الكاتب | آغنس كالارد |
ترجمة | فاطمة الشملان |
فلنفرض أنك غضبت الثلاثاء لأني سرقتك الاثنين. افرض بأني أعدت ما سرقت الأربعاء وعوضت عنك أي قصور نتج عن عدم امتلاكك له لمدة يومين، وعرضت عليك عطايا إضافية لأظهر حسن نيتي، واعتذرت عن سرقتي على أنها لحظة ضعف، وأخيرا وعدت بألا أعيد الكرة مرة أخرى. افرض بأنه علاوة على ذلك، آمنت بأن اعتذاري صادق وأني سأحفظ الوعد.
هل من المنطقي بالنسبة لك أن تظل بنفس الغضب الخميس كما كنت الثلاثاء؟ فضلا على أنه هل من المنطقي بالنسبة لك أن تحيك خطة لتسرق شيئا مني بالمقابل؟ وماذا إذا لم تتوقف عند سرقة واحدة: هل سيكون من المنطقي بالنسبة لك أن تمضي بسرقتي مرة أخرى وأخرى وأخرى؟
على الرغم من أن غضبك الأولي تجاهي كان معقولا، غير أننا ننظر إلى سياسة الانتقام المبالغ به على أنها نموذج لا عقلاني. يُقال لنا عليكم أن تتخطوا الأمر نهاية المطاف أو أن تتركوه، أو نحيل رغبتنا للانتقام إلى شعور صحي أو محترم أكثر. انبثق عن هذه الفكرة جدل ضمن الفلاسفة الأكاديميين عن قيمة الغضب . أعلينا أن نرفع من شأنه بمقتضى السخط المستحق لردة الفعل الأولى؟ أم نحط منه بمقتضى الثأر الحامل للحقد لذلك الغضب المستمر؟
سأشرح كيف يمضي هذا الجدل، إلا أنني لن أحاول حله. بل سأقشره لأكشف عن سر كامن فيه: ظللنا نجادل عن المسألة الخطأ. يتعلق الجدل الحقيقي بثلاث أسئلة في فلسفة الغضب والمنطقية في الفقرة التالية لي، والتي هي ليست بأسئلة خطابية والتي قد يكون إجابتها نعم ونعم ونعم.
لنبدأ بالجدل الأكاديمي. لدينا من ناحية أولئك الذين يعتقدون بأننا سنملك عالما أخلاقيا أفضل إذا تمكنا من القضاء على الغضب بالكامل. لهذا التراث جذوره في الرواقية والبوذية القديمة. كتب فيلسوف ورجل الدولة الروماني في القرن الأول، سينيكا، بأن الغضب نوع من الجنون؛ كتب رسالة كاملة – عن الغضب ، عنوان هذا الكتاب – عن كيفية التعامل مع آثاره المعتلة. في حين فرض فيلسوف القرن الثامن والكاهن الهندي شانتيديفا على أولئك الراغبين بالسفر في درب التنوير التخلص من أصغر ذرات الغضب حتى، على أساس أنه لا يمكن للشعور الكامل إلا أن يسبب الأذى.
أما في العالم المعاصر، تشير مارثا نوسباوم إلى سينيكا والتراث الرواقي لتحاج بأن الغضب سلوك مغلوط نابع من النفس، بما أنه مصاب بتطلع استرجاعي “أمنية رد الفعل” المنتقمة والمدمرة. إن التفاعل الصحيح لأي عقبة أو جور، في منظورها، هو التطلع المستقبلي: توقي حصول أحداث مشابهة في المستقبل. وفي نفس المصب يرى أوين فلاناجان الذي يشير إلى بوذية شانتيديفا والميتافيزيقيا الكونفوشيوسية أن الغضب سلوك داخلي عدواني، والذي يفترض خطأ ميتافيزيقيا تتمحور حول الذات لأفراد يحملون ” نوايا القسوة وفعل الأذى أو الشر.”
وفي الناحية الأخرى من الجدل، يقف أولئك الذين يعتبرون الغضب – إلى حد ما – جزءا جوهريا وقيما من مخزون المرء الأخلاقي: الغضب ما يجعلنا نتحسس من الجور ويحفزنا لإقامة العدل. فبغضبك علي الثلاثاء، اليوم الذي أعقب سرقتي، خلقت نظاما وطالبت بشروط يتوجب علي ضمنها أن أذعن و”أصلح الأمور” الأربعاء.
لهذا الموقف المناصر للغضب جذوره في منظور أرسطو بأن المشاعر (المدربة جيدا) هي ما تسمح لـ “عين الروح” بإدراك القيمة الأخلاقية، وتجد قمة تعبيرها في الوجدانيين الأخلاقيين البريطانيين للقرن السابع والثامن عشر. قبض كل من إيرل شافتسبري وفرانسيس هتشسون وديفد هيوم وآدم سميث على أن مشاعرنا تحديدا هي ما تجعلنا حساسين للاعتبارات الأخلاقية.
بثت ورقة بيتر ستراوسون المفصلية “الحرية والامتعاض” (1960) الحياة في القضية المناصرة للغضب عبر جعل المشاعر الآلية الأساسية للمسؤولية الأخلاقية.
طور ستراوسون من منظور سميث بأن وضعنا كمخلوقات أخلاقية يقع على حقيقة أننا نهتم – على مستوى شعوري – بما نفكر فيه تجاه أحدنا الآخر. يفهم ستراوسون المشاعر السلبية في أسرة الغضب على أنها تعابير نموذجية للتقييم الأخلاقي. يعامل الغضب هدفه على أنه شخص قابل على التعرف بأنه أخط ويقابله عدم الاهتمام أو حساب الحذر الذي به يمكن أن نتفاعل مع شخص نرى بأنه لا أمل من إعادة دمجه في المجتمع الأخلاقي.
إن تأثير ستراوسون المستمر جلي في عمل الفلاسفة المعاصرين مثل ر. جاي والاس وجيسي برينز وألان جيبارد وباميلا هيرونيمي وجين هامبتون. فعلى الرغم من اختلاف استنتاجاتهم والعديد من الخطوات التي يتخذونها على طول الدرب، بيد أن كلهم يبدئون من الافتراض الوجداني بأن المشاعر تقع في قاع تصرفاتنا في تحميل أحدنا الآخر المسؤولية الأخلاقية.
لكن هل هذين المخيمين – الرواقيون مقابل الوجدانيون- متعارضين بكل ما تعنيه الكلمة حقا؟ على كلاهما التعامل مع المعطى الذي يحفز الآخر، وحين يفعلان ذلك، يقومان ببعض التحركات المستغربة نحو التصالح.
تأمل المعطى من الجانب المناهض للغضب. ثمة على الأقل عقبتين كبيرتين للغضب، إذ يشيران إلى:
- أولا، الميل لتعلق المرء بغضبه، حاملا حقدا أصما تجاه أي صوت عقلاني للتصالح أو الاعتذار أو التعويض؛
- ثانيا، الميل إلى تطابق الانتقام (وغالبا لا يكون كذلك). ينحت المعجبون بالغضب تلك الظواهر بعيدا على أنها اعتلالات وليست مرتبطة جوهريا بالغضب .
يستخدمون كلمات معينة مثل “السخط” و “الامتعاض” للإشارة إلى غضب مُنقى من تلك النزعات. يقولون بأن الغضب المُنقى يعترض على العمل الخاطئ غير أنه يخلو من النزعات الانتقامية ويتجاوب فورا مع أسباب تخلي المرء عن غضبه. (وفي هذه المصطلحات التقنية، يُستخدم “الامتعاض” عموما لتسجيل الاعتراض نيابة عن الشخص نفسه، في حين “السخط” للاعتراض نيابة عن الآخر.) تشبه هذه الحركة – نحت الجانب المظلم بعيدا – بشكل مذهل الحركة التي يقوم بها أعداء الغضب حين يُواجَهون بما يمكن أن يسموه “الجانب الأخلاقي” من الغضب .
فكل من فلاناجان ونوسباوم مثلا، يقران بأن من يفشل في التفاعل مع الأخطاء الشنيعة يخاطر بالإذعان للشر. يهبان أهمية للحس الأخلاقي الذي يودي بالشخص للاعتراض على أن يُعامل بقلة احترام، غير أنهما يتمسكان بأن ردة فعل كهذه دون غضب ممكنة ولائقة. يستخدم فلاناجان كلمة “السخط الحق” لتغطية “الحكم بأن حالة كذا وكذا فادحة بالخطأ، وعلى الخطأ أن يُصحح، وموقفا شعوريا بالرغبة في تصحيح الخطأ دون غضب.” تتحدث نوسباوم عن “غضب انتقالي حيث أنه ليس غضبا بالمرة بقدر ما هو “شبيه غضب”: ” كامل محتوى شعور المرء هو، “يا للفظاعة! يجب عمل شيء تجاه الأمر.”
لاحظ ماذا حصل: ما ابتدأ كمعركة حول الغضب ينتهي باتفاق الكل بتجنب استخدام تلك الكلمة. وعوضا عنه يفضل كلا الجانبين فصل “الجانب الأخلاقي” من الغضب (غضب الثلاثاء، الذي يتخذ هيئة اعتراضا عقلانيا ومبررا على الجور) عن “الجانب المظلم” (غضب الخميس، الذي يتخذ هيئة نقمة غير عقلانية وانتقاما غير مبرر). لا يهم ماذا نتبع؛ الستراوسونيون ونسمي هذا الجانب الأخلاقي (سخط/ امتعاض،” أو نستخدم مصطلح نوسباوم وفلاناجان “الغضب الانتقالي” أو “السخط الحق”.
حين يفشل الفلاسفة في الاختلاف على مسألة ما، فإنك تعرف بأن أحدهم يخفي أمرا ما. أعتقد في هذه الحالة بأن الحرب الكاذبة شتتنا – والمحاربين أنفسهم – عن جدل افتراض قامت به كل الأطراف. يفترض الكل بأن بإمكاننا الاحتفاظ بالجانب الأخلاقي من الغضب في حين إبعاد أنفسنا من الظاهرة النموذجية غير العقلانية كالنقمة والسخط. ولكن ماذا إذا كانت المسألة غير ذلك؟ ماذا إذا كنا نحن البشر نصنع الأخلاقيات عبر النقمات المنتقمة؟
حقيقة الحياة أن البشر يملكون هشاشة عاطفية تجاه كيف نُعامل، لذا حين تخطئ على أحدهم، فإنك تضع عليهم الألم الفارق للمعاملة المجحفة. هذه الحساسية الأخلاقية من جهتهم مشمولة في ذات معنى ماذا يعني “الخطأ على أحدهم”. جزء من لماذا الخطأ على الناس مجحف هو بأنهم يلحظونه.
كما أنه من حقيقة الحياة أيضا أن الناس تميل إلى اشتقاق استنتاجات حاملة للنقمة والانتقام من محيط يشمل حقائق أخلاقية أصيلة عن الجور والخطأ. أعتقد بأنه يتوجب علينا ألا نتسرع في اعتلال هذا الاستدلال أو صرفه على أنه عادة مرضية. سأعرض حجتين – حجة النقمات وحجة الانتقام – وربط ذلك المحيط بتلك الاستنتاجات، مقترحة بأن تعليل هذه المسألة في الحقيقة صواب. إذا لا يمكننا تنقية الأخلاقيات فلا يمكننا تنقية الغضب .
فلنعود إلى مثالنا الأول. هل من العقلاني بالنسبة لك أن تبقى غاضبا مني الخميس، بعد كل عملي الشاق لإعادة العدل؟ سيجيب كلا الرواقيون الجدد مثل نوسباوم وكل الوجدانيون الجدد مثل ستراوسون بلا.
سيقولان بأن عليك أن تأخذ بالاعتبار كيف تم التعامل مع الخطأ الذي أشعل غضبك، عبر الإعادة والتعويض والاعتذار والوعد. أصلحتُ خطأي بكل وسيلة ممكنة؛ فإذا استمريت بـ الغضب كما أنت، فإذن، وكما يُحاجان، لأنك وبشكل غير عقلاني جامد تجاه تلك الإصلاحات.
إن الميل للتشبث بـ الغضب خلال الاعتذارات والصلح لسنوات وعلى حساب جميع الأطراف المعنية يصرف غالبا على أنه غير عقلاني. ويفترض غالبا، بأن “عدم التخلي” المرء عن غضبه تحديدا لابد بأن يشير إلى متعة مستترة في ذلك الغضب . (مثلما يقول الشاعر روبرت بيرنز في 1970: “حيث تجلس امرأتنا الحانقة الحرنة/ تضم حواجبها كما تضم العاصفة / تعتني بغيظها لتبقيه دافئا.”)
بيد أن هذه الفكرة تتجاهل حقيقة أن ثمة أسباب للبقاء غاضبا ولا يصعب إيجادها: هي نفس أسباب الغضب في المقام الأول. لا تلغي ولا تغير الاعتذارات والإعادة وكل الباقي من حقيقة أني سرقت، وكان حريا بي ألا أفعل. كانت تلك الحقائق أسبابك للغضب. وبما أنها لم تتغير بصيغتي للاستدراك – الاعتذار وتعويض ما كان لك – فإنك لا زلت تملك، وبعد نشر الصلح، نفس الأسباب التي تغضبك. فـ الغضب أيا يكن ليس رغبة بإصلاح شيء ولكنه وسيلة للقبض على حقيقة أنه كسر. أنت غاضب على شيء غدا ماضيا وليس ثمة شيء يمكن عمله حيال ذلك. فما فعلته سينحرف دائما عما كان حريا بي فعله، أيا كان ما سأفعله بعده.
ثمة بالطبع العديد من الطرق غير العقلانية التي يمكن بها أن يخمد غضبك: يمكن أن تموت أو تفقد الذاكرة أو يخف مع الزمن. أفرض أن يوما ما قررت فجأة وببساطة أن تنحي غضبك جانبا ونجحت. يمكننا أن نحكم على هذا القرار بزاوية معينة على أنه “عقلاني” – من يريد أن يظل العمر كله غاضبا؟ – ولكن ليس من زاوية بأنه تم التعامل مع سبب غضبك. إذ لم يحصل ولن يحصل أبدا. فمتى كان ثمة سبب يستدعي غضبك فهذا السبب مدعاة لغضبك للأبد. هذه هي حجة النقمة.
والآن مع حجة الانتقام. إن رغبتك بالانتقام، مثل حملك نقمة دائمة، يؤخذ على أنها غير عقلانية ولا مبررة بطبيعة الحال. غير أن هذا الاستنتاج هو نتيجة بطبيعة الحال لافتراض أن الانتقام يهدف لحل مشكلة الغضب مرة وللأبد عبر موازنة أو فك الفعل الخاطئ. متى ما صرفنا هذا الافتراض فإنه يمكن للغضب أن يفك – لديك سبب لتبقى غاضبا للأبد بعد كل هذا – ليس من الصعب خلق حجة لصالح الانتقام. علينا ألا نرى بأن هذه الاحتمالية مفاجئة: فمن الغريب ألا تملك واحدة من أقدم وأكثر الممارسات الإنسانية كونية تفسيرا عقلانيا. إن حجة الانتقام ببساطة هي أن الانتقام هو ما يجعلنا نحمل أحدنا الآخر المسؤولية الأخلاقية.
فحين أسرق منك، تراني مسؤولا عن هوة معتبرة بين ما يكون عليه العالم وما هو حري به أن يكون؛ ثمة تعارض منظوري بيننا. ترى فعلي على أنه غير مقبول أخلاقيا، وتخوض ذلك على شكل ألم وضرر غير مقبول. ولكني أنا، من قام بالفعل، رأيته كما يبدو على أنه شيء سليم تماما، بحكم أن فعله كان شيئا جيدا لي.
على فرض أني فهمت بأن ما أخذته كان لك، وأني لم أقم به تحت الإكراه – الجهل والقهرية عوامل مخففة – فإن سرقتي تشير إلى أني أرى العالم بقيم- شروط تتعارض لتلك التي تراها. “سوئك” “جيدي”. إذا ما حملتني مسؤولية هذا، بدلا من الإعفاء عني، فإنك ستجعل هذا العرضي، الطارئ) التعارض مبدأ وقانونا في تعاملاتنا سوية.
يتيح الانتقام لك بأن تحول مبدأ فعلي إلى قانون لسلوكك نحوي: تجعل من سوئي جيدك. هذا ضد محاولتك أن تفك أو تعكس فعلي. إنك تحملني المسؤولية بالقبض على سرقتي ورفضك نسيانها وتحول التعارض الذي يحصل بين الفينة والأخرى بين مصالحنا إلى قانون أقع الآن تحته. أنت لا تجعلني ” أنسى ما حصل”، بل تجعلني أغص بفكري. يعني أن تراني مسؤولا عما فعلت هو أنك تعامل فعلي على أنه مبدأ يحكم تعاملاتنا. يصف الغاضبون أحيانا انتقامهم على أنه “تلقين أحدهم درسا،” وهذا صحيح حرفيا: أنت تجعل خطأي عليك مبدأ عاما وبعدها “تعلمني” عبر فرضه علي.
إن تعليمي بهذه الطريقة ليس بالسهل عليك: إن لجعل شري صالحا لك ثمنا نفسيا، من بينه حقيقة أنك تنحرف بنفسك عما سيكون في خلاف هذا الوضع جيدا لك. عليك أن تعيد صياغة مشهدك النفسي إلى واحد مسخر لتنظيم مشهدي. هذا يفسر الحميمية الخارقة للغضب: فعلى الرغم من أنك لا تحتمل وجودك قربي، إلا أنه لا يمكن لأحد أن يكون أقرب لك مني. لقد اخترقتُ طبقات فكرك؛ إن أصابعي تلعب بأوتار قلبك؛ لقد نصبتُ مسؤولا عن حسك الإدراكي: ترى أثرا مني أينما التفت. ستشتكي مني لكل من سيسمعك وحين لن يسمعك أحد، ستصرخ بصورة ذهنية عني. لقد استعمرتُ خيالك. إن تحميلي المسؤولية يشمل حضنا وإن كان لغريم. شعور الغضب هو تماما ما يمكنك توقعه، لو كان حقا أن مسؤوليتي الأخلاقية هي مسألة رؤيتك بأن ما جيد لك سيء لي.
ومثل النقمة، ليست الفكرة باعتبار الأمر كله بأنه على المرء أن ينتقم. يمكن للمرء أن يأخذ عوامل أخرى عدا الغضب بعين الاعتبار في التحكم بسلوك المرء. ولكن حين يفعل المرء أمرا من منطلق الغضب فإنه يسعى إلى ما هو جيد له عبر فعل ما هو سيء للآخر. وهذا عقلاني مثاليا ومبرر ومنطقي. عبّر بولمارشس في جمهورية أفلاطون عن المنطق العدواني للغضب: العدل يمنح المزايا للأصدقاء والضرر للأعداء.
تقترح هاتين الحجتين – حجة النقمة وحجة الانتقام – بأنه ليس من السهل فصل فكرة أن الغضب هو حس أخلاقي عن فكرة أنه يتوجب علينا القبض على النقمة أو احتواء الغضب كآلية للمسؤولية الأخلاقية دون تمرير الانتقام.
لا أزعم بأن هذه الحجج تصنع مسائل تحل بـ إما / أو؛ الاعتراضات ممكنة بالطبع، وسيكون الدفاع الكامل عن صلاحية هذه الصيغ من العقلنة مشروعا ضخما. لم تكن أهدافي هنا إلا لإظهار أن ثمة قضية تستحق العرض لصالح استنتاج أن النقمة والانتقام هما عقلانيان تماما – وأن قضية كهذه ليست بالمعقدة ككل. إن الحجج التي بسطتها بسيطة ومبادرة، وهي مزايا تجعل من إهمالها في الجدالات الفلسفية – على هيئة الافتراض الذي لا غبار عليه من كلا الطرفين بأن النقمة والانتقام غير عقلانيين – علاوة على ذلك صادمة.
صادمة بيد أنها ليست عصية التفسير. إذ لو وضعنا الحجتين سوية، ستكون النتيجة بأنه لن يملك المرء الغاضب سببا أبدا لقطع الرابطة بين شر الآخر وما هو جيد له. لعل التفسير البسيط لإهمال تلك الحجج هو بأننا لا نريد الاعتراف باحتمال امتلاك الغضب المستحق أخلاقيا أساسا عقلانيا لعنف لا حدود له.
وفي حين يبدو أن الرواقيين والوجدانيين معارضين لبعض راديكاليا، إلا أنهم يشتركون فيما يتجاوز مرأى العين. يشتركون في الثقة تحديدا – في غير موضعها باعتقادي – بمشروع معين للتحليل المفاهيمي. يهدف المشروع إلى التعرف على صيغة نقية من ردة الفعل الأخلاقية، تلك التي تدمج كل القيم ولا شيء من رذائل الغضب . لستُ أول من يحاج بأن مشروعا كهذا مغرق بالوهم. يمكن إيجاد نسخة من وجهة نظري لدى عدد من المفكرين الذين توجهوا لمسائل الأخلاقيات من زاوية تاريخية وأنثروبولوجية أكثر. حاج كل من فريدريك نيتشه وميشيل فوكو ورينيه جيرارد بأن الأوجه المظلمة من الغضب – الانتقام والتعطش للدم والعنف الذي لا حدود له – معجونة في ذات فكرة الأخلاقية.
يتتبع نيتشه في أصل الأخلاق (1887) توجهنا الحالي نحو الأخلاقيات بالانصراف عن الأخلاق ما قبل التاريخية المبنية على النبل والقوة. إن العاطفة الحاسمة التي تقود الأخلاقيات الجديدة هي الامتعاض – صيغة من الغضب – يشعر بها أولئك الذين قمعوا واستعبدوا سابقا. ما تنبثق هي “أخلاقية عبيد التي منذ البداية تقول “لا” لما هو “خارجي”، ما هو “مختلف”، ما هي “ليست نفسها”؛ وهذه “لا” هي المأثرة الخلاقة”. إن الأخلاقية النافية أو التفاعلية التي خلصنا إليها هي في طليعة مفاهيم الذنب والضمير والوعود والواجب. يقول نيتشه أن تلك المفاهيم “غارقة في الدم لأقصاها ولمدة طويلة. وأليس على المرء أن يضيف بأن العالم لم يفقد قط رائحة الدم المميزة والتعذيب؟”
يناقش كتاب جيرار العنف والمقدس (1972)، والذي يعد عملا في الأنثروبولوجيا الدينية، دور القربان البشري والحيواني في لجم العنف. يبدأ جيرارد بملاحظة أن كل صيغة من المجتمع البشري يهددها معضلة أساسية: متى ما حصل فعل واحد للعنف فإنه يهدد بانطلاق سلسلة من ردود فعل لعنف ثأري لا حدود له. فوفقا لجيرارد، ما يسوق سلسة ردود الفعل هذه ليس أكثر من الرعب الأخلاقي من العنف: ” لا يمكن التفريق بين الواجب بعدم إراقة الدم وبين الواجب برد الانتقام على أولئك الذين أراقوه… ولأنهم تحديدا يمقتون العنف فإن الرجال يجعلون من الانتقام واجبا.” يدعي كتاب جيرارد بأن تلك الظاهرة المتنوعة بشكل عريض ككبش الفداء والمأساة الإغريقية والأعراف الجنسية التي تحكم نواة الأسرة كلها ما هي إلا محاولات للرد على هذه المعضلة الأساسية في احتواء العنف.
وأخيرا، يحلل ميشيل فوكو في المراقبة والعقاب (1975) التحول من العقاب عبر التعذيب الشعبي والإعدام إلى العقاب عبر الحبس. إن نظرية فوكو هي بأنه وعلى الرغم من أن تلك الإصلاحات بسطت في لغة حقوق الإنسان للقرن الثامن عشر، إلا أن غايتها كان تحويل العقاب إلى هجوم مركز على حقوق السجين الإنسانية:
“من فن الأحاسيس التي لا تطاق، تحول العقاب إلى اقتصاد تعليق الحقوق.”
ثم يبني فوكو على خارج السجن ويحاج بأنه يمكننا رؤية قيم مجتمعنا محوطة في منهجية فرض قيود تميز قوالب المجتمع كالمدارس والامتحانات والجداول والوظائف المهنية. إن الطريقة التي نقدر بها الحرية والاستقلال والإرادة الشخصية وحقوق الإنسان هي عبر سلب تلك الأشياء من الناس في كل إلتفاتة.
يظل كل هؤلاء المفكرون مؤثرون للغاية كون أن تفاصيل حججهم الجوهرية استُدعيت للمساءلة من قبل باحثين من مجالات متنوعة. أود اقتراح أحد أسباب استمراريتهم أو حتى جاذبيتهم المشابهة للعقدية هي في أنهم يطرحون نقطة فلسفية فارضة وعميقة تطفو بحرية على الظروف التاريخية – الأنثروبولوجية التي أحيطت بها. ما الذي تشترك به تلك المنظورات، بعد هذا كله؟ يقول نيتشه بأننا بنينا أخلاقياتنا بالكامل على الامتعاض وإراقة الدماء؛ ويقول جيرارد بأن العنف ومعارضته واحد؛ ويقول فوكو بأن العقاب جريمة. المهيمن المشترك هو ملاحظة أن أخلاقية الإنسان تميل للانقلاب على نفسها. أن تكون إنسانا جيدا يعني، في أوقات معينة، أن تكون مستعدا لفعل أمور سيئة.
عرضتُ أسبابا للتفكير بأن “الجانب المظلم من الأخلاق” التي يراها هؤلاء المفكرون منعكسة في مؤسسات مجتمعية متعددة تستقي في النهاية من منطق رد الفعل الأخلاقي: إن الطريقة الصحيحة للرد على انعدام الأخلاق هو بالقيام بأشياء – التمسك بـ الغضب ومماثلة الانتقام – بنحو ما غير أخلاقية.
إذا تخلينا عن هذا التباعد الأنثروبولوجي ونعترف بأننا نحن البشر الذين نصفهم، فإن الإحكام بتلك النظرة حري به أن ينتج مالا يقل عن مأساة. لا يمكننا التسلق خارج نظريتنا الأخلاقية الخاصة لتقييمها على أنها مفلسة أو معطوبة؛ علينا أن نعتمد عليها من أجل التقييم ذاته. يغدو نيتشه الأقرب من الثلاثة في مواجهة تلك المأساة، على الرغم من أنه غالبا ما يتوارى خلف اقتراح بأن كلمات مثل “صحة” و”قوة” تمنحه موطئ قدم بديل. لكن من يريد مجتمعا أصح أو أقوى مالم يكن يقصد بتلك الكلمات معنى أخلاقيا – ما الذي يقول بأن حلكة نظامنا الأخلاقي لم يطبق مسبقا على المعنى؟ لا توجد حيلة سحرية تجعلنا نتسلق خارج جلدنا الذي نعرفه.
يورطنا الغضب جميعا في فساد أخلاقي إذن. حسنا، تقريبا جميعنا. ثمة رواقي متطرف لدرجة لم يعرض موقفه نوسباوم ولا فلاناجان، ولا أي مفكر حديث أعرفه. يرى هذا الرواقي المتطرف بأن ليس للمشاعر دور في الأخلاق؛ فمن أجل الوصول إلى هذا الانفصال التام في المشاعر، فإنه لا يضع قيمة لأي شيء يمكن للعالم نزعه منه، بما فيه أطفاله وحياته وحريته من التعذيب الجسدي. يتخذ الرواقيون المتطرفون إلهامهم من سقراط الذي يزعم بأنه لا يمكن للرجل الصالح أن يتأذى، والذي أنكر تباعا بأن الأثينيين آذوه حين حكموا عليه بالموت على جرائم لم يقترفها. مات سقراط خاليا من الغضب .
غالبنا ليس مستعدا ولا قادرا على تحقيق هذا النوع من الانفصال الذي يتطلبه هذا النوع من المناعة ضد الغيظ. حين يقدم الناس على ظلمنا فإننا نشعر به: يغلي دمنا. وفي تلك اللحظة، علينا أن نقرر إلى أي مدى نريد أن نتصارع كي نكظم غضبنا، كم من المجهود سنضع في قمع وكبح اشتعال الغيظ. نادرا ما يكون الجواب لا شيء. في حين لا نريد لغضبنا أن ينفلت من بين أيدينا ويسوقنا إلى نهايته المنطقية والمنتقمة دائما، فإننا لو سحقناه بيد ثقيلة للغاية سنخسر احترامنا لذاتنا وبشكل أكثر عمومية موطئنا الأخلاقي. إن منع أي وكل غضب في وجه كل مغلوط هو إذعان للشر. لذا نواجه باستمرار المسألة المعقدة بمدى الغضب الذي نسمح لأنفسنا به تحت ظروف معينة مُعطاة.
لكن لاحظوا لو أن الحجج التي عرضتها هنا صحيحة، فإن هذه المسألة تعادل السؤال: كم من الأخلاقيات علينا أن نسمح لأنفسنا بها؟ يلزم تفريق المشروع الواقعي لمنع الغضب عن الوهم الفارغ بتنقيته. يمكننا استخدام كلمة كـ “سخط” أو “غضب انتقالي” للتسليم بشعور يحتج بشكل حق على المغلوط دون أي تلميح للأبدية أو الانتقام – لكن الغرض الذي تشير إليه الكلمة خيال فلسفي. إن تضاعف أنواع ونكهات وعناصر وأسماء للغضب مصمم لتشتيتنا عن المأساة في قلب الغضب ، وهي أن ردة الفعل المؤثرة للظلم تتشبث بطعم الدم.
أؤمن بأننا حين نواجه الظلم علينا أن نغضب أحيانا. وغضب كهذا ليس “نقيا” ويحوي اخضاع المرء (لدرجة معينة) لفساد أخلاقي، لكن البديل، الإذعان، غالبا ما يكون أسوأ. إن النقطة التي أريد التأكيد عليها مع هذا هي: لا يعني كون الفساد الأخلاقي للغضب هو خيارنا الأفضل بأنه ليس بفساد.
إن عواقب الإقرار بهذه النقطة مدعاة للصحو: ضحايا الظلم ليسوا بريئين كما نود أن نعتقد. إما أن هؤلاء الضحايا ناقصون أخلاقيا جراء طبيعة غضبهم المنتقم والحامل للحقد، أو أنهم ناقصون أخلاقيا عبر إذعانهم. يعادل القهر طويل الأمد لمجموعة من الناس ضرر العنصرية الأخلاقي طويل الأمد لتلك المجموعة. حين يأتي الأمر للعنصرية العرقية والجنسية والرهاب المثلي ومعاداة السامية والعنصرية ضد المعاقين والعنصرية الطبقية والتفرقة الدينية ومناهضة التنوع العصبي ونخبوية أي نوع، فإن هذه الحجة تتضمن أن القاهرون جعلوا من المقهورين أناسا أسوأ أخلاقيا. بالتأكيد إن قهر الناس سيء للروح، لكننا لا نحتاج أن نذكّر به؛ إذ أننا معتادون على فكرة أن الخطأ بحق الغير يجعلك شخص سيء. إن نقطتي هي: حتى أن تكون مغلوطا عليه، ولو بدرجة أقل.
انتقلت من هنغاريا إلى الولايات المتحدة في سن الخامسة، بيد أني ظللت أقضي إجازات الطفولة الصيفية هناك، في بحيرة بالاتون. كان قبالة الشارع الذي يقطن فيه جداي منتجع مشهور بين الألمانيين الشرقيين. لم أكن قادرة على دخول منطقة المنتجع إذ كان محاطا بسياج، بيد في أحد الصيفيات، حين كنت في العاشرة من العمر، صادقت فتاة من عمري كانت تصيّف هناك. لم نملك لغة مشتركة، غير أننا تواصلنا بلعبة الجيش تقريبا: لعبنا جنودا وابتكرنا رقصة عسكرية معقدة نضيف لها حركات يوما بعد يوم. مشينا مشيتنا العسكرية جنبا إلى جنب، يفصلنا السياج – إلى أن أمسكت بي جدتي.
كانت جدتي ناجية من معسكرات الاعتقال، لذا راعها ما شاهدته: حفيدتها تمشي مشية عسكرية مع واحدة منهم. حاولت أن أشرح بأننا نلعب لعبة ليس إلا، لكن بالنسبة لها كان الأمر واضحا: إني متواطئة مع العدو. حاججت بأن التحامل ضد الألمان لا يختلف عن تحامل الألمان ضدنا. لم يجعلها اعتراضي إلا أشد غضبا، وحُرم علي للأبد أن اقترب من الفتاة مجددا.
ولكن إلى أي مدى كانت لعبتي بريئة حقا؟ كل أجدادي الأربعة في الحقيقة نجوا من معسكرات الاعتقال؛ كلهم خسروا من يعرفون في المحرقة. أنكرت جدتي بأن المحرقة مأساة حياتها الكبرى، مانحة هذا الشرف لحقيقة أن ابنها البكر، عمي، وُلد بشلل دماغي. ولكنها تلوم النازيين حتى على هذا، ولعل للأمر سبب: ثمة عديد من القصص عن أضرار أثناء الولادة للجيل الأول من الأطفال المولودين لأمهات عانين من سوء تغذية وأنواع أخرى من الإيذاء في معسكرات الاعتقال. (وُلد الطفل البكر لجدتي الأخرى ميتا).
قرر والداي الهجرة من هنغاريا حين فُجّر كنيس حينا. (ذهب اليهود في المنطقة عقبها للصلاة في منزل جدتي سرا) وحين وصلنا إلى نيويورك، أخرجني والداي من مدرسة حكومية بعدما أُبرحت ضربا للبسي قلادة تحمل نجمة داود. لم يكونا قادرين على تحمل مصاريف المدرسة الخاصة، إلا أن مدارس اليهود الأرثوذوكس للمرحلة المتوسطة قبلتني وأختي مجانا كحالات خيرية. لماذا؟ بسبب المحرقة بالطبع – والتي كانت مادة تلك المدارس جنبا إلى جنب مع الإنجليزية والرياضيات وعلوم. فقبل الثانوية، بالكاد كتبتُ قصيدة أو قصة قصيرة لا يكون موضوعها بنحو ما عن المحرقة.
كانت معاداة معاداة السامية ثيمة طفولتي تقريبا بحيث كان من المستحيل التصديق بأني انحدرت بالصدفة للعب جنود مع فتاة ألمانية. لم يكن الأمر بريئا. لكن جدتي لم تكن بريئة أيضا: كانت مليئة بـ الغضب بحيث لم تكن البراءة احتمالا ممكنا.
ساهم كل من نيتشه وفوكو وجيرارد في نمط من الانتقاد الثقافي الذي غالبا ما اُستشهد به لدعم سلوكيات تشمل التهكم وبغض البشر والتشاؤم فيما يخص أوضاع البشر. يُنظر إليهم كراديكاليين. إلا أنه ومن وجهة نظري كل الثلاثة يلامون على خنوعهم. من المدهش الدرجة التي جعل بها كل كاتب نفسه في مسافة آمنة أنثروبولوجياً عن الجانب المظلم للأخلاقيات التي وصفها بدقة ثاقبة. لو أنهم توغلوا داخل نظرياتهم الخاصة، لخلصوا فورا إلى الاستنتاج البسيط والصادم بأنه من المستحيل على البشر – أنا وأنت وثلاثتهم المذكورين هنا – الرد بشكل صائب على المعاملة الخاطئة. لا يمكننا أن نكون جيدين في عالم سيء.