مجلة حكمة
الرواية التاريخية الرواية التاريخية

هل لدينا رواية تاريخية؟ – عبد الفتاح الحجمري

1 – من الخصوصية إلى الخاصية:

من الصعب الإحاطة بمختلف القضايا والإشكالات التي يطرحها “تصور الرواية التاريخية” في أدبنا العربي الحديث والمعاصر، بل إن الإحاطة بمختلف الأسئلة المتصلة بالرواية العربية عموما، تتنوع وتتعدد بحسب المقتضيات النظرية والتعبيرية التي تخصص سؤال الكتابة وإنجازاته التخييلية. وهذا ما يجعل، دوما، أسئلة الرواية متجددة باستمرار، ليبقى النثر الروائي، بكل تأكيد، إسهاما معرفيا وثقافيا مخصبا للرغائب والأحلام والذوات.

والظاهر، تبعا لهذا المعنى، أن الحديث عن “خصوصية الرواية العربية” يظل شديد الارتباط بالمنحى العام للإسهام المعرفي والفكري لما نسميه بسؤال الكتابة التخييلية. من هذه الزاوية أفهم خصوصية الرواية، ولعل أي تقدير لتحديد تلك الخصوصية سيظل عبارة عن تصورات مجردة وعامة ما لم يقارب الإنجازات الروائية العربية وتحققاتها النصية. يقودني هذا التحديد إلى القول: من الممكن فهم “خصوصية” الرواية العربية انطلاقا من “خاصيتها” النصية.

2 – عن تصورات اشتغال الرواية التاريخية:

إن بحثا من هذا القبيل، يستدعي منا تقديم الملاحظات التالية:

  • أولا: لا تسعى هذه الدراسة تقديم بحث متكامل حول الرواية التاريخية العربية، أو الوقوف عند مختلف إسهاماتها وتعيين لحظات تشكلها أو نضجها عبر التقيد بمختلف المراحل التاريخية لظهور هذا النمط من الكتابة.
  • ثانيا: غاية التحليل تصور بعض تجليات الخصوصية و/أو الخاصية النصية لـ الرواية التاريخية انطلاقا من لحظات محددة.
  • ثالثا: لأجل ذلك فإن أي تصور نظري تستوحيه الدراسة، إلا وتجعله مرادفا لسؤال موجه أكثر مما تعتبره مسلمة جاهزة.
  • رابعا: لا يلغي هذا التحليل من حسبانه أهمية وقيمة التعاريف المتصلة بالمنظورات العامة “للرواية” و”التاريخ”، لكنه يعتقد أن الوقوف عندها من شأنه أن يقودنا نحو تصورات طوطولوجية نحن مطالبون بتجاوزها.

3 – الرواية والتاريخ، أم الرواية التاريخية؟

لا شك أن الاعتماد على التعاريف المخصصة لكل إسناد نظري يبحث في علاقة الرواية بالتاريخ، من شأنه أن يقود نحو إعادة التفكير في إشكالية كبرى تخصص علاقة الأدب بالتاريخ: هل الرواية التاريخية هي التي تعتمد الحدث التاريخي كمرجعية للحدث الروائي؟ فيكون لدينا في هذه الحالة مرجعيتان: مرجعية حقيقية متصلة بالحدث التاريخي، ومرجعية تخييلية مقترنة بالحدث الروائي. هذه مسلمة أولى تقود إلى سؤال آخر: كيف يشتغل الحدث التاريخي ضمن الحدث الروائي؟ أي كيف يشتغل الحقيقي ضمن التخييلي؟ هذه مسلمة ثانية تنتقل بنا من “تسمية المرجع” إلى البحث في طرائق اشتغاله مهما اتفقنا أو اختلفنا حول التقديرات الموازية التي بالإمكان منحها لمفاهيم الحقيقي أو التخييلي. فهل ثمة، وعلى امتداد تاريخ الرواية العربية، مؤشرات دالة ومرجحة لبحث سؤال علاقة الرواية بالتاريخ؟ وهل توفر بعض الروايات على “أحداث تاريخية” يكفي للقول بأنها “روايات تاريخية”؟ ثم، أليست كل الروايات، بمعنى من المعاني، روايات تاريخية لمجرد أنها تحكي عن حيوات وذوات في أزمنة وأمكنة مفترضة، “مؤرخة” لمصائرها وإدراكها للقيم والعلاقات؟. لعل ما يمنح لهذا الفهم راهنيته تمييز وظيفي نقيمه بين: التاريخ والتاريخي، يكاد التاريخ يكون منظومة من الأحداث والتمثلات لواقع قائم متجه نحو الماضي، في حين يكاد التاريخي يكون أيضا منظومة من الأحداث والتمثلات لواقع ممكن متجه نحو المستقبل. وهذا ما يجعل المسافة بين الواقع القائم والواقع الممكن تماثل المسافة التي يختزنها سؤال الكتابة بين الحقيقة والاحتمال، مما قد يدعو إلى تقديم فرضية تقود إلى القول، إنه ليست هناك أحداث، ولكن فقط خطابات حول الأحداث. وعليه، ليست هناك حقيقة للعالم، ولكن فقط، تأويلات للعالم(1).

4 – اقتراح وتصور الرواية التاريخية:

لكي يتسنى لنا اختبار ما سلف إدراجه ضمن إشكالية نقدية عامة تخص سؤال الكتابة الروائية العربية، نورد هذا الاقتراح والتصور لتدقيق بعض السياقات المتعلقة بإمكانات اشتغال الرواية التاريخية وطبيعة أشكالها التخييلية. مما يعني أن التاريخ يبقى مكونا روائيا قادرا على التشخيص والاستنطاق خارج الافتراضات المسبقة التي (قد) تستدعيها إمكانات الكتابة والقراءة على حد سواء. من هذه الزاوية، يبقى التساؤل: ما هي الرواية التي بالإمكان وصفها بالتاريخية؟ قائما ومبررا، لذلك أفترض أن هذا التساؤل يتيح للباحث تأمل موضوعه من زاوية محددة تخص حضور الخاصية التاريخية كمكون روائي، إنها خاصية متصلة “ببناء الشكل” وخاصية “أجناسية”، ولأن تحديد المفهوم المتعلق بالرواية التاريخية يبقى ملتبسا، فإن إيجاد المعايير للانتقال من التاريخ إلى الرواية لا يمكن أن يتم إلا عبر وساطة التشخيص. وهذا ما يجعل الرواية التاريخية ممتلكة لخطاب يعتمد تجربة التخييل، ويقيم، في الآن ذاته، علاقة حقيقية بالتاريخ، فيغدو موضوع التخييل هو التاريخ، أي التاريخ الممتلك لموضوع، لمرجع، ولواقع محدد(2).

بهذا الأفق، تقتضي كل رواية تاريخية وجود واقع تاريخي كامن وراء إنتاج تخيلية هذه الرواية وتاريخيتها أيضا، فما راهنت عليه نظرية الرواية التاريخية هو أولا وقبل كل شيء، بحث وتعريف لاستطيقا الماضي(3). ويبقى، مع ذلك، تقدير المصدر وقصده ومعياره أساسيا لضبط سجل النص وتمثل مجال تحققاته، إن القول بأن النص الأدبي يحيل على واقع ما، وأن هذا الواقع يمثل مرجعه، يعني أننا نقيم علاقة الصدق بينهما، ها هنا يظهر تقابل بين المناطقة، بما هم مختصون في طرح الصدق، وبين المنظرين الأوائل للرواية. فقد ألف هؤلاء مقابلة علم التاريخ بالرواية وبمختلف الأجناس الأدبية للقول، إذا كان على الأول أن يكون حقيقيا، فإن الثانية بإمكانها أن تكون مزيفة، هكذا كتب “بيير دانيال هويت” في بحثه حول أصل الروايات، أن الروايات بإمكانها أن تكون مزيفة كلية. من هنا لم يبق إلا خطوة واحدة لإدراك التشابه بين الروايات والأكاذيب والكلام المختلف، و”هويت” نفسه، نسب أصل الرواية إلى العرب الذين اعتبرهم جنسا موهوبا في الكذب(4).

لذلك، لا ترتبط الرواية بالتاريخ لتعيد التعبير عما قاله التاريخ “بلغة أخرى”، بل قد ترتبط الرواية بالتاريخ للتعبير عما لا يقوله التاريخ.

5 – لحظات أساسية:

إذا ما تأملنا بعض الأشكال التعبيرية العربية الكلاسيكية، سنلاحظ الحضور الجلي للتاريخ في الكتابة وتوليد الأشكال: كتب التراجم والطبقات، كتب الأخبار والأنساب، السير الشعبية، الرحلات.. . كان التاريخ في هذه الأشكال، وغيرها، يعني تصور الكائن في الوجود، والانتساب إلى عالم متحقق بالفعل، أي أن مادة التأليف لا تقصي المرجع وإحالاته التعيينية. بهذا الاختيار، فإن الاقتراب من معالجة التاريخ وصلته بالرواية يفتح أفقا للاشتغال حول كيفية تفكير الروائي في الماضي كمشكل تاريخي، وتفكيره في الحاضر كمشكل تاريخي أيضا. إن المسافة هنا بين (الماضي) و(الحاضر) هي، من دون شك، “مسافة زمنية”، بيد أنها أيضا “مسافة جمالية”، وإذا كان السرد التخييلي يحقق استعمالات مرجعية خاصة ومبتكرة، فإن عمل المؤرخ عادة ما يستدعي مرجعية تندرج ضمن الأمبريقا، وضمن حدود تستهدف أحداثا وقعت بالفعل(5). من المسافة الزمنية إلى المسافة الجمالية، ومن الخاصية السردية إلى الخاصية المرجعية، يكتسب مفهوم السرد دلالاته حين يطابق أفقا زمنيا متوقعا، والنتيجة، أن التخييل يستعير من التاريخ، والتاريخ يستعير من التخييل. ثمة إذن، مرجعية متقاطعة(6) بين التخييل والتاريخ، عبرها تكسب الخاصية السردية الفعل الإنساني زمنيته كمبدأ منظم لتجارب الواقع وعوالم السرد.

بناء عليه، يمكن الزعم أن ما تصفه النظرية الأدبية بالرواية التاريخية بعيد عن أن يطابق مفهوما واحدا يحيل على نفس الأساس عند تصور سؤال الكتابة، وهذا ما يدفعنا لتأمل اللحظات التالية:

  • أولا: البحث في المراحل التأسيسية الأولى عن محاولة افتراض وجود كتابة تاريخية “عبر النموذج”، وإمكانية مقابلة الرواية التاريخية العربية وظهورها في الآداب الأوروبية. هذا ما نلاحظه مع تجربة جرجي زيدان التي سعت تثبيت معادل عربي في كتابة الرواية التاريخية استنادا إلى محطات معلومة من “تاريخ الإسلام”.
  • ثانيا: البحث عن كتابة متمحورة حول البعد الحضاري، بحيث يغدو التاريخ كلية تلقي بالذوات في دائرة صراع مفتوح متحرر من الوثيقة ومستند إلى تجارب تنتصر للتاريخ الممكن. ونعتقد أن تجربة نجيب محفوظ تعبر عن هذه اللحظة بما كتبه من روايات تاريخية احتكمت إلى تنويع في الشكل والموضوع وتصور الحقيقة الاجتماعية والتاريخية والحضارية. إن الرواية التاريخية عند نجيب محفوظ في (عبث الأقدار) أو (رادوبيس) أو (كفاح طيبة) مثلا، تسرد تاريخا إنسانيا لتعيد تأمل المصير الجديد لأزمنة الواقع وتحولاته.
  • ثالثا: استعارة الواقعة التاريخية في تخيل الحكاية الروائية، وإعادة تشخيص الوقائع عبر تمثل انعكاساتها على الإنسان والمجتمع، وينفرد جمال الغيطاني بتقديم تجربة دالة في هذا الاتجاه، خاصة في: (الزيني بركات)، و(كتاب التجليات) الذي ينفتح شكله السردي على خاصية نصية توجهها خطابات متعددة: دينية، تاريخية، سياسية…، تحيل على تواريخ حديثة وأخرى قديمة، وكأن الوقائع المهيمنة على سيرة “الحسين” و”جمال عبد الناصر” تسمح بإعادة تأويل أجواء منظومة فكرية تمكن الخطاب السردي من تشغيل خطاب إيديولوجي تستدعيه مرجعية الحكاية ومحاورتها للتواريخ الحديثة والقديمة.
  • رابعا: تبئير الحكاية في الرواية التاريخية على السيرة، والانتقال من نص التاريخ إلى نص الذات، بحيث يغدو تتبع سيرة الشخص ملاحقة لبطولة مفتقدة. ويمكن القول، إجمالا، أن النتاجات المهمة لـ الرواية التاريخية تظهر ميلا جليا نحو البيوغرافيا(7)، تصبح السيرة، إذن، بؤرة كتابة التخييل التاريخي، وهذا ما تعلن عنه رواية (مجنون الحكم) لسالم حميش حين تتخذ من سيرة أبو علي منصور الملقب بالحاكم بأمر الله محورا للسرد، إن السيرة، في الرواية التاريخية، تضاعف الكينونة حين تلقي بها في دائرة التخييل.

وتبرز رواية (ليون الإفريقي) لأمين معلوف نفس المعطى، ليس فقط لأن أحداثها تدور في القرن السادس عشر، بل لأن أمين معلوف استطاع أن يجعل من سيرة “حسن الوزان” صورة لقراءة تحولات مصيرية عرفها عصر النهضة الأوروبية. وهذا ما يجعل خطاب السيرة وعيا بسؤال الهوية في بحثها الدائم عن علاقة بالواقع الذي تعيش فيه.

هذه، إذن، أربع لحظات تبدو لي أساسية لإنجاز توصيف ممكن وأولي عن علاقة الرواية العربية بالتاريخ الذي يظل، في اللحظات الآنفة، قابلا للتجدد، لأنه ليس “معطى جاهزا”، بل أفقا للتجريب. والظاهر، أن الرواية التاريخية العربية الراصدة “لافتراض النموذج”، أو المتمحورة حول “البعد الحضاري”، أو “المبأرة حول السيرة”، لا تعتمد إعادة سرد الحدث التاريخي، لأن ما يهمها يتمثل في تشخيص العلاقة الإنسانية ومنحها قدرة فهم الواقع التاريخي الماضي والحاضر.

6 – تفعيل لغات التاريخ:

تظهر اللحظات السالفة ارتكاز الروائي العربي على تفعيل اللغة لخلق الإيهام الضروري بواقعية الحدث. إن الاحتكام إلى هذا التفعيل يمكننا من ملاحظة تعدد التشخيصات اللغوية لـ الرواية التاريخية، بحيث تصبح لغة الرواية نسقا من اللغات، وهي بذلك ليست مشخصة فقط، بل موضوعا للتشخيص(8) الذي يتخذ في كل لحظة سمات مميزة تغني النثر الأدبي المعاصر، وكأن الرواية التاريخية وهي تفكر في إمكانات تشخيصاتها اللغوية، تعلن، في كل لحظة، انتماءها إلى سيرورة الواقع المتشكل عبر تنبير سجلات الكلام والأسلوب. هكذا:

ـ تبرز الرواية التاريخية العربية، في كل لحظة، وعيا جديدا بتشخيصها اللغوي، ليس فقط لأنها تصطنع أصنافا للكلام، بل لأنها تنوع في أساليب العرض بغاية التعبير عن أنماط الوعي الممكنة كما تحتفظ بها الذاكرة التاريخية.

ـ يخرج هذا الوعي بالتشخيص اللغة في الرواية التاريخية العربية من دائرة التقريرية، ويمنحه بعدا تعبيريا يجعل اللغة حاملة لوظيفة حكائية تتجاوز أوجه الصنعة والتزيين وتستحضر الحالة وتقرب الواقعة.

ـ اعتماد الرواية التاريخية العربية أيضا على إثبات سياقات حدثية بالإحالة على مكونات استشهادية ونصوص متخللة تجعل السرد مركبا.

7 – توسيع دائرة التخييل:

من الجلي أن الرواية التاريخية العربية لفتت النظر إلى إمكانية التفكير في سردية منفتحة على لغات وخطابات مركبة، وهي بذلك تتطلع نحو الانتماء إلى سؤال الثقافة والفكر حين تعيد تأمل “الواقع التاريخي” وتتقصد استنطاق أزمنته وفضاءاته وشخوصه لتكشف عن “واقع روائي” حافل بقيم وعلاقات قادرة على ابتداع سرود نابضة بالحياة.

من هذا المنظور، تمدنا لحظات الرواية التاريخية العربية بجملة من الخلاصات نحصرها في ما يلي:

ـ تنويع قضايا الشكل الروائي وافتراض “تخيل تاريخي” يبلور مفهوما خاصا للكتابة، لدينا، بهذا التنويع، منظور آخر لعلاقة الرواية بالتاريخ، وهي علاقة إن كان من الممكن تعيينها بتخصيص الزمن الماضي، فإنها، ومع ذلك، لا تنفي الراهن الذي يدخل في تأليفها.

ـ بالإمكان اعتبار التخييل التاريخي سردا منفتحا يتجاوز التقرير والتسجيل، وينجذب أكثر نحو الحقيقة المنفلتة للحياة والكائن.

ـ اعتماد الرواية التاريخية العربية في تحديدها للإحالات الحديثة على “فضاء تاريخي” ليس من الأساسي الانشغال بمدى مطابقته للواقع، لأنه، حتما، يأخذ أبعادا جديدة يمنحها له التخييل عبر اللوحات والمشاهد الروائية.

مجلة الجابري – العدد 20


هوامش:

7 – Lukacs G.: Le roman historique, PBP, 1965, p.187.

8 – Bakhtine M.: Esthétique et théorie du roman, Gallimard, 1978, p.407-409. 1 – Todorov T.: Les morales de l’histoire, Grasset, 1991, p.130.

2 – Michel Maillard: (L’antinomie du référent), in: Fabula, 2Oct. 1983, p.65.

3 – نفسه، ص68.

4 – Todorov T.: Qu’est ce que le structuralisme? 2, Seuil 1968, p.35.

5 – Ricoeur P.: Temps et récit, Tome 1, 1983, p.123.

6 – نفسه، ص124.