مجلة حكمة
نظرية ماهية الحقيقة

نظرية ماهية الحقيقة

الكاتبريتشارد غاسكين
ترجمةعلي الرواحي
تحميلنسخة PDF

مدخل فلسفي شامل حول شرح نظرية ماهية الحقيقة، ومفهوم الحقيقة، واستعراض تاريخها وإشكالياتها؛ نص مترجم لد. ريتشارد غاسكين، ومنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة بعض التعديل من فينة لأخرى منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفوردعلى تعاونهم واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.


 

مفهوم الحقيقة

إن لنظرية ماهية الحقيقة أثر في السنوات التكوينية الأولى للفلسفة التحليلية الحديثة، وقد عادت للواجهة مؤخراً .. حيث ينظر لها عموماً على أنها رد فعلٍ ضد تشابه النظريات عن الحقيقة، إذ أن معظم تلك النظريات تشير إلى أن من يتناقلون الحقيقة يصحّحون الحقائق من خلال الوقائع الملموسة، كما تؤكد نظرية الماهية في المقابل، أن بعض من يتناقلون الحقيقة لا يقومون بتصحيحها أو محاكمتها، بل يتماشون معها.

لا يتم تطبيق النظرية عادةً على مستوى الجمل التصريحية؛ بل على ما تعبر عنه تلك الجمل، هذه التعبيرات – أو على الأصح بعضها – هي التي تعتبر متماشية مع الحقائق. يختلف منظَّرو الماهية حول تفاصيل شكلها العام وذلك بالاعتماد على ما تعبر عنه الجمل التصريحية بالتحديد، ابتداءً من أفكار فريجه Fregean (على مستوى المعنى) أو فرضيات برتراند راسل Russellian (على مستوى المرجع) أو كليهما، والاعتماد أيضاً على الكيفية التي يتم عبرها تفسير الحقائق بالضبط.

لكن ولنتمكن من إعطاء توضيح أدقّ، فإنّ منظّر الماهية الذي يعتقد أن الجمل التصريحية تعبر عن فرضيات راسل سيرجّح بشكلٍ تلقائيٍّ الفرضيات التي تجعل الحقيقة متماشيةً مع الواقع، تكمن أهمية نظرية الماهية بالنسبة لمؤيّديها في أن – النظرية – تتيح سدَّ الفجوة التي يعتقدون بوجودها ما بين اللغة والعالم و / أو ما بين العقل والعالم، بين ما يتم التعبير عنه وما يُفهم لدى الآخرين و/أو ما يتم التفكير به وما يُفهم لدى الآخرين. وهكذا فإنه إن كان مؤيدو تلك النظرية على حقٍّ فيما يعتقدونه فمن الوارد أن يكون لنظرية ماهية الحقيقة أثراً جذريّاً على كلٍّ من الميتافيزيقا وفلسفات العقل واللغة، الأفكار وطريقة التعبير عنها.


 

1. التعريف وعرض أولي

تلبس الجمل التصريحية قيم الحقيقة على ما يبدو، فعندما نقول:

  1. 1- “سقراط حكيم” حقيقة.

كما أنه من الواضح أن الجمل ليست هي الناقل الوحيد لقيم الحقيقة، لأننا بطبيعة الحال نفسح المجال لما تعبر عنه وما تعنيه تلك الجمل ليكون صحيحاً أو خاطئاً، بقولنا مثلاً:

  • 2- “سقراط حكيم” تعني أن سقراط حكيم.1
  • وتؤكد حقيقة أن سقراط حكيم.
  • كما يمكن أن تكون تساؤلاً إذا ما كانت عبارة سقراط حكيم صحيحةً أم لا

فإذا اعتبرنا جدلاً أن ما تعبر عنه الجمل التصريحية هوما تعنيه وما تتضمنه، فإننا سنظل في دائرة تعدّد معاني عبارة “سقراط حكيم” وهذا هو المعنى الذي تنص عليه نظرية ماهية الحقيقة بشكلها العام (انظر: بلدوين 1991 : 35):

  • يكون محتوى الجمل التصريحية صحيحاً عندما يكون محتواها متطابقاً مع حقيقةٍ ما فحسب.

وهنا علينا أن نرى الحقيقة بأكثر أشكالها عموميةً على أنها الطريقة التي تشكل ماهيّة الأشياء، أو الطريقة التي تشكل ماهية رؤية العالم لتلك الأشياء. وعلى هذا المنوال فإن نظرية ماهيّة الحقيقة تربط ما بين اللغة (ما تعبّر عنه اللغة) والعالم (ما يراه أو يفهمه الآخرون) بشكلٍ وثيق. وهكذا فإننا نمتلك مبدئياً مجالاً نظرياً لا يستطيع تحديد مضمونٍ حقيقيٍّ عند قولنا مثلاً الجملة التصريحية “سقراط حكيم”، ولنفترض من الآن فصاعداً أن هذه الجملة صحيحة ليس لمطابقة محتواها للحقيقة التي نعرفها وهي أن سقراط حكيم، بل لأن هذه الجملة بحد ذاتها صحيحة. وهو رأي لم يتم طرحه إطلاقاً من جهة أي شخصٍ وفي أي نسخةٍ من نسخ النظرية، وعلى ما يبدو أنه لن يكون من المعقول طرحه (انظر: كيندليش 1999 صـ: 200/2، كوني 2003: 6). رأى فيتجنشتاين أننا يمكننا أن نعتبر بشكلٍ أوليّ أن الجمل تمثل حقائقاً بحد ذاتها، لكنها لا تتطابق مع الوقائع التي تجعلها صحيحة.

وبعبارة مختلفة، يمكننا أن نتابع في نفس المثال بشكلٍ مختلف:

  • مدى صحّة كون سقراط حكيماً، مرتبط فقط بكون سقراط حكيماً كما هو الحال الواقع.

تكمن الفكرة في أن الجملة (6) تربط بين اللغة والواقع، ما نحكيه ومدى تطابقه مع الواقع، ففي الجانب الأيمن من الجملة نقوم بالتعبير عن شيءٍ ما من خلال وحدةٍ لغوبة، وفي الجانب الأيسر منها نلمّح لشيءٍ من الواقع، وهكذا ستبدو (6) بديهية الآن. وفعلاً فإن هناك مطالبة بأن يتم منح هذه الحالة لنظرية الماهية في أحد توضيحاتها على الأقل. وقد عارضها جون ماكدويل حيث رأى أن ما يسمى بالحقيقة “كتصور” متماشية مع الوقائع (1996 : 27 – 8، 179 – 80). يمكننا عبر هذه التصورات اعتبار “سقراط حكيم” أمرا قابلاً للتفكير والتحقق منه. وذلك لأن يمكننا أن نعتقد أن سقراط حكيم، ويمكن كذلك أن تكون حكمة سقراط هي مجرد حالة واقعة. الفكرة أن ما نفكر فيه قابلٌ لأن يكون مطابقاً أو متماشياً مع الحال الواقع. وهكذا فإن ماكدويل يرى بأن تلك الماهية عبارة عن بديهة، وبهذه الطريقة فإن من الأفضل أن تتبع نظرية الماهية الشكل الأساسي لها (انظر: هورنسباي 1997: 2).

  • كل التصورات تتطابق وتتماشى مع الوقائع.

على هذا الأساس فإن نظرية الماهية تهدف بوضوح إلى خلق ارتباطٍ وثيق بين العقل (ما نفكر به) والعالم.

نقطة اللبس في أدبيات هذا الموضوع التي يجب الانتباه لها هي أن (7) تؤكد التبعية: فهي تؤكد أن التصورات جزء “سواءً كان صحيحاً أو خاطئاً” من الوقائع؛ وبهذا فإنها تنصّ ضمنياً على وجود وقائعٍ لا تتماشى أو تتطابق مع التصورات – بمعنى أنها تتضمن وجود حقائق واقعية لا يتم التعبير عنها ولا شمولها فيما يتم التفكير فيه. لذلك وبسبب (7) فإنه لا يجب الخلط بينها –التشابه الذي تنص عليه (7) – ونقيضها.

  • جميع الوقائع (تطابق أو تتماشى مع) التصورات،

وهنا تتأكد التبعية المعاكسة، فالوقائع هي جزءٌ “سواءً كان متناسباً أو غير متناسب” من التصورات، مما يتيح أن تنص ضمنيّاً هذه المرّة على وجود تصورات لا تتطابق مع الوقائع. وهذه نقطة اختلاف (8) عن (7)، وإذا كانت (7) أمراً مثيراً للجدل، فإن (8) مشابه له بل أكثر، ولكنها تختلف جزئياً على الأقل لأن (8) تنكر وجود وقائع لا يمكن تصورها. لكن العديد من الفلاسفة يرون أنه لا بد أو على الأقل ربما يكون هناك وقائع تتضمن أرقاماً لا يمكن تحديدها مثلاً أو تتجاوز قدرة التفكير البشرية.

لذلك فإن (8) تحتمل الخطأ ولا يزال يتعين إثباتها ولا يمكن اعتبارها بديهية. ووفقاً لذلك فإن منظّري الماهية الذين يجدون (7) منطقيةً، وأيضاً أي شخصٍ يرى أن (7) و (6) بديهية، فهم سيبعدون منظري الماهية الذين يرجحون (8) عن المنطقية، وسيجعلونهم عرضةً للتشكيك. مع ذلك فإن عدداّ لا بأس به من منظّري الماهية الأقدمين أو المعاصرين دمجوا (8) مع (7) أو حتى استخدموها بدلاً من (7) في توضيحهم للنظرية.

نشر ريتشارد كارترايت أول مناقشة حديثة للنظرية في عام 1987م، حيث كتب أن المرء عندما يصوغ نظرية، فسيقول أن “كل افتراض حقيقي هو بالضرورة واقعي، وكل شي واقعي هو بالضرورة افتراضٌ حقيقي” (1987: 74). في حين يقول ماكدويل أن التصورات تنتمي فعلاً إلى الواقع بقدر انتمائها إلى العقول (على سبيل المقال (7))، والأشياء الملموسة تنتمي فعلاً إلى العقول بقدر انتمائها للواقع (أي (8)). لذلك لن نحتاج فيما يبدو لاختيار جهةٍ نقرأ من خلالها ادعاء الهوية (2005: 84).

تتبع جينفر هورنزبي وجهة النظر ذاتها إذ ترى بأن الوقائع والتصورات متطابقين (1997: 2، 9، 17، 20) وهي تنتمي لذات المجموعة التي ترى بمزامنة (7) و (8) من النظرية، وذات الشيء فعله جوليان دود 2008: هنا وهناك). لدينا الجملة رقم (8) والتي يمكننا اعتبارها أطروحة تحمل نوعاً من الأهمية وتستحق الوقوف عندها أكثر على الأقل في الأدبيات الفلسفية الحديثة، وكما هو واضح فإن بعض الجمل الأخرى من النظرية قد تم دمجها في (8) بقدر ما هي في (5) أو (7): انظر للمزيد عن هذه النقطة في الفقرة 2 أدناه. إن ربطنا لنظرية ماهية الحقيقة ولو بشكل بسيط بتعبير مثل (5) أو (7)، وإلغائنا لـ (8) سيوفر لنا وضوحاً أكبر للطرح من النقاش بحد ذاته (2) وهو ما سنتبعه هنا.

سواء اعتقدنا ببديهية الجملة (6) أو لا فإن كلاً من (5) و (7) يشتملان على مفردات تقنية أو شبه تقنية؛ علاوة على ذلك، فقد تم تقديمها كخطوات في نقاش تقني، أي واحد يتعلق بصلاحية نظرية المطابقة للحقيقة. لهذه الأسباب يبدو من الصعب اعتبارها بديهية (انظر Dodd 2008a: 179). ماذا تعني الجملتين (5) و (7)؟ وأيٌ منهما ستكون له الأفضلية للتعبير عن نظرية ماهية الحقيقة؟ وحيث أن ميل المرء بشكلٍ إيجابيٍّ لتلك النظرية يدفعه للاعتماد على معتقده الخاص حول طبيعة تلك التعبيرات مثل “ان سقراط حكيم” – وسيفضل اعتقاده الخاص على أي طريقة أخرى بالرغم من أنه قد يرى إيجابية كلا الجملتين -.

ولتوضيح تلك النقطة تم إجراء مناقشة نظرية الماهية بشكل طبيعي في سياق التسلسل الهرمي الفريجاني (نسبة لفريجه)، حيث أنه يفرّق بين مستويات اللغة والمعنى والمرجع، فقد عرّف فريجه ما أسماه بالـ “أفكار” على مستوى المعنى المقابل للجمل التصريحية – المطروحة – لغوياً. من المفترض أن أفكار ماكدويل أفكار فريجية، حيث يهدف تغيير المصطلحات إلى التأكيد على حقيقة أن تلك التعبيرات – الأحداث الفردية المؤرخة والتي قد تتكرر في مكان ما – ليست مجرد أفكار تقبل النقاش لكنها مضامين مجرّدة موجودة مبدئياً على الأقل لتتيح فهمها من قبل المفكرين المختلفين في مختلف الأماكن والأوقات.

لذا تعتبر نظرية الماهية الفريجية للحقيقة كلاً من التعبيرات المشابهة لـ سقراط حكيم، بشكلٍ مترابط حقائق من حيث المعنى، هذا النوع من نظرية الماهية يوضح لاحقاً أن تلك التعبيرات الحقيقية – من ناحية المعنى – تتطابق مع الوقائع. وهو ما يجعل هذا المنهج مفضلاً تلقائياً كتعبير عن نظرية الماهية كما هو الحال مع الجملة رقم (7).

تنكر برتاند راسل لمستوى المعنى (حوالي 1903 – 1904 تقريباً)، مناقضاً بذلك فريجة، واتّبع مور بالإقرار بما أسماه “القضايا المنطقية” كتعبيرات واقعية مكونة من موضوعات وخصائص، قد يتبنى نهج راسل الحديث هذه القضايا – أو شيئاً من ذلك القبيل لأن تفاصيل مفهوم راسل بحد ذاته غامضة تماماً – كمرجعٍ للجمل التصريحية، أما منظّرو الماهية الذين اتبعوا هذا الخط فإنهم يفضلون قراءة معينة لـ (5) كشعارٍ لهم. ومن هنا فإن أتباع راسل يؤكدون شيئاً من قبيل:

  • جميع القضايا المنطقية حسب راسل تتطابق فيها الحقائق مع الوقائع “على مستوى المرجع”.

مناقضاً بذلك فريجة

  1. جميع أفكار فريجة تتطابق فيها الحقائق مع الوقائع “على مستوى المعنى”

تتميز هذه الطريقة في صياغة مطالبات ماهية الحقيقة ذات الصلة بالقضايا المنطقية بأنها ستكون مفتوحة للمنظرين للجمع بين (9) و (10) في شكلٍ منطقيٍّ هجينٍ يجمع بين الاثنين على الأقل من حيث المبدأ فحسب: (أ) التخلي عن مبدأ راسل واتباع مبدأ فريجة من خلال قبول كل مستويات المعنى حسب فريجة ومستوى المرجع، وكذلك بعد قبول كلا المستويين في التسلسل الهرمي الدلالي. (ب) حددت كل من أفكار فريجة على مستوى المعنى واقترحت القضايا المنطقية لراسل على مستوى المرجع؛ بمعنى أن تكون طريقة عرض ما نود الإشارة إليه / التعبير عنه بجمل تصريحية تشير من خلال أفكار فريجة إلى افتراضات راسل (لهذا الترتيب، انظر Gaskin 2006: 203-20؛ 2008: 56-127).

لذلك فإن من يتبنى هذا النهج الهجين فهو يؤكد ضمنياً كلاً من (9) و (10). وتختلف طبعاً الحقائق المذكورة في (9) بشكل قاطعٍ عن الحقائق المذكورة في (10)، ويمكننا تجنب الالتباس من خلال التمييز بين الجملتين اصطلاحياً ومن خلال تفضيل مجموعة من الحقائق على الأخرى. إذا أردنا أن نميز استراتيجياً بين تلك النظريات فنقول مثلاً أن الحقائق التي تعتمد مستوى المرجع فقط هي حقائق واقعية، وأن علاقة ماهية الحقيقة من حيث المعنى هي مجرد تعبيرات شبيهة بالوقائع وليست حقائقاً فعلية، فإن هذا سيكون بمثابة الجمع بين (9) و (10) في محور روسلي – نسبة لبرتراند راسل -.

ولكن يمكننا عوضاً عن ذلك تفضيل الرأي القائل بأن من اعتمد المحور الهجين فقد اتبع محور فريجة، حين قوله أن التعبيرات التي تتطابق معها أفكار فريجة بشكل فعلي هي الحقائق الفعلية، على هذا النحو فإن التعبيرات المقابلة على مستوى المرجع التي تطابقت معها افتراضات راسل الحقيقية لم تكن حقائق، إنما هي ارتباطات شبيهة بالحقائق الفعلية الأصيلة.

وبشكل مختصر فهذا يعني بأن تلك الاستراتيجيات التي تميز التعبيرات التي تتعامل معها ستضعها في حكم أنها مجرد حقائق غير واضحة، وفيما يتعلق بنسخة فريجة لنظرية ماهية الحقيقة، فإن المنظرين الذين يتبعون أفكار فريجة عند تحديدهم للحقائق على مستوى المعنى سيقومون برفض افتراضات راسل ذات مستوى المرجع بشكل كامل، بدلاً من التقليل من وجودهم، وهذا ما يؤكدونه في الجملة رقم (10) لكنهم ينفونه عن الجملة رقم (9). سنعود لهذه القضايا لاحقاً.

2. خلفية تاريخية

استخدم ستيورات كاندليش تعبير “نظرية ماهية الحقيقة” لأول مرة بهذا المعنى في مقال عن اف اتش برادلي نُشر في عام 1989م. لكن الفكرة العامة للنظرية كانت تلوح في الآفاق خلال الثمانينات؛ فعلى سبيل المثال انتقد ماكدويل نظرية جون ماكي للحقيقة في مناقشة نشرت لأول مرة في عام 1985 م وذلك ليظهر أن:

الحقيقة – أو بالأحرى ماهية الحقيقة – تتكون من علاقة التشابه التي تجمع الأشياء وكيف تكون، بالطريقة التي نعبر من خلالها عن تلك الأشياء (1985 [1998: 137 ن. 21]).

عادة ما يُطرح كتاب فيتجنشتاين “تحقيقات فلسفية” (1922م) لتقديم التشابه بدلا ًمن نظرية ماهية الحقيقة. لكن هذا أمر مشكوك فيه. في “كتاب تحقيقات فلسفية”، يُقال أن الجمل التصريحية (Sätze جمل) هي حقائق (كنوع ٍ من ترتيب الأسماء)، ويقال أيضا أن الحالات (Sachlagen مواقف، Sachverhalte حقائق، Tatsachen تحقيقات ) هي حقائق (ترتيب الأشياء). إذا أُخذ “كتاب تحقيقات فلسفية” لطرح نظرية مطابقة للحقيقة، فمن المفترض أن تكون الفكرة كالتالي: ستكون الجملة صحيحة فقط عندما تكون هناك علاقة مناسبة للتطابق / التشابه بين الجملة والحالة.

ومع ذلك، فإن مشكلة هذا التفسير هي أنه، في “كتاب تحقيقات فلسفية” يُنظر إلى علاقة تطابق الجملة مع الواقع كشرط لمغزى تلك الجملة، وليس لحقيقتها بشكل محدد. فالجمل الكاذبة، وكذلك الجمل الصحيحة، متشابهة مع الحالات الواقعية – فقط في حالتها وقد لا تحدث الحالة. بالنسبة لفيتجنشتاين، قد تحصل الحالات الواقعية أو تفشل في الحصول عليها — كلا الاحتمالين متاحان للحدوث بشكل عام. ينظر للكتاب نسبيا على أنه يحتوي مفهومين مختلفين للحقيقة، أحدهما سببي “أي ثمة سبب لجعله حقيقة”، والآخر لا سببي، بناءً على ما سبق، فإن الحقائق إما أن تكون حقيقة من الأساس أو أن تكتسب الأحقية، ومن الممكن أن لا تكون حقيقة ولا تكتسب الأحقية، وقد تم تمييز هذا المفهوم غير الواقعي في “كتاب تحقيقاتٍ فلسفية” -1.21، و 2.1 (انظر Johnston 2013: 382).

يشير الكتاب إلى أن الحالات –وربما الحقائق – لها قطبان؛ أن تكون حقيقة بالفعل، أو أن تكتسب الأحقية، وأن لا تكون حقيقة ولا تكتسب الأحقية، وهذا هو المتّبع في الكتاب على ما يبدو، في ذات الوقت الذي يلتزم فيه فيتجنشتاين بنظرية مطابقة المعنى، نجد أن نظريته عن الحقيقة – نسخة من نسخ – نظرية الماهية على غرار:

تكون الجملة التصريحية صحيحة إذا ارتبطت بمعنى مطابق للحالة السائدة (أي حقيقة واقعية).

(يفترض منظرو الماهية عادةً المفهوم الواقعي للحقائق بحيث تكون كلمة “واقعية” زائدة عن الحاجة في عبارة “الحقائق الواقعية” وهذه السياسة التي سنتبعها هنا.) بالرغم من كون المفهوم ذو القطب الثنائي للحقائق غريباً – إذا اعتبرنا أن فيتجنشتاين لديه هذا المفهوم – فالمفهوم الثنائي نفسه في بعض الحالات يبدو طبيعياً تماماً – مثل الحالات المتفق على صحتها – وهنا يقول منظرو الماهية أن الافتراض الحقيقي مطابق للحالة السائدة (انظر كاندليش ودامنيانوفيتش). 2018م: 271-2).

اقترح بيتر سوليفان طريقة مختلفة لإسناد نظرية الماهية إلى فيتجنشتاين (2005م: 58-9)؛ حيث تتمثل فكرته في أن مواضيع فيتجنشتاين البسيطة يجب أن تتطابق مع مُدركات فريجة وأن كتابه يحتوي في الواقع على نظرية مشابهةٍ لـ (7) و (10) ومنطلق سوليفان لدراسة الحجج التراكتية “كتاب تحقيقات فلسفية” كمدركات هو أنها مشابهةٌ لإدراكات فريجة الأصيلة الواضحة، حيث لا يمكن الاختلاف في فهمها، واحدة من الصعوبات الجليّة في هذا الرأي تتمثل في أنه من المعقول أن تكون مدركات فريجه أكثر من مجرد كونها تمتلك خاصية الوضوح، أيضاً ربط راسل خاصية الوضوح بمواضيعه الأساسية، لكن لم يتم اقتراح مواضيع راسل الأساسية لتكون مدركات فعلياً، ويبدو أن هذا الافتراض لم يلاقي الاستحسان – هذا ليس بسبب تنصّل راسل نفسه من الفكرة الكاملة للإدراكات الفريجية –.

الموقف الاعتيادي الذي سيفترض في هذه الحالة هو أن فيتجنشتاين التراكتيري مثل راسل، لا يرى فائدةً لمستوى الإدراك الفريجي، وذلك لكون هرمه الدلالي محصوراً في تكونه بمستويات اللغة وإشاراتها، مع نفي وجود أي فكرة ذات طبيعةٍ وسطيةٍ أو مماثلة بين تلك المستويات. (إن ما هو متفقٌ عليه عموماً هو أن استدعاءات فيتجنشتاين لمفاهيم المعنى والمرجع في كتابه لا تتشابه مع ما هي عليه طريقة فريجة التي تكون الأسماء والجمل فيها، مثلاً، ذات معنى وتشير لأمرٍ معروف، في حين أنها لدى فيتجنشتاين مناقضة لذلك، فالجمل لها معنى ولكنها لا تشير لأمر معروف، والأسماء تشير لأمر معروف لكنها لا معنى لها).

3. المحفزات أو الدوافع

ما الدافع لنظرية ماهية الحقيقة؟ يمكن النظر إليه على أنه استجابة للصعوبات التي يبدو أنها تتراكم على الأقل لبعض نُسخ نظرية المطابقة (راجع Dodd 2008a: 120، 124). حيث تنص نظرية التشابه في الحقيقة على أن الحقيقة تتكون من علاقة تطابق بين شيء لغوي أو شبه لغوي من ناحية، وشيء واقعي / مجرّب من ناحيةٍ أخرى. وتعتبر العناصر الموجودة في النهاية واقعية / مجربة في علاقتها بالحقائق – أو الحصول على – وبعض الحالات. ولأغراضٍ عديدة يتم استيعاب هذين النوعين الأخيرين من المواضيع (الحقائق، والحصول على الحالات الخاصة بها) مع بعضهما، وهي الاستراتيجية المتّبعة هنا.

تعتمد الطبيعة الدقيقة لنظرية المطابقة على الاعتماد على ما يمكن أخذه من العلاقة مع الآخر – بمعنى أن هذه النظرية تعتمد على أخذ كل معلومة من سابقتها والإضافة عليها -. حيث تتيح العناصر المذكورة حتى الآن ثلاثة نسخٍ مميزة من نظرية المطابقة، اعتماداً على ما إذا كانت تلك هذه العلاقة مكونة من جمل تصريحية أو أفكارٍ فريجية أو افتراضات راسل. يميز منظرو التشابه الحديثون بين من لديهم الحقيقة وهم المندرجون تحت هذه التصنيفات الثلاثة، وبين من يصنعون الحقيقة. فالمواضيع الواقعية / المجربة تجعل من لديهم الحقيقة حقيقيين حين يكونون واقعيين.

إذا كانت هذه المواضيع الأخيرة حقيقية، فإن الجمل التصريحية الحقيقية، أو أفكار فريجه، أو افتراضات راسل – أيا كانت تلك التي يتم تحديدها باعتبارها ذات صلة بعلاقة التشابه على الجانب اللغوي للغة – التي تُقسم العالم – أي تتطابق مع الوقائع، بمعنى أن الحقائق هي التي تجعل تلك الجمل أو الأفكار أو الفرضيات صحيحة، عندما تكون صحيحة. (من الآن فصاعدا ً، سنتحدث ًببساطة عن الأفكار والمقترحات، ونفهم أنها أفكار فريجه ومقترحات راسل على التوالي، ما لم يتم تحديد خلاف ذلك).

وفقاً لمنظري التشابه – ومنظري الماهية بتفقون أيضاً معهم حتى الآن – يمنح ما ذكرناه قيداً مباشراً على الحقائق الواقعية / المجربة. خذ مثلاً جملة “سقراط حكيم” وتذكر أنها جملة صحيحة على مستوى ما تشير إليه فرضاً، فإننا إذاً نواجه موضوع سقراط – بافتراض الواقعية على الخصائص – مثل خاصية الحكمة.

وهكذا يمكننا اعتبارهما مواضيع في الحياة الاعتيادية لكن عقلاً لا يمكن أن ترقى إلى أن تكون حقيقة؛ فهي لا ترقى إلى أن تكون حقيقة مصنوعة معقولة عند قول “سقراط حكيم” أو لما تعبر عنه تلك الفكرة أو ما يعبر عنه الافتراض، هذا لأن سقراط كرجل، ووفقاً للنظرية ليس حقيقة لا هو ولا خاصية الحكمة التي ارتبطت به في الجملة المثال، وهكذا تذهب الحجة المقترحة بشكل فرديٍ أو مشترك، وتصبح غير كافيةٍ للوصول للمستوى الكافي لجعل جملة سقراط حكيم صحيحة راجع D.Armstrong 1997: 115–16؛ Dodd 2008a: 7؛ Hofweber 2016: 288). حتى حين نضيف المزيد من المسلّمات، مثل علاقة إنشاء مثيل، وهو مثيل متماثل لدرجة كبيرة، فإن النقطة الأساسية تبدو كما لو أنها لن تتأثر.

ويمكن الحفاظ عليه بشكل معقول حقيقةً (على الرغم من عدم موافقة بعض المنظرين؛ Merricks 2007: الفصل 1، هنا وهناك، ص 82، 117، 168؛ Asay 2013: 63-4؛ Jago 2018: passim، على سبيل المثال، ص 73، 84، 185، 218، 250، على الرغم من خلاف ذلك في cf. p. 161) إن سقراط الرجل، على هذا النحو ليس مؤهلاً حتى لإثبات أن سقراط موجود، لذلك فإننا بحاجة إثبات وجود سقراط الرجل أولاً ومن ثمَّ يتضح إذا ما كان هناك من صانعي الحقيقة في العالم فسيتعين عليهم أن يكونوا منظمين من ناحية التراكيب أو شبه التراكيب حتى، بنفس الأسلوب العام في الجمل التصريحية والأفكار والفرضيات.

يمكننا حالياً الإشارة إلى أن بنية التركيب من ناحية المعنى العام هي “بنية منطقية”، إذن فالفكرة هنا أنه لا سقراط ولا خاصية الحكمة ولا علاقة التماثل بينهما – إذا أردنا استنتاجها – منظمين منطقياً بهذا الشكل، وهكذا نصل باتباع هذا الجدل لاستنتاج مفاده أن أي موضوعٍ أقل من المواضيع الكاملة والمنطقية مؤهلٌ ليكون جملة صحيحة، مثل حقيقة ” سقراط حكيم” ليست مؤهلة لجعل جملة ” سقراط حكيم” أو فرضية حكمة سقراط لتكون صحيحة، (وهنا نجد السؤال الذي يطرح نفسه عن ما إذا كانت المجازات قادرةً على توفير بديل يرقى لمستوى تلك المواضيع الغنية من الناحية الوجودية، مثل حقيقة أن سقراط حكيم. المشكلة التي يبدو أن كل الاستراتيجيات من ذات القبيل ستواجهها هي مشكلة جعل البديل المفترض حقيقياً، أي تفسير المجازات ذات الصلة بطريقة لا تتدنى ولا تعتمد على مواضيع وجودية من الشكل الغني نسبياً الذي يعتبر “سقراط حكيم” قابلة للنقاش، انظر Dodd 2008a: 7-9. )

السؤال الذي يواجهه منظّرو التشابه الآن هو إذا ما كانت تلك المواضيع المركبة منطقياً يمكن اعتبارها صانعةً للحقيقة، فهل هي تصنع الحقيقة للجمل أم للأفكار أم للافتراضات الناجمة عنهما؟ وهكذا يجد منظر الماهية أن نظرية المطابقة غير مرضية في هذه المرحلة. ولنضع في الاعتبار أولاً أن الاقتراح القائل بأن الحقيقة الواقعية / المجربة بأن سقراط حكيم هو اقتراح مؤهلٌ ليصنع الحقيقة وبالتالي لاقتراح مستوى المرجع أو المرجع بأن سقراط حكيم (انظر، على سبيل المثال، Jago 2018: 72–3، and passim).

لا شك أنه ثمة حقائق مشابهة لـ “سقراط حكيم” فنحن نتحدث عن مثل تلك الأشياء في كل وقت، والمشكلة فعلياً ليست في وجود مثل هذه الحقائق كما يبدو، بل في علاقة المطابقة التي تنص عليها نظرية المطابقة موضوع دراستنا حالياً، فللحصول عليها بين حقيقة أن سقراط حكيم وفرضية كون سقراط حكيماً ولأنه كما يبدو لا يوجد فرق لغويٌّ بين الطريقة التي نتحدث بها عن الفرضيات والطريقة التي نتحدث بها عن الحقائق تجعل الصعوبة في التعبير من خلال هذه الطريقة أكثر وضوحاً بالذات عندما يتم تحديد هذه المواضيع ببنود تلك الفرضيات.

وهذا يشير إلى أن الحقائق هي إما فرضيات حقيقية أو علاقات منطقية، وبحال كان هذا صحيحاً فإن العلاقة بين الحقائق والفرضيات المنطقية الحقيقية ليست علاقة تطابق، وهذا ما لاحظه فريجه Frege 1918-19: 60 [1977: 3]؛ راجع كون 2003: 8؛ ميلن 2010: 467– 8)، حيث يشير إلى تمييز المضامين المترابطة، لا المتطابقة.

لقد أراد منظّرو التشابه أن تكون علاقة المطابقة لتفسير الحقيقة، أرادوا أن يقولوا أن السبب في صحة الحقيقة هو أن الافتراض القائل بأن سقراط حكيم متوافق مع حقيقة كونه صحيحاً، وهو ما يعزز الجدل عند التفسير بهذه الطريقة، ذلك لأن الافتراض القائل بأن سقراط أحمق أو بالأحرى أن سقراط ليس حكيماً لا يتوافق مع حقيقة أن حكمة سقراط خاطئة – وبعد كل شيء فإن كون سقراط أحمقاً لا يكفي لنضمن عدم كونه حكيما، لأنه قد يكون مثل جيمس الأول والسادس، حكيماً وأحمقاً -.

إن المسافة بين الافتراض الحقيقي بأن سقراط حكيم وحقيقة أن سقراط حكيم تبدو أصغر من أن تأثر على الحقيقة أثراً واضحاً، بل في الواقع إن ادعاء منظري الماهية يذهب إلى أنه لا فرق على الإطلاق – بين الحقيقة والافتراض -. لنفترض أننا نسأل: لماذا نفترض بأن سقراط حكيم؟ إذا كان الجواب بأن هذا صحيح لأن كون سقراط حكيماً هي حقيقة، فهذا سيجعلنا نبدو كما لو أننا لم نوضح شيئاً بل تابعنا تكرار أنفسنا فحسب (راجع ستراوسون 1971: 197؛ أنسكومب 2000: 8؛ راسموسن 2014: 39-43). وهكذا يبدو أن التشابه يفسح المجال للماهية باعتبارها العلاقة التي ستتحمل الصمود أو الفشل في الحفاظ على القضية، والحال أنه سواءاً كان الافتراض صحيحاً أم خاطئاً فرضياً، فإنه سيكون صحيح في حال كان متطابقاً مع الحالة السائدة، وخاطئاً في حال كان منافياً لها (راجع Horwich 1998: 106).

وعلى ما يبدو فإن منظر الماهية إن كان محقاً برأيه تجاه التشابه فإن هذا سيحتم عليه التخلي عن الادعاءات التفسيرية، في حين أنه سيكون من الصحيح القول إن القضية صحيحة إذا كانت متطابقةً مع حقيقة ما فقط، وإلا فستكون خاطئة حيث أنه سيكون من الصعب استيعاب أن الكثير من الاستنتاجات قد قيلت عن الحقيقة (راجع هورنزبي 1997؛ 2؛ دود 2008 أ؛ 135).

سنجد رداً من قبيل أن هناك ظروف نتسامح فيها مع عبارات من النموذج (أ) بسبب (ب) عندما تتخذ هوية معينة – كهوية المعنى أو المرجع أو كليهما – بين (أ) أو (ب)، على سبيل المثال حين نقول: “إنه ابن عمك من الدرجة الأولى لأنه ابن شقيق والدك”(Künne 2003: 155). وهنا نرى أنه ثمة علاقةٌ تعريفية بين الجانب الأيمن والجانب الأيسر من الجملة وهو ما يجعلها معقولة دون تحفّظ.

أن الافتراض القائل بأن سقراط حكيم صحيح، لأن الحقيقة أن سقراط حكيم.

في هذه الحالة لا توجد علاقة تعريف وحسب ما يفترض منظرو التشابه عوضاً عن تلك العلاقة، فإنه يجب أن يكون لدينا مثال للتفسير الميتافيزيقي، وهو بالتحديد ما لا نمتلكه وفقاً لمنظّري الماهية. هكذا وبعد كل ما سبق فإن منظري الماهية سيصرّون على ما يبدو على أن العلاقة بين الافتراض القائل بأن سقراط حكيم وحقيقة أن سقراط حكيم يجب أن تكون علاقةً وثيقةً للغاية، وبالنظر إلى أن الافتراض صحيح فهل سيمكننا القول أن العلاقة تمت؟ إذا كان منظر الماهية محقاً في اعتقاده أن العلاقة لا يمكن أن تكون واحدة – في أيٍّ من الاتجاهين – بحسب التفسير الميتافيزيقي وهو ما سيجعل من الصعب مقاومة تلميح المعطيات اللغوية التي تدلنا إلى أن العلاقة هي علاقة ماهية / هوية.

لذلك يصرّ منظّرو الماهية أحياناً على أن موقفهم لا يتحدد عبر ماهية / هوية حامل الحقيقة وصانعها لأن طريقة التعبير هذه عن النظرية تبدو أسيرة أحاديث أصحاب النظريات المتطابقة (cf. كاندليش 1999 ب: 200-1، 213).

ثم إن الحديث عن صانعي الحقيقة ومتناقليها يعني بالنسبة لمنظّري الماهية أن ما يخلق الحقيقة مختلف عن الحقيقة التي يتم تحقيقها وحتى إذا تم تصور كل هذا على أنه مجرد افتراضات، وطالما أنه لا يمكن لأي شيء أن يجعل نفسه صحيحاً فإنه يترتب على ما سبق أن لا وجود لصانعي الحقيقة الذين يبطونها، بل هم ناقلون للحقيقة فحسب حتى أنهم تبعٌ لها على ما يبدو، وهكذا فإنه سيكون من غير الحكمة مهاجمة نظرية الماهية بالإشارة لبعض – أو كل – الحقائق على انها تفتقر لصانعي الحقيقة (لذلك Merricks 2007: 181)، فالحقائق إذا، بحسب ما يقوله منظّرو الماهية أنفسهم، تعبر عن افتراضات من وجهة نظرهم وهو ما يجعل نظرية صانع الحقيقة كأنها تمرين يقسم مستوى المرجع للنصف ثم يوجد تطابقاً زائفاً بين النصفين (انظر McDowell 1998: 137 n.21؛ Gaskin 2006: 203؛ 2008: 119-27).

مثلاً قول ديفد ارمسترونغ أن ما نحتاجه هو شيء ما في هذا العالم يضمن أن (أ) هو (ف) أو يضمن وجود أرضية مثل (ف) تكون أساساً لبعض صنّاع الحقيقة ولن يكون هذا غير حالة للكائن (ف) (1991: 190).

من المرجح أن يردّ منظّرو الماهية على أن الكائن (أ) هو (ف)، لكن ما يضمن لأرمسترونغ أن (أ) هو (ف) وجود الكيان (أ) – أياً كان هذا الكيان – هو ما يجعله (ف) – أي أن مجرد وجود أ يجعل من (أ) (ف) -. وهكذا يرسم منظّرو الماهية روابطاً مفاهيمية بين المفاهيم من الافتراض والحقيقة والخطأ والواقع والوضع، لكن تلك الارتباطات ليست وجيهةً كما تبدو، فعند توضيحها – سيواجه منظّر الماهية أن المضيّ قدماً سيكون بمثابة وقوعٍ في الخطأ – سيبدو أن الحديث عن نظرية الماهية سيكون واسعاً جداً McDowell 2005: 83؛ 2007: 352) راجع ديفيد 2002: 126). تنطبق حجة موازية لما سبق تماماً على نسخة نظرية المطابقة التي تتعامل مع الوصائع كصانعٍ للحقيقة والأفكار كناقلٍ لها، بالنسبة للكثير من مؤيدي الأطروحة القائلة بأن الوقائع صانعة للحقيقة، والفرضيات المنطقية ناقلة للحقيقة.

وهنا علينا الأخذ بعين الاعتبار الاقتراض القائل بأن الحصول على حالات بعض التعبيرات كما يتصورها منظّرو التشابه يجعل الجمل التصريحية صحيحة – على عكس الفرضيات – راجع (Horwich 1998: 106–7) وهكذا فإنه لا يوجد على ما يبدو تهديد بانعدام الأهمية كما حصل مع النسخة السابقة من نظرية المطابقة، لأن الحالات المشابهة للتي تعتبر سقراط حكيماً تختلف فعلاً عن العناصر اللغوية كجملة “سقراط حكيم”. حتى هنا لا يحتاج أصحاب نظرية الماهية للاستهزاء بالاقتراح القائل أن مثل هذه الجمل لها صناع حقائق منتمين للعالم إذا ما كانت هذه هي الطريقة التي يتم بواسطتها إخفاء علاقة المطابقة.

لكن من الوارد تشكيكهم في مدى ملاءمة تعليق هذا الحكم حيث يمكن أن يشيروا إلى أنه لايبدو ممكنا رسم روابط مفصّلةٍ بين الجمل وأجزاء العالم – بدون تحريف -، وبعد كل شيء يمكن للجمل المختلفة في نفس اللغة أو في لغاتٍ مختلفةٍ أن تتوافق مع ذات القسم من العالم الذي توجد فيه، ولربما تحتوي تلك الجمل المختلفة على عددٍ من المكونات المتباينة جداً، فمثلاً تحتوي الجملة الإنجليزية ” توجد هناك أبقار ” على ثلاث كلمات فهل هناك ثلاثة أجزاء في العالم تتوافق مع هذه الجملة وتجعلها صحيحةً إذاً؟ (راجع نيل 2001: 177).

تحتوي جملة “الأبقار موجودة” على كلمتين فقط، لكن ألا يريد مُنظِّر التشابه أن يقول إنها تحققت من خلال نفس الجزء من الواقع؟ وحين نأخذ بعين الاعتبار بقية اللغات فسيتضح أنه لا يوجد سبب لتمييز أي رقمٍ معين من حيث المبدأ ثم القول أن الجملة المقابلة للجزء المتصل بالواقع يجب أن يحتوي على ذات العدد من الكلمات، ولم لا يوجد جمل من لغات فعلية أو محتملة بحيث يكون 1 ≥ ن، فتوجد كلمةٌ تتكون من كلمات (ن) وتعني ذات المعنى في اللغة الانجليزية “هناك أبقار”؟ (هل اللغة الانجليزية ليست لغة بالفعل حيث أن كل ما عليك فعله هو إدخال بادئة ثم تكرار أحرف معينة وعامل فراغ معين لتكتمل الجملة؟).

إذن وباختصار، فإن حالة منظري الماهية بمواجهة نظرية التشابه تتمثل في أنه حين يتم تصوّر علاقة صناعة الحقيقة على أنها ناجمةٌ عن حقيقة آتية من العالم أو ماشابه، ترتبط بعلاقةٍ أخرى مع جملةٍ حقيقة، فالادعاء بأن تلك العلاقة هي إحدى إمكانيات التشابه التي لا يمكن تنفيذها من جهة ما إذا كانت العلاقة ذات الصلة تستهدف قضية / فكرة فيجب أن تكون تلك العلاقة علاقة ماهية لا تطابقٍ من الناحية الأخرى.

4. الماهية والمعنى والمرجع

يتفق منظّرو الماهية على أنه في حال وجود أي ماهية / هوية معينة ذات صلة فإن الوقائع ستشكل العلاقة الدنيوية لها، لكن هناك خلاف كبير بينهم حول السؤال عن ماهية العنصر الموجود على الطرف الآخر من العلاقة – إذا ما كان فكرةً أو افتراضاً أو كلاهما – هناك ثلاثة مواقف محتملة هنا كما رأينا: (1) موقف يحصر علاقة الماهية / الهوية بالأفكار والحقائق الفعلية، (2) موقف يحصرها بالعلاقات المنطقية والحقائق الفعلية، (3) موقف هجين يسمح بالهويات من النوعين (التي تحصل على مستوى المعنى ستكون مختلفةً طبعا عن التي تحصل على مستوى المرجع). هذه المواقف التي يتبناها منظرو الماهية تعتمد على اعتباراتٍ ميتافيزيقية ولغوية وهي أوسع نطاقاً وأكثر غرابةً عن نظرية الماهية بشكلها هذا.

ذلك لأن منظّري الماهية يفضلون (1) القيام بالتفسير بشكلٍ عام لأنهم لا يريدون أي ارتباط بالفرضيات بأي شكلٍ كان، هذا يعني أن هؤلاء المنظرين يتجنبون الفرضيات لاعتبارها ذات مستوى مرجعي، وقد يتم تطبيق كلمة افتراض كما تم تطبيقها على أفكار فريجة باعتبارها على مستوى المعنى وبالمقابل على فرضيات راسل باعتبارها على مستوى المرجع، فمثلاً فكر هورنزبي (1997: 2-3) “افتراض” و “تصورات” بالتبادل حتى الآن، يمكن اعتبار سياسة المصطلح محايدة بما يتعلق بموقع الفرضيات والمفكرين في التسلسل الهرمي لفريجة؛ أي إذا واجه المرء منظَّراً يتحدث عن “التصورات” و “الفرضيات” بهدف تحديدها فإنه لن يكون قادراً على معرفة مكانٍ تتموضع فيه تلك الكيانات في التسلسل الهرمي الدلالي وبشكلٍ أكثر وضوحاً لا يمكن الافتراض أن منظّراً ما يحدد الفرضيات أو التصورات على مستوى المعنى ما لم يتم إخبارنا بذلك بالذات، وبعد كل ذلك يأتي من يعتقد بضم الفرضيات لمستوى المرجع لأن المواضيع من مستوى المرجع يمكن أن تكون تصورات قابلة للتفكير، أي أنها تقبل الاستيعاب بالفكر – بواسطة الأفكار من مستوى المعنى ربما -.

لكنها غير قابلةٍ للتفكير إذا تم اعتبار كلمة التفكير مصطلحاً تقنيّاً يشير للمواضيع من مستوى المعنى كما يرى ماكدويل وهورنزبي. للتوضيح فالسياسة المتّبعة هنا هي الاستمرار في تطبيق كلمة افتراض فحسب على القضايا المنطقية لراسل على مستوى المرجع فالقضايا المنطقية من الممكن افتراض قابلية استيعابها فكرياً، لكنّها بالتعريف ليست سوى أفكارٍ وتصوراتٍ قابلة للنقاش، وهكذا سيكون لهذين المصطلحين على التوالي معانٍ فريجانية بحسب ماكدويل. تجدر الإشارة هنا أن هذه النقطة بالرغم من كونها نقطة اصطلاحية سطحية إلا أنها تتفاعل بشكل كبير مع فلسفات اللغة والعقل التي تطرّقنا إليها في الفقرة الافتتاحية.. إن أي شخصٍ يؤمن بالمقترحات ذات المستوى المرجعي التي يمكن وبشكل عادي التفكير فيها ونقاشها فمن المحتمل ألا يكون راضياً عن أي مصطلحات تحد من مجال ما يمكن التفكير فيه وما ينتمي لمستوى المعنى (على هذه النقطة انظر أدناه في هذا القسم، و Gaskin 2020: 101-2).

لوحظ أن منظّري الماهية الذين يفضّلون رقم (1) أعلاه يتمتعون عادةً بهذا التفضيل لأنهم ينبذون الفرضيات، وهكذا سيتم استخدام المصطلح هنا، أي أنهم يتنصّلون من كيانات المستوى المرجعي المنظمة فرضياً. يشعر منظّرو الماهية بعدم الارتياح تجاه الفرضيات التي تُفهم على أنها كيانات من المستوى المرجعي، ولديهم عدة أسباب لشعورهم ذلك، كما أن لديهم تخوفاً من أن مثل تلك الفرضيات – إذا اعتبرناها موجودة – يجب أن تفسّر على أنها صانعةً للحقيقة؛ وكما رأينا فإن منظّري الماهية لا يريدون أي علاقة بصانعي الحقيقة (Dodd 2008a: 112).

من الممكن نزع فتيل الخوف إذا ما كانت الحقائق أيضاً موجودة على مستوى المرجع لكي تتطابق الفرضيات الحقيقية معها، وهذه الخطوة توصلنا لنظرية الماهية بأسلوب (2) أو (3) أعلاه. هناك سبب آخر للشك في الفرضيات من المستوى المرجعي وهو المعلقين الذين يتبعون غالباً نفور راسل من الأهداف الخاطئة بالذات بعد عام 1904 م أي من كون الفرضيات خاطئة عند إعادتها (راسل 1966: 152؛ كارترايت 1987: 79-84). ينظر لتلك الكيانات على أنها سخيفة للغاية حيث لا يمكن أخذها على محمل الجد كعناصر للواقع (هكذا ت. بالدوين 1991: 46؛ دود 1995: 163؛ 1996؛ 2008 أ: 66-70، 113-14، 162-6). وللتحديد أكثر فقد قيل أن الفرضيات الخاطئة عند الإعادة لا يمكن أن تشكّل وحدات، وأن الثمن المدفوع في توحيد اقتراح على مستوى المرجع دّفع لجعل هذا المرجع صحيحاً، إن كانت هذه الفكرة صحيحة فإنها ستشكل اختزالاً عبثياً للفكرة الكاملة لمقترحات المستوى المرجعي وذلك نظراً إلى أنه من المعقول افتراض أن مالم يكن هناك اقتراحات خاطئة على المستوى المرجعي فلا يمكن وجود مقترحات حقيقية كذلك.. (انظر Dodd 2008a: 165). إذا كان المرء من ناحيةٍ أخرى سعيداً بوجود الفرضيات في المستوى المرجعي أو الأساسي – سواءاً كانت تلك الفرضيات صحيحةً أم خاطئة فمن المرجح أن يفضّل في هذه الحالة نظرية الماهية بأسلوب (2) أو (3)، وبمجرد وصوله لحد التخلص من (1) وحصر القرار بين (2) و (3) فبالتأكيد سيكون هناك وضع جيّدٌ لاعتماد (3)، فعند الاعتراف بالكيانات الممنهجة افتراضياً على مستوى المعنى – على أنها معانٍ للجمل التصريحية – وعلى مستوى المرجع – كفرضيات -، فلا سبب وجيه على ما يبدو لعدم التحرر لأقصى حد في السماح للماهيات / الهويات بالتدفق بين الكيانات من هذين النوعين بالإضافة لأنواع الحقيقة من مستوى المعنى والمرجع على التوالي – أو كيانات شبيهة بالحقائق -.

وبعكس ما تم اقتراحه أعلاه حول فريجة (2) فقد تم الاعتراض على أنه ليس من الممكن أن تكون لديه نظرية حول ماهيةٍ للحقيقة (Baldwin 1991: 43)، الفكرة هنا أن فريجة بالرغم من اعترافه بالحالات كعناصرٍ حقيقيةٍ للواقع لكنه لم يحدد الأفكار الحقيقية ما يدفع للتشويش على مستويات المعنى والمرجعية. وكل ما في الأمر أنه مرتبطٌ بالمسألة التفسيرية؛ حيث يصح القول بأن الاعتراض يتجاهل احتمالية تحديد فريجة للأفكار الحقيقية بالوقائع التي تُفسّر على أنها كيانات من مستوى المعنى عوضاً عن الحالات التي يتم اتخاذها ككياناتٍ من مستوى المرجع، ومن الملاحظ أن هذا ما فعله فريجة بالضبط (انظر Dodd & Hornsby 1992).

مع ذلك فإن الاعتراض يثير قضية نظريةٍ مهمّة وهو ما سيتسبب بشكلٍ مؤكد بارتباكٍ في محاولة بناء ماهيةٍ عبر التقسيم القاطع الفاصل بين المعنى والمرجع، على وجه الخصوص لمحاولة تحديد أفكار فريجة الحقيقية مع وقائع أو حالات على المستوى المرجعي. وقد قيل أن ماكدويل وهورنسبي مذنبان في هذا اللبس؛ لرفض كل منهما الاتهام وأصرارهما على أن الحقائق ليست كيانات ذات مستوى مرجعي – بالنسبة لهما -، ولكنها، مثل الأفكار الفريجية كيانات على مستوى المعنى.

(إذا ما التزم المرء بالنسخة الفريجية من نظرية الماهية / الهوية (1) أعلاه)؛ والتي تتمثل بتحديد الأفكار الحقيقية بالوقائع التي تحدث على مستوى المعنى ولا تقبل أية هويات متلازمة، كما تربط المقترحات الحقيقية الموجودة على مستوى الإشارة للحقائق أو الكيانات الواقعة الموجودة كذلك في هذا المستوى، وعلى ما يبدو فإن المرء يواجه معضلةً صعبة في معرفة مكان الواقع / التجربة / العالم ضمن مستويات التسلسل الهرمي الدلالي، ولنفترض أن ثمة من يضعه على مستوى المرجع – وهي وجهة نظر دود المفضلة انظر 2008 A: 180-1 أو عشوائياً) وبناءً على هذا فلن يحتوي العالم على حقائق أو فرضيات بل مجرد خصائص وأشياء تنعزل بشكل كامل عن بعضها البعض، وهو تدبير يبدو كنسخةٍ من المثالية المتعالية الكانطية.

(مجرد الإصرار على أن الخصائص لا تتضمن فقط خصائص أحادية العناصر بل تتضمن أيضاً خصائصاً متعددة العناصر، مثل تكوين علاقة لها مثيل، لن يحل المشكلة في حد ذاته، حيث ستظل لدينا مجموعة من الكائنات والخصائص والعلاقات المنفصلة فحسب.) إذا كان العالم / الواقع / التجربة موجوداً ويحتوي على مواضيع يجب اعتبارها عاريةً وغير منظمةٍ بشكل أو نوعٍ معين على الرغم من غياب فرصة وجود فرضياتٌ حقيقية أو حتى خاطئة – وليس وقائع – نستطيع الحصول عليها من المستوى المرجعي، فإن هذه النتيجة تسعد بعض فلاسفة التحيز الاسمي؛ لكن المشكلة تكمن في كيفية فهم فكرة الموضوع العاري – الموضوع الذي لا تميزه أية خصائص – (وبعكسه فإن الخصائص التي لم ينشأ مثيلٌ لها من أية كائنات فهي لن تكون إشكالية على الأقل لدى الواقعيين).

لنفترض أن أحدهم يضع العالم / التجربة / الواقع بمستوى المعنى؛ أي أن العالم مكونٌ من وقائع حيث المكان الذي تنشأ فيه الحقائق، وهو البديل الوجودي الذي تبناه ماكدويل بصراحة (1996: 179). حيث يبدو أن المشكلة في هذا الطريق للخروج من هذه المعضلة هي أنه، نظرا ً لأن المعاني الفريجية هي أنماط تأسيسية لتمثيل المراجع، لذلك فإن الاستراتيجية قيد الدراسة الحالية ستأخذ العالم ليكون موضعا ً لأنماط التمثيل هذه – ولكن من أي شيء؟ من الأشياء والخصائص؟ هذه بالتأكيد كيانات ذات مستوى مرجعي، ولكن إذا تم تقديمها بواسطة عناصر في عالم المعنى، والذي يتم تحديده في هذا النهج مع العالم، ثم مرة أخرى، كما هو الحال في القرن الأول من المعضلة، سيبدو أنهم مدينون لوجود مستويات مرجعية رائعة منعزلة عن بعضها البعض، بدلاً من مجموعات منظمة بشكل منطقي، بحيث يبدو مرة أخرى أننا ملتزمون بشكل من أشكال المثالية المتعالية الكانطية (انظر Suhm، Wagemann، Wessels 2000: 32؛ Sullivan 2005: 59-61؛ Gaskin 2006: 199-203).

كما يبدو أن كلا الاتجاهين للخروج من هذه المعضلة لهما نتيجة غير جذابة.فالاختلاف الوحيد بين تلك الطرق يتعلق بمكان تحديد العالم بالضبط في التسلسل الهرمي الدلالي؛ ولكن من المعقول أن تكون هذه المسألة، في حد ذاتها، أو يجب أن تكون أقل اهتماما بالميتافيزيقيين من مطلب تجنب فصل الأشياء عن الخصائص التي تجعل تلك الأشياء مواضيع من نوع معين؛ وكلا الطريقتين للخروج من المعضلة يبدو أنهما يتجاهلان هذا المطلب.

نحتاج لدمج مواضيع المستوى المرجعي وخصائصها في القضايا المنطقية أو الهياكل المتشابهة بالتماثل الموجودة على مستوى المرجع، بحيث نحترم تلك المتطلبات. ومن ثم فإن بعض هذه المواضيع ذات المستوى المرجعي المهيكلة – الحقيقية أو الحاصلة – ستكون، على ما يبدو، حقائق، أو على الأقل شبيهة بالحقائق. علاوة على ذلك، بمجرد أن يعترف المرء بوجود الحقائق، أو المواضيع الشبيهة بها، الموجودة على مستوى المعنى، يبدو على أي حال أنه من المستحيل منع التوليد التلقائي للحقائق، أو الكيانات الشبيهة بها، الموجودة على مستوى المرجع. فالمعنى هو طريقة عرض أو تمثيل المرجع. لذلك نحن بحاجة إلى الحقائق ذات المستوى المرجعي أو الكيانات الشبيهة بالحقائق لتكون حقائق على مستوى المعنى أو كيانات موجودة شبيهة بالحقائق.

كما أن على المرء أن يقرر كيفية التعامل مع هذه الكيانات الشبيهة بالحقائق الموجودة في أماكن مختلفة من الناحية النظرية. إذا كان على المرء أن يصر على أن الكيانات الشبيهة بالحقيقة من حيث المعنى هي الحقائق الحقيقية والوحيدة، فإن الكيانات ذات المستوى المرجعي المقابلة لها لن تكون أفضل من أن تكون شبيهة بالحقيقة، والعكس بالعكس. ولكن، بغض النظر عما إذا كانت المواضيع المهيكلة افتراضيا ً، أو التي تم إنشاؤها تلقائيا ً، بهذه الطريقة من خلال الكيانات المهيكلة على مستوى المعنى يجب اعتبارها حقائق مناسبة أو مجرد كيانات شبيهة بالحقائق، فقد يبدو من غير الطبيعي عدم تحديد العالم عن طريق هذه المواضيع.

من أجل الإصرار على الاستمرار في تحديد العالم من حيث المعنى بدلاً من الكيانات المهيكلة على المستوى المرجعي، يبدو أنها تتلاشى في مواجهة مطلب اعتبار العالم موضوعيا ً إلى أقصى حد، وخارج التوجه إلى أقصى حد. حيث يأمل ماكدويل نفسه في تجنب أي تهمة بتبني مثالية غير مقبولة ناتجة عن موقعه من العالم من حيث المعنى من خلال الاعتماد على النقطة التي تقدم الحواس مراجعها بشكل مباشر، وليس وصفا ً، بحيث تكون هذه الإشارة، كما كانت، متضمنة في المعنى (1996: 179-80). لهذا قد يتم الاعتراض على أن مطلب الموضوعية القصوى يفرض تحديد العالم مع الكيانات المحتواة، وليس المحتوية في هذا السيناريو، والذي يبدو بدوره أنه يفرض النتيجة – إذا كان تهديد المثالية المتعالية الكانطية يتم تفاديها -حقا- أن يتم تنظيم الكيانات المحتواة بشكل افتراضي على هذا النحو، أي ككيانات محتواة، وليس مجرد كونها محتواة في كيانات محتوية على شكل هيكل افتراضي. (للحصول على اعتراض مختلف على McDowell، انظر Sullivan 2005: 60 n. 6.)

5. الصعوبات النظرية والحلول الممكنة

1.5 مشكلة النماذج

لفت ج. إي مور الانتباه إلى نقطة قد تبدو (والتي تم اعتبارها كذلك) إشكالية بالنسبة لنظرية الماهية (Moore 1953: 308؛ Fine 1982: 46–7؛ Künne 2003: 9-10). إن الافتراض المنطقي القائل بأن سقراط حكيم موجود في جميع العوالم الممكنة حيث يوجد سقراط وخصائص الحكمة، ولكن في بعض هذه العوالم يكون هذا الافتراض صحيحا ً وفي حالات أخرى يكون خاطئا. على النقيض من ذلك، فإن حقيقة أن سقراط حكيم لا توجد إلا في تلك العوالم التي يكون فيها الافتراض موجودا وصحيحا. لذلك يبدو أن الافتراض بأن سقراط حكيم لا يمكن أن يكون مطابقا لحقيقة أن سقراط حكيم. حيث يمتلك كل من الافتراض والحقيقة خصائص نموذجية مختلفة، وبالتالي من خلال مبدأ عدم القدرة على تمييز التشابه لا يمكن أن يكونوا متطابقين.

فمن الملاحظ منذ البداية أن هذه المشكلة، إذا كانت مشكلة، لا علاقة لها بشكل خاص بنظرية ماهية الحقيقة أو بالحقائق. حيث يبدو أنها نشأت بالفعل من الفرضيات والقضايا المنطقية التي تم تناولها بشكل أبسط قبل أن نصل إلى موضوع الحقائق. بمعنى، قد يعتقد المرء أن الافتراض القائل بأن سقراط حكيم متطابق مع الافتراض الحقيقي بأن سقراط حكيم (بافتراض أن هذا الافتراض صحيح كما نفعل الآن)؛ لكننا نواجه بعد ذلك الاعتراض القائل بأن الافتراض المأخوذ بهذه البساطة، والافتراض الحقيقي يختلفان في خصائصهما الشكلية، حيث (كما قد يفترض المرء) أن الافتراض الحقيقي بأن سقراط حكيم غير موجود في عوالم معينة، في حين أن الافتراض البسيط القائل بأن سقراط حكيم خاطئ.

في الواقع، لا تزال المشكلة، إذا كانت هناك مشكلة، أكثر عمومية، حيث تعود الحلول المزعومة لها على الأقل إلى العصور الوسطى (عندما تمت مناقشتها فيما يتعلق بالتمييز الرسمي لدونز سكوت؛ انظر Gaskin 2002 [مع إشارات إلى المزيد الأدبيات ذات الصلة بهذا الموضوع]). لنفترض أن سقراط هو رجل عجوز شرير، قد يعتقد المرء الآن أن سقراط الغاضب مطابق لسقراط هذا، لكن في بعض العوالم المحتملة الأخرى، يتمتع سقراط بشخصية مرحة وعبقرية؛ لذلك يبدو أن سقراط لا يمكن أن يكون متطابقا ًمع سقراط الغاضب بعد كل ذلك، لأن في هذه العوالم الأخرى المحتملة، بينما يستمر سقراط في الوجود، لا يوجد سقراط الغاضب – أو هكذا قد يجادل المرء.

هل يستطيع منظّرو الماهية التعامل مع هذه المشكلة؟ وإذا استطاعوا فكيف سيتعاملون؟ وكاقتراح، لنفترض أننا بقينا مع سقراط الغاضب للحظة، على عكس الافتراض الذي تم التوصل إليه في نهاية الفقرة الأخيرة، فإن سقراط الغاضب موجود في الواقع في عوالم يتمتع فيها سقراط بنزعة مرحة. سيكون أساس هذه الخطوة هو التفكير في أن سقراط الغاضب متطابق مع سقراط، وأن سقراط موجود في هذه العوالم الأخرى. لذا فإن سقراط الغاضب موجود في تلك العوالم أيضا، وليس مجرد غاضبٍ في تلك العوالم.

(لنفترض أن سقراط غاضب جدا ً، ولنفترض في الواقع أن الغضب متأصل بعمق في شخصيته لدرجة أن العوالم التي يكون فيها عبقريا بعيدة جدا ً ولنفترض أن شخصاً ما يتفحص مجموعة من العوالم الممكنة، بدءا من العالم الفعلي ويخرج في جماعات، و يتردد أخيرا في عالم به سقراط لطيف، قد يسجل الاكتشاف بصراخ ولهفة، مع الارتياح، “أوه، انظر! سقراط الغاضب ليس غاضبًا هنا!”) وبالمثل، قد يجادل المرء، الافتراض الصحيح والحقيقي، أن سقراط الحكيم يستمر في الوجود في العوالم التي لا يكون فيها سقراط حكيما، لأن الافتراض الحقيقي، والواقعي، أن سقراط حكيم هو مجرد افتراض بأن سقراط حكيم، وهذا الافتراض يستمر في الوجود في هذه العوالم الأخرى، ولكن في تلك العوالم لا يكون الافتراض الحقيقي والواقعي افتراضا حقيقيا أو واقعيا (في المصطلحات الاسكتلندية، يمكن للمرء أن يقول إن الافتراض القائل بأن سقراط حكيم، وحقيقة أن سقراط حكيم متطابقان حقا، ولكنهما مختلفان شكليا).

تم اقتراح هذا الحل، بشكل موجز، من قبل ريتشارد كارترايت في مناقشته لعام 1987م لنظرية الماهية (Cartwright 1987: 76-8؛ راجع David 2002: 128-9؛ Dodd 2008 أ: 86-8؛ Candlish & Damnjanovic 2018: 265– 6). وفقًا لكارترايت، فإن الافتراض الحقيقي، والواقع، أن هناك مترو أنفاق في بوسطن موجود في عوالم أخرى محتملة حيث لا يوجد في بوسطن مترو أنفاق، على الرغم من أن هذه الحقيقة لن تكون حقيقة في تلك العوالم. (قارن: سقراط الغاضب موجود في عوالم حيث يكون سقراط لطيفا ومرحا، لكنه ليس غاضبا.) لذلك حتى في العوالم التي لا توجد فيها واقعة أن بوسطن بها قطارات أنفاق، فإن هذه الحقيقة، أي واقعة أن بوسطن بها قطارات أنفاق، تستمر في الوجود. حيث يُجمل كارترايت حله بنقطتين مثيرتين للجدل: أولا، يعتمد على تمييز كريبكه بين التعيين الجامد وغير الصارم، مقترحا أن حله يمكن وصفه بالقول إن تعبير “حقيقة أن بوسطن بها قطارات أنفاق” هو محدد، وغير صارم.

لكن من المعقول أن يستمر هذا التعبير في الإشارة إلى، أو الاقتناع (اعتمادا على الطريقة التي يريد المرء تحديدها بالضبط لمعاني الأوصاف المحددة: انظر Gaskin 2008: 56-81)، في حين أن حقيقة أن بوسطن لديها قطارات أنفاق في عوالم محتملة حيث لا يوجد مترو أنفاق في بوسطن؛ هذا فقط، على الرغم من وجود هذه الحقيقة في تلك العوالم، فهي ليست واقعية هناك. لكن لا يبدو أن هذه النتيجة تنتقص من صرامة التعبير المعني هنا. ثانيا ً، يسمح كارترايت بقراءة حقيقية لـ “واقعة وجود قطارات أنفاق في بوسطن، التي ربما لم تكن حقيقة وجود قطارات أنفاق في بوسطن”.

لكن يمكن القول أنه يجب أن نقول أن هذه الجملة خاطئة (David 2002: 129). فحقيقة وجود قطارات أنفاق في بوسطن كانت ستظل هي الحقيقة نفسها في عوالم لا يوجد بها مترو أنفاق في بوسطن، أي حقيقة وجود مترو أنفاق في بوسطن؛ كل ما في الأمر أنه في تلك العوالم لم تكن هذه الحقيقة واقعية. قد تقول: في هذا العالم، لا يمكن وصف حقيقة وجود قطارات أنفاق في بوسطن بشكل صحيح على أنها واقعية، ولكن في الحديث عن هذا العالم نتحدث عنه من وجهة نظر عالمنا، وفي عالمنا يعتبر واقعي. (وبالمثل مع مثال سقراط الغاضب).

الآن، قد يرغب المعترض في الضغط على النقطة التالية ضد الحل المزعوم أعلاه لصعوبته.لنتأمل مرة أخرى حقيقة أن سقراط حكيم. بالتأكيد، يمكن القول، إنه من الطبيعي أكثر أن نؤكد أن هذه الحقيقة غير موجودة في عالم محتمل حيث لا يكون سقراط حكيما، بدلا ًمن وجوده هناك بشكل صحيح، ولكنه ليس واقعي. بعد كل ذلك، تخيل حديث حول عالم لا يكون فيه سقراط حكيما وافترض أن المتحدث أ يدّعي أن سقراط حكيم بالفعل في ذلك العالم، مما يجعل المتحدث ب يعترض بقوله:

 لا، آسف، أنت مخطئ: لا توجد مثل هذه الحقيقة في هذا العالم؛ فالحقيقة المزعومة بأن سقراط حكيم ببساطة غير موجودة في ذلك العالم.

قد يبدو من الغريب الإصرار على أن “ب” غير مسموح له بقول هذا ويجب أن يقول بدلا من ذلك:

 نعم، أنت محق في وجود مثل هذه الواقعة في هذا العالم، وهي حقيقة أن سقراط حكيم، لكن هذه الحقيقة في هذا العالم ليست واقعية؛

كيف يمكن لمنظر الماهية الرد على هذا الاعتراض؟ تتمثل إحدى الإستراتيجيات الممكنة في التمييز بين الحقيقة والواقعية، على النحو التالي. يمكن القول أن الواقعية هي تجسيد للحقائق. بمجرد حصولك على حقيقة، ستحصل أيضا، كتدبير وجودي، على واقعية هذه الحقيقة. إن الحقيقة بكونها قضية موجودة في جميع العوالم الممكنة حيث يوجد الافتراض، على الرغم من أنه في بعض هذه العوالم قد لا تكون واقعية: أي لن تكون واقعية في عوالم حيث يكون الافتراض خاطئا على النقيض من ذلك، فإن واقعية هذه الحقيقة موجودة فقط في تلك العوالم التي تكون فيها الحقيقة واقعية – أي حيث يكون الافتراض صحيحا ًلذا فإن الواقعية تشبه إلى حد ما المجاز.

قارن بمثال سقراط الغاضب مرة أخرى. فسقراط الغاضب، الذي قد يجادل منظري الماهية، بأنه موجود في جميع العوالم التي يوجد فيها سقراط، رغم أنه ليس غاضبا في بعض هذه العوالم. لكن غضب سقراط – هذا المجاز بالتحديد – موجود فقط في العوالم يكون فيها سقراط غاضبا يبدو أن هذا يهدف لتجنب المشكلة، لأن الاقتراح المطروح هنا هو أن سقراط الغاضب لا يتطابق مع غضب سقراط – لذا فإن حقيقة أن هذين الكيانين لهما خصائص نموذجية مختلفة لا تحتاج إلى إحراج أحد، ناهيك مع سقراط نفسه. وبالمثل، فإن الاقتراح هو أن الافتراض القائل بأن سقراط حكيم لا يتطابق مع حقيقة واقعة أن سقراط حكيم، ولكن مع هذه الحقيقة فقط. لذا فإن منظري الماهية سوف يستوعب وجهة نظر المعترض من خلال الإصرار على وجود الوقائع في عوالم محتملة حيث لا توجد حقائقهم.

قد يتساءل القارئ عن سبب إثارة هذه المشكلة ضد نظرية ماهية الحقيقة في المقام الأول. بعد كل ذلك، لا يقول مُنظِّر الماهية أن الافتراض ببساطة متطابق مع الحقائق، لكن الفرضيات الحقيقية متطابقة مع الوقائع، والآن من المؤكد أن الفرضيات والحقائق الواقعية لها نفس الخصائص الشكلية تماما، بغض النظر عن كيفية تعامل الأشياء مع الافتراض المطلق الذي يذهب إلى أن سقراط حكيم، يُعتقد أن الافتراض الحقيقي بأن سقراط حكيم موجود في نفس العالم مثل حقيقة أن سقراط حكيم، مهما كانت تلك العوالم. ومع ذلك، في مقابل هذا التعامل السريع مع المشكلة المزعومة، هناك الحدس المذكور أعلاه والذي ينبغي استثماره، وهو أن الافتراض الحقيقي بأن سقراط حكيم متطابق مع الافتراض القائل بأن سقراط حكيم. طالما أن هذا الحدس في هذا الدور، فإن المشكلة تبدو بالفعل وكأنها تنشأ عن افتراضات حقيقية، في المقام الأول، ثم للوقائع عن طريق انتقال الماهية. لكن مُنظِّر الماهية سيؤكد، كما أوضحنا، أن المشكلة لها حل مقُنع.

2.5 مشكلة الحقيقة الصحيحة

يجادل كاندليش، متبعا ً لكارترايت، على أن نظرية الماهية في الحقيقة تواجه صعوبة في الحصول على “الحقيقة الصحيحة” (Cartwright 1987: 74-5؛ Candlish 1999 A: 238-9؛ 1999 ب: 202-4). لنتأمل النسخة من نظرية الماهية التي تنص على:

 (11) الافتراض بأن ف يكون صحيحا ًفقط إذا كان متطابقا مع واقعة ما.

اعتراض كاندليش الآن على الجملة رقم (11)، كما يلي:

 لا تُحدد الحقيقة التي يجب أن تكون متطابقة مع الافتراض لكي تكون القضية صحيحة. لكن ما تتطلبه نظرية الماهية ليس أن يكون الافتراض الحقيقي متطابقا مع حقيقة أو أخرى، بل هو مطابقته للواقعة الصحيحة. (1999 ب: 203).

في ورقة أخرى، يضع كاندليش الأمر على النحو التالي:

ولكن بعد كل ذلك، قد تكون أي قضية متطابقة مع واقعة أو أخرى (وهناك أسباب محددة في الرسالة لفتنجشتاين لافتراض أن جميع القضايا المنطقية هي نفسها حقائق)، وبالتالي قد يكون كل شيء صحيحا ً ما تحتاج نظرية الماهية أن تلتقطه هو فكرة أنها بحكم كونها متطابقة مع الواقعة المناسبة أن الافتراض صحيح. (1999 أ: 239).

فالإشارة التي في الرسالة لفتنجشتاين موحية. بالطبع، قد يكون هناك اعتراض على أن كتاب الرسالة ليس لديه قضايا بمعنى تلك الكلمة التي تظهر هنا: أي أنها لا تتعرف على افتراضات راسل (القضايا على مستوى المرجع). ولا يبدو في الواقع أنه يتعرف على أفكار فريجه. ففي الرسالة، كما أشرنا (§2)، نجد أن الجمل التصريحية (Sätze)هي حقائق (ترتيب للأسماء)، والحالات الواقعية (Sachlagen مواقف، Sachverhalte حقائق، Tatsachen تحقيقات) هي أيضا حقائق (ترتيب للأشياء). ومع ذلك، فإن تلميح كاندليش إلى الرسالة يذكرنا بأن الفرضيات (بالمعنى الذي نعنيه) هي تراكتاريان Tractarianنسبة لكتابه بقدر ما هي ترتيبات منظمة من الكيانات، أي الأشياء والخصائص. (من الناحية النسبية، فإن الأفكار هي ترتيبات منظمة للحواس.)

الفرضيات الخاطئة (والأفكار الخاطئة) ستكون أيضا ترتيبات للأشياء والخصائص (على التوالي، الحواس). لذا فإن الصعوبة التي حددها كارترايت و كاندليش يمكن وضعها على هذا النحو. من المعقول أن أي افتراض، سواء كان صحيحا ً أم لا، متطابق مع حقيقة أو أخرى نظرا لأن الافتراض هو ترتيب لكيانات من النوع المناسب. ولكن إذا كانت الفرضيات مجرد وقائع، فإن كل قضية تكون متطابقة مع حقيقة ما – على الأقل، مع نفسها – سواء كانت صحيحة أم خاطئة. لذا يبدو الاتجاه من اليمين إلى اليسار للجملة رقم (11) أعلاه غير صحيح.

يسعى بيل J.C Beall (2000) لحل هذه المشكلة نيابة عن مُنظِّر الماهية من خلال التذرع بمبدأ عدم تمييز الهويات. حيث يعمل اقتراحه على النحو التالي: إذا سألنا، فيما يتعلق بـالجملة رقم (11)، ما هي الواقعة “الصحيحة”، فيبدو أنه يمكننا الإجابة على أن الواقعة “الصحيحة” يجب أن تكون على الأقل متطابقة مع الافتراض أن ف، ومبدأ عدم قابلية التمييز هذا يضمن من ثم أن هناك حقيقة واحدة من هذا القبيل. هذا الافتراض قابل لرد واضح. لنفترض أن الافتراض p خاطئ. سيظل هذا الافتراض متطابقا ًمع نفسه، وإذا قلنا (بحسب فيتجنشتاين) أن الفرضيات هي وقائع، فستكون هذه الافتراض متطابقة مع حقيقة واحدة على الأقل، وهي نفسها. لذلك سوف يرضي الجانب الأيمن من (11)، بغض النظر عن زيفها. لكن التفكير في هذا الرد يشير إلى تصحيح اقترحه بيل: لماذا لا نقول إن الحقيقة الصحيحة هي واقعة أن ف؟ حيث سنكون قادرين بعد ذلك على جعل الجملة (11) أكثر لمعانا عن طريق:

(12) الافتراض القائل بأن ف صحيح فقط إذا (أ) كانت ف واقعة و (ب) الافتراض القائل بأن ف متطابقة مع هذه الحقيقة.

يبدو أن الخطأ الآن لم يعد يُشكل صعوبة، لأنه إذا كان ف خطأ فإن ذلك ليس حقيقة ف، بحيث (أ) لم ينجح، ولا يوجد احتمال مناسب للافتراض الذي يكون ف متطابقا معه. لاحظ أنه في ضوء هذه الاعتبارات التي تم بثها بالفعل فيما يتعلق بمشكلة الوسائط (الجزء رقم (1) من هذا القسم)، يجب توخي الحذر هنا. افترض أن ف صحيح في العالم الفعلي، لكنها خاطئة في عالم آخر ممكن. ووفقا ًلهذه الإستراتيجية التي كنا ندرسها نيابة عن مُنظِّر الماهية، سيكون من الخطأ القول أنه في العالم المحتمل حيث يكون ف، لا توجد حقيقة مثل واقعة ف. تقول الإستراتيجية إن هناك بالفعل مثل هذه الحقيقة، لأنها (في العالم الفعلي) حقيقة ف، وهذه الحقيقة، والقضية الحقيقية، تلك هي ف، التي تستمر في الوجود في العالم المحتمل حيث يكون ف خطأ؛ فهذه الواقعة ليست حقيقة في هذا العالم الممكن.

لكن بحسب الجملة رقم (12)، الذي سيحافظ عليه مُنظِّر الماهية، يتعامل مع هذه الاحتمال. في العالم المحتمل الذي نفكر فيه، حيث يكون ف خطأ، على الرغم من واقعة وجود p، فليس حقيقة أن ف، لذلك (أ) لا ينجح، وبالتالي لا توجد مخاطرة من حصولنا على حقيقة “خاطئة”. لاحظ أيضا ً هنا أنه إذا تم تبني خط فيتجنشتاين، بينما الافتراض (الخاطئ) القائل بأن ف ستكون متطابقة مع واقعة ما – على الأقل مع نفسها – سيكون ذلك ممكنا، نظرا لفشل (أ)، بالنسبة لمنظر الماهية يكافح للتصدي بضمير مرتاح بأن هذه الواقعة هي حقيقة خاطئة، ولا تكفي لجعل القضية صحيحة.

3.5 مشكلة التغييرات المفاجئة

إذا نجحت حجة “التغييرات المفاجئة” سيئة السمعة، فإنها ستشكل مشكلة لنظرية هوية الحقيقة. توجد الحجة في بأشكال ٍ مختلفة، وإن كانت مرتبطة، ولكن هذا ليس المكان المناسب لاستكشاف كل هذه التفاصيل. هنا سوف نلقي نظرة موجزة على واحدة من أبسط نُسخ الحجة وأكثرها شيوعا ً، وهي حجة ديفيدسون. تهدف هذه النسخة من الحجة إلى إظهار أنه إذا كانت الجمل التصريحية الحقيقية تشير إلى أي شيء (على سبيل المثال إلى الفرضيات أو الحقائق)، فإنها تشير جميعها إلى نفس الشيء (إلى “الافتراض الكبير”، أو “الحقيقة الكبرى”).

قد تكون هذه النتيجة غير مقبولة لمنظر الماهية لمناصري راسل، الذي يعتقد أن الجمل التوضيحية تشير إلى الفرضيات، وأن مثل هذه الفرضيات الحقيقية متطابقة مع الوقائع: من الطبيعي أن يرغب أي منظّر من هذا القبيل في الإصرار على أن الفرضيات المشار إليها تختلف عن الجمل التصريحية، بشكل عام على الأقل، عن بعضها البعض، وبالمثل فإن الحقائق التي تتطابق فيها الفرضيات الواقعية مع بعضها تختلف أيضا ًعن بعضها البعض. حيث يعبر ديفيدسون عن المشكلة التي يُزعم أن حجة المقلاع تطرحها على النحو التالي:

تأتي الصعوبة عند وضع افتراضين معقولين: فالمصطلحات الفردية المتكافئة منطقيا لها نفس المرجع؛ والمصطلح المفرد لا يغير مرجعه إذا تم استبدال مصطلح مفرد وارد بآخر بنفس المرجع. لكن افترض الآن أن الحرفين “R” و “S” يختصران أي جملتين متشابهتين في قيمة الحقيقة. (1984: 19)

ثم يجادل بأن الجمل الأربع التالية لها نفس المرجع:

13) R

14) z(z=z&R)=^z(z=z)

15) z(z=z&S)=^z(z=zz^(z=z&S)=z^(z=z)

16) S

ترمز القبعة فوق المتغير إلى عامل الوصف: لذا فإن “Z”تعني z مثل) هذا لأن (13) و (14) متكافئان منطقيا ً، مثل (15) و (16)، بينما الفرق الوحيد بين (14) و (15) هو أن (14) يحتوي على التعبير (يسميه ديفيدسون “مصطلح مفرد”) “^ z (z = z & R) z ^ (z = z & R)” بينما (15) يحتوي على ” ^ z (z = z & S) z ^ (z = z & S) “،

وهذه تشير إلى الشيء نفسه إذا كانت S و R متشابهة في قيمة الحقيقة. ومن ثم فإن أي جملتين لهما نفس المرجع إذا كان لهما نفس قيمة الحقيقة. (1984: 19).

تكمن صعوبة هذه الحجة، كما أشار عدد من الكتاب (انظر، على سبيل المثال، Yourgrau 1987؛ Gaskin 1997: 153 n. 17؛ Künne 2003: 133–41)، في المكان الذي من المرجح أن يثير فيه منظري الماهية اعتراضهم، حيث يكمن في الافتراض الأول الذي يعتمد عليه. يسمي ديفيدسون هذا الافتراض بأنه “معقول”، لكن تم التشكيك فيه على نطاق واسع. ينص على أن “المصطلحات الفردية المتكافئة منطقيا ًلها نفس المرجع”. ولكن تبدو أفكار التكافؤ المنطقي والمرجعية مختلفة حدسيا، وفي الواقع ليس لها علاقة تذكر ببعضها البعض، لذا سيكون من الغريب أن يكون هناك سبب مسبق لضرورة استمرار هذا الافتراض.

كما أنه ليس من الصعب التفكير في أمثلة معاكسة واضحة: فالجملة “إنها تمطر” تكافئ منطقيا الجملة “إنها تمطر (إما أن بلوتو أكبر من عطارد أو في هذه الحالة ليس بلوتو أكبر من عطارد)”، ولكن يبدو أن الجملة الأخيرة لها حمولة مرجعية ليست للجملة الأولى. بالطبع، إذا كانت الجمل التصريحية تشير إلى قيم الحقيقة، كما اعتقد فريجه، فإن الجملتين ستكونان بالفعل لهما مرجعية مشتركة، لكن الافتراض أن الجمل تشير إلى قيم الحقيقة سيكون أمرا ً مثيرا ً للتساؤل في سياق حجة تهدف لإثبات أن جميع الجمل الصحيحة تشير إلى الشيء نفسه.

4.5 مشكلة التشابه

هناك اعتراض آخر على نظرية الماهية، يعود إلى ملاحظة ستراوسون، والذي يأخذ إشارة من النقطة التي مفادها أن الأسماء المتعارف عليها للقضايا والوقائع لا تتطابق غالبا ًبشكل مباشر مع بعضها البعض: فهي غالبا لا تكون متطابقة مع بعضها البعض (أو إذا كانوا متطابقين فلا يكون قابلا للتبديل في الواقع بشكل مسبق) (ستراوسون 1971: 196؛ راجع كون 2003: 10-12). على سبيل المثال، نقول إن الفرضيات صحيحة، ولا تحدث، بينما نقول إن الوقائع تحدث، وليست صحيحة.

ما مدى جدية هذه النقطة؟ يفترض هذا الاعتراض مسبقا أنه لكي يكون تعبيرا عن مرجعيتين مشتركتين، أو يرضيهما نفس الشيء، يجب أن يكونا متطابقين نحويا ولهما نفس قيمة الحقيقة المحتملة، ومتطابقتان من حيث الملاءمة السياقية العامة. إن افتراض التشابه النحوي للتعبيرات المرجعية المشتركة مثير للجدل، وقد يكون من الممكن لمنظر الماهية ببساطة أن ينكره (انظر Gaskin 2008: 106-10، للحجة حول النقطة، مع إشارات إلى المزيد من الأدبيات؛ راجع. Dodd 2008 A: 83-6) ما إذا كان يجب أن تكون التعبيرات ذات المرجعية المشتركة متطابقة نحويا ًيعتمد على مفهوم المرء للمرجع، وهي مسألة لا يمكن متابعتها هنا (للمناقشة، انظر Gaskin 2008: الفصل 2؛ 2020: الفصل 3-5).

كان هناك قدر كبير من النقاش في الأدبيات المتعلقة بمسألة ما إذا كان تحديد الوقائع مع الفرضيات الحقيقية يقوض – ليس على وجه التحديد – من خلال ظواهر التناقض النحوي ولكن عن طريق فشل التبادلات ذات الصلة في الحفاظ على قيم الحقيقة (انظر، على سبيل المثال،King 2007 : الفصل.5؛ King in King، Soames، & Speaks 2014: 64–70، 201–8؛ Hofweber 2016: 215–23؛ Candlish & Damnjanovic 2018: 264).حيث ركزت المناقشة على أمثلة مثل ما يلي:

(17) يتذكر دانيال واقعة أن هذه سنة كبيسة؛

 (18) يتذكر دانيال الافتراض الحقيقي بأن هذه سنة كبيسة؛

(19)  واقعة أن خبازي المحلي قد أغلق أمر مروّع؛

 (20) الافتراض الحقيقي بأن خبازي المحلي قد أغلق هو مجرد أمر مروّع.

 يقال إن المشكلة هنا هي أن استبدال “الافتراض الحقيقي” بـ “الواقعي” أو العكس، يولد قراءات مختلفة (على وجه الخصوص، قراءات ذات قيم حقيقية مختلفة). لنفترض أن على دانيال أن يحفظ قائمة من الفرضيات الواقعية، من بينها الافتراض بأن هذه سنة كبيسة. ثم يُزعم أنه يمكننا بسهولة تخيل سيناريو يختلف فيه (17) و (18) في قيمة الحقيقة. طريقة أخرى لصياغة نفس النقطة قد تكون بالقول إن (17) تُعادل:

21) يتذكر دانيال أن هذه سنة كبيسة.

لكن (18) لا تساوي (21)، لأنه – كما تقول الحجة – (18) وليس (21)، سيكون صحيحا ًإذا كان دانيال قد حفظ قائمة افتراضاته الحقيقية دون أن يدرك أنها صحيحة. يمكن مناقشة الاختلافات المماثلة لتطبيقها، مع مراعاة ما يقتضيه اختلاف الحال، على (19) و (20). هل يستطيع منظّر الماهية التعامل مع هذه الصعوبة؟

في المقام الأول، قد يشير المرء إلى أن عدم التشابه المزعوم بين (17) و (18) أقل وضوحا ًمما يدعي المعترض في الجُملة. (17) حيث له بالتأكيد قراءة مثل تلك التي يقال إنها مناسبة للجملة رقم (18). لنفترض أن على دانيال أن يحفظ قائمة من الحقائق مثل الجُملة. (17) يمكن أن تتشعب بعد ذلك في قيمة الحقيقة من (22) يتذكر دانيال حقيقة أن هذه سنة كبيسة.

لأن هناك قراءة لـ (17) والتي، بغض النظر عن حقيقة (17)، فإن (22) خاطئة: هذه هي القراءة التي حفظ دانيال قائمة من الحقائق بناءً عليها، ولكن دون أن يدرك بالضرورة أن الأشياء التي تذكرها وقائع. لقد تذكر الواقعة ذات الصلة (أن هذه سنة كبيسة)، ربما نقول، ولكن ليست حقيقية. هذه قراءة موازية لقراءة (18) التي وفقا لها يحفظ دانيال الافتراض الحقيقي بأن هذه سنة كبيسة، لكن ليس كقضية حقيقية.

قد يعتقد مُنظِّر الماهية بعد ذلك أنه، ربما بشكل مفاجئ، تنطبق نفس النقطة فعليا على الجانب الواضح للجملة (21)، على أساس أن هذه الجملة يمكن أن تعني أن دانيال يتذكر الشيء الافتراضى بأن هذه سنة كبيسة (من قائمة مثل هذه الأشياء، على سبيل المثال، أنه طُلب منه حفظها)، دون أي إشارة ضمنية إلى أنه يتذكرها إما كقضية أو كحقيقة. لذلك، وفقًا لهذا الرد، فإن القراءة الواضحة لـ (18) – التي تذكر دانيال موضوع الاقتراح بناء ً عليها، أي أن هذه سنة كبيسة، ولكن ليس بالضرورة أن نتذكرها كحقيقة، أو حتى كموضوع مُفترض أن هذه سنة كبيسة (يتذكرها في ظل طريقة عرض أخرى) – متوفرة أيضا ًلـ (17) و (21).

ولكن ماذا عن القراءة المبهمة لكل من (17) أو (21)، مما يعني أن دانيال يعرف حقيقة أن هذه سنة كبيسة – هل هذه القراءة متاحة لـ (18) أيضا؟ قد يؤكد مُنظِّر الماهية أن هذه القراءة متاحة بالفعل، ثم يشرح لماذا نميل إلى عدم استخدام جُمل مثل (18) بنفس المعنى، مفضلين الجُمل على شاكلة (17) أو (21)، على أساس الخاصية النسبية لمفردات (18). الفكرة هنا هي أنه مجرد مصادفة لغوية تجعلنا نفُضل إما (17) أو (21) على (18) حيث يكون المعنى الذي يشير إليه دانيال موضع تساؤل حول المعرفة الافتراضية بأن هذه سنة كبيسة (هو على دراية بهذه الحقيقة كواقعة)، بدلاً من مجرد معرفة، في ظل طريقة ما من العرض أو غير ذلك، حول الموضوع المقترح الذي يحدث (حقيقة) أن هذه سنة كبيسة. وإذا سألنا لماذا نفضل (17) أو (21)

(23) يتذكر دانيال الافتراض بأن هذه سنة كبيسة،

 ثم ستكون الإجابة هي الجواب الذي تنقل الجملة رقم (23) معلومات أقل من (17) أو (21)، وذلك لقراءة هاتين الجملتين اللتين نهتم بهما عادةً، والتي وفقًا لها يتذكر دانيال الواقعة ذات الصلة كحقيقة، لأن (23) متوافق مع زيف “هذه سنة كبيسة”. ومن ثم فإن استخدام الجملة (23) في موقف يكون فيه المرء في وضع يسمح له باستخدام (17) أو (21) من شأنه أن يحمل معنى مضللا ً للجملة.

هذا، على أي حال، هو أحد الخطوط التي يمكن لمنظر الماهية أن يتخذها. (من الجدير بالذكر هنا أنه إذا كان مُنظِّر الماهية على حق في هذا الأمر، فسيتبع ذلك أن بناء جملة “اعرف أن” البناء سيحيط به غموض مشابه مثل “تذكر ذلك”، نظرا ً لأن التذكر هو حالة خاصة من المعرفة.وهذا يعني أن: “أ يعرف أن ف” تعني إما “أ على دراية بحقيقة ف، ويتم التعرف عليها كحقيقة”، أو مجرد أن”أ على دراية بحقيقة ف، ولكن ليس بالضرورة معها على هذا النحو – إما كحقيقة أو حتى كموضوع افتراضي “).

5.5 مشكلة الفردية

قد يبدو أن الفرضيات تتفرد بشكل أكثر نعومة من الحقائق: على سبيل المثال، يمكن للمرء أن يجادل في حقيقة أن الزهرة المشرقة هي نفس حقيقة الفوسفور اللامع، لكن الفرضيات المعنية مختلفة (انظر في هذه النقطة Künne 2003: 10-12؛ Candlish، Damnjanovic 2018: 266-7). يمتلك منظّر الماهية عددا من الاستراتيجيات ردا على مثل هذا الاعتراض. قد ينُكر المرء ببساطة كل ذلك، للحفاظ على أن الحقائق يتم تفردها بدقة مثل الفرضيات: إذا كان المرء مؤيدا ً للنسخة الفريجية لنظرية الماهية، فمن المحتمل أن يكون هذا رده (انظر، على سبيل المثال. (Dodd 2008a: 90– 3) بدلا من ذلك، يمكن للمرء أن يرد بالقول أنه إذا كانت هناك نقطة جيدة هنا، فإنه في أفضل الأحوال يعترض فقط ضد النسخ الفريجية ووجهة نظر راسل لنظرية الماهية، وليس ضد النسخة الهجينة.

يمكن أن تتفق نظرية الماهية مع النسخة الهجينة على أننا نفكر أحيانا في الحقائق باعتبارها كيانات ممتدة ذات مستوى مرجعي، وأحيانا نفكر أيضا في الفرضيات الفردية أو الكيانات الشبيهة بهذه الفرضيات بشكل مقصود. يمكن القول إن هاتين النقطتين المزدوجة تخبراننا بالفعل أننا إما أمام نسخة فريجية صارمة أو نسخة صارمة من راسل لنظرية الماهية: فهي تخبرنا ضد الموقف الفريجي الصارم لأننا، بالإضافة إلى تفرد الحقائق بشكل مقصود، فإننا أحيانا نفرد الحقائق على نطاق واسع؛ وهم يعارضون موقف راسل الصارم لأننا، بالإضافة إلى تفرد الحقائق على نطاق واسع، فإننا أحيانًا نفرد الحقائق بشكل مقصود.

لكن من المعقول أن النسخة الهجينة من نظرية الماهية لم تتأثر بهذا الاعتراض، لأن تلك النسخة من النظرية تستوعب الكيانات المنظمة والواقعية من الناحية الافتراضية على مستويي المعنى والمرجعية، على الرغم من وجود أنواع مختلفة من هذه الكيانات على هذه المستويات المختلفة، إما الفرضيات على مستوى المعنى والكيانات الشبيهة بالافتراض المترابط على مستوى المرجع أو العكس، فإنها مثل الحقائق والكيانات الشبيهة بالحقائق، مع مراعاة ما يقتضيه اختلاف الحال.

سيتبع، إذن، بالنسبة لهذه النسخة من نظرية الماهية، أن الأفكار الفريجية وافتراضات راسل ممكنة، إذا كانت صحيحة، لتكون متطابقة مع الكيانات الواقعية للمستوى المناسب (المعنى والمرجع، على التوالي)، حيث لن تظهر مشكلة التفرد بعد ذلك على السطح. كما سيتم تفريد المقترحات أو الكيانات المهيكلة بشكل منطقي تماما ً كما نريد أن تكون فردية، وذلك على مستوى من الوضوح بحيث ستكون هناك حقائق أو كيانات شبيهة بها، متفردة بنفس الوضوح، لكي تكون متطابقة معها، إذا كانت صحيحة).

6.5 جوهر الحقيقة

يبدو أن حلول هذه المشكلات، إذا حكم عليها بأنها جيدة، توجهنا إلى مفهوم الحقيقة الذي يُدعى “الجوهري (Wright 1999: 207–9)””أو “الأوليّ” (Candlish 1999b: 207). كان هذا المفهوم قد اعترف به مور ورسل اللذان، في الفترة التي كانا متعاطفين مع نظرية الماهية، تحدثا عن الحقيقة على أنها خاصية بسيطة وغير قابلة للتحليل (Moore 1953: 261؛ 1993: 20-1؛ Russell 1973: 75؛ Cartwright 1987: 72-5؛ Johnston 2013: 384). حيث ستكون النقطة هنا على النحو التالي. هناك تفسيرات فردية خاصة لحقيقة العديد من الفرضيات.

على سبيل المثال، سيتم شرح الافتراض الحقيقي بوجود حريق في المبنى من خلال الإشارة إلى وجود مادة قابلة للاحتراق، وأكسجين كافٍ، وشرارة ناتجة عن ماس كهربائي، وما إلى ذلك. لذا، لكل حالة على حدة، سنكون (غالبا بشكل ٍدائم) قادرين على تقديم تفسيرات لسبب صحة افتراضات معينة، كما يقوم العلم على توسيع مجال مثل هذه التفسيرات طوال الوقت. لكن بحسب التوجه الجوهري، لا يوجد أي احتمال لتقديم تفسير عام للحقيقة، بمعنى تفسير من شأنه أن يشرح، بعبارات عامة، سبب صحة أي افتراض حقيقي. على هذا المستوى العام، (وفقا لما يقوله التوجه الجوهري)، لا يوجد شيء مثير للاهتمام يمكن قوله حول ما يجعل الفرضيات الحقيقية صحيحة: لا يوجد سوى تاريخ الحالة بشكل ٍ تفصيلي.

 قد يتبنى الجوهري نسخة أو أخرى من نظرية هوية الحقيقة: ما يجب رفضه هو فكرة أن حقيقة الافتراض الواقعي قد تتكون من علاقة بحقيقة مختلفة، ذلك أن حقيقة الافتراض الواقعي أن سقراط حكيم، على سبيل المثال، قد تتكون من أي شيء آخر غير الهوية مع حقيقة أن سقراط حكيم. في هذا النهج، يُنظر إلى الحقيقة على أنها جوهرية في الفرضيات وأولية. بهذا المعنى، لم تكن الجوهرية موقفا ً شائعا ً، على الأقل حتى وقت قريب: وصف كاندليش Candlish، ذلك بأنه “غير قابل للتصديق لدرجة أنه لم يكن هناك أي شخص آخر تقريبا ً [باستثناء Russell، في 1903-1904] تمكن من أخذ الأمر على محمل الجد “(1999b: 208)؛ لكنه قد اكتسب شعبية الآن (انظر، على سبيل المثال، Asay 2013).

في مقابل ذلك، يعتقد كاندليش (1999b: 208) أن التوجه الجوهري ونظرية الماهية متنافسان، لكن ربما هذا الرأي ليس إلزاميا ً. حيث يقول الجوهري أن الحقيقة خاصية بسيطة وغير قابلة لتحليل القضايا. بينما، تقول نظرية الماهية أن الافتراض الحقيقي متطابق مع الواقعة (ومع الحقيقة الصحيحة). يبدو أن هذه العبارات تتعارض فقط إذا تم استخدام نظرية الماهية لتقديم تحليل صعب للحقيقة. غير انه إذا، عن طريق اتباع الدعاة الحديثين للنظرية، نعتبرها بالأحرى مجرد توضيح للعلاقة بين كيانين لدينا في الأنطولوجيا، وهما الفرضيات والحقائق الواقعية، والتي اتضح أنها (مثل الزهرة والفوسفور) متطابقة، على أساس الإدراك بأن موضوعا ً مثل سقراط حكيم هو افتراض حقيقي وواقعي في آن واحد، ثم أن أي صدام مبدئي بين الجوهرية ونظرية الماهية، سيتم تجنبه، على ما يبدو. بحسب هذا النهج، من الطبيعي أن نقول إن نظرية الماهية تصف الطريقة التي تكون بها الحقيقة خاصية بسيطة وغير قابلة للتحليل.


 

المراجع

  • Anscombe, G. E. M., 2000, “Making True”, in Logic, Cause, and Action: Essays in Honour of Elizabeth Anscombe, Roger Teichmann (ed.), Cambridge: Cambridge University Press, pp. 1–8.
  • Armstrong, D. M., 1991, “Classes Are States of Affairs”, Mind, 100(398): 189–200. doi:10.1093/mind/C.398.189
  • –––, 1997, A World of States of Affairs, Cambridge: Cambridge University Press. doi:10.1017/CBO9780511583308
  • Asay, Jamin, 2013, The Primitivist Theory of Truth, Cambridge: Cambridge University Press. doi:10.1017/CBO9781139856003
  • Baldwin, Thomas, 1991, “The Identity Theory of Truth”, Mind, 100(397): 35–52. doi:10.1093/mind/C.397.35
  • Beall, J. C., 2000, “On the Identity Theory of Truth”, Philosophy, 75(1): 127–130. doi:10.1017/S0031819100000097
  • Bradley, F. H., 1914, Essays on Truth and Reality, Oxford: Clarendon Press.
  • Candlish, Stewart, 1989, “The Truth About F. H. Bradley”, Mind, 98(391): 331–348. doi:10.1093/mind/XCVIII.391.331
  • –––, 1995, “Resurrecting the Identity Theory of Truth”:, Bradley Studies, 1(2): 116–124. doi:10.5840/bradley19951211
  • –––, 1999a, “Identifying the Identity Theory of Truth”, Proceedings of the Aristotelian Society, 99(2): 233–240. doi:10.1111/1467-9264.00057
  • –––, 1999b, “A Prolegomenon to an Identity Theory of Truth”, Philosophy, 74(2): 199–220. doi:10.1017/S0031819199000261
  • Candlish, Stewart and Nic Damnjanovic, 2018, “The Identity Theory of Truth”, in The Oxford Handbook of Truth, Michael Glanzberg (ed.), Oxford: Oxford University Press, pp. 259–282.
  • Cartwright, Richard, 1987, Philosophical Essays, Cambridge, MA: MIT Press.
  • David, Marian, 2002, “Truth and Identity”, in Meaning and Truth: Investigations in Philosophical Semantics, Joe K. Campbell, Michael O’Rourke, and David Shier (eds.), New York: Seven Bridges Press, pp. 124–141.
  • Davidson, Donald, 1984, Inquiries into Truth and Interpretation, Oxford: Clarendon.
  • Dodd, Julian, 1995, “McDowell and Identity Theories of Truth”, Analysis, 55(3): 160–165. doi:10.1093/analys/55.3.160
  • –––, 1996, “Resurrecting the Identity Theory of Truth: A Reply to Candlish”, Bradley Studies, 2(1): 42–50. doi:10.5840/bradley1996215
  • –––, 1999, “Hornsby on the Identity Theory of Truth”, Proceedings of the Aristotelian Society, 99(2): 225–232. doi:10.1111/1467-9264.00056
  • –––, 2008a, An Identity Theory of Truth, Basingstoke: Palgrave.
  • –––, 2008b, “McDowell’s Identity Conception of Truth: A Reply to Fish and Macdonald”, Analysis, 68(1): 76–85. doi:10.1093/analys/68.1.76
  • Dodd, Julian and Jennifer Hornsby, 1992, “The Identity Theory of Truth: Reply to Baldwin”, Mind, 101(402): 318–322. doi:10.1093/mind/101.402.318
  • Engel, Pascal, 2001, “The False Modesty of the Identity Theory of Truth”, International Journal of Philosophical Studies, 9(4): 441–458. doi:10.1080/09672550110081249
  • –––, 2005, “The Unimportance of Being Modest: A Footnote to McDowell’s Note”, International Journal of Philosophical Studies, 13(1): 89–93. doi:10.1080/0967255042000324362
  • Fine, Kit, 1982, “First-Order Modal Theories III—Facts”, Synthese, 53(1): 43–122. doi:10.1007/BF00500112
  • Fish, William and Cynthia Macdonald, 2007, “On McDowell’s Identity Conception of Truth”, Analysis, 67(1): 36–41. doi:10.1093/analys/67.1.36
  • –––, 2009, “The Identity Theory of Truth and the Realm of Reference: Where Dodd Goes Wrong”, Analysis, 69(2): 297–304. doi:10.1093/analys/anp018
  • Frege, Gottlob, 1918–19 [1977], “Der Gedanke: eine logische Untersuchung”, Beiträge zur Philosophie des deutschen Idealismus, 2: 58–77. Translated 1956 as “The Thought: A Logical Inquiry”, A.M. Quinton and Marcella Quinton (trans.), Mind, 65(259): 289–311. Also translated in Frege 1977. doi:10.1093/mind/65.1.289
  • –––, 1977, Logical Investigations, P.T. Geach (ed.), Oxford: Blackwell.
  • Gaskin, Richard, 1997, “Fregean Sense and Russellian Propositions”, Philosophical Studies, 86(2): 131–154. doi:10.1023/A:1017929320501
  • –––, 2002, “Complexe Significabilia and the Formal Distinction”, in Medieval Theories of Assertive and Non-assertive Language, Alfonso Maierù and Luisa Valente (eds.), Rome: Olschki, pp. 495–516.
  • –––, 2006, Experience and the World’s Own Language: a Critique of John McDowell’s Empiricism, Oxford: Clarendon Press. doi:10.1093/0199287252.001.0001
  • –––, 2008, The Unity of the Proposition, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780199239450.001.0001
  • –––, 2020, Language and World: A Defence of Linguistic Idealism, New York: Routledge. doi:10.4324/9781003023630
  • Hofweber, Thomas, 2016, Ontology and the Ambitions of Metaphysics, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780198769835.001.0001
  • Hornsby, Jennifer, 1997, “Truth: The Identity Theory”, Proceedings of the Aristotelian Society, 97(1): 1–24. doi:10.1111/1467-9264.00001
  • –––, 1999, “The Facts in Question: A Response to Dodd and to Candlish”, Proceedings of the Aristotelian Society, 99(2): 241–245. doi:10.1111/1467-9264.00058
  • Horwich, Paul, 1998, Truth, second edition, Oxford: Clarendon Press. First edition Cambridge, MA: B. Blackwell, 1990.
  • Jago, Mark, 2018, What Truth Is, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/oso/9780198823810.001.0001
  • Johnston, Colin, 2013, “Judgment and the Identity Theory of Truth”, Philosophical Studies, 166(2): 381–397. doi:10.1007/s11098-012-0046-x
  • King, Jeffrey C., 2007, The Nature and Structure of Content, Oxford: Oxford University Press. doi:0.1093/acprof:oso/9780199226061.001.0001
  • King, Jeffrey C., Scott Soames, and Jeff Speaks, 2014, New Thinking about Propositions, Oxford: Oxford University Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780199693764.001.0001
  • Künne, Wolfgang, 2003, Conceptions of Truth, Oxford: Clarendon Press. doi:10.1093/0199241317.001.0001
  • McDowell, John, 1985 [1998], “Values and Secondary Qualities”, in Morality and Objectivity, Ted Honderich (ed.), London: Routledge and Kegan Paul, pp. 110–129; reprinted in McDowell 1998, pp. 131–150; page references to the reprint.
  • –––, 1996, Mind and World, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • –––, 1998, Mind, Value, and Reality, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • –––, 2000, “Response to Suhm, Wagemann, Wessels”, in Willaschek 2000: 93–95.
  • –––, 2005, “The True Modesty of an Identity Conception of Truth: A Note in Response to Pascal Engel (2001)”, International Journal of Philosophical Studies, 13(1): 83–88. doi:10.1080/0967255042000324353
  • –––, 2007, “Dummett on Truth Conditions and Meaning”, in The Philosophy of Michael Dummett, Randall Auxier and Lewis Edwin Hahn (eds.), Chicago, IL: Open Court, pp. 351–366.
  • Merricks, Trenton, 2007, Truth and Ontology, Oxford: Clarendon Press. doi:10.1093/acprof:oso/9780199205233.001.0001
  • Milne, Peter, 2010, “Frege’s Folly: Bearerless Names and Basic Law V”, in The Cambridge Companion to Frege, Tom Ricketts and Michael Potter (eds.), Cambridge: Cambridge University Press, 465–508. doi:10.1017/CCOL9780521624282.012
  • Moore, G. E., 1899, “The Nature of Judgment”, Mind, 8(2): 176–193. doi:10.1093/mind/VIII.2.176
  • –––, 1902–3, “Truth”, in Dictionary of Philosophy and Psychology, James Mark Baldwin (ed.), New York: Macmillan, volume 2, pp. 716–718; reprinted in Moore 1993: 20–22.
  • –––, 1953, Some Main Problems of Philosophy, London: George Allen & Unwin.
  • –––, 1993, G. E. Moore: Selected Writings, Thomas Baldwin (ed.), London: Routledge.
  • Neale, Stephen., 2001, “Meaning, Truth and Ontology”, in Interpreting Davidson, Petr Kotatko, Peter Pagin, and Gabriel Segal (eds), Stanford, CA: CSLI Publications, 155–197.
  • Rasmussen, Joshua, 2014, Defending the Correspondence Theory of Truth, Cambridge: Cambridge University Press. doi:10.1017/CBO9781107415102
  • Russell, Bertrand, 1903, The Principles of Mathematics, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 1966, Philosophical Essays, London: Routledge.
  • –––, 1973, Essays in Analysis, Douglas Lackey (ed.), London: Allen and Unwin.
  • Stenius, Erik, 1960, Wittgenstein’s Tractatus: a Critical Exposition of the Main Lines of Thought, Oxford: Blackwell.
  • Strawson, P. F., 1971, Logico-Linguistic Papers, London: Methuen.
  • Suhm, Christian, Philip Wagemann, and Florian Wessels, 2000, “Ontological Troubles with Facts and Objects in McDowell’s Mind and World”, in Willaschek 2000: 27–33.
  • Sullivan, Peter M., 2005, “Identity Theories of Truth and the Tractatus”, Philosophical Investigations, 28(1): 43–62. doi:10.1111/j.1467-9205.2005.00240.x
  • Willaschek, Marcus (ed.), 2000, John McDowell: Reason and Nature, Münster: Münsteraner Vorlesungen zur Philosophie 3. [Willaschek 2000 available online]
  • Wittgenstein, Ludwig, 1922, Tractatus Logico-Philosophicus, London: Routledge.
  • Wright, Crispin, 1999, “Truth: a Traditional Debate Reviewed”, in Truth, Simon Blackburn and Keith Simmons (eds.), Oxford: Oxford University Press, pp. 203–238.
  • Yourgrau, Palle, 1987, “Frege on Truth and Reference.”, Notre Dame Journal of Formal Logic, 28(1): 132–138. doi:10.1305/ndjfl/1093636851

أدوات أكاديمية

How to cite this entry.
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
Look up topics and thinkers related to this entry at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت

مداخل ذات صلة

Bradley, Francis Herbert | facts | Frege, Gottlob | Meinong, Alexius | Moore, George Edward | propositions | propositions: structured | Russell, Bertrand | truth: coherence theory of | truth: correspondence theory of | truth: deflationary theory of | truth: revision theory of | truthmakers | Wittgenstein, Ludwig