مجلة حكمة
الضريح حفريات في الذاكرة

تأويل الأحداث من خلال التاريخ للذات: قراءة في “الضريح” و”حفريات في الذاكرة” – رشيد الإدريسي


يقول أولغ غرابر Oleg Grabar “لقد قال أحدهم إن ماركس كان يمكن أن يهتدي إلى الإسلام، ولكن ليس فرويد… فالأول أنشأ نظرية منطقية، سواء أكانت مصيبة أم مخطئة. أما الثاني فقد اقتحم قرارة اللاشعور، في حين أن الحياة الخاصة والحياة الجنسية، أشياء لا يتحدث عنها المسلم. لذلك فإن عدد السير الذاتية في العالم الإسلامي قليل، لأنهم هناك لا يتحدثون عن أنفسهم، بينما في العالم الغربي لا يقومون سوى بذلك، لأن الدين المسيحي يدعو إلى الاعتراف. أما المسلم فيتمثل البيت الشعري لألفريد فينيي القائل: “الصمت وحده هو العظيم، والباقي كله ضعف”(1).

إن هذا القول يضعنا أمام تصور للسيرة الذاتية شديد الاختزال، كما يحاول رد انتشار هذا النوع من الكتابة إلى سبب واحد بعينه، متجاهلا الأسباب الأخرى المرتبطة بالكتابة السردية ككل وطبيعة النظرة إليها. من هنا وجب طرح بعض أسئلة تكون باعثا على البحث في هذا الموضوع وإيفائه حقه من التمحيص، حتى يتم تجاوز سريع الأحكام التي تشعر الدارس بأن الموضوع قد حلت جميع أبوابه، ولم يعد في حاجة إلى أي معالجة جديدة.

فهل السيرة الذاتية جنس مختص بأمة دون أخرى؟ أو على الأقل هل هي جنس أنشط في أمة دون غيرها؟ هل الحديث عن الذات وعن مراحل حياة صاحبها تشجع عليه شروط ثقافية بعينها، وتثبط عنه معطيات ثقافية أخرى؟ أم أن الإنسان بحكم أنانيته ونرجسيته المفرطة يميل دوما إلى إطراء الذات وفتح خزائن أسرارها ليطلع عليها الآخرون؟ وإذا كانت هناك عوامل تشجع على ذلك، وهذا المؤكد، فما هي هذه العوامل؟ هل هي دينية كما يشير إلى ذلك غرابر، أم هي متعددة؟

إن إثارة هذه الأسئلة ليس الهدف منه العمل على الإجابة عنها بتفصيل، لأن ذلك سيذهب بنا بعيدا عن موضوع ورقتنا هاته، والتي تتوخى ملامسة التطبيق بدل الخوض فيما هو نظري. ولذلك فإننا سوف نكتفي بالإشارة إلى أن الأخذ بمبدأ تعدد العوامل هو الأقرب إلى الصواب، وذلك لأن التفسير الذي يقدمه غرابر والمتمثل في الاعتراف المسيحي، رغم شيوعه في أكثر الكتب التي تناولت السيرة الذاتية في الغرب، لا يتم التعامل معه كعنصر مؤسس فعلا، بل هو عامل ممهد، مثله في ذلك مثل تقليد مساءلة الذات الذي كان شائعا في التراث اليوناني، والذي تلخصه قولة سقراط “اعرف نفسك بنفسك” والمتمظهرة في محاولة فهم الذات عن طريق الاستبطان الدقيق واستخراج مكوناتها المختلفة التي ترسبت عبر تجارب الحياة.

إن الميل إلى الأخذ بمبدأ تعدد العوامل هو الأقرب إلى الصواب، وذلك لأن التفسير الذي يقدمه غرابر يفقد بعض قوته عند تعرضه للتحليل والنقد. فرأي غرابر والذي يذهب فيه إلى أن الاعتراف كما يمارسه المسيحيون، أي الاعتراف باعتباره طقسا، من العوامل التي ساهمت في نشاط أدب السيرة بمفهومه الحديث والذي عرف انطلاقته الأولى مع جان جاك روسو، بتأسيسه له على مبدأ فضح الذات وهتك الحجب التي تواريها وخرق المواضعات الاجتماعية التي تمنع من قول أشياء وتسمح بقول أشياء أخرى، هو رأي يغفل الكثير من مستلزمات هذا الطقس الاعترافي. فهذا الأخير كما يمارسه المسيحيون، ليس اعترافا على رؤوس الأشهاد، وعرضا للذات في الفضاء العمومي، بل هو يخضع لمجموعة قيود تجعله أقرب إلى المنولوغ؛ فهو يجري داخل معزل ضيق شبه مظلم، وفي مواجهة شخص واحد هو رجل الدين، وحتى هذا الأخير الذي يفشي له المعترف بأسراره وما اقترفته يداه، هو شبه غائب رغم حضوره، لأن بينه وبين المعترف حاجزا وعتمة، وتواصلهما يتم بصوت خافت. كل ذلك يجري داخل كنيسة غالبا ما تكون فارغة وذلك لضمان الغفلية والتستر على الشخص المعترف.

إن هذه العناصر وغيرها تجعل الاعتراف المسيحي شبه لا-اعتراف وشبه تكتم، لأن إشراك شخص واحد لا يعرفك في تحلم أوزارك بالاطلاع عليها، الهدف منه هو التوصل إلى الإحساس بأنها قد امحت وتم غفرانها. فبدل القول بأن السيرة الذاتية هي تطوير وامتداد، أو هي صدى للاعتراف المسيحي، فإن الصحيح والأقرب إلى حقيقة الأشياء هو أن نقول بأنها بمثابة انقلاب وخلخلة لثوابته بتحويل التكتم إلى إفشاء والتنسك إلى تهتك، والانتقال من الإفضاء بالأسرار إلى شخص واحد شبح، إلى الإفضاء بها إلى العالم أجمع. وهي اختلافات تكشف عن عمق المفارقة في الجمع بينهما.

إن الحديث عن طقس الاعتراف المسيحي في هذا السياق إذن، قابل للمنازعة إذا أخذنا مستلزماته بعين الاعتبار. ومراعاة للدقة يجب الحديث هنا عن الاعترافات ككتابة أدبية ظهرت مع القديس أوغسطين، والتي يدخلها فيليب لوجون فيما يسميه بـ”ثقافة النظرة إلى الذات”، وهي سيرة ذاتية روحية يتم فيها استدعاء الأنا في الكتابة واتخاذ الذات موضوعا لها، عن طريق البحث في الماضي ومساءلة الروح لبلوغ اليقين وطمأنينة القلب. وهي بذلك أشبه بكتاب “المنقذ من الضلال” لأبي حامد الغزالي في أهدافها العامة، وهي تبقى رغم ذلك مختلفة عن السيرة بمفهومها الحديث وإن أمكن اعتبارهما تدشينا أوليا لها.

إن القول بأن الحياة الخاصة والحياة الجنسية أشياء لا يتحدث عنها المسلم، قد يفهم منه بأن الغربي، على العكس من ذلك قد خرق هذه المواضعة خرقا تاما، وأصبح الحديث عنده في هذا الموضوع مسألة تتم بتلقائية، مثلها في ذلك مثل الموضوعات الأخرى. وحقيقة الأمر أن السيرة الذاتية محكوم عليها في أغلب الأحيان بأن تكون انتقائية، وأن تختلط فيها الحقيقة والخيال أو بتعبير آخر الشعر والتاريخ. وضرورة هذا المزج بين هذين العنصرين والذي يستدعيه أحيانا التستر على العيب والضعف ومواراتهما بالتأويلات المتمحلة، هو الذي دفع برنارد شو إلى الذهاب مذهبا مغاليا في حكمه على السيرة الذاتية، فاعتبرها كلها أكاذيب “ولا أعني بذلك أنها غير متعمدة وبدون وعي “يقول” وإنما أعني أنها أكاذيب مقصودة، فليس هناك إنسان يبلغ به السوء إلى حد أن يحدثنا عن حقيقة نفسه في أثناء حياته؛ إذ يلزم أن يتضمن ذلك ذكر الحقيقة عن أسرته وأصدقائه وزملائه”(2).

ورغم المبالغة التي تطبع هذا القول، فإنه يقوم على قسط من المطابقة للواقع، إذ السيرة الذاتية كيفما كان كاتبها تخفي بقدر ما تعلن وتنسى بقدر ما تتذكر وتردم بقدر ما تحفر. وهذا ما عبر عنه إدغار موران Edgar Morin في سيرته “شياطيني” بقوله: “ومع ذلك فإنني لم أرد قول كل شيء عن حياتي، لم أرد أن أكشف عن الحميمي في شخصيتي […] إن كتابي هذا ينقصه الكثير عن الروح وعن الجسد […] إنه لا يظهر مني سوى الجزء البارز. فأنا لا أكشف عن بلاهتي التي ترتبط بكل شخص ينتمي إلى جنس الإنسان العاقل المجنون، لا أكشف مناطقي المظلمة، وحتى لو أردت أن أعرف ذاتي معرفة كاملة، فإنني أعلم بمقتضى مبدأ “طارسكي” الذي يذهب إلى أن أي نسق لا يمكنه أن يقدم عن نفسه تفسيرا شاملا، أن هناك جزءا من ذاتي يتعذر تفسيره من طرف ذاتي”(3).

وقد يكون الدافع لأولغ غرابر إلى تبني هذا الموقف، هو خلو الثقافة العربية من جنس أدبي يحمل اسم السيرة الذاتية، وهذا صحيح، لكنه لا يمكن اتخاذه حجة في هذا الإطار، وذلك لأن الأدب العربي لا يقوم على سلم الأجناس الصياغية كما يقول عبد السلام المسدي، وإنما يقوم على تصنيف ثنائي مرتبط بنوعية الصوغ الفني المتمثل في المنظوم والمنثور. و”فن السيرة الذاتية في الثقافة العربية الإسلامية، وإن لم يتبلور بشكل يسمح له بالانفراد بمصطلح نقدي مخصوص، فإنه قد صيغ على نماذج تكاد تصل به إلى منزلة الاكتمال في المضمون والغرض والأسلوب […] وهذا الضرب من الوضع والتصنيف قد جاء في كثير من المواضع مبثوثا بين مضان أغراض أخرى مختلفة في بطون مصنفات المؤرخين والجغرافيين والأدباء”(4).

إننا من خلال إيراد هذا الرأي لا نرمي إلى إثبات أي سبق أو تفوق للثقافة العربية الإسلامية في هذا المجال، فتفوق الآداب الغربية على الأدب العربي في فن السيرة الذاتية شديد الجلاء ولا يحتاج إلى بيان، ووضوح خط التطور في السيرة بالغرب أوضح منه عندنا(5)، ولكننا أردنا فقط تبين طبيعة هذين المجالين التداوليين العربي والغربي، وتدقيق بعض الأحكام وتنسيبها للابتعاد ما أمكن عن التعميم الذي يعتبر أحد العوائق الإبستمولوجية أمام تقدم المعرفة.

هذه توطئة كان لا بد منها قبل الدخول في تحليل مقارن لسيرتين ذاتيتين الأولى للمفكر المغربي محمد عابد الجابري، والثانية للباحث عبد الغني أبو العزم، ودواعي مقارنتنا لهما ترجع لاعتبارات عدة، أولاها تفرضها الضرورة المنهجية التي أثبتت أهمية المقارنة في التحليل وفعاليتها في اكتشاف جوانب خفية في النصوص عندما تتم مصادمتها بعضها ببعض، وذلك لأن النصوص محكوم عليها بالاختلاف والتضاد، وهو ما يشكل ثغرة يمكن للمحلل النفاذ منها لتبين تمايزات النصوص وتلويناتها الدقيقة. أما الاعتبار الثاني، فيمكننا تسميته بالضرورة التاريخية، ذلك لأن هذين السيرتين تحكيان أحداثا ارتبطت بحياة المؤلفين في أماكن مختلفة من المغرب، ولكن في زمن جد متقارب، فالمؤلفان ينتميان لجيل واحد، الجيل المخضرم الذي عاش طفولت وفترة من شبابه تحت الاستعمار وعاش كذلك حدث الاستقلال، ومقارنتهما تعتبر فرصة لأخذ فكرة عن حيز زمني واحد من خلال زوايا مختلفة ومتكاملة.

لا أحد يمكن أن يشكك في مركزية العنوان، وبالأخص إذا كان هذا الأخير ينطوي على كثافة دلالية تستدعي مشاركة القارئ التأويلية من أجل تحيينه وتبين أبعاده الممكنة. إن عنوانا من مثل “حياتي” أو “الأيام” قد لا يثير فضول القارئ، وذلك لأنها عناوين أقرب ما تكون إلى مرادفات للسيرة الذاتية، وهو ما يمكن سحبه على عنوان سيرة الجابري نفسه “حفريات في الذاكرة”، لكن العنوان الفرعي “من بعيد” يأتي ليكسر هذه اللامبالاة ويستحث المتلقي على طرح بعض أسئلة وطلب الجواب عنها من خلال النص. و”الضريح” هو الآخر، يستلزم هذا النوع من التساؤل حتى لا يبقى العنوان مجرد اسم يدل على مكان ورد ذكره في سرة أبي العزم أكثر من مرة، وارتبط بمجتمع عرف أصحابه بزيارة الأولياء والتبرك بقبورهم.

ونفس هذا المكون نجد الجابري يقف عنده وقفة طويلة هو الآخر، حيث ذكر أكثر من ضريح واختصاصات كل واحد منها، وكأن الأمر يتعلق بأطباء وبمستشفيات. وهنا تظهر المرأة باعتبارها المرتادة الأولى لهذه المزارات. إذ في مجتمع رجالي تعاني فيه المرأة من سلطة الذكر المتعدية لكل الحدود، تطرح الأرواح والقوى الخفية نفسها سبيلا أوحد للخروج من التصادم بأقل ضرر ممكن. يقول الجابري: “ومازال صاحبنا يذكر أنه زار هذا الضريح (ضريح للا شافية) مرارا محمولا على ظهر عمته التي كانت ترافق امرأة عاقرا كانت تتردد على هذا الضريح بدون إذن زوجها. إن صاحبنا يذكر ذلك جيدا، لأن المرأة والعمة كانتا تحرصان على تلقينه ما يقول للزوج إذا هو سأله أين ذهبت زوجته”(6). فالزيارة في هذا المثال تأتي من أجل اتقاء شر الرجل والمتمثل في نطقه بكلمة الطلاق، وذلك لأن المرأة العاقر في مثل هذه البيئات عادة ما ينظر إليها من زاوية الخصوبة والإنجاب، التي بانتقائها تتحول المرأة في الأعين إلى شبه رجل ويستحيل العيش معها لهذا النقص، فلا يعود أمامها لإيقاف هذا الحكم أو لإرجائه سوى اللجوء إلى الأولياء أو في أقصى الحالات اللجوء إلى السحر لاستمالة قلب الزوج إليها بشكل مفرط، وجعله مسالما في تعامله معها. وسوف نرى كيف أن أم الجابري، رغم أنها أنجبت الجابري فقد تعرضت هي الأخرى لحيف الرجل (أب الجابري)، وكيف حاول الابن (الجابري) عرض هذا الحادث بشكل حيادي يرفع به اللوم عن أبيه مع إثارة الشفقة تجاه أمه.

إن الضريح في سيرة أبي العزم هو علامة مؤولتها الرجاء والأمل وتحقق الأماني التي يحلم بها زوار هذا الفضاء. ونلمس أهميته في البيئة التي يتحدث عنها أبو العزم، عندما ينقل لنا في الصفحات الأولى من سيرته فعل الضاوية، وهي إحدى الجارات التي عرفت بقدرة هائلة على الحكي، والتي اضطرت أمام الكوارث والأمراض أن تهرب هي وزوجها مخافة العدوى، وأن تتوجه إلى قبور سبعة رجال لتلمس وتزور الشباك المليء بالأقفال والخيوط المشدودة بعقد، والتي ستشرع هي الأخرى في إدخال حزامها الصوفي في الشباك وإحداث عقد كثيرة في انتظار حلها جميعا. إذ من معاني العقدة العسر والشدة، وهي بقيامها بهذا الفعل الرمزي ترمي إلى طلب اليسر والفرج. ولمركزية هذه الموضوعية في بيئة أبي العزم وحياته، فقد تم اتخاذها موضوعا لصورة الغلاف التي تتضمن أقفالا وخرقا مختلفة الألوان والأحجام، دلالة على اختلاف الأماني والأحلام، وتتابع العسر واليسر والكرب والفرج. فنحن إذن منذ البدء إزاء بيئة متأزمة يعرف أصحابها القحط والمرض وضيق العيش، بيئة بعد أن يئس أصحابها من الأحياء أخذوا يتوجهون إلى الموتى طلبا للمساعدة وطمعا في تحقيق ما قد يأتي وقد لا يأتي.

وفي مقابل هذا العنوان المكاني الذي يحيل على مزار ذي أبعاد اعتقادية، يوظف الجابري عنوانا مجردا لا يحيل على شيء ملموس. إن الماضي يحضر في عنوان سيرة الجابري باعتباره الغاية المقصود إدراكها من خلال الحكي، إلا أنه ماض قد تمت تغطيته وخنقه بفعل التقادم، مما يتطلب من الكاتب عملية حفر تعري ما توارى منه وترمم ما لحقه التحلل. إن عبارة “من بعيد” التي اتخذت عنوانا فرعيا، تصدر من الجابري الآن في الحاضر، ومؤولتها الالتفات إلى الماضي من أجل الحديث عن مرحلة الصبا والمراهقة وأوائل الشباب، وهو في هذه النقطة يلتقي مع أكبر عدد من كتاب السيرة الذاتية، ومنهم أبو العزم الذي تحدث عن الطفل الذي فارقه وما زال ينازعه الحكي، وعن المراهق والشاب الذي كان يسكنه في الماضي، والعنوان نفسه يتضمن هذا البعد الزمني الدال على الماضي، فإذا استثنينا المعنى الأول للضريح والذي هو القبر، فإننا نجد أنفسنا أمام معنى آخر يتقاطع تقاطعا كاملا مع عنوان الجابري، إذ نجد أن من دلالات الضريح في اللغة: البعيد، يقول ابن منظور: “ضريح: بعيد، وضرح: تباعد”.

الولادة، الطفولة، المراهقة والشباب، هذه كلها محطات وقف عندها الجابري وأبو العزم، وحاولا معا تقديم صورة عنها من خلال ما وعته الذاكرة أو من خلال ما رواه الأقارب، وهذا شبه اتفاق على قدرة الإنسان على استعادة الماضي. على عكس موقف عبد الله العروي الذي يعلن منذ البدء على لسان شعيب: “… أنا مقتنع أن السيرة مفهوم وهمي. كتب أستاذك المحبوب الشيخ طه سيرته ظانا أنه إذا تناسى ما تراكم في ذهنه من معلومات كشف عن جذوره. تصور أنه هو هو في جميع أطوار حياته، يتكلم لغة واحدة ويعيش في وسط واحد. كتب وكأن لا أحد درس الذاكرة ومخادعها، الكلام ومزالقه، كأن لا أحد تدبر سير السابقين من أبطال وملوك، من فرسان وتجار من علماء ورحالة.. كل واحد يقول: ولدت سنة كذا كما لو رأى رأسه يسقط على أرض حية. الفرد خلق مستمر وتفكك مستمر”(7) من أجل ذلك سمى العروي سيرته بالسيرة الذهنية وقدمها في شكل بحوث تتناول موضوعات مختلفة، وهي وسيلة ذكية للتهرب من عرض الذات على العموم وكشف أسرارها. ويزيد من تعميق ذلك تعدد الأصوات المتمثل في قول الراوي وقول شعيب والتساؤل عن أيهما قول المؤلف؟ إضافة إلى أوراق إدريس ومؤلف كتاب “أوراق” ككل. إنه تيه الهدف منه عدم إعطاء الحق لأي محلل في أن يقول هذا هو العروي كما تحدث عن نفسه.

إن البعد قيمة مشتركة بين سيرتي الجابري و أبي العزم، البعيد هو ما حدث في الماضي، وروايته في الحاضر “من قريب”، وبين اللحظتين مسافة شاسعة تسمح للحاضر بأن يحكي الماضي بطريقة مخالفة لتلك التي يمكن للماضي أن ينقل لنا بها الماضي نفسه، وهو شيء غير ممكن لأن الماضي على لسان الماضي يصبح حاضرا، ولأن من يحكي اليوم لم يكن في مكنته ذلك وهو في الحاضر. هذه المسافة بين الماضي والحاضر تسمح للتأويل بالتسلل وتحيل السيرة الذاتية إلى قراءة تتضمن الزيادة والنقصان، الكذب والصدق، التعرية والتورية. مما يجعلنا نقول بأن كل سيرة ذاتية حتى ولو انحصرت في الحكي الصرف، فإنها تقوم على تأويل ذاتي، مما يفرض تعاملا تأويليا ثانيا، بواسطته يتم تجاوز التأويل الذاتي الأول وتنسيبه.

إن الغرض من كتابة السيرة لدى الجابري ليس السرد التاريخي لوقائع حياة شخص، يتوخى الاستقصاء ويتقيد بالتسلسل الزمني، بل هو “القيام بعرض وتحليل، مع نوع من التأويل لما يبدو “للكاتب” […] أنه يستحق على وجه ما، أن يحكى وينقل إلى القارئ(8)؛ والتأويل عنصر حاضر بصيغ أخرى حتى في العنوان ذاته؛ فالحفريات التي هي ترجمة لأركيولوجيا، مصطلح دخل العلوم الإنسانية مع فوكو وعنى به من بين ما عناه البحث عن المسكوت عنه في الخطابات. أضف إلى ذلك أن اللغة التي كتب بها الجابري نصه في نفسها تستدعي هذا النوع من النشاط القرائي، وذلك لأن الأمر يتعلق بنص غير مقالي، غير فلسفي ولا علمي، وبالتالي لا مكان فيه للاستدلال البرهاني، إنه نص بياني يعرض ذكريات شخصية، ويتغذى من مخزون ثقافي معين يوظف الصورة والإشارة والتلميح والرمز، إلى جانب ما قد يكون هناك من تدفق العفوية وإبداع السليقة”(9). ورغم صعوبة التسليم بما يذهب إليه الجابري في هذا الاستشهاد من تمييز بين نصه هذا والنص الفلسفي أو العلمي لعدم خلو هذا الأخير من الصور والإشارات والرموز… فإن ما يهمنا هو تركيزه على هاته العناصر التي تفرض تعاملا خاصا من أجل الظفر بمدلولاتها، وهو التعامل الذي يقوم على الاستنطاق بدل الإنطاق وتمزيق نسيج النص لمعرفة الخيوط التي حبك منها.

هذه إشارات أولية يضعها الجابري معالم في عتبة نصه السير ذاتي، ويوزعها أبو العزم بين جزئي سيرته، وخاصة عندما يدخل في حوار مع الطفل الذي كانه والذي يخاطبه في أكثر من مقام طالبا منه تولي عملية الحكي ونقل الأحداث كما عاشها في طفولته يتوجه إليه قائلا: “أريدك أن تستمر في حكيك كما عشته لا كما أراه الآن”(10)، ويحاول أبو العزم إقناعنا بأن الذي يتولى الحكي هو الطفل، وأن هذه المهمة قد أضجرته فيتوجه إلى المؤلف بقوله: “ما المانع أن تتحدث كما أنت الآن، دون أن تدفعني لتحمل مسؤولية تعرية ما تريد تعريته على لساني كما هي عادتك”(11). والإحساس بحضور التأويل في النص وارد هنا كذلك، فالطفل الذي كانه أبو العزم والذي يدخل معه في حوار يواجهه في الجزء الثاني قائلا: “… لنرفع الحجاب، ونترك الخطاب دون تأويل، فلا أنا ولا أنت بحاجة إلى ذلك”(12)، فيقرر في النهاية تسليم أمره للطفل ليتولى وحده سرد الفصول دون توجيه أو إرشاد أو وصاية.

إن الحيلة التي يسلكها أبو العزم لإقناع القارئ بأن ما يقرأه صاف من تدخل المؤلف، تدفعنا إلى تبني عكس ما أراد إثباته، إذ الطفل الذي يتحدث عنه ويتحدث معه هو مجرد ترميز إلى تلك الرغبة التي تسكنه والتي تحثه على قول كل شيء وعدم التستر على أسراره والظهور بالمظهر الذي كان عليه “من بعيد”. أما الذي يتولى عملية الحكي فهو الكاتب الناضج الذي يفصله عن الأحداث حيز زمني مديد يفسح المجال لصاحبه ليختار ويقدم ويؤخر الأحداث بحيث يخرجها/يؤولها بالشكل الذي يخدم الهدف الذي يريد بلوغه. وتدخل أبي العزم وتمتعه بحرية واسعة في تناول الأحداث واضح في الكثير من الحوارات التي تعمر النص، بل هو واضح في التجنيس الذي اختاره لمؤلفه بحيث لم يسمه سيرة ذاتية وحسب، بل سماه سيرة ذاتية روائية، دلالة على توسله بالمخيلة لإتمام ما قد تكون أغفلته أو نسيته الذاكرة. والحق أنه قد توفق في ذلك أيما توفق، بحيث تنسى أنك بصدد قراءة سيرة ذاتية، وأن المكتوب هو رواية تمتح جزءا كبيرا من مواردها من الخيال، لكنه الخيال المبني انطلاقا من الواقع، فلا تنافر بين وضع الشخصيات والحوارات والأفعال التي تنسب إليها، مما يحقق للقارئ متعة نادرا ما يظفر بها في سير أخرى. إن السيرة الذاتية مكتوب يحيل على ذات صاحبه، ويتجلى ذلك في أغلب الأحيان من خلال الأسلوب الذي يكثر فيه استعمال ضمير المتكلم (أنا)، والذي لا وجود لمقابل له في الواقع أثناء عملية السرد. إن (الأنا) الموجودة والمرجعية، هي (الأنا) التي تقوم بعملية الحكي، بينما (الأنا) المحكي عنها والتي يوهمنا بعض الكتاب بأنها هي التي تحكي دون وصاية، هي شبه غائبة، هي هوية مختلفة بفعل المسافة الزمنية التي تفصل بينها باعتبارها (أنا) هناك في الماضي وبين (أنا) هنا في الحاضر، وحتمية التأويل واردة لحتمية المسافة التي تفصل بينهما والتي لا محيد عنها.

يقول فيليب لوجون: “لكي تكون هناك سيرة ذاتية يلزم أن يتوفر تطابق بين المؤلف والراوي والشخصية الرئيسية”(13)، ويعلن هذا التطابق عن نفسه في أغلب النصوص السير ذاتية بواسطة هذه (الأنا) التي يوظفها أبو العزم منذ السطر الأول، يقول: “جمهور غفير يجري، يهتف، نساء يزغردن وأنا وسط هيجان صاخب أجري رافعا راية صغيرة بعدما استطعت أن أتخلص من قبضة أمي، أهتف وأردد:

ـ عاش الملك

ـ يسقط “سي عمر”.

وسيتبين فيما بعد أن “سي عمر” الذي كان ينادي بسقوطه ما هو إلا تحريف لكلمة استعمار الذي كان يظن الطفل بأنه شخص ينازع الملك السلطة، والذي سيتولى الأب تعريفه بقوله:

ـ “الفرنساويين أوليدي، الجنود الأجانب اللي عمرو بلادنا، هاجوج وما جوج”. منذ البدء يقدم أبو العزم (أنا) الماضي وهي تسأل وتستفسر و”تساهم” في تغيير مسار الوطن، ولكن سرعان ما سيتحول مجرى الحكي ليتم الحديث عن (أنا) الحاضر وقد برزت الصورة أعلاه في ذاكرتها، ليجد القارئ نفسه إزاء تجاذب بين الكاتب والطفل الذي كانه، وحديث عن عدم قدرة الأول على التحكم في الثاني “كنت أعرف مسبقا أني لن أستطيع التحكم في تذكره، ولن أتحكم فيما سيقدمه وفيما سيؤخره. وما هي الأحداث التي أريد أن يحتفظ بها لنفسه ولنفسي”. إن هذا التجاذب والصراع بين (أنا) الماضي و(أنا)الحاضر، هو في عمقه إخراج لفكرة الذاكرة وما يعتريها من ثقوب وفراغات بصيغة أخرى أكثر أدبية وإيحائية.

وعلى عكس صاحب الضريح الذي استعمل ضمير المتكلم وتحدث حديثا تخييليا مراوغا عن الذاكرة وما تعرفه من تغييرات، فإن الجابري سلك مسلكا مختلفا بحيث وظف ضمير الغيبة وتحدث عن نفسه كذات منفصلة متخذا لها موضوعا للحكي والتأمل والتأويل. وإضافة إلى ذلك فهو لا يبدأ الحكي مباشرة، بل يستهل كتابته بحديث مجرد عن الذاكرة وازدحامها بالأحداث بشكل غير منتظم، لينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن ذاته، بؤرة النص والهدف من الكتابة فيقول: “ومع ذلك فإن صاحبنا يستطيع أن يجزم مع نفسه بأن ذكريات طفولته الأولى تؤسسها جملة وقائع سابقة على غيرها”، وقد وظف الجابري في كامل سيرته لفظ الصاحب تسمية لشخصه مضيفا إليها ضمير المتكلمين “نا” تحقيقا للحميمية بين الشخص المتحدث عنه من جهة، والمؤلف والقارئ من جهة أخرى. فعند قراءة هذا اللفظ “صاحبنا”، أول ما يتبادر إلى الذهن هو السؤال “نحن من؟” فيكون الجواب هو المؤلف وكذا القارئ الذي يتحول بفعل هذا الأسلوب إلى مشارك في الحكي، ليظهر أو ليشعر وكأنه قد عاش الأحداث التي يكتشفها لأول مرة. وقد وظف طه حسين نفس التقنية في سيرته “الأيام”، إلا أنه ظل يتحدث عن نفسه دون إطلاق أي تسمية على الطفل الذي كانه، ولم يورد لفظ “صاحبنا” إلا لما بلغ الصفحة الخامسة عشر، وقد ربطها هو الآخر بثقوب الذاكرة وضعفها وقوتها المتلازمة فيما بينها، يقول: “يذكر صاحبنا السياج، والمزرعة التي كانت تنبسط وراءه… ولكنه يحاول أن يتذكر مصير هذا كله فلا يظفر من ذلك بشيء”(14).

إن توظيف ضمير الغائب في السيرة الذاتية غالبا ما نظر إليه باعتباره وسيلة لخلق مسافة بين المؤلف والشخصية، لمساعدة الأول على التأريخ لذاته بشكل أكثر موضوعية، وللتخفيف من المراقبة الذاتية التي تكون أكثر ثقلا عند استعمال ضمير المتكلم. إلا أن المقارنة بين السيرتين موضوع الدرس، تثبت أن هذه القاعدة ليست دائمة الاطراد، فقد راينا بأن أبا العزم وظف ضمير المتكلم ومع ذلك فقد كان أكثر جسارة في تناول ذاته، وهو ما أعلن عنه في خاتمة الجزء الأول من سيرته في نص يمكن تسميته باستراتيجية الفضح حيث يقول: “سأغوص ما أمكن في العمق، وسأطفو على السطح لأبدو كما كنت وسأمعن النظر في كل حركاتي وسكناتي وسأصرخ ولن أكتم صراخي”(15).

إن الإنسان يتعلم عبر مراحل حياته أشياء كثيرة، ويعمل بذلك على تضييق حيز المجهول الذي لا يتوقف عن الاتساع كلما اتسع حيز المعلوم. فالإنسان أمامه العديد من الأشياء التي عليه اكتشافها، وليس في إمكانه العيش إلا سنوات قلائل، وهذه المفارقة تفرض عليه الكد في طلب هذه المعرفة التي لا تنتهي، وتزرع فيه إحساسا مؤرقا بالموت، تزداد وطأته كلما تقدم به السن، “لقد كنت دائما أتصور أنني أكتب وأنا جالس في قبري” يقول شاتوبريان.

فالكتابة والموت يرتبطان ارتباطا ضديا على أساس أن المكتوب قادر على مقاومة الزمن وعبور الحقب والعصور وإدراك نوع من الخلود وبالتالي مقاومة الموت، وهذا ملمح أكثر وضوحا مع السيرة الذاتية التي غالبا ما يكتبها صاحبها وقد تقدم به السن، فتأتي السيرة لاستذكار الماضي ونبشه وملامسة الحاضر وخدشه، فتوقف رمزيا حركة الزمن وفعله وتخلد ذكر المؤلف وتلعب دور إكسير الحياة الذي يضمن الخلود.

وما يهمنا نحن مما قلناه هو قرن التعلم بالسيرة الذاتية، وخاصة تلك التي تركز على مراحل الطفولة والشباب حيث تبدأ الذات في اكتشاف العالم من حولها والإلمام بعناصره المختلفة وسلوكات أفراده الخاضعة للمكونات الثقافية المتوارثة والمكتسبة. وهنا يبرز دور المحاكاة واضحا باعتباره أحد أهم العوامل في تكوين الذات، لدرجة يمكن القول معها بأنه لا يوجد شيء في السلوكات الإنسانية يتم اكتسابه بغير تلقين، وكل تلقين يقوم على المحاكاة، وهذا ما دفع روني جيرار إلى القول بأن كل الأشكال الثقافية سوف تتلاشى”(16)، والتأكيد على أن الدماغ البشري هو آلة ضخمة تقوم على المحاكاة، مع عدم تجاهل قدرتها على التوليد والإبداع.

وليس هناك شك في أن السيرة الذاتية تؤكد هذا التصور وتزكيه، وذلك لأن ما يشغل صاحبها (وهو هنا الجابري وأبو العزم) هو الوقوف عند مواطن تطوره ومستويات اكتشافه، وانتقاله من المجهول إلى المعلوم. إن كل سيرة ذاتية هي تأريخ للذات ومحاولة للإحاطة بما كانت تجهله وأصبحت تعرفه مع تقدم الزمن وتقلص العمر، بحيث يمكننا تعريفها بأنها سلسلة من اللاعلم الذي يتحول إلى علم نتيجة جهود الذات وعراكها الذي لا يتوقف مع كل العقبات التي تعترضها. وهذا التعريف الذي نقترحه هنا له أهميته الإجرائية وذلك لفسحه المجال لإقامة حوار ومقارنة بين السيرة الذاتية والرواية، وخاصة تلك التي تعرف باسم “رواية التعليم” bildungs roman والتي تركز على شخصية تقوم بقطع مجموعة من المراحل التي تمكنها من اكتساب المعرفة وبلوغ مرحلة النضج التي تأتي نتيجة التجارب والاختبارات المتتالية. وهنا تطرح المحاكاة نفسها كوسيط أساسي، إذ للانتقال من الوضع الأول إلى الثاني لا بد من المرور عبرها والخضوع لإوالياتها.

لقد رأينا سابقا كيف اندفع أبو العزم وهو طفل وسط جمهور غفير وهو يهتف “عاش الملك، يسقط سي عمر”، وهي حادثة يفتتح بها سيرته الذاتية، وتتجسد فيها المحاكاة بشكل بارز ليتكون لدى الطفل وعي جنيني بالوضع الذي يعيشه وطنه، ولينتقل من جراء ذلك إلى معرفة من هو سي عمر ولم تتم المناداة بسقوطه. وفي هذا السياق تكتسي المحاكاة حدة أكثر من تلك التي تكتسيها في سياقات أخرى، وذلك لأن الفرد عندما ينحشر في تيار جارف من الناس يصعب عليه عدم مجاراتهم واتباع حركاتهم بشكل آلي في أحيان كثيرة، وقد توفرت في المشهد الذي قدمه أبو العزم كل الشروط الضرورية لقيام محاكاة تتصف باللاعقلانية والتلقائية المفرطة، والمتمثلة في الحشد الجماهيري الكاسح والصراخ المرتفع والعدو البائن والقضية الواضحة (مقاومة الاستعمار من أجل تحصيل الحرية).

ولا يختلف الأمر بالنسبة للجابري في حفرياته، فهو الآخر يفتتحها بذكريات كلها تقوم على المحاكاة والانتقال من اللاعلم إلى العلم. والطابع المميز لها هو أن عناصرها ليست واضحة كما هو الشأن بالنسبة لـ أبي العزم؛ فمجموع الوقائع التي يسردها عن مراحله الأولى وهو ما زال في صغره يمكن فهمها انطلاقا من هذه المقولة، وأقواها تلك الحادثة التي عاشها وهو ما زال رضيعا يحبو، وذلك عندما مد بصره إلى الفجوة ما بين رجل أمه اليسرى الممتدة على الأرض ورجلها اليمنى المنتصبة على شكل زاوية، يقول: “يتذكر صاحبنا بكل وضوح […] حينما اتجه برأسه، وهو يحبو، نحو المنطقة الوحيدة من جسم أمه […] والتي كانت تشكل بالنسبة له المجهول الأكبر […] فلم يشعر إلا ويد أمه تدفعه بعيدا عنها دفعة قوية عنيفة قضت على فضوله”(17) هنا انتقل الصبي كما هو واضح من المجهول إلى المعلوم، من اللامحدود إلى المحدود، ولكن أين المحاكاة؟ إن مفعول هذه الأخيرة سوف يتجلى عندما سيدرك الطفل أنه ارتكب خطأ ليعيد بعد ذلك إنتاج سلوك أمه ومحاكاته بصيغة أخرى، حيث سيدأب على حني رأسه أو الانصراف والتشاغل بشيء آخر، كلما شاهد أمه في مثل ذلك الوضع الجسماني وهي بصدد الغزل، وهو سلوك يطابق ويحاكي دفعة أمه بعيدا عندما أقدم على ارتكاب المحظور. إن أم الرضيع (الجابري) تعلم أن هناك حدودا يلزم الوقوف عندها احتراما للأعراف، بينما الطفل لم يرق بعد إلى وعي مقولة الحدود هاته، وهذه الدفعة العنيفة من طرف أمه ستوقظ انتباهه ليدرك أن هناك خطوطا يجب عدم تجاوزها، وليصبح بالتالي في هذا السلوك مطابقا لأمه ونسخة ثانية لها. ويمكننا بكامل السهولة سحب هذا التحليل على أغلب الوقائع الأخرى التي أتى على ذكرها الكاتب في مجموع الجزء الأول من الفصل الأول وفهمها انطلاقا من هذه الزاوية.

إن الأم في كلا السيرتين تقوم بوظيفة مركزية تتمثل في فتح أعين الطفلين على العالم وتثبيت مجموعة معايير يمر من خلالها الطفل في رؤيته للأشياء، وهو ما يجعل الطفل في انسجام مع البيئة التي حكم عليه أن يعيش فيها، وهذا الدور لا يتوقف عن التقلص كلما تقدم الحكي وتم الابتعاد عن البيت وعن الرعاية اليومية للأبوين.

إن إشارتنا لمكون الأم في هذه الملاحظة ليس الهدف منه الدخول في تحليل موضوعاتي قد لا يضيف أي جديد للذي قرأ السيرتين موضوع التحليل، وإنما الهدف منه الوقوف عند الصورة التي رسمها الجابري لأمه وعن معاناتها وموتها المبكر، وذلك من أجل استخراج المسكوت عنه والعناصر الفاعلة في صنع مأساتها، والتي أسقطها الجابري سهوا أو قصدا مقدما لنا بذلك سيناريو، فيه من البياضات الشيء الكثير، والتي على القارئ ملؤها إذا هو أراد الوصول إلى تأويل ثان مقنع يتأسس على تأويل أول لم يكن الجابري أن يقدم غيره، إذا هو أراد أن يحافظ على مناطق قاتمة وسرية في بناء سيرته الذاتية.

يحكي الجابري عن أمه فيصفها بأنها كانت على درجة كبيرة من الوقار الذي يميل بصاحبه إلى نوع من الانطواء، وأنها كانت امرأة مسالمة صبورة تتحمل الألم والحيف دون شكوى. ولافتراق الجابري عن أمه في وقت مبكر، فإن مشاعره تجاهها لم تنم ولم تتطور لترقى إلى درجة الحميمية والتعالق المعهودين في علاقة الطفل بأمه، لذلك فقد مر حادث وفاتها دون أن يرافقه في وجدانه أية انفعالات خاصة. وتتجلى قمة هذه اللامبالاة بعد وفاتها مباشرة، حيث حضر الجابري تشييع جنازتها وعاد من المقبرة بعد دفنها متوجها إلى المدرسة لمتابعة دروسه.

وفي مقابل ذلك فإن أم الجابري بتلقائيتها وبراءتها وحنوها لم تنس ابنها، وفي لحظة دنو أجلها تقوم بالتفاتة لا يمكن أن تصدر إلا عن أم تتمتع بمشاعر الأمومة كاملة. فقد أوصت له بكل ما تملك من متاع؛ وهو حزام من صوف وخلخال من فضة وجفنية من نحاس وآلة نسج من حديد، ليخلص الجابري الآن وهو يتجاوز الستين من عمره أن أمه كانت تفكر فيه وكانت منشغلة بمستقبله بكل صمتها وتحملها وأنفتها.

إن الصفات التي يذكرها الجابري عن أمه هي صفات المرأة المثالية التي يستحيل أن ينطق الرجل في حقها بكلمة الطلاق، وإذا أضفنا إلى ذلك أنها حبلت من زوجها وأنجبت له ولدا هو الجابري، فإن الطلاق يصبح أكثر استحالة، وحتى لو تم النطق به قبل الوضع ومعرفة جنس الوليد، فإن إنجابها لهذا الأخير كفيل بردها لزوجها. إلا أن ما وقع هو العكس إذ أن أمه طلقت، وقد تم ذلك كما يرى الجابري بإيعاز من جدته لأبيه الذي كان يكن الحب والمودة لزوجته. وهذه ملاحظة يصعب قبولها، فالرجل عندما يقدم على الطلاق، فلأن في عمقه شيئا، ولو جنينيا، من الاستعداد لهذا السلوك. إن الهدف من ذكر الحب من طرف الجابري، هو تبرئة الأب على أساس أن الغاية من وراء فعله هي مرضاة الأم وطاعتها المأمور بهما من جهة، وتبرئة الجدة من جهة أخرى، على أساس أن ذلك كان سلوكا شائعا تجترحه أغلب الحموات. أما الأم فالتعاطف معها أمر وارد، لأن الجابري مهد لذلك بإسبال أفضل الصفات عليها، فهي إذن ليست في حاجة إلى دفاع. والهدف الأخير والأساسي من كل ذلك هو تبرئة الجابري نفسه، لأن أحدا لن يستطيع مؤاخذته لأنه ذكر الحقيقة عن أقرب الأقرباء إليه: الأب والجدة التي شملته برعايتها. إنها استراتيجية الجابري التي تحكم أغلب مكتوباته والمتمثلة في الرغبة في إرضاء أغلب الأطراف رغم ما قد يحكم علاقاتها من تناقض، وتشكيل كتلة يجد فيها كل واحد ذاته!

إن الجابري كثيرا ما يذكر بسلوك أمه الذي كان يتصف بالصرامة والجدية، لكنه نادرا ما تحدث عن أبيه أو كشف أوراقه. ولكن فلتة سوف ترد على لسان “الحاج محمد افرج” أحد الوطنيين ومدير المؤسسة التي كان يتابع فيها الجابري دراسته وهو طفل، ستساعدنا على بلوغ ما نرمي إليه؛ فقد عاد الحاج افرج إلى فكيك من إحدى سفراته التي زار فيها الرباط وفاس وقد أحضر معه كتبا، اشترى التلاميذ بعضها، إلا الجابري فقد وقف واجما لعدم توفره على مال، فما كان من المدير (الحاج افرج) إلا أن قال له: “وأنت؟ ألا تشتري كتابا وأبوك يبذر الأموال في وجدة، ذات اليمين وذات الشمال؟”(18).

إن هذا العنصر هو بمثابة فلتة لسان وبدون أخذها بعين الاعتبار تبقى لوحة علاقة الأم والأب ناقصة، وهي التي ستمكننا من تقديم تفسير آخر لعلاقة أم الجابري بأبيه في هذا السياق. فالأب، والعم كذلك كما يرى الجابري، كانا مزواجين. والرجل المزواج في هذا الإطار هو أقرب ما يكون إلى شخصية “السي السيد” في ثلاثية نجيب محفوظ. والمتسبب الأول في تبذير الأموال ذات اليمين وذات الشمال كما عبر عن ذلك محمد افرج، هو النساء. وإذا أضفنا إلى ذلك الابتعاد عن الأهل إلى مدينة كبيرة مثل وجدة، فقد أصبحت كل عناصر سلوك “السي السيد” متوفرة.

نعود إلى البداية فنقول بأن الأم أمرت ابنها بالطلاق، ولكن ذلك لم يأت من فراغ، كما يحاول أن يوهمنا الجابري، فقد كان ذلك (ربما) نتيجة رد على تذمر الزوجة (أم الجابري) واحتجاجها على ما يبلغها من أخبار الزوج الضارب في الأرض والتي ألم بها البعيد (الحاج افرج) قبل القريب. فالغيرة هنا عنصر حاسم، وقد لاقى طلب الأم هوى في نفس الزوج، لأن ذلك سيسمح له بالانفلات من ثقل المراقبة التي وإن كانت بعيدة ومن امرأة مغلوبة على أمرها، فإنها لا بد أن تكون قد أشعرته بالحرج.

لقد قدم لنا الجابري قصة أمه من زاوية غيب فيها كل عناصر الإدانة التي قد تلحق الأب أو الجدة أو الجد، وهو ما يزكي ما ذهب إليه شوبنهاور والذي أشرنا إليه أعلاه، ولأننا من خارج دائرة القبيلة، فإنه يمكننا إعادة تركيب سيناريو هذه العلاقة الزوجية وما آلت إليه على الشكل التالي:

ـ زوج كثير التنقل

ـ أخبار عن تبذير الزوج للأموال

ـ كثرة الإنفاق غالبا ما ارتبطت بالنساء وما يقرب إليهن

ـ أم مستسلمة تحركت فيها الغيرة فاحتجت أو أظهرت الامتعاض

ـ حماة عنيدة لا تقبل اللمز في ابنها، فتطلب من الابن أن يطلقها

ـ ابن مطيع لأمه وأبيه، صادف الطلب هوى في نفسه، وهو لا يقبل زحزحة صورته في عيني والديه، ويود رد الاعتبار، فينفذ الطلب والرغبة الذاتية.

كل هذه العناصر والمكونات تقدم لنا الصورة “الحقيقية” و”الكاملة” لتلك العلاقة التي عمل الجابري على توريتها ولعب دور “المحايد” في عرضها، وهي عناصر لا يمكن أن تؤدي في مجتمع ذكوري لا حماية فيه للمرأة، إلا إلى التضحية بها رغم أنها الأولى بالإنصاف.

لقد قلنا في البدء بأن السيرة الذاتية تأويل للأحداث، وعند هذه النقطة من التحليل يتبين لنا ذلك بالملموس؛ فقد عمل الجابري ما في وسعه على احترام الأعراف، فلم يذكر أباه بسوء وتحسر على موت أمه المبكر، واعترف بالجميل في حق عمه وأخواله الذين ساهموا في رعايته. فكان بذلك واقفا عند حدود ما تسمح به الثقافة وأخلاق المروءة.

إن المتلقي ليشعر وهو يقرأ سيرة الجابري، أن هناك أشياء كثيرة تبقى متوارية تحتاج إلى جهد مضاعف من طرف القارئ ووقفات طويلة لتبين ما ينسرب بين سطورها. وعلى العكس من ذلك نجد عند أبي العزم رغبة قوية في قول كل شيء، وميلا إلى الحديث عن فقره المدقع وضعفه الذي يذهب به إلى حد البكاء ومكره الذي يحوله إلى فقيه صغير يكتب التمائم للنساء العاقرات لتحقيق وصال مستحيل. هذه العناصر وغيرها والمتميزة بالاستفاضة والتفصيل الممتع، تشعر المتلقي بأن الكاتب قد منح القارئ كل ذاكرته ولم يعد يحتفظ بسر من الأسرار التي يمكن اكتشافها من وراء الإشارات العابرة، للانتقال بها من التلميح إلى التصريح.

إلا أن الوقوف المتأني عند ملفوظات النص والتنبه لتقنيات كتابتها، لا تلبث أن تدفع المتلقي إلى تغيير النظر ليظهر له أبو العزم، لا باعتباره شخصا يسرد مراحل حياته، أو ذاتا مطابقة للذوات التي كانها في إحدى محطات حياته، بل باعتباره راويا كلي المعرفة ملما بأدق مشاعر وإحساسات الأشخاص الذين شاركوا معه في بناء صرح حياته، متذكرا لأقوالهم ومواقفهم مستحضرا للألوان والروائح والمذاقات… التي كانت تملأ فضاء الأحداث، وهو شيء يدفع القارئ أحيانا إلى التعامل مع المكتوب على أنه رواية ويميل به إلى إحداث تغيير في تجنيس العمل والحديث بشأنه عن رواية سير ذاتية بدل سيرة روائية، ذلك لأن الرواية في أغلب فصول الكتاب تتقدم على السيرة، وملامح ذلك واضحة في الرؤية اللامحدودة التي ينطلق منها الراوي المطابق للكاتب وللشخصية، والذي يهيمن على الأحداث والأفراد ويتمتع بمعرفة لا حدود لها، بحيث بإمكانه أن يسبر أعماق وقلوب كل الأشخاص وينقل أفكارهم الدفينة والسرية وربما اللاشعورية!

ففي الفصل الثالث من الجزء الأول من الضريح، يتحدث أبو العزم عن جلسة الشاي التي يجتمع حولها كل معمري المنزل الذي يقطن فيه، وهنا لا يبرع أبو العزم فقط في التأريخ للأحداث ولما يدور بين النساء من تجاذب في الكلام، بل يتعدى ذلك إلى التأريخ للنوايا والأحاسيس والمشاعر. فالضاوية عندما يتم الحديث عن (بداز) أكلتها اليومية من طرف راوية، تشعر كما يروي أبو العزم أن وراء ذلك لمزا و”معيورة”، فترد بكلام تشعر معه راوية بأن إشارتها قد فهمت ولا داعي لإغاضة الضاوية أكثر.

ويظهر جليا أن هذا الغوص في نفس كل شخص، لم يكن موازيا للحديث إبان ظهوره، بل هو أقرب إلى التحليل المتأخر الذي يصعب تشييده في مثل سن الطفل الذي كانه أبو العزم، والذي لا يتخذ معالمه كاملة إلا بعد أن يصبح في ذمة التاريخ، ليتم بعد ذلك استدعاؤه وتحيينه انطلاقا مما ترسب في الذاكرة من تجارب تالية، ومما تم اختزانه من تصورات عن الضمني والإيحائي والإشاري والمضمر.

ودائما بنفس الأسلوب يحكي أبو العزم عن حادث إلقاء القبض على أحد الوطنيين المراكشيين المدعو عبد القادر، ويورد تأثير ذلك على أمه وكيف أنها حاولت تبرئة ابنها قائلة:

ـ ولدي داخل سوق راسو، كاع ما كيخرج من الدار.

ليعلق على ذلك بقوله: “إلا أنها في قرارة تعرف نفسها ما كان يروج بينه وبين أصحابه وهي تسترق السمع إلى أحاديثهم من حين لآخر”. هنا أبو العزم يصبح بالفعل روائيا قادرا على التواجد في أكثر من مكان ومراقبة حركات أبطاله وخلجات نفوسهم، وبذلك يصبح القارئ ملما بمجريات الأحداث أفضل من الأشخاص أنفسهم.

إننا إزاء أشخاص وأفراد عرفهم الكاتب وعايشهم، إلا أن طريقة تناوله لكل شخص، بما تتسم به من دقة وإلمام بالفكرة والإحساس اللذين يعبران ذهنه، تخول لنا الحديث عن الشخص Personne لدى أبي العزم باعتباره شخصية personnage، أي شخصا تخييليا يقوم بدور في تطور الأحداث ونموها للوصول إلى خاتمة المطاف التي لا يمكن إلا أن تكون إيجابية بالمقارنة مع البداية التي ركز فيها أبو العزم على ذكر الكثير من مواطن الشدة والضيق التي اخترقت حياته وهو في طور الطفولة والشباب. يقول أبو العزم: “:عندما اختفت الشمس ولاحت خيوط الظلام الأولى يتخللها بياض بعض الأشعة الباقية من آثار الغروب، بدأت أفكر كيف سأقود سي قدور إلى حديث المبيت الشائك؟ وأين سأقضي ليلتي هاته؟ وفهم من خلال حركاتي وبعض الإشارات إلى ما أرمي إليه، فعرض علي دون استفسار أن أقضي الليلة، إذا كنت لا أرى مانعا، في بيته”. هذه الواقعة تندرج في إطار السفر الذي قام به أبو العزم عندما تم تعيينه معلما في إحدى القرى النائية المنقطعة عن العالم، وهي جزء من الصعوبات التي واجهها في تلك القرية، والتي تلتها ندرة الماء والمواصلات والتهديد من طرف بعض السكان لظنهم أنه يقف وراء تحريض “القايد” على إرغامهم لإرسال أبنائهم إلى المدرسة، والتعرض لمخاطر الأمطار التي غمرت الغرفة التي كان يقيم بها.

إن ما يهمنا نحن من هذا النص هو إشارة الكاتب إلى أن سي قدور قد فهم رغبته وذلك فقط من خلال بعض الحركات والإشارات، ليعرض عليه مباشرة المبيت في منزله. فما الذي يدفع الكاتب إلى تبني هذا الفهم؟ ألا يمكن إرجاع الدعوة للمبيت إلى أخلاق أهل المنطقة وكرمهم، وهم معروفون بذلك؟ نقول بأن أبا العزم سلك هذا المسلك وفضل تقديم قراءة ما في نفس محاوره بدل قراءة ما تعارف عليه الناس في الواقع، لأنه يتعامل مع أشخاص سيرته الذاتية تعاملا يقربهم من شخوص الرواية أكثر من شخصيات التاريخ. وهي استراتيجية تخول له دفعهم إلى التفكير فيما يريد منهم التفكير فيه، وبالتالي جعلهم أجزاء متناغمة في الفسيفساء التي يريد تقديمها عن حياته. لقد تلفظ أبو العزم بكلام ليس فيه طلب المبيت مباشرة وقام بإشارات وحركات كما يروي، ثم بعد ذلك عرض عليه السي قدور مسألة المبيت في منزل الأسرة، وهو الآن في لحظة الكتابة يعمل على الربط بين الإشارة والطلب وترجيع أحدهما إلى الآخر، والترجيح تأويل، وبذلك يملأ أحد بياضات النص التي كان بإمكانه الإبقاء عليها ليؤثتها القارئ بما تتضمنه موسوعته الثقافية من مكونات وسيناريوهات ممكنة. من هنا نقول بأن أبا العزم، شأنه شأن الجابري، يضيء الماضي انطلاقا من الحاضر، وبالتالي فهو يعمل على تأويله.

إن السيرة الذاتية قطعة من الحياة، صورة معبرة عما تختزنه هذه الأخيرة من قسوة وشفقة، سعادة وشقاء، نجاح وفشل. هي قطعة ينبش عبرها المستور، ويتنقل من خلال عيني كاتبها من المجهول إلى المعلوم، كما الشمس تنتقل من الغروب إلى الشروق، وكما الليل يعقبه النهار، وكما الفصول ترحل لتعود من جديد، كلها تحكي ما تم حكيه منذ الأزل! إن السيرة الذاتية لا تأتي إلا لكي تنسينا سيرة سابقة، وتقدم نفسها على أنها سيرة لم تسبق بمثلها. والحق أن كل السير أو أغلبها تتشابه؛ فهي تبدأ بالحديث عن طقس الولادة، وهو حادث لا يد فيه للمولود/الكاتب، ويتوسطها العبور من الجهل نحو المعرفة، والتي يتلوها مع تقدم السن وبلوغ أرذل العمر، الانتقال من المعرفة إلى الجهل، لينزل في النهاية الستار معلنا عن انتهاء حفل الحياة وابتداء مأتم الموت: صراخ، أنين، دموع، سواد، سرادق… ونسيان. إن الماضي اشبه بالآتي من الماء بالماء كما قال ابن خلدون، فبداية الحياة نهايتها، وأول خطوة للطفل هي خطوة نحو الموت. من أجل ذلك وفي لمحة صفاء روحي، قد يرتفع داخل كل واحد منا صوت يبدئ ويعيد: باطل الأباطيل كل شيء باطل، أي فائدة للبشر من جميع تعبهم الذي يعانونه تحت الشمس، ولكتم هذا الصوت وإسكاته يهرع الكتاب إلى تدوين سيرهم، وعلى الرغم من ذلك فإنهم يرحلون وتبقى السيرة، تبقى ناقصة لأن صاحبها لم يستطع أن يحدثنا عن آخر المشاهد في حياته وأهولها مشهد الرحيل!

 

مجلة الجابري – العدد الثالث عشر


الهوامش:

1 – Oleg Grabar, Entretien in revue M.A.R.S., n°5, 1995.

2 – عبد العزيز شرف، أدب السيرة الذاتية، الشركة المصرية العالمية للنشر، القاهرة، 1992، ص.14.

3 – Edgar MorinMes démonséd. Stock, coll. Au vif, 1994, p.12.

4 – عبد السلام المسدي، النقد والحداثة، دار الطليعة، بيروت 1983، أخذا عن عبد العزيز شرف، ص.ص.99-100، مرجع سابق.

5 – انظر إحسان عباس، فن السيرة، ص.7، عمان 1988.

6 – حفريات في الذاكرة، من بعيد، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1997، ص.66.

7 – أوراق، سيرة إدريس الذهنية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1996، ص.10.

8 – حفريات في الذاكرة، ص.11.

9 – نفسه، ص.3.

10 – الضريح الآخر، ج.II، ص.106.

11 – نفسه، ص.104.

12 – الضريح، ص.10.

13 – Jean-Philippe MirauxL’autobiographie, écriture de soi et sincéritéParis, Grasset, 1996.

14 – طه حسين، الأيام، ج.I، دار المعارف، القاهرة، ص.15.

15 – الضريح الآخر، ص.104.

16 – René GirardDes choses cachées depuis la fondation du mondeéd. Grasset, 1989, p.15.

17 – حفريات…، ص.6.

18 – نفسه، ص.105.