalisms” in Gray, ed., 1989 ).

[23].من الواضح أن سبنسر كان متفائلاً بشكل مفرط في توقع أن التطور الاجتماعي كان مثاليًا أخلاقياً. لكن كماله كان يرتكز، كما أشرت، على قناعته بأن النفعية “التجريبية” تفسح المجال تدريجياً وبلا هوادة إلى النفعية “العقلانية”، وهو ما شجعه على اعتناق اللاماركية. إذا كانت مواهبنا العقلية والأخلاقية المكتسبة قابلة للتوريث بما لا يقل عن مواهبنا الجسدية، إذن، كما يعتقد سبنسر، ستصبح الأجيال القادمة متحمسة بشكل متزايد للتصرف بأسباب نفعية بالإضافة إلى أنها قادرة بشكل متزايد على إجراء الحسابات النفعية المطلوبة.

[24]. لتقديم مل المرتبك لهذا القول المأثور، والذي غالبًا ما يُنسب بشكل خاطئ إلى بنثام بفضل مل جزئيًا، انظر (Mill, “Utilitarianism,” in Robson, ed., vol. X, 1969). يفسر هذا القول بشكل غير متسق. فمن ناحية، يقول إنها تعني “المطالبة المتساوية للجميع بالسعادة”، مما يعني أن كل شخص يستحق بحق، كمسألة عدالة توزيعية، قدرًا متساويًا من السعادة. ومن ناحية أخرى، يدعي أنها “تنطوي على مطالبة متساوية لجميع وسائل السعادة”، وهو ما يعني أقل من ذلك بكثير، أي أن كل شخص يستحق بحق تكافؤ الفرص لإسعاد نفسه.

كما يقول في حاشيته الطويلة عن سبنسر أن هذا المبدأ “يمكن وصفه بشكل أكثر صحة بأنه يفترض أن الكميات المتساوية من السعادة مرغوبة بنفس القدر ، سواء شعر بها نفس الأشخاص أو أشخاص مختلفون. هذا التقديم أكثر إثارة للقلق، مما يشير إلى أن حالات السعادة فقط لها قيمة بينما الأفراد لديهم قيمة مشتقة فقط كوسيلة للسعادة. الإصدار الثاني فقط هو ليبرالي أصلي ويتناسب بشكل مريح مع ما كان يدور في ذهن مل وسبنسر في الغالب باعتبارهم نفعيين ليبراليين.