مجلة حكمة
مترجم عن

مترجم عن … – موريس بلانشو / ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي


في رواية لمن تدق الأجراس، عندما يكشف روبير جوردان أهمية اللحظة التي يعيشها، يأخذ في ترديد كلمة “الآن” في عدة لغات: heute، Now، ahora، maintenant. لكن فقر هاته السلسلة من الألفاظ يخلف لديه شعورا بالخيبة. يقول في نفسه: “الآن” يالها من كلمة سخيفة للتعبير عن عالم بأكمله، وعن حياتك بكاملها”. يبحث عن كلمات أخرى heute abend، to-night، ce soir ، Esta noche. يحاول أن يستعيد عن طريق هاته الكلمات ما توحي به إليه: لقاءه مع ماريا الذي كان أيضا لقاء آخر ساعة، لقاء مع الموت. يأخذ حينئذ في النطق بكلمات todt، muerto، mort، dead. ثم كلمات krieg، guerra، guerra، war. ظهر له لفظ todt أشد الكلمات قربا من الموت، وكلمة krieg أكثرها شبها بالحرب “ربما فحسب لأنه لم يكن يتقن اللغة الألمانية مثل اللغات الأخرى؟”

يحث هذا الانطباع الذي يدور بخلد جوردان على إعمال الفكر. فإذا كان صحيحا أن اللغة تبدو لنا أكثر تعبيرا وصدقا كلما كان إتقاننا لها أقل، وإذا كانت الكلمات في حاجة إلى درجة من الجهل كي تحتفظ بقدرتها على الإيحاء، فإن هاته المفارقة لا ينبغي أن تفاجئنا ما دام المترجمون ما يفتؤون يلاقونها، وما دامت تشكل أحد أهم العوائق التي تعترض الترجمة وأهم منبع تنهل منه. وهذه ظاهرة كثيرا ما أصر عليها مؤلف صاحبة المرايا حيث حددها على النحو التالي: “تبدو لنا صور اللغة المترجمة (بفتح الجيم) أكثر غنى من اللغة التي ننقلها إليها، كما تبدو لنا أشد قربا إلى الواقع العيني في الوقت ذاته”

لا بد وأن يكون لهاته المفارقة وقع على الأدب. لنسلم أن أحد أغراض الأدب هو خلق لغة وعمل يكون فيه لفظ الموت ميتا، وكلمة حرب هي الحرب عينها، فيبدو أن هاته اللغة الجديدة هي إلى اللغة العادية مثل النص المترجم (بالفتح) إلى اللغة التي تترجمه: أي مجموعة من الكلمات والأحداث التي نفهمها وندركها أتم الإدراك، إلا أنها تبعث فينا الشعور بجهلنا، وذلك من شدة ألفتنا بها، كما لو أننا نكتشف أن أكثر الكلمات سهولة، وأكثر الأشياء اعتيادا يمكن أن يغدو فجأة أمرا غريبا عنا. إن كون العمل الأدبي يصر على الاحتفاظ بالمسافات ويسعى إلى الابتعاد عن المجال الذي يجعل من أحسن الترجمات وأبدعها كتابة عملا غريبا، إن هذا ما يفسر (تفسيرا جزئيا) الولع برمزية الألفاظ النادرة، والبحث عن الغرابة، ونجاح “الحكايات العجيبة” وحيوية كل أدب قيم، وكثيرا من النظريات التي تسعى إلى إيجاد وصفات جاهزة وقواعد تستبعد عنا اللغة التي تبدو لنا من القرب بحيث إننا لا نفهم ما تعنيه.

الكل يعرف أن الأدب الكلاسيكي قد بحث عند الثقافة واللغات القديمة عن هذا الاغتراب الذي يتوخى أن يرقى باللغة العادية إلى مرتبة اللغة المترجمة (بالفتح). لقد كان نقل عمل يوناني أو لاتيني إلى اللغة الفرنسية بمثابة إبداع حقيقي. يتحدث راسين، محاولا تبرير موضوع باجازيت شديد الاقتراب “عن تباعد البلدان الذي يعوض التقارب الشديد للأزمنة”. وفي تمهيده لأوديب يأسف كورني لكونه لم يستطع أن يحافظ على الامتياز بألا يتعدى كونه مترجما. أما المحدثون فيذهبون أبعد من ذلك. فعنوان جو بوسكي مترجم عن الصمت يعبر عن رغبة كل عمل أدبي في كونه يود أن يبقى ترجمة خالصة، ترجمة لا تترجم شيـئا، ومجهودا لا يبقي من اللغة إلا على المسافة التي تسعى اللغة إلى الإبقاء عليها مع نفسها، والتي ينبغي أن تقضي عليها في نهاية الأمر.

وسرعان ما يتضح خطر الأعمال الأجنبية على أدب يصونه غنى ماضيه ونضج تجاربه ويقين لغته. يشكو كثير من النقاد الفرنسيين الكبار الأدب الأمريكي وهم يرون أنه ناقص أصالة. ويعتبرون أن نفعه ليس كبيرا بالنسبة لثقافة تجاوزت النزعة الطبيعية منذ أكثر من نصف قرن، فيسخرون من الكتاب الشباب الذين يعتقدون أنهم محدثون لمجرد أنهم يقلدون فولكنر دوس باسوس أو شتاينبك. هذا في حين أن هؤلاء الكتاب يمثلون بالنسبة للأمريكيين أنفسهم الماضي أكثر مما يمثلون المستقبل. إضافة إلى ملاحظات أخرى: وهي أن تقنية الرواية الأمريكية تتنافر مع التقليد الروائي الفرنسي فهي تفترض أفول الفن، ولا تعطي كبير أهمية لتنوع الأعمال الأدبية وتباين الفنانين، ذلك التباين الذي لا ترى فيه إلا رتابة قاتمة قاسية.

يتناقض هؤلاء النقاد فيما بينهم بشكل مثير. فبينما يعتبر البعض أن ما يعيب الأدب الأجنبي هو أنه غريب أشد الغربة، وأن من شأنه أن يبعدنا عن فننا وأدواتنا، فإن الآخرين يرون أنه لا يحمل إلينا، نحن الفرنسيين، إلا ما نتوفر عليه. فالبساطة وموضوعية اللغة هما ما يميزان الفن الكلاسيكي، وهو فن مقتضب تتمكن فيه العبارة من التعبير عما تريد التعبير عنه.

لعل هاته الأحكام تتعارض لأنها جميعها بحاجة إلى بعض التعديلات. ربما كان نصيب الصدق المتناقض الذي تنطوي عليه مرتبطا بالمفارقة التي تحدثنا عنها، إن البساطة والقوة الموضوعية تبدوان لنا غريبتين، وتظهران أنهما تتمتعان بإغراءات الخصائص الغريبة وخطرها بمجرد ما تبدوان لنا غير متولدتين عن لغتنا، وإنما نقلتا إلى لغتنا وترجمتا وأبعدتا عنا، ومكنتا بعيدا تحت ضغط قوة الترجمة. بفضل هذا التحول تكتسب بعض الأعمال أصالتها التي يعجب لها الأدب الذي تنتسب إليه، والذي لم يكن ليعترف لها بها. وهكذا نتعجب، نحن الفرنسيين، من التأثير الذي يمارسه كثير من كتابنا الواقعيين (موباسان على الخصوص) على كتاب أجانب يبدون لنا نحن بعيدين عن الواقعية. وهكذا نستغرب عندما نعرف أن فلوبيركان معلما لكافكا. ولكن، إذا كان في هذا الأمر ما يبعث على العجب، فإن من شأن ذلك أن يساعدنا على أن نفهم لماذا ليس علينا أن نعرف قيمة الكتاب الذين يتمتعون في فرنسا بشهرة كبيرة، ولا ما يغنون به الأدب الأمريكي من أصالة وجدة. ذلك أن ما يهم هو التحول الذي يطرأ عليهم بدخولهم رحاب لغة جديدة، وذلك الانقلاب الذي في إمكان البعض والذي يجعل نزعتهم الطبيعية تؤخذ مأخذ الخيال الخصب، وثرثرتهم مأخذ الصمت المطبق، وأبحاثهم الأدبية مأخذ الفقر القاسي الذي يبعدنا عن بساطتنا كما لو كانت ما تزال منشغلة بالحذلقة مهتمة بما تحدثه من تأثير.

يعود تأثير ما ندعوه روائع الأدب العالمي في جزء منه، إلى هاته الخاصية: ففي أية لغة ينضاف معامل التحريف والابتعاد الذي يرجع للترجمة إلى القدرة على خلق الشعور بالغرابة التي تستمدها في لغتها الأصلية من قدرتها الخلاقة. وقد يحصل لبعض المؤلفات أن ينضاف العمل الذي يقوم به المترجم إلى الابتعاد الأولي و ويضاعف من قوته بحيث تستفيد بعض المؤلفات من هذا الخطأ الإضافي. غير أنه سرعان ما يتجلى أن هذا التباين لا أساس له بالنسبة للمحتوى فيختفي كما يختفي الوهم. وعلى العكس من هذا فبالنسبة لمؤلفات أخرى يقضي عمل المترجم على كل بون ومسافة: فحين تنقل تلك المؤلفات إلى لغة أجنبية تغدو أقل غرابة مما كانت عليه قبل الترجمة، فكأن هاته المؤلفات تترجم ضد التيار، تترجم ضد الترجمة الخاصة بالفن الأصلي، تلك الترجمة التي عليها، كما سبق أن تبينا، أن تكشف أن لفظ الموت هو أنسب الألفاظ للدلالة على الموت، ولكنه في الوقت ذاته غريب غرابة الموت، كلفظ وضع بعيدا أمامنا وعلينا أن نتبينه من جديد ونتعرف عليه ونعيد تعلمه كما لو كان لفظا جديدا كل الجدة، لفظا أوليا، كان يجهل جهلا مطلقا، أخذ من إمكانية للغة لا يرقى إليها، هذا على رغم أننا نشعر بالتمكن منه ولكونه بسبب ذلك، يسعى دون انقطاع للاختفاء كعلامة لا قيمة لها. هاته حال المؤلفات التي يقال عنها إنها غير قابلة للترجمة، ولكن بما أن المترجم يبالغ بالضرورة في إتقان ترجمتها فهو يعيدها إلى اللغة المتداولة التي كان يفصلها عنه بون يسير.

إن محاكاة عمل فني، وتقليده، مهما كانت تلك المحاكاة وذلك التقليد لا بد وأن تسيء إلى ذلك العمل أيما إساءة. فكأن العمل يلقى الموت ظرفيا أو بكيفية دائمة. إذا كانت الرومانسية خلال القرن التاسع عشر لم تعترف بفضل مأساة راسين، فلأن التقليد والمحاكاة كانا قد قضيا عليها، لقد عوقب راسين كما لو كان قد اقترف أكبر الذنوب فغدا متواريا. صحيح أنه كان يقرأ ويشاهد على الخشبة، لكن ليس هو وإنما فولتير وسومي. يمكن إذن أن يقع للكتاب الأمريكيين ما وقع لراسين حيث أنكره الجيل الخلف, ها نحن نتبين أن مثل هاته المحاكاة تسعى إلى القضاء على عمل المترجم، من حيث إنها تؤقلمه فتنزع عنه امتياز الالتباس والغرابة، وذلك اللا إستقرار الذي يجعل من كثير من الأعمال المترجمة روائع، ذلك اللا إستقرار الذي يجعل من هاته المؤلفات، التي مهما كانت درجة تكييفها مع اللغة الجديدة تهدد كل لحظة بالعودة إلى لغتها الأصلية فتتردد بشكل غامض بين عدة أشكال ولا تكفي موافقتها التامة بأن تسجنها في شكل بعينه.

[……]

قد يكون من غير اللائق الاعتراف للأعمال المترجمة، بما هي مترجمة، بمزايا لا تتمتع بها أعمال مماثلة كتبت باللغة الأصلية. إلا أننا لا نتبين لماذا لا ينظر إلى عمل المترجم كما لو كان عملا أدبيا بامتياز، وأعني ذلك العمل الذي يقترح على القارئ أن يظل جاهلا للنص الذي يكشف له عنه، ذلك النص الذي لا يبعده عنه جهله له، وإنما يقربه منه بأن يغدو فعالا فيقدم له البون الشاسع الذي يفصله عنه. صحيح أن هاته المزايا ليست إلا مزايا ظاهرية، وقيمتها قيمة السراب، إذ سرعان ما تختفي إن نحن أوليناها كبير انتباه. وفضلا عن ذلك، فبإمكاننا أن ننظر إلى هاته المزايا على أنها مزايا لا تخلو من خطورة. وعلى أية حال فإن النص المترجم (بالفتح) يضاهي مجهود الإبداع، ذلك الإبداع الذي يسعى انطلاقا من اللغة المتداولة، اللغة التي نحياها ونغرق فيها، يسعى إلى توليد لغة أخرى، تحاكي الأولى في المظهر، لكنها تشكل بالنسبة لتلك اللغة غيابها واختلافها الذي ما يفتأ يحقق وما يفتأ يختفي.

مجلة الجابري – العدد العاشر


M.Blanchot: “Traduit de.. ” in la part du feuGallimard, 1972.. ,pp.173-187.