مجلة حكمة
دائرة الترجمة بنعبدالعالي

دائرة الترجمة – عبد السلام بنعبد العالي


محاولة لإعطاء صورة مشخصة عن الترجمة والعمل الذي تقوم به يدعونا البعض إلى أن نتصور مجموعة من الأفراد يجلسون جنبا إلى جنب في شكل دائرة، بحيث لا يعرف كل واحد منهم إلا لغة اللذين بجانبه. فإذا صدرت عن أولهم عبارة معينة، فإن الثاني سيترجمها إلى الذي بجانبه لينقلها هذا إلى الآخر وهكذا حتى تكتمل الحلقة.

يرى هؤلاء أن العبارة الأصلية ستعود إلى نقطة بدايتها “بعد الدورة” مقلوبة ممسوخة. وأنه كلما اتسعت الحلقة وكثرت اللغات وتعدد الأفراد، ازداد مسخ العبارة وبعدها عن معناها الأصلي.

سنحاول في هذا العرض الوجيز مساءلة هذه الصورة عسى أن نخرج الترجمة عن دائرتها… فماذا تقول الصورة؟

إنها تقول أولا وقبل كل شيء إن الترجمة خيانة للمعنى الأصلي. وإن سلسلة الخيانات المتلاحقة تؤدي إلى ذوبان المعنى، وإن عملية انتقال المعنى عبر الدائرة، إن دورة المعنى عبارة عن سقطة يتم خلالها ضياع المعنى حسب دالة تنازلية.

معنى هذا أننا كلما اقتربنا من نقطة الانطلاق ومصدر المعنى ومكان الأصل، ازددنا قربا من نور المعنى الحقيقي وقل الضياع وضعفت الخيانة، وكلما ابتعدنا عنه ضعفت المعاني وضاعت.

الفكرة الثانية التي تلح عليها الصورة هي أن هناك عودة ضرورية إلى نقطة الانطلاق، ومواجهة الصورة النهائية بالأصل. لا مفر من العودة وربط ذنب الدائرة برأسها. وهذا معناه أن عملية توليد المعاني ونقلها عبر اللغات والنصوص تطرح داخل زمانية دائرة تقول بالعود الأبدي. لكنه، كما سنرى، ليس العود الأبدي للشيء ذاته، وإنما عودة المطابق. بعبارة أخرى فإن عملية التوليد تلك تطرح داخل مفهوم ميتافيزيقي عن التكرار يقول بالرجوع إلى نقطة البداية والأصل المفقود.

ثم إن النقل هنا يتم شفويا وعبر أشخاص. المترجم هنا شخص أخلاقي يعتبر، في النهاية، هو المسؤول عن الضياع. إن الفاعل في هذه الحركة الدائرية أشخاص لا يستطيعون نقل المعاني بأمانة، ولا الحفاظ عليها خلال الحركة التي تعيدها إلى أصلها وتردها إلى أهلها.

قبل أن ننتقل إلى ما يمكن أن نتصوره صورا مضادة لهذه الصورة لا بد أن نلاحظ أن هذا المنطق لا يمكن أن يبلغ مداه البعيد. ذلك أننا لو تصورنا النموذج المفترض في أقصى صوره، وافترضنا أكبر عدد من الأفراد ومن اللغات، لو أننا وسعنا الحلقة إلى أقصى ما يمكن، وذهبنا مع منطق السقطة إلى مداه البعيد، فإننا ينبغي أن نستنتج أن الحلقة لن تكتمل، وأن المعنى سيستمر في التناقص والضياع حتى درجة الصفر بحيث لا يستطيع المترجم ما قبل الأخير أن ينقل شيئا إلى الذي بجواره. لو ذهبنا بهذا المنطق إلى مداه البعيد إذن، فإنه سينهار بحيث تتصدع دائرته وتتفكك حلقته.

هل يعني ذلك أن علينا أن نضع العملية على مسار خطي ونقول إن الاستنساخ لا يتم عبر عملية تنزل بالمعنى من عالم النماذج إلى عالم النسخ، وإنما عبر مسلسل تقدمي، فنرمي بالترجمة داخل زمانية خطية تجعل المعنى ينمو عندما ينتقل من لغة إلى أخرى.

لعل هذا هو ما يقصده بنيامين عندما يقول بأن “ترجمات نص هي ما يشكل تاريخه”، وأن مهمة الترجمة هي أن تسمح للنص بأن يبقى ويدوم، وفي هذا البقاء الذي لا يستحق هذا الاسم إن لم يكن تحولا وتجددا، يتحول النص الأصلي ويتجدد، وينمو ويتكاثر.

مقابل الصورة السلبية الأخلاقية اللاهوتية تعطينا هذه الصورة فكرة مخالفة عن الترجمة، بل فكرة مضادة، فتعتبرها مولدة للمعاني ضامنة لحياة النصوص. وتقبل، منذ البداية، اختلاف النسخة عن أصلها.

ذلك أن ترجمات نص إن كانت تشكل تاريخه، فإنه تاريخ ينطوي على صراع واختلاف. وما تفترضه الصورة الأولى، الصورة اللاهوتية، هو اختزال الاختلاف (اللغوي والثقافي) ورده إلى وحدة، بل واختزال التاريخ وسجنه داخل دائرة.

الصورة الأولى ترسم داخل انغلاق دائرة الميتافيزيقا، أما هاته فتريد أن تكون خطا مفتوحا على المستقبل متفتحا على مخالفه. إنها ترى أنه إن كانت هناك ترجمات فلأن هناك ثقافات ولغات. وما الترجمة إلا عمليات التحويل اللامتناهية، وإعادة الإنتاج الدائمة لهذه اللغات وتلك الثقافات.

تفترض هذه الصورة الخطية إذن أن الترجمة لا تهدف أن تكون نسخة طبق الأصل والآخر ذاته. إنها تسلم بأن الترجمة استراتيجية لتوليد الفوارق وإقحام الآخر في الذات. فالترجمة هي ما يفتح اللغة على الخارج، وما يفتح المعاني على آفاق لم تكن لتتوقعها.

تحاول هذه الصورة الخطية إذن أن تتجاوز الصورة الدائرية في مختلف عيوبها. فهي تقحم المعاني داخل الحركة الفعلية للتاريخ، وتقضي على هيمنة الأصل وسيادته، وهي تنزع عن الترجمة مسحتها الأخلاقية لترى فيها تحويلا وإعادة إنتاج.

وعلى رغم ذلك فيبدو أن هذه الصورة لا تكتفي بالإغراق في التفاؤل فحسب، وإنما تذهب إلى إقحام الترجمة داخل زمانية تميز تمييزا كرونولوجيا بين أنماط الزمان، فتعتبر المستقبل تجاوزا للماضي واحتضانا له. إنها تغفل أمرا أساسيا في الترجمة، بل وفي كل عملية استنساخ، وهو العودة الدائمة للنص الأصلي. في كل ترجمة إعادة نظر لا تنقطع، وعودة ما تنفك تتكرر للنص الأصلي.

فعلى عكس ما توحي لنا به هذه الصورة الخطية عن حركة الترجمة، فإن هاته لا تتم من نسخة إلى أخرى تلغي السابقة وتتقدم عليها. إن الترجمة “تتقدم” لا وفق التجاوز الهيجلي، وإنما وفق ما يدعوه هايدغر بعد نيتشه، بالعودة اللامتناهية إلى الأصول لمقابلتها بنسخها. فالنسخة هنا لا تلغي الأصل وإنما تعلق به وتحن إليه وتستدعيه كل لحظة. ها نحن من جديد أمام مفهوم العود الأبدي وأمام مبدأ التكرار. فهل يعني ذلك رجوعا إلى الحركة الدائرية وإلى المفهوم اللاهوتي عن الترجمة؟

سبق أن قلنا، ونحن نعرض للصورة الدائرية هاته، إن المفهوم الثيولوجي عن الترجمة يقول بالخيانة لأنه يفترض أن وراء عملية الترجمة شخصا أخلاقيا. لكن، من يترجم بالفعل؟ أو على الأصح، ما الفاعل في عملية الترجمة؟ ربما كانت الترجمة مرتبطة بفاعل يتجاوز الأشخاص الأخلاقيين. ذلك أن الذات المترجمة هي اللغة نفسها. من هنا تتهاوى كل أخلاقيات الترجمة. لكن تتهاوى كذلك ميتافيزيقا الترجمة وثيولوجيا الاستنساخ. وتنفجر الدائرة وتتفكك، لا لتتحول إلى خط مستقيم هذه المرة، وإنما لتولد دوائر لا تنفك عن التوالد.

مجلة الجابري – العدد العاشر