مجلة حكمة
مأساة الربيع العربي

مأساة الربيع العربي، مرت عشر سنوات: من المخطئ؟ – هاشم سلام / ترجمة: أمير المنصوري


مقدمة المترجم:

تكمن طرافة هذا المقال المقتضب المتمثل في قراءة كشفية تلخيصية توصيفية لكتاب نوح فيلدمان([1])،  في أنه يثمن لنا، نحن المتقبلين ولربما المساهمين إما عن طريق الوجه أو القفا في توليد الربيع العربي وتوفير أسباب وجوده، أهمية دورنا باعتباره شرارة رئيسية في تأجيج هذا المولود “الثورة” وحسب الكاتب فإن مكمن الطرافة في كتاب “الشتاء العربي، مأساة” لصاحبه نوح فيلدمان، في أنه مواجهة لطغيان فكرة “المؤامرة” و”اليد الخفية” في العالم المسيطرة على تفاصيل المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي العالمي، من خلال نموذج الربيع العربي الذي يرى الكاتب فيه أن إرهاصاته وتمظهراته الأولى ونجاحاته وإخفاقاته تعزى مباشرة وبشكل أساسي إلى الفاعلين الرئيسين وهم، تحديدا، هؤلاء الذين انتفضوا ضد القمع والدكتاتورية، وبالتالى يناقض هذا الكتاب الفكرة المتداولة عند مختلف البنى والشرائح في الأوساط الثقافية والاجتماعية على حد سواء، ومفادها أن الربيع العربي “محض سياسات مدروسة مسبقا من قوة أجنبية” إضافة إلى أن أصول الربيع العربي انبنت أساسا على فاعليين خارج الرقعة الجغرافية المدار على بيدائها الصراع.


النص المترجم:

إن كل ثورة تصطحب معها بذور ثورتها المضادة، هكذا دون الراحل غالي شكري([2]) في عام 1978 من خلال الإشارة إلى رئاسة أنور السادات ومخالفته لإرث سلفه جمال عبد الناصر، متجاوزا إياه. فيكشف أن الثورة عينها التي أدت إلى التأميم وإصلاح الأراضي واشتراكية الدولة، حافظت على المصالح ذاتها التي ستقود البلاد، لاحقا، نحو التحرير الاقتصادي وحمتها. ذلك أن حركة الضباط الأحرار([3]) التي أنتجت عبد الناصر هي نفسها التي أنتجت السادات. وبهذا المعنى، يجزم غالى شكري أن كل ثورة بشكل افتراضي هي ثورة مضادة لها. وتبدو هذه المفارقة جلية في كتاب نوح فيلدمان الشتاء العربي: مأساة (The Arab Winter: A Tragedy)، الذي يحوى فحصا عميقا لمعنى “الربيع العربي”([4]) ومساءلة عن الكيفية التي قادت الدعوة الشعبية الواعدة والنبيلة للتغيير في النهاية إلى عودة الاستبداد والاستقطاب الاجتماعي والحرب الأهلية.

يرتكز كتاب الشتاء العربي على أربعة أحداث رئيسية أولها ثورة 25 يناير في مصر وانهيار المؤسسات الديمقراطية في أعقاب انقلاب مدعوم شعبياً، وثانيها تحول الانتفاضة السورية إلى حرب أهلية، وثالثها صعود الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، ورابعها مرونة وهشاشة التجربة الديمقراطية التونسية في مواجهة الصراع الاجتماعي.

الربيع العربي قوة داخلية:

تتمحور فكرة فيلدمان في الكتاب في أن ما يسمى بـ الربيع العربي يمثل “مرحلة جديدة في التجربة السياسية العربية التي من خلالها انخرط المشاركون في عمل جماعي لتقرير المصير لم يتصور في المقام الأول، فيما يتعلق بالسلطة الإمبريالية، لا باعتباره الهدف الرئيسي للحركة الجماعية ولا بصفته محرضا أو داعما لها ” )12(. وبالتالي، فإن الربيع العربي، حتى لو فشل في تحقيق نتائج مرغوبة معياريًا في بلدان المنطقة، لا يمكن ببساطة رفضه باعتباره “سرابًا” أو “بزوغا مزيفًا”. وبدلاً من ذلك، يجب الاعتراف به باعتباره لحظة تاريخية فارقة لها قيمة في حد ذاتها، وتكاتفت فيها مجموعات كبيرة من الناس بشكل جماعي في محاولة لتقرير مصيرهم بشكل مستقل عن المؤثرات الخارجية (10). ووفقًا لذلك، فإن الفضل في نجاحات الربيع العربي وإخفاقاته، كما يؤكد فيلدمان، يجب أن تنسب أولاً وقبل كل شيء إلى أولئك الذين شاركوا فيه لا إلى العناصر الأجنبية والقوى الإمبراطورية (13).

إن منبع طرافة هذا الكتاب تكمن في إصراره على دعم قوة الناس الذين انتفضوا ضد الدكتاتورية في سياق الربيع العربي. وفي ذلك الإطار، تتمايز سردية “الشتاء العربي([5])” بشكل جلي، عن الروايات الأخرى للربيع العربي التي تولي أهمية لدور القوى الأجنبية واللاعبين الخارجيين في تشكيل حقائق السياسة المحلية العربية خلال تلك الفترة. ومن ثمة، يؤكد الكتاب بشكل متكرر أن قوة الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن المحرك الرئيسي لمسار الربيع العربي والمسارات (المظلمة غالبًا) التي أظهرها في جميع أنحاء المنطقة.

وبينما يشيد البعض بقرار إدارة باراك أوباما المحمود، والمتمثل في تبني موقف تصالحي، توفيقي، تجاه المتظاهرين المصريين الذين سيقدون حسني مبارك قسرا إلى السقوط، يرى فيلدمان أن واشنطن لم تكن مربط الفرس في تلك القصة. ويحاجج بأن ما مكّن المصريين من ممارسة السلطة السياسية والانتفاض ضد مبارك ليس تورط الولايات المتحدة بل النقيص من ذلك: عدم تدخلها. علاوة على ذلك يوضح أن الامتداد الإمبراطوري الناتج عن الاحتلال الأمريكي الفاشل للعراق قد ضمن أن واشنطن “لن تتخذ أي خطوات رئيسية لتفعيل أحداث الربيع العربي أو تعزيزها” (45). وبناء عليه، في هذا السياق أحس الناس في مصر وفي جميع أنحاء المنطقة بالجرأة والشجاعة للوقوف وجها لوجه ضد الاستبداد.

وبالتوازى مع ذلك، يشير فيلدمان إلى أن منتقدي أوباما كثيرًا ما يلومونه على ويلات السوريين من خلال عدم التدخل بشكل فعال لصالح الثوار الذين سعوا لإسقاط بشار الأسد. ويشير أيضا إلى أن مثل هذه الانتقادات تتغاضى عن أن السياسة الأمريكية لم تسبب الحرب الأهلية السورية، حتى وإن ساهمت فيها (93).

غالبًا ما يؤكد المحللون أن السياسات الأمريكية في العراق، التي أشعلت فتيل الفوضى والطائفية، هي المسؤولة عن صعود تنظيم الدولة الإسلامية. ويرد فيلدمان على ذلك معتبرا أن العامل الحاسم الذي مكن من صعود الدولة الإسلامية إلى الصدارة هو الحرب الأهلية السورية، التي سمحت لها بالاستيلاء على الأراضي وترسيخ نفسها باعتبارها كيانا هادفا ومشروعا موثوقا يمكن أن يجذب الدعم من جميع أنحاء العالم (106-107) .

مما لا شك فيه أن العديد من المراقبين المتعاطفين سيرحبون بتركيز هذا الكتاب على فاعلية أولئك الذين قادوا الهجوم ضد القادة المستبدين. لكن في سياق بناء قضيته حول ما يميز هذه الموجة من الاحتجاجات، يفصل فيلدمان السياسة المحلية الداخلية عن التحرر الوطني. وقد يشكك العديد من النشطاء المحليين في هذا التحديد النظري على أساس أنهم يرون أن نضالهم ضد الاستبداد محليًا لا ينفصل عن النضال ضد الإمبريالية والنظام الاقتصادي العالمي غير العادل. وسيقلب آخرون فيلدمان بحثا، بسبب كظمه دور القوى الخارجية في كتابه الذي يركز على الفاعلية المحلية فقط. حتى لو لم يشعلوا احتجاجات مناهضة للنظام في عام 2011، كما يؤكد، يمكن القول إن هؤلاء الفاعلين شكّلوا ديناميكيات ونتائج التحولات اللاحقة والصراعات المحلية، وغالبًا ما يرجحون الميزان لصالح أحزاب معينة، سواء في سوريا أو مصر…

فهم النتائج السياسية:

يعرض فيلدمان بتواضع دراسته بصفتها محاولة لفهم المعنى السياسي، أي أنه يسعى إلى شرح ما هو مهم في الأحداث التي هي قيد الدراسة، خلافا لمحاولة علم الاجتماع الذي يسعى إلى الإجابة عن سبب ظهور نتائج محددة، خاصةً فيما يتعلق بنجاح وفشل الربيع العربي عبر الزمكان (20). ومع ذلك، فإنه لا يتردد في تقديم العوامل والأسباب ويتضح ذلك من خلال نقاشه المثير حول سبب نجاح الربيع العربي بشكل نسبي في تونس بينما أدى إلى تجدد الاستبداد والحرب الأهلية في مصر وسوريا على التوالي.

يخبرنا فيلدمان، على الرغم من دور الفاعلين الخارجيين في سوريا (90-92؛ 99)، أن الفظائع التي شهدتها البلاد منذ عام 2011 حدثت أساسًا لأن كل من نظام الأسد والمتظاهرين “رفضوا التسوية لصالح الكفاح القائم على منطق الفائز يمسك بزمام الأمور كاملة، من أجل السيطرة على الدولة “(78). وهكذا، فإن “خطأ الحرب الأهلية السورية”، كما يستنتج المؤلف، “يقع على عاتق السوريين” (97). وبالمثل، يقع اللوم على المصريين في نهاية تجربتهم الديمقراطية المضطربة وظهور الحكم القمعي لعبد الفتاح السيسي. مثلما اختاروا طريق التغيير في عام 2011 ودعوا إلى سقوط مبارك، اختاروا، من خلال ما يزعم فيلدمان أنه تعبير شرعي بنفس القدر عن الإرادة العامة (61؛ 66؛ 75)، قلب العملية الديمقراطية عندما نزلوا إلى الشوارع في 30 يونيو 2013 (62-63). أي أن المصريين “رفضوا الاستبداد. ثم رحبوا بها مرة أخرى”(74).

ومن الناحية الأخرى، تصرف التونسيون “بمسؤولية”. وهنا يكمن العامل الأساسي وراء نجاح البلاد مقارنة ببقية المنطقة. فقد ارتقى التونسيون إلى مستوى المناسبة واعتنقوا التسوية والتوافق في مواجهة الاستقطاب والاغتيالات السياسية والخلافات الأساسية حول كتابة الدستور (130). ورغم فوز حزب النهضة، أكبر حزب إسلامي في تونس، بأغلبية الأصوات وتمتعه بالشرعية الانتخابية إلا أنه أدرك، خلافا لجماعة الإخوان في مصر، أنه مازال يحتاج إلى بناء أرضية مشتركة مع نظرائه العلمانيين (141). علاوة على ذلك، لم يبحث الأبطال السياسيون في تونس عن دعم من القوى الأجنبية اعتبارا بأنهم حلوا خلافاتهم داخليا (130) على عكس الثوار السوريين الذين كانوا يأملون أن يتدخل الغرباء نيابة عنهم للإطاحة بنظام الأسد وبالتالي “تجنب المزيد من المسؤولية المباشرة” (157). كان على الجميع [في تونس] تقديم تنازلات لتجنب الانهيار. وهكذا فعل الجميع “(131).

أسئلة منهجية:

عند تقييم هذا الأسلوب في التفكير، ستجد القارئة نفسها تواقة، متلهفة إلى صوت النشطاء الذين قادوا الهجوم ضد الديكتاتورية في عام 2011؛ هذه الأصوات والتجارب التي لا يخوض فيها الكتاب بشكل مباشر خارج الشعارات الرئيسية التي تصدرت عناوينه باللغة الإنجليزية (1، 16، 22، 85-86، 95). بدلاً من ذلك، يعول الكتاب في الغالب على روايات فرعية باللغة الإنجليزية متأتية من منافذ إخبارية أمريكية ودولية كبرى، بالإضافة إلى الكتب والدراسات التي كتبها باحثون وخبراء في مراكز بحثية في الغرب. كما أنه يتضمن ملاحظات المؤلف نفسه وغالبًا ما يتعمق في الحقائق المضادة.

وعلى نفس القدر من الأهمية، فإن فكرة فيلدمان تضعه في نقاش مباشر مع أولئك الذين يعتقدون أن مجموعة الخيارات التي واجهها الفاعلون المعنيون في هذه البلدان قد شكلتها وقيدتها، بشكل مثير للجدل، العوامل المؤسسية والهيكلية والخارجية التي يحاول الكتاب التقليل من شأنها، وبالتالى التغاضي عن الموروثات التاريخية الخاصة بكل بلد وحالات الطوارئ. هل كان لدى مؤيدي التغيير الديمقراطي الكثير من الخيارات في سوريا بمجرد أن حوّل نظام الأسد احتجاجاتهم السلمية عمداً إلى مواجهة عنيفة أصبحت فيها لغة الضمانات والتسويات والإجماع بالية إلى حد كبير؟ هل يمكن للمرء أن يقول حقًا إن السوريين هم وحدهم المسؤولون عن مصيرهم، إذ تحولت بلادهم بسرعة إلى ساحة حروب بالوكالة وخصومات إقليمية ودولية؟ هل سيطر الإخوان المسلمون أو خصومهم في مصر على الانتقال بمجرد أن تولى الجيش، بدعم أمريكي ثابت، زمام الأمور بعد سقوط مبارك وبدأ فورًا في لعب لعبة فرق تسد مع مستفزيه عبر الطيف السياسي؟ هل اختار المصريون طريق الاستقطاب والجمود أم أنهم ورثوا مجالاً سياسياً لا يفضي إلى التسوية والتوافق؟ ببساطة هل اتخذ المصريون والسوريون بالفعل خيارات سيئة أم أنهم أجبروا على الاختيار بين مجموعة من الخيارات السيئة؟ بالعودة إلى موضوع التدخلات الخارجية، نتساءل: هل نجح التونسيون لأن” إحساسهم بالمسؤولية” جعلهم يتجنبون التدخلات الأجنبية ويتولون مسؤولية مصيرهم بأنفسهم؟ أم أن تونس، على عكس مصر وسوريا، لم تقدم أي رهانات كبيرة لواشنطن أو موسكو، وبالتالي نجت من نفس التدخلات المقيدة التي شهدتها أماكن أخرى في المنطقة؟

يبدو فيلدمان حساسا لهذا النوع من النقد (24) وخير مثال على هذا، أنه يعترف بالبيئة الهيكلية التي جعلت العنف نتيجة محتملة في سوريا، بما في ذلك التكوين الطائفي للطبقة الحاكمة (86؛ 95)، وموقع الأجهزة الأمنية في الائتلاف الحاكم (في الساعة الرابعة, 88( وموروثات التدخل الإمبريالي في الدولة (97). ومع ذلك، فإن هذه العوامل لا تؤتي ثمارها بشكل ملحوظ أو لا تحمل وزنًا تحليليًا كبيرًا في استنتاجات الكتاب التي تشير بشكل لا لبس فيه إلى الإرادة الحرة لمتظاهري الربيع العربي وإرادة القادة الذين سعوا إلى تحديهم (74؛ 97).

وجهة نظر مختلفة:

إن أكبر مساهمة طريفة يقدمها كتاب “الشتاء العربي” هي دعوته الضمنية لإعادة التفكير في الالتزمات المعيارية الموجهة للتأويلات التقليدية المألوفة للربيع العربي. إذ أن فيلدمان ينقض تلك الرؤى التي تعتبر أن العنف في سوريا، والانقلاب العسكري في مصر، وصعود الدولة الإسلاموية، هي انعكاسات للربيع العربي. وبدلا من ذلك، يعرضها باعتبارها جزءا من مسارها الطبيعي. وبالنسبة إليه، فإن هذه الحالات الثلاثة المذكورة آنفا -وإن مثلت النتائج التي تقوض توقعاتنا ورغباتنا المعيارية- تسجل اللحظات المبجلة للربيع العربي، أي أنها محاولة من الناس لينتجوا فعلا سياسيا مستقلا باعتبارهم أعضاء مساهمين في تقرير مصيرهم. ويبدو هذا التصور المقترح أكثر إثارة للقلق في حديث الكاتب عن الدولة الإسلاموية. إذ يقر فيلدمان أن “ظاهرة الدولة الإسلاموية تنتمى إلى مأساة الربيع العربي” وأن منشئيها كانوا يحاولون فعل كل شيء بصفتهم فاعلين في السياسة على شاكلة متظاهري الربيع العربي المسالمين أو أولئك الذين حملوا السلاح ضد الأنظمة القمعية “(122).

يقدم كتاب الشتاء العربي سردًا فريدًا عن الدولة الإسلامية: سردا يتجنب نماذج الأمن القومي ودراسات الإرهاب التي تميل إلى الهيمنة على المناقشات حول تلك الظاهرة التي هي محل نقاش واسع. بدلاً من ذلك، يقدم الكتاب الدولة الإسلامية من منظور فريد: فهي مشروع “إصلاحي ثوري طوباوي” يهدف إلى محاكاة المجتمع المثالي للنبي محمد والخلفاء “الراشدين” الذين خلفوه (112). هذا هو العنصر المثالي الذي يفسر سبب تمتع الدولة الإسلاموية بمثل هذا الجاذبية العالمية. فيؤكد فيلدمان أن الناس من جميع أنحاء العالم قد اندفعوا أفواجا مرتمين في حضنها، لا باعتباره فعل تضحية بالنفس للانضمام إلى الكفاح المسلح. بل فعلوا ذلك بصفته جزءا من رحلة مليئة بالأمل إلى فضاء ملموس حيث يمكنهم المشاركة في بناء ما يسمى بالمجتمع الإسلامي المثالي، وعالم النبي والصحابة والعيش فيه (117-121). إنه نفس “النص الطوباوي”، من خلال تشديده على الإيمان بالعصر الألفي([6])، الذي برر أعمال العنف الفظيعة التي ارتكبتها الدولة الإسلاموية (116): يلاحظ فيلدمان على نحو استفزازي أن العنف يختلف فقط في الدرجة عن تلك التي ارتُكبت في الماضي من قبل مساع قومية أخرى لتقرير المصير (123).

سوف يناقش العديد من العلماء بلا شك فكرة الكتاب القائلة بأن سقوط الدولة الإسلامية، وعزل مرسي، وقمع الإخوان المسلمين العنيف، واعتناق النهضة للفصل بين الدولة والدين، هي أدلة على تقهقر الإسلام السياسي (75؛ 126؛ 156). لكن من المرجح أن تظل رواية الكتاب حجر الأساس لتلك المناقشة.

لا يخفي فيلدمان تعاطفه مع أنصار التغيير في المنطقة والجهات الفاعلة والحركات التي جاء مصطلح “الربيع العربي” لتجسيدهاxxii) ). ومع ذلك، يسعى الكتاب أحيانًا -ربما لأسباب مقنعة- إلى تحدي الرأي الحصيف القائل إن الربيع العربي لم يكن يستحق كل الوفيات والدمار الذي حدث منذ ظهوره (100؛ 126-127). وهكذا، يبرز كتاب الشتاء العربي بصفته نقدا متعاطفا للربيع العربي: نقدا يعترف من خلال الاحترام التام ودون لبس، بالشرعية الأخلاقية لحق المتظاهرين الثوريين في اختيار مصيرهم بغض النظر عن النتيجة، لكنه مع ذلك يجد نفسه غير قادر على رفض وجهة النظر المحافظة المتمثلة في أن مجتمعات المنطقة كانت ستصبح أفضل حالًا دونه. وهكذا يُغادر القارئ الكتاب محملا بتساؤل: هل الوعد بالتغيير التحويلي يستحق في الواقع كل المخاطر التي يبرزها الكتاب؟ من الواضح أن أهل السودان والجزائر ولبنان والعراق وغيرهم كثيرون يعتقدون أن الإجابة “نعم” مدوية.

المصدر


تنويه:

الأرقام والأعداد الموجودة داخل معقفين في المتن هي إحالات على الصفحات أو المحاور التي اقتطفت منها الشواهد.

هوامش المؤلف موضوع أمامها: (الكاتب).


([1])
نوح فيلدمان: ( 20 ماي 1970)
هو باحث وكاتب أمريكي وأستاذ في القانون السياسي في جامعة هارفارد، وله كتابات دورية في مجلة نيويورك تايمز، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفكر الإسلامي من جامعة أكسفورد. ومتخصص في الفقه الإسلامي. يُعد واحدا من الباحثين الأميركيين المثيرين للجدل دوما، فنوح لا يكتفي فقط بكونه أكاديميًا وكاتبا بل يشتبك أيضا مع المجال العام كمثقف عمومي يناقش قضايا متعلقة بالدين، وفلسفة القانون والسياسات الدولية، وتُعتبر الظاهرة الإسلامية وقضايا الديمقراطية في الشرق الأوسط مجال اهتمامه وإسهامه الرئيس.

([2]) غالي شكري غالب ( منوف، المنوفيه، 12 مارس 1935 – باريس، 10 ماي 1998 ): كاتب وباحث و ناقد و مؤرخ مصري كبير اشتهر بأبحاثه وكتبه النقدية الكثيرة. حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون في فرنسا عن موضوع ” النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث ” الذي أشرف عليها المستشرق الفرنسي المشهور جاك بيرك.

([3]) حركة الضباط الأحرار المصريين، هي تنظيم تأسس من بعض ضباط الجيش المصري بقيادة محمد نجيب قاموا في منتصف ليلة 23 يوليو/تموز عام 1952م، حيث نجح الأميرالاي (المقدم) يوسف منصور صديق الذي تحرك متقدماً ساعة على موعد التحرك الأصلي والمحدد من الحركة سلفاً بالاستيلاء على مبنى هيئة أركان الجيش والقبض على من فيه من قيادات ومن ثم أعلن فيه قيام الجيش بحركة لصالح الوطن كتبها جمال حماد وقرأها أنور السادات بالإذاعة المصرية. الجدير بالذكر أن الحركة اختارت اللواء محمد نجيب، نظراً لعامل السن، ليرأسها.

([4])  للاطلاع على بعض المشكلات المرتبطة باستخدام مصطلح “الربيع العربي” لوصف الانتفاضات الشعبية التي حدثت في العالم العربي في عام 2011، راجع التالي:
James Gelvin, The Arab Uprisings: What Everyone Needs to Know (Oxford University Press, 2012), pp. 32-33.

(الكاتب).

([5])  الشتاء العربي: حاولنا تأول هذا العنوان باعتباره عتبة من خلالها يشد القارئ الرحال نحو صحراء الكتاب أو حتى المقال، ومن ثمة في علاقة بالربيع العربي، يبدو أن تسميته تشي لنا بأن نوح فيلدمان سيطرق الأسباب والمقدمات التي أنتجت الربيع العربي، فالشتاء مرحلة سابقة للربيع العربي. وهو ما سيؤكد عليه كاتب هذا المقال.

([6])  mellinnialism الإيمان بالعصر الألفي
في أضيق معنى الإيمان بالعصر الألفي السعيد: يشير إلى الاعتقاد في المجيء الثاني للمسيح وإقامة مملكته على الأرض كما هو متوقع في سفر الرؤيا. وبوجه أعم، فإن هذا المصطلح يشير إلى أي حركة دينية تتنبأ بالتدمير الوشيك للنظام الحالي وبإنشاء نظام جديد.