مجلة حكمة
نانوية العيش

العيش من منظور نانوي – محمد الضامن


في بدايات القرن العشرين ومع بروز وانتشار الفلسفة الوجودية تعرضت موضوعة الأنا، والوجود، والآخر لكثير من التحليل والنقاش. حيث وضع هايدغر أساسات تحليل الوجود الذاهب إلى حتفه مستعينا بما دشنه أستاذه هوسرل من خلال المنهجية الظاهراتية. اشتبك مع ما دشنه هايدغر ليفيناس معرضا الأنا في امتحانها بالغريب لتطوير مشكل أخلاقي لا يعود فيه الغريب شرا بل بوصلة إن صح التعبير لمعرفة الأنا، وهذا ماسيدفع بول ريكور للدخول مع لفيناس ومن خلاله؛ لتطوير تصور أخلاقي للعلاقة بين الأنا، والآخر في كتابه الضخم ( الأنا عينها كآخر )!. لكن مسار الفكرة منسلة من هايدغر أخذت مع سارتر صاحب ( الوجود والعدم ) الذي سيكتب فيه فصلا حول العلاقة بالآخر مسارا واسع الانتشار في العالم، وفي كافة حقول الآداب، والفنون، وقد صارت جملته الشهيرة: (الآخر هو الجحيم) من الجمل الأيقونية التي حملها سرب واسع من الأدباء. فقد اصطبغ أدب مابعد الحرب العالمية الأولى الوجودي بطابع التشاؤم، واليأس كما يمكن القول خلق كائنا عزلويا عبر تمجيده للأنا. هذه الأنا في علاقتها بالآخر هي ماتنبني عليه فكرتنا عن التعايش الإنساني.

لقد تشكلت هذه العلاقة عبر التاريخ من تراكمات تجارب علاقات المجتمعات والشعوب والجماعات. فبقدر ماهي مليئة بالتعاون، والنمو الحضاري نجدها مصطبغة بالكثير من العداء، والحروب المدمرة. عالجت كل الديانات والأنظمة التي برزت مع الحضارات مسألة العيش في العالم حيث وضعت قوانين تنظم الحياة، وعلى الأخص ضبط علاقة الإنسان بالإنسان في مسائل العيش من البيع، والشراء حتى القضايا الحميمية كـ الزواج، والجنس؛ إلا أن كل هذه الطقوس، والقوانين لم تضع حدا للشر الذي يتماثل في كل علاقة بالغريب. وهذا ما سيؤكده في القرن العشرين الذي افتُتِح بأكبر حربين حديثتين جودو كرشنا مورتي أحد حكماء الهند الذي عاش القرن العشرين عن مشكلة العلاقة بين الأنا والآخر باعتبارها من أعقد الأمور التي تنظم موضوع تعايش المجتمعات، والتي مازالت قائمة دون حل. يقول كريشنا مورتي في كتابه ( الحرية الأولى والأخيرة): ( لم يحل المفكرون مشكلاتنا. فالأذكياء، والفلاسفة، والباحثون، والقادة السياسيون، لم يحلوا في الواقع أيا من المشكلات الإنسانية والتي هي العلاقة بينك وبين الآخر.) هذه الخلاصة التي يعلنها كريشنا مورتي عن فعل الفكر، والفلسفة والسياسة حتى وقته، تثير التساؤل حول مايمكن أن تقدمه تقنية النانو الجزيئية للبشرية في المستقبل كبديل عملي لتلك الأفكار، والفلسفات التي ناقشت علاقة الإنسان بالآخر، ولم تجد لها عمليا حلا حتى مع إعلان حقوق الإنسان؛ فإن العداء البشري للغريب مازال قائما ويفرض شروطه وفق مصالح غير ثابتة!.

إن الطموحات والآمال التي يعقدها عليها أحد أكبر مفكري موضوع تقنية النانو المهندس جون ستورس هول في كتابه: ( المستقبل النانوي ) كبيرة جدا، وغرائبية بحسب تعبيره بحيث لا يمكن لكثير من الناس حاليا استيعابها إذ هي ستجعل ذاك العالم الذي كان مجرد مخيلة في قصص الخيال العلمي أمرا معيشا. فواحدة من أكثر الأفكار إثارة كما يعرضها هول هي إمكانية صنع الإنسان لنسخة عن دماغه في رقاقة نانوية فيها كل معلومة بيولوجية وحسية، وكذلك التجارب، والمشاعر المرتبطة بها وتثبيتها في ربوت خاص به بحيث بإمكان الربوت القيام بكافة الأنشطة كما لو كان الإنسان ذاته يقوم بها؛ فإذا قام الربوت بعلاقة حب مثلا؛ فإن الإنسان خاصته سيشعر به، ويستمتع بتلك العلاقة!. يقدم هول في استعراض غرائبي للمستقبل النانوي الكثير من الحلول للمشاكل الطبية، وكذلك مشكلة الفقر والجوع!.

 لقد كان الجوع واحدا من أكثر مسببات الحروب، وتأزم علاقات الإنسانية وتعقيدها بحيث لم يحل التطور الحالي للعلوم هذه المشكلة الإنسانية حتى مع الثورة الخضراء في منتصف القرن العشرين بل فاقم من تعقيدها عبر تعقد العلاقة بالآخر ممثلة في السياسات؛ فبسبب هذه الثورة عاشت أوروبا أزهى فتراتها ازدهارا ووفرة في انتاج الغذاء مما جعل بعض دولها كهولندا بتصريف فائض إنتاجها من الحليب في أسواق أمريكا اللاتينية بسعر أقل بكثير من سعر المنتج المحلي مما تسبب في انهيار السوق!.

 لكن بحسب هول سيتمكن الإنسان في المستقبل من التخلص من هذه المشكلة عبر إمكانية تحسين الزراعة، وبوفرة، والأكثر من ذلك سيتم صنع جهاز تصنيع بحجم المكرويف بإمكانه تصنيع معضم حاجات المطبخ من الطعام حتى الأدوات!. فالانسان لن يحتاج الذهاب للتسوق؛ فالجهاز مرتبط بشبكة الانترنت وسيقوم الشخص باختيار نوع الطعام، والتصاميم المتاحة على الشبكة؛ ليقوم الجهاز بتصنيعها، من نفايات تم استعمالها سابقا، وهذا سيؤدي لاختفاء المزابل حيث سيتم تدوير كل شيء!. هذا الجهاز مع شبكة الانترنت سينذر باختفاء ساحات السوق ذاك المكان الذي ساهم على مر العصور بالتقاء الشعوب، والمجتمعات عبر تعاون اقتصادي يتم من خلاله تبادل السلع والمنتجات، وكذلك تداول ثقافة تلك الشعوب. فالأسواق حضنت عبر تبادل السلع التعايش، وتدويل الثقافات بين الشعوب. لكنها مع النانو ستكون مجرد معلومات متاحة على الشبكة مراهنة على تطوير علاقة إنسانية عبر الفضاء الافتراضي!. كما ستتمكن النانو في الطب بحسب تد سرجنت صاحب كتاب: ( رقص الجزيئات ) من صنع كبسولة صغيرة تحتوي على صيدلية متكاملة من الأدوية لكافة أنواع الأمراض، وستقوم بعد ابتلاعها؛ لتستقر في الجسم بعمل تشخيص دائم لأي مشكلة تحدث للجسم ومن ثم تقوم بإبلاغ الطبيب بالخلل الذي يعانيه الجسم؛ فيعمل الطبيب عبر جهازه بإرسال أمر للكبسولة من أجل افراز الدواء الخاص بحل ذلك الخلل!. هذه الإمكانية تعني تقليل إذا لم نقل انتهاء وقت الذهاب للطبيب، ويعني أيضا أنك لن ترتبط بأي علاقة اجتماعية، وحميمية مع طبيبك!.

 تحت العنوان الرئيسي: ( رقص الجزيئات ) يعنون تد سرجنت بعنوان فرعي: كيف تغير التكنلوجيا الـ نانوية من حياتنا؟. هذا التغير الذي تحدثه التكنلوجيا في حياة الإنسان هو دائما محل نقاش فلسفي، وأخلاقي خصوصا فيما يتعلق بإعادة تخليق الأجنة، وإعادة تصميم خلايا( DNA)، سواء لتحسين إمكانياتها، أو التخلص من الأمراض الوراثية، وكذلك زيادة نسبة ذكاء الإنسان!. لكن واحدة من الإمكانيات الكبيرة التي تعد بها النانو هي تصنيع الطاقة. هذا يعني إمكانية انتهاء الصراع على امتلاك المواد من الطبيعة، مما يعني نهاية الحروب البشرية!. فهل ستُنهي فعلا النانو هذه الفكرة من علاقات الشعوب ببعضها، للتمكن من العيش بسلام أبدي كما تتحدث عنه النصوص الدينية!؟. يحمل التراث الديني نصا مخاتلا؛ فخلف هذا السلام هناك حرب ممكنة!. ترمزه بعض الدول في أعلامها: السنبلة في يد، والسلاح في يد أخرى!.

من جانب آخر نجد موضوع السعادة، وهو واحد من المواضيع التي شغلت الفلسفة، وعلم النفس باعتباره الخير الأسمى للحياة الإنسانية مطروحا على طاولة ما ستحققه النانو مع علم الوراثة الحديث. ومن المعروف أن سعادة الإنسان مرتبطة بعدة مواضيع شائكة في الحياة من العمل، وتحقيق الانجاز، والحياة المادية، والعلاقة مع الغرباء. يتحدث بعض الباحثين في هذا السياق عن إمكانية التحكم في نوعية المشاعر، والصفات الوراثية التي يمكن أن تنتقل من جيل لآخر، وذلك في حقلين حيوين من العلوم الحديثه هما علمي النفس السلوكي والنشوئي. هكذا يمكن نقل صفة المثابرة والمشاعر الإيجابية بينما يتم استبعاد الكآبة، والخمول في أفراد العائلة!. وهذان العلمان يرجحان أثر الطبيعة في الصفات بدل التنشئة، والعوامل الاجتماعية كما يشير إلى ذلك ميهالي تشيكسنتميهالي في مقالة عن مستقبل السعادة الذي تضمنه كتاب : ( الخمسون سنة القادمة) لكن فيما يخص الذكاء؛ فإن تطبيقه سيعني القضاء على الفوارق الطبيعية بين البشر مما ينذر بظهور أنواع مختلفة من المشاكل، والصراعات. يقول ميهالي في مقاله: ( ثمة قضية أساسية هي ما إذا كان ينبغي علينا_ إن امتلكنا الوسيلة_ أن نطمح إلى التوحد أم التنوع من خلال عبثنا بالجينوم البشري. سيكون الضغط في سبيل التوحد هائلا؛ فكل يريد أولادا يتسمون بالذكاء وحسن الطلعة… والطموح والنجاح. أما التنوع فهو خطير. فمن ذا الذي يريد الرهان على المجهول وشيء لم يجرب؟. ومع ذلك فإن حجج عالم الأحياء إي. أو. ولسون المؤيدة للتنوع الحيوي تنطبق أيضا على السمات النفسية. إن احتمال وجود عرق متجانس بدرجة متزايدة ليس مروعا لمشاعرنا الإنسانية فحسب، بل ينطوي على خطر من منظور البقاء في حد ذاته. وبما أنه لا يمكن _ إلى حد كبير _ التنبؤ بالمستقبل؛ فإن الاستراتيجية المثلى هي وجود مجموعة متنوعة من الإمكانيات التي يمكن أن تنبثق عنها استجابات تكيفية مع المواقف الجديدة، وذلك بدلا من قصر أنفسنا على نمط هو الأحسن من منظور الظروف الراهنة). يضعنا هذا المقطع أمام تساؤل خطير عمّن سيحق له أن يقرر موضوع التنوع في المجتمع من ناحية الإمكانات التي سيتمتع بها الذكاء الإنساني؟. هل سيكون للوالدين كامل الحق، أم للدولة، أم لشركات علوم الحياة نصيب في توزيع الذكاء في القارات؟. ثم هل ستتيح هذه الإمكانية للذين يمتلكون تقنيتها تعميق الهوة البشرية بحيث يصبح عرق أكثر تفوقا من غيره، ويجعل بقية الأعراق أقل منه، وخاضع لسلطته؟. مع ذلك إذا كان بمقدور علم الوراثة تغيير صفات الإنسان عبر التحكم بالجينوم البشري فما مصير صفات الإنسان العقائدية، ونزعاته المحافظة؟!. هل ستتيح التقنية المجال للإنسان للتخلص نهائيا من نزعات التعصب، والتصلب، والكراهية، والعنف تجاه الغرباء؟ بحيث ينتهي الجدل الوجودي الذي يلاك من الفلسفة حتى أحدث صيغة إسلامية في هذه الريح: العلاقة بالآخر من منظور إسلامي!. هل يمكن أيضا تضخيمها في مجموعة من الأفراد بغية بقائهم في نزاع دائما سياسيا؟!.

 لن نتنبأ كما يحب ميهالي، بل سنضعه في موقع الإمكان، وذلك حين يخبرنا هول في كتابه: المستقبل النانوي عن الإمكانيات التي ستوفرها النانو للسلطات، والحكومات. يقول هول: ( إن القضية الحاسمة هي أن التكنلوجيا الـ نانوية والذكاء الاصطناعي قد يسهلان توسيع إمكانيات الحكومة لتراقب كل شخص في كل لحظة وأن تتحكم بكل شيء يقوم به).

إن تقنية النانو ستغير حتما من واقع الحياة، وطرق عيش الإنسان، وعلاقته بالغرباء، وستصاب فكرة العيش، أو ماصار يتداول بمصطلح ( التعايش المشترك ) بين الأفراد، والجماعات بهزات لايمكن التنبؤ بها كما يقول ميهالي. فذلك التعايش الذي يتشكل عبر ممارسة أشكال الحياة اليومية من الذهاب للعمل إلى التسوق، وممارسة كافة أشكال اللهو في النوادي الليلية أوالرياضية، وكذلك ممارسة الطقوس العبادية للجماعات، وممارسة التجارة والأسفار حيث تعدنا تقنية النانو بالقدرة على التنقل الحر في العالم ونحن جلوس في بيوتنا مستلقين في نعيم الكسل على أريكة نانوية تنقل لنا تفاصيل التجربة بات رهين صناعة نانوية فاقدا وإلى الأبد قدرة أفراده على بناء صيغ معيشتهم بعفوية اللقاء الجسدي: تلك النظرة المتعجبة التي تسقط على جسد تتأمل حركاته، وسكناته وروائحه، تعابير وجهه!. التمتع بضحك حبيبة، وقد سقطت على الأرض من سماعها نكتة عابرة!.

 تنبني طبيعة، أو أشكال هذا التعايش كما نعرف من خلال هذه الفضاءات التي يلتقي، ويقيم عبرها الناس علاقاتهم الاجتماعية: الأسواق، المقاهي، الحانات، المطاعم، الحدائق، وسواحل البحر. لكن ما تطرحه علينا مخيلة التقنية الـ نانوية المستقبلية التي ستقدم فضاءات بديلة لتلك الساحات وأبرزها فضاء الانترنت موسعا مع مابات يُعرف بإنترنت الأشياء الذي  يعمل على إنهاء وظيفة التسوق التقليدية، وعلاقتنا بالأشياء، والناس ستجعلنا ننظر لهذه الفضاءات التي حكمت نظام حياة المجتمعات باعتبارها ليست فقط أشكالا تقليدية، بل ممارسات ماضوية، وسيكون الذهاب لممارستها بمثابة الذهاب لمتحف يحتوي على التقاليد الثقافية المنقرضة، وما مشاهدتها، وممارستها إلا من أجل التسلي بمشاهدة مواضيع غرائبية في ابتكار يمكن تسميته: متحف العيش!. فهل سيحن الإنسان للكراهية بوصفها الموضوعة التي تجلّي الحب، أم ستبقى ذكرى في متحف التاريخ؟!.