مجلة حكمة
مفهوم القراءة فلسفيا

مفهوم القراءة

الكاتب سيمون ڤيل
المترجم من الفرنسية إلى الإنجليزية  كريس فليمنج
ترجمه إلى العربية ناصر الحلواني

الملخص: في هذا المقال، اضطلعت سيمون ڤيل بالتأمل في مفهوم القراءة (reading)، والتي تعتقد أنها يمكن أن تلقي ضوء جديدا على مجموعة متنوعة من “الألغاز” المفاهيمية والتجريبية، خاصة فيما يتعلق بالاستجابات الوجودية تجاه العالم. الشاغل الرئيسي هو كيف نصيغ المعنى ونستجيب للظواهر. وهي تذهب إلى أن قراءتنا للعالم والأشياء الموجودة فيه، في معظم الأحيان، تكون فورية، ولا تخضع لعملية “تأويل”، على الأقل، طالما يتم تصوره بنحو منتظم. علاوة على ذلك، تقول ڤيل إن قراءاتنا للعالم مرتبطة بنحو ثابت بضروب معينة من التقييم، من التقييم الأخلاقي والتوجيه، والتي تبدو لنا واضحة وفورية معا. لكن فورية القراءة هذه، بأية حال، لا تستلزم عدم إمكانية تغيير قراءاتنا أو الطعن فيها – غير أن هذا التغيير أو التحدي يتطلب نوعا معينا من العمل.([3])


تلك محاولة لتعريف مفهوم لم يحظى حتى الآن باسم مناسب، والذي يمكن اعتبار اسم “قراءة” مناسبا له. هناك غموض في القراءة، غموض قد لا يعين التأمل فيه، بلا شك، في بيانه فحسب، بل قد يساعد في فهم ألغاز أخرى في حياة البشر. نعلم جميعا أن الإحساس فوري، وصارم، ويفاجئنا. حين يتلقى رجل لكمة في بطنه بشكل غير متوقع، فإن كل شيء يتغير بالنسبة له حتى قبل أن يعرف ما الذي حدث.

وحين ألمس جسما ساخنا – فإني أجفل قبل أن أدرك أنني أعرِّض نفسي للحرق. يستولي علي شيء ما. هكذا يتعامل معي الكون، ومن خلال هذا التعامل أتعرف على العالم. لا يفاجأ المرء بالقوة التي تستولى بها علينا الرياح، والحرائق، أو الضوضاء المفاجئة؛ لأننا نعرف – أو نعتقد أننا نعرف – أن هذا جميعه يأتي من خارجنا، من المادة، وأن العقل ليس له دور في ذلك، إلا بقدر ما يعاني من جرائه. إن الأفكار التي نكونها تفرض علينا مشاعر، ولكن لا تسيطر علينا بنفس الطريقة.

الأمر الغامض هو أن الإحساسات، التي تكاد تكون محايدة في حد ذاتها، تستحوذ علينا بنفس الطريقة بواسطة معانيها. إن بعض الخطوط السوداء على ورقة بيضاء – وهذا مختلف تماما عن لكمة في المعدة. لكن في بعض الأحيان يكون التأثير هو نفسه. لقد شعر كل منا، بشكل أو بآخر، بتأثير الأخبار السيئة التي يقرأها المرء في رسالة أو جريدة، يشعر المرء أن الأمر قد استولى عليه، كما لو انه طُرح أرضا، بفعل لكمة، قبل أن يدرك ما الأمر، وحتى في وقت لاحق، تبقى مجرد رؤية الرسالة أمرا مؤلما.

في بعض الأحيان، عندما يسكن الألم قليلا بفعل الزمن، ثم تظهر تلك الرسالة فجأة، بين أوراق نتفقدها، يطفو ألم أشد، بشكل مفاجئ ونافذ، يماثل الألم الجسدي، ينال منا كما لو أنه أصابنا من خارجنا، كما لو أن نارا تكمن [تسكن résidait] في هذه القطعة من الورق، بمثل ما يكمن الحرق في النار. لو أن هناك امرأتين، تتلقى كل واحدة منهما رسالة، تخبرها أن ابنها قد مات، الأولى، بعد إلقاء نظرة خاطفة على الورقة، يغمى عليها – ولا يتكرر ذلك منها حتى موتها، ستظل عيناها، وفمها، وحركاتها، كما كانت من قبل. أما الثانية، ستبقى كما هي، تعبيراتها، وتصرفاتها لا تتغير، لأنها لا تجيد القراءة. لم يكن الإحساس بل المعنى هو ما استحوذ على المرأة الأولى، إذ وصل إلى عقلها على الفور، بقوة، بدون تدخّل منها، بنفس الطريقة تستحوذ بها علينا الإحساسات. كما لو أن الألم قد سكن الرسالة ذاتها، ويبرز في وجه من يقرأها. أما بالنسبة للإحساسات نفسها، مثل لون الورقة، أو الحبر المكتوبة به، فإنها لا تظهر. ما يلقاه البصر هو الألم نفسه.

بهذه الطريقة، تتم الهيمنة علينا، في كل لحظة من حياتنا، من خارج ذواتنا، بواسطة المعاني التي نقرأها في ما يَمثُل أمامنا. يمكننا، نتيجة لذلك، أن نواصل النقاش إلى ما لا نهاية، حول واقع العالم الخارجي. لأن ما نطلق عليه عالم هو تلك المعاني التي نقرأها: العالم ليس حقيقي. لكنه يجذبنا كما لو كان خارجنا، وهكذا يكون العالم حقيقيا. لماذا نرغب في حل هذا التناقض، بينما نجد أن أسمى مهمة للفكر على هذه الأرض هي تحديد والتفكُّر في تلك التناقضات غير القابلة للحل، التي، كما قال أفلاطون، تأخذ بنا إلى الأعلى؟ ما هو فريد في المسألة أننا لم نُعطى أحساسات ومعاني، لكن، فقط، ما نقرأه، نحن لا نرى الحروف. وقد أظهرت دراسات الشهادات، على وجه الخصوص، هذا بوضوح.

إن التدقيق اللغوي صعب؛ لأننا، حين القراءة، عادة ما نرى الحروف التي حذفها منضدو الحروف عن غير قصد، بقدر ما نرى ما نضدوه من حروف، يلزم هنا أن يجبر المرء على قراءة معانى مغايرة، ليست تلك الخاصة بالكلمات والجمل، ولكن تلك الخاصة بحروف الأبجدية، دون نسيان المعاني الأولى. أما انعدام القراءة على الإطلاق فهو أمر مستحيل. لا يمكننا النظر إلى نص مطبوع بلغة نعرفها، ومُنضَّد بشكل صحيح، ولا نقرأ شيئا، في الغالب، ربما، يمكن للمرء أن يقوم بذلك بعد تدريب لفترة طويلة جدا.

عصا الأعمى[[4]]، مثال قدمه ديكارت، يقدم صورة مماثلة لصورة القراءة. يمكن للجميع إقناع أنفسهم عن طريق الإمساك بقلم، بأن حاسة اللمس لديهم، بطريقة ما، انتقلت إلى سن القلم. إذا واجه القلم بعض التفاوت في الورقة، فهذا الانحراف يتبدى على الفور، ومع ذلك فإن الإحساسات في أصابعنا، في أيدينا، التي نقرأ بواسطتها هذا، لا تبين. غير أن هذه المقاومة التي نشعرها في القلم هي فقط شيء ما نقرأه. إن السماء، والبحر، والشمس، والنجوم، والبشر، كل شيء من حولنا، هو بالمثل، مجرد شيء نقرأه. إن ما نسميه الوهم الحسي المصحَّح هو قراءة معدَّلة.

فمثلا، إذا كان الوقت ليلا، على طريق مهجورة، ظننت، بدلا من الشجرة، أنني أرى رجلا يكمن لي، وجود بشري يشكل تهديدا لي، وكما في حالة الرسالة، يجعلني ذلك أرتجف، حتى قبل أن أعرف ما يجري، اقتربُ، وفجأة يتغير كل شيء، أنا لا أرتجف، أنا أقرأ شجرة وليس رجلا. ليس هناك مظهر وتفسير، وجود بشري تغلغل عبر عيني إلى روحي، والآن، فجأة، صار له مظهر شجرة.

كذلك، إذا كنت أكره شخصا ما، فليس الأمر هو  من ناحية وكراهيتي من ناحية أخرى، فعندما يتقدم هذا الشخص نحوي، فإن شيئا مكروها هو ما يتقدم، علاوة على ذلك، فإن فساد روحه يكون أوضح لي من لون شعره. إلى جانب ذلك، إذا كان أشقر، فهو شقرة مكروهة، إذا كان أسود، فهو سواد مكروه. حين تتقدم استير[[5]] نحو أحشويروش[[6]]، لا تتقدم نحو رجل تعرف أنه يستطيع قتلها، إنها تتقدم نحو الجلالة نفسها، الإرهاب ذاته، الذي يصل، عبر بصرها، إلى روحها، وهذا سبب إغمائها بفعل جهدها في الخطو نحوه. هي تقول ذلك بنفسها. ما تتأمله بخوف ليس جبين أحشويروش، ولكن العظمة المطبوعة عليه، والتي تقرأها. في مثل تلك الحالات، نتحدث، بنحو عام، عن تأثير الخيال، ولكن ربما يكون من الأفضل استخدام تعبير قراءة الكلمات.

هذه الكلمة تعني أن التأثيرات تنتجها المظاهر، لكن المظاهر التي لا تبين بنفسها، أو لا تكاد تبين، ما يظهر هو شيء آخر، بالنسبة للمظهر هو كالعبارة بالنسبة للحروف، لكنه ينشأ كمظهر، فجأة، بصرامة، قادم من العالم الخارجي، وبقوة دلائل، لا يمكن دحضها.

إذا رأيت كتابا مجلّدا باللون الأسود، فلن يكون لدي شك في وجود شيء ما أسود هناك، إلا من الوجهة الفلسفية. إذا رأيت مطبوعا في ترويسة الجريدة “14 يونيو”، فلن يتطرق إلي أدنى شك في أن ما يظهر هناك هو “14 يونيو”. اذا كان شخص ما يقترب مني، وأنا أكرهه، أو أخافه، أو احتقره، أو أحبه، فليس لدي أدنى شك في أن ما ينبري أمامي هو شيء بغيض، أو خطير، أو حقير، أو محبوب.

إذا نظر شخص ما إلى نفس الصحيفة، في نفس الموضع، وأخبرني بجدية، عدة مرات، أنه لا يقرأ 14 يونيو، ولكن 15 يونيو، سوف يزعجني ذلك. ولن أفهم. إذا كان هناك شخص لا يكره، ولا يخاف، ولا يحتقر، ولا يحب كما أفعل، فإنه يزعجني أيضا – كيف؟ إنه يرى هؤلاء الناس – أو يلحظ التجلي غير المباشر لوجودهم إذا كانوا بعيدين – وهو لا يقرأ البغضاء، أو الخطر، أو الحقارة، أو المحبة؟ هذا غير ممكن، إنه يقول ذلك بنية سيئة، أو إنه يكذب، أو إنه مخبول.

من الخطأ القول إننا نعتقد أننا معرضون للخطر لأننا خائفون. على العكس من ذلك، يخاف المرء بتأثير وجود الخطر، إنه الخطر هو ما يخيفنا. لكن الخطر شيء أقرأه. إن الأصوات، والمظاهر المرئية، ليست خطيرة في حد ذاتها، إن لهم نفس العلاقة بالخطر مثلما للورقة وخطوط الحبر في رسالة تهديد. ولكن كما في حالة خطاب التهديد، فإن هذا الخطر الذي أقرأه يسيطر علي من الخارج ويصيبني بالخوف.

إذا سمعت صوت انفجار، فإن الخوف يقبع في الضوضاء ويأتي ليتملك روحي بسماعي له، ولا يزيد رفضي للخوف عن إمكانية رفضي سماع الانفجار. الأمر نفسه بالنسبة لصوت قعقعة مدفع رشاش، إذا كنت على دراية بهذا الصوت، ليس الأمر نفسه إذا لم أكن على دراية به. الأمر، على أية حال، هذا ليس أمرا مشابها للانعكاس الشرطي، إنه أمر مماثل لفعل القراءة، حيث يكون هناك، أحيانا، مجموعة العلامات الجديدة، التي لم أرها من قبل، تختطف روحي، وحيث يتخللني المعنى المؤلم، على نحو لا يقاوَم كما هو الأمر مع مثال الأبيض والأسود.

وهكذا فإن المعاني – التي، باعتبارها مجردة، تبدو كالأفكار البسيطة – تنشأ وتحيط بي، وتسيطر على روحي، وتغيرها من لحظة لأخرى، ولهذا، باستخدام عبارة إنجليزية مألوفة؛ إن روحي لم تعد ملكي. أؤمن بما أقرأه، أحكامي هي ما أقرأه، وأتصرف بناء على ما قرأته، كيف يمكنني التصرف بطريقة مغايرة؟ إذا قرأت ما يمكن أن يكون تكريما للفوز في ضوضاء معينة، أسارع نحو هذه الضوضاء الاحتفالية، وإذا قرأت فيها الخطر ولا شيء آخر، فإني أفر مبتعدا عن هذه الضوضاء. في كلتا الحالتين، فإن ضرورة التصرف على هذا النحو، حتى لو شعرت بالممانعة، يفرض نفسه عليَّ بنحو واضح وفوري، مثل الضوضاء نفسها، ومعها، أقرأ هذه الضرورة في الضجيج.

وبالمثل، في حالة الاضطرابات المدنية أو الحرب، فأحيانا ما يقتل الرجال غير المسلحين، بسبب الدناءة في هؤلاء القتلة من الناس، ممن ينبغي إبادتهم، والذي يستولى على أرواح المسلحين في لحظة رؤيتهم لملابس أولئك الأشخاص، وشعرهم، ووجوههم، بمجرد أن يظهروا أمامهم، وفي لون واحد يقرأون شعرهم، وبشرتهم في لون آخر، وببداهة مماثلة، يقرأون أيضا في هذه الألوان الحاجة إلى القتل. إذا كان هناك القليل فقط من الجرائم التي تقع في مجرى الحياة الطبيعي، فذلك بسبب أننا نقرأ في الألوان التي تتخللنا عبر أعيننا، عندما يمثل إنسان أمامنا، شيئا يجب، إلى حد ما، احترامه. هناك من الاختلاف بين هاتين الحالتين نفس ما بين تلك الخاصة بالسائر على طريق مهجورة، عندما يقرأ في الظاهر رجلا يتربص به، في أول الأمر، ثم يقرأ شجرة.

كان رد فعله الأول في مجمله استجابة لوجود كائن بشري، إن فكرة إمكانية وجود تساؤل ما حول ما إذا كان هناك رجل، هي فكرة مجردة، وواهية، تصدر عن المرء، لا من الخارج، وهي فكرة ليس لها ثبات وجودي. ثم يحدث في ومضة، وفجأة، بدون انتقال، أن يصبح وحيدا تماما، محاطا بالأشياء والنباتات فقط، أصبحت فكرة أن رجلا يمكن أن يكون حيث يرى الشجرة الآن، واهنة. وبالمثل، في أوقات السلم، فإن فكرة التسبب في موت إنسان، إذا جاءت من الداخل، لا تُقرأ في المظاهر الخارجية، على العكس من ذلك، نقرأ في المظاهر تحريم القيام بذلك. ولكن خلال حرب أهلية، فيما يتعلق بفئة معينة من البشر، فإن فكرة الحفاظ على حياة إنسانية تصبح واهية، والتي تصدر من داخلنا، وهو ما لا يُقرأ في المظاهر، وإنما تتجلى في العقل، لكنها لا تحول نفسها إلى فعل.

من حالة إلى أخرى لا يوجد انتقال ممكن، إنما يحدث التغيير في وهلة، كلا من القراءتين، حال وجودهما، تظهر على أنها الحقيقة الوحيدة، والخيار الوحيد الممكن، فيما تبدو القراءة الأخرى خيالية تماما. هذه أمثلة شديدة الوضوح. لكن حياتنا كلها من هذا النسيج، من معاني تتوالى في فرض نفسها، وكل منها، بظهورها وتخللها فينا عبر الحواس، تختزل كل الأفكار التي قد تعارضها إلى محض أوهام.

لدي قدرة معينة للهيمنة على العالم، مما يسمح لي بتغيير المظاهر، ولكن بشكل غير مباشر، بواسطة العمل، وليس بمجرد الرغبة في ذلك. أضع ورقة بيضاء فوق ذلك الكتاب الأسود، فلا أعود أرى الأسود. هذه قوة محدودة بحدود قوتي الجسدية. قد تكون لدي القدرة أيضا على تغيير المعاني التي قرأتها في تلك المظاهر، والتي تفرض نفسها علي، لكن هذه القدرة محدودة أيضا، وغير مباشرة، وتمارس بواسطة العمل. العمل بالمعنى العادي للمصطلح هو مثال على ذلك؛ لأن كل أداة عبارة عن عصا رجل أعمى، وآلة للقراءة، وكل فترة تدريب هي وسيلة لتعلم القراءة بطريقة معينة.

وبانتهاء التدريب تنجلي لي المعاني، عند ريشة قلمي، أو جملة في حروف مطبوعة. بالنسبة للبحَّار، فإن القبطان المتمرس، الذي تصبح سفينته، بمعنى ما، امتدادا لجسده، تكون السفينة أداة لقراءة العاصفة، وهو يقرأها بنحو مختلف تماما عن قراءة المسافر على ظهر السفينة لها. فبينما يقرأ الراكب المسافر فوضى، وخطر محدق، وخوف، فإن القبطان يقرأ الضروريات، أخطار محدودة، وسائل الهروب من العاصفة، والالتزام بالعمل بشجاعة وشرف.

يكمن العمل الذي يطبَّق على النفس، أو على الآخرين، في تغيير المعاني. فإذا أعلن رئيس دولة الحرب، فإذا بمعاني جديدة تنبثق حول كل رجل من الأربعين مليون رجل في الدولة. فن أن تكون قائدا للجيش هو أن تجعل جنود العدو يقرأون تحليق الطائرات أمامهم، بحيث تفقد فكرة البقاء على الأرض أية مضمون، وكل فعالية، يمكنه تحقيق ذلك، على سبيل المثال، بواسطة التخطيط الاستراتيجي، واستخدام عنصر المفاجأة، واستخدام أسلحة جديدة. إن الحرب، والسياسة، والخطابة، والفن، والتدريس، كل عمل موجه نحو الآخرين يتعلق بالأساس، بتغيير ما يقرأه الرجال.([7])

سواء كان المرء مشغولا بنفسه أو بالآخرين، تظهر مشكلتان، تتعلق إحداهما بالتقنية، والأخرى بالقيمة. إن النصوص التي يشكل مظهرها المضامين التي تأسر روحي، وتتخلى  عنها، تحل محلها نصوص أخرى، هل إحداهما أفضل من غيرها؟ هل هناك نصوص أصح من غيرها؟ أين تجد معيار الحكم على ذلك؟ أن أفكر في نص حقيقي لا أقرأه، أو لم أقرأه قط، هو تفكير في قارئ لهذا النص الحقيقي، أي: الله، ولكن سرعان ما يتبدى تناقض، لأنني لا أستطيع أن أطبق مفهوم القراءة هذا على الموجود الذي أتصوره، حينما أتحدث عن الله. إضافة إلى ذلك، حتى لو استطعت، فلن يسمح لي بترتيب النصوص التي أقرأها وفقا لتسلسل هرمي للقيمة.

بعبارة أخرى، ربما تكون المشكلة جديرة بالتفكير. لذلك، فإن طرحها يعرض جميع المشكلات المهمة المحتملة بقدر ما هي ملموسة. إن الإنسان الذي يميل إلى سرقة شيء مؤتمن عليه، لن يمتنع عن ذلك، لمجرد أنه قرأ كتاب “نقد العقل العملي” لكانط، سوف يكبح جماح نفسه، ربما، سيبدو له، على الرغم من نفسه الأمارة بالسوء، أن مظهر الشيء ذاته، والمؤتمن عليه، يصيح صارخا فيه بوجوب إعادته. لقد مر كل شخص بأمور مماثلة، حيث يبدو أن المرء تتملكه الرغبة في التصرف بشكل سيء، لكنه لا يستطيع. وفي أوقات أخرى، سيرغب في التصرف بشكل صحيح، لكنه لا يستطيع.

السؤال هو ما إذا كان أي شخص، حين ينظر إلى الشيء الذي أؤتمن عليه، يقرأ بهذه الطريقة، ويفعل بأفضل من شخص يقرأ في مثل هذا الظاهر أن كل الرغبات يمكن إشباعها بالاستيلاء على ذلك الشيء. السؤال هو ما إذا كان البحث عن معيار  يجعل من الممكن للمرء أن يقرر أي الأساليب هو ما يسمح له بالانتقال من قراءة إلى أخرى، هو مشكلة أخرى قائمة بأكثر من البحث عما إذا كان من الأفضل الاحتفاظ بشيء ما أو إعادته. من ناحية أخرى، فإن مشكلة القيمة التي تغلف مفهوم الحكمة تتعلق بالحقيقي والجميل مثل ما تتعلق بالخير، دون احتمال لإمكانية الفصل بينها. ربما بهذه الطريقة، قد يتم إلقاء الضوء على علاقتهم، وهو لغز، إلى حد ما. نحن لا نعرف كيف نفكر فيهم معا، كما لا يمكن التفكير فيهم بشكل منفصل.

المصدر


  [1]] © The Journal of Continental Philosophy, Volume 1, Issue 1 (2020) pp. 9–15

[[2]] سيمون ڤيل Simone Weil (3فبراير 1909-24 أغسطس1943): فيلسوفة ومتصوفة وناشطة سياسية فرنسية، وُلِدَتْ في عائلة يهودية غير متدينة. سلكت طريقا غير مألوف بالنسبة إلى المثقفين اليساريين في القرن العشرين، وأصبحت أكثر تدينا وميلا إلى الروحانية مع تقدمها في السن. كتبت العديد من المؤلفات خلال حياتها، رغم أن معظم كتاباتها لم تلفت الانتباه إلا بعد وفاتها. في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، أصبحت أعمالها مشهورة في أوروبا. وتُعتبَر سيمون أدولفين ڤيل من أهم فلاسفة القرن العشرين. ومع أنها لم تعش سوى 34 عاما فقد كانت غزيرةَ الإنتاج، تجاوزت مؤلفاتها العشرين. اعتبرها الكاتبُ والروائي الفرنسي ألبير كامو أكبرَ عقل في عصرها. [المترجم]

([3]) ملاحظة المترجمة عن الفرنسية: نُشرت في الأصل باسم:

  “Essai sur la Notion de Lecture,” Les Études Philosophiques 1, no. 1 (1946), 13–19.

[[4]] عصا الأعمى: مثال وضعه ديكارت، يصور فيه عصا الأعمى بمثابة اليد، أو أداة الحس، وهنا تماثل سيمون ڤيل بينه وبين القلم في يد الكاتب، والذي نتنقل خلاله تغضنات الورقة إلى يده. [المترجم]

[[5]] أستير Esther: كانت أستير فتاة جميلة، وهي ابنة أبيجائل الذي يرجّح أنه من سبط بنيامين، اسمها في العبرية فهو “هدَّسة” أي “شجرة الآس”، وقد تركت يتيمة وهي بعد صغيرة، فأحضرها ابن عمها مردخاي، الذي تبناها، إلى شوشن العاصمة الفارسية. وقد أقام الملك أحشويروش وليمة لعظمائه، وإذ كانوا يحتسون الخمر لعبت الخمر برأسه، فأمر أن يحضر امرأته الملكة وشتي كي يرى عظماؤه جمالها الرائع. ولكن وشتي رفضت أن تمتهن كرامتها. وأهاج رفضها ثائرة الملك فأصدر قرارا بحرمان الملكة وشتي من المثول لديه، وأصدر أمرا بأن تعطي مكانتها لأخرى. كذلك أمر بأن يبحثوا بين الفتيات في كل مملكته عن فتاة جميلة لتأخذ مكانة وشتي. فاختيرت أستير في السنة السابعة لملك أحشويروش ونصبت ملكة في القصر. [المترجم]

[[6]] أحشويرُش Ahasuerus: اسم فارسي قديم ربما معناه “رئيس الحكام”. وقد ورد هذا الاسم في الكتاب المقدس، وهو اسم ملك فارسي تزوج أستير وهو المعروف في اللغة اليونانية باسم ” زِرْكْسِيس “. ويمكننا أن نعرف شيئا عن أخلاقه وطباعه من سفر أستير (انظر أستير1: 2و19و2: 16و17) فقد كان صاحب نزوات متقلقلا، قصير النظر طاغية، قاسيا.  [المترجم]

([7]) ملاحظة المترجمة عن الفرنسية: لقد تم الاحتفاظ بلغة فيل الخاصة بنوع الجنس هنا من أجل الوضوح. إذ أن محاولات إدخال مصطلحات محايدة مثل “واحد” أو “فرد” تخاطر بإدخال التباسات مفاهيمية في النص.