مجلة حكمة
democracy الديموقراطية نفس ثاني غوشييه

الديمقراطية تبحث عن نَفَسٍ ثان – مارسال غوشييه / ترجمة: وحيد الهنودي


الديموقراطية

   عندما عرض عليّ القائمون على هذه الندوة وكمبحث للتفكير في “الديمقراطية تحتضر” رحّبت بالعنوان، غير أن العبارة في غموضها بدت لي لا تعبّر بصدق عن الشعور الذي ينتابنا جميعا، فالديمقراطية وبالمعنى الدقيق للكلمة ليست مهدّدة بل تعاني من إرهاق. لقد أدركت قواها خواء داخليّا يمنعها من التقدّم وتخيّل المستقبل.

   إن التفكير في الطريقة المناسبة لإثراء الحوار أجبرني على إجراء تعديل على العنوان، إذ يمكن اختزال الأفكار التي سأطرحها في معادلة أن: “الديمقراطية تبحث عن نَفَسٍ ثان”. يبدو لي أن هذه العبارة أشدّ تطابقا مع روح التحليل لأزمة الديمقراطية كما أود طرحها فبحثي ينتظم حول ثلاث أطروحات:

  1. أننا نتعامل مع أزمة تطوّر للديمقراطية ليست الأولى من جنسها بل الثانية.

  2. أن هذه الأزمة تُتَرْجم من خلال النسف الذاتي[1] autodestruction des fondation لأسس الديمقراطية.

  3. أن هذه الأزمة تتطابق مع أزمة تركيبة النظام المختلط الذي هو في عمقه الديمقراطية الليبرالية للمًحْدَثِين.

  إن الديمقراطية تاريخ، تعيّن تاريخي، وهي بذلك التشكّل السياسي للاستقلال الذاتي للمؤسسات الإنسانية-الاجتماعية. بهذا المعنى فإنها تكون شديدة الارتباط بمسار خروج الدين، بمعنى التمزّق العلماني البطيء للبنية غير المتجانسة لفائدة تنظيم مستقل ذاتيا. إن الديمقراطية تجسيد سياسي للاستقلال الذاتي L’autonomie، تُصْلِح الدواليب المُنَظِّمَة للجماعات البشرية على مرّ مسار خروج الدين.

   لقد مرّ مسار خروج الدين وكتجسيد للاستقلال الذاتي بثلاث موجات ومن خلال ثلاثة عوامل للاستقلال الذاتي: السياسة والقانون والتاريخ. فقد مرّ أولا عبر مجيء نوع جديد من السلطة بدل السلطة التوسطية القديمة حيث يحدث الاتصال بين التحتي والفوقي، تبعيّة النظام البشري لأساسه المتعالي. إن هذه السلطة الجديدة تستدعي “الدولة” التي تبدو جدّتها في كونها تعمل دائما كمحرّك للانقسام بين السماء والأرض، ومحايثة الأسباب المترتبة عن تنظيم الجسم السياسي. إنه وفي وجود هذا المكثِّف للاكتفاء الذاتي L’autosuffisance لعالمنا التحتي تقيم جوهر السياسة الحديثة.[2]    

    لقد مرّ مسار خروج الدين ثانيا باقتراح رابط جديد بين البشر، في إطار استنتاج مبدأ جديد للمشروعية داخل الجسم السياسي. نعني التراتب الذي ربط الكائنات على أساس تفاوتهم وعدم تشابههم الطبيعي  الذي يعكس في كل مستويات الجسم السياسي تبعية الطبيعة لمافوق الطبيعة. إن الرابط الجديد يحل محل الحقوق المتساوية والعقد المبرم بينهم على أساس تساويهم الأصلي في الحرية. إن إعادة التعريف هذه لأسس العلاقات بين الكائنات تأتي في إطار تعديل أشمل لأسس القانون عامة. لقد كان منبع القانون هو الله وانزلق نحو الطبيعة، وبأكثر دقة نحو حالة الطبيعة، نحو القانون الذي يكون في الأصل للأفراد وذلك بسبب استقلالهم البدئي. إن مشروعية السلطة السياسية وتنظّم الجسم السياسي كفّت أن تكون مُفَارِقَة. فهي لا تستطيع إلا أن تصدر عن الاتفاق الدائم بين الأفراد الذين يشكّلون الجسم السياسي، والذين يضعون بالتشارك والتعاقد الحقوق التي يتمتع بها كل واحد منهم على حدة. تلك هي الثورة في أصل القانون وطبيعته التي شكّلت القانون الحديث والذي أصبح في جوهره حق الأفراد وعاملا للاستقلال الذاتي.

    لقد مر مسار خروج الدين في النهاية بقلب التوجه الزمني للنشاط الجماعي. فعلى خلاف الخضوع غير المشروط للماضي المُؤَسِّس والتبعية للتقاليد فقد ألقت تاريخانية المحدثين بالإنسانية إلى الأمام لإبداع المستقبل. فسلطة الأصل، منبع النظام الثابت المدعو إلى الحكم بين البشر يحل محلّه الإنشاء الذاتي للعالم البشري على المدى الطويل، في اتجاه المستقبل. ما يمكن أن ندعوه التوجه التاريخي هو العامل الثالث للاستقلال الذاتي الإنساني، إذ من خلاله أصبحت البشرية قادرة على إنتاج ذاتها بعزم في الزمن.

    إن تاريخ الحداثة في عمقه هو تاريخ التعيّن المتتالي والتصريف النامي للعوامل الثلاث للاستقلال الذاتي. إذ لا يتعلق الأمر بالتأكيد وبأي من العوامل الثلاث بانبثاق فوري بل بتعبيرة تتجسّد رويدا رويدا، بتوسّع بطيء يحرك ويهدم شيئا فشيئا الدواليب الجبارة المُشَكَّلَة من البنية اللامتجانسة. إننا نرى المنطق المحايث للدولة يتقدّم على ذلك الذي للمونارشية المقدّسة التي يرتبط بها، أو أن إعادة تعريف القانون للجسم السياسي انطلاقا من الحقوق الفردية تكشف عن أهميتها الديمقراطية. كما أن التوجه التاريخي يتعمّق بالتوجّه أكثر فأكثر نحو المستقبل.

  من الآن فإن هذا الجرد الدينامي لمكوّنات الحداثة تُفهم كتمدية للاستقلال الذاتي تسمح بإبراز ما يجعل الديمقراطية الحديثة تختلف بعمق عن ديمقراطية القدماء. إن ديمقراطية المُحْدَثِين تتعلق بثلاثة عوامل أو أبعاد غريبة عن السلطة المشتركة للمدينة القديمة، إنها تنعطف نحو الدولة، وتقوم على الحق الكوني للأفراد وتقذف نفسها في الإنتاج الذاتي المشترك. ثلاث معطيات أو أبعاد والتي تضيف سلسلة من المشكلات غير المسبوقة لتلك التي عرفها القدماء.

   في ضوء إنشاء العوامل الثلاثة ينبغي تحليل تطور الديمقراطية ومشكلاتها. فهذه المشكلات تعود في مبدئها إلى حكومة الاستقلال الذاتي، أو إن شئنا التحكم في عوامل الاستقلال الذاتي. إذ لا تكون من تلقاء نفسها. فالدولة توفر للمجموعة البشرية وسائل استقلالها الذاتي وأيضا كيفية استعمالها وكيفية التحكم فيها لا أن تتحكم هي فيهم. إن فرد الحق يجسّد الأساس المستقل للمجموعة البشرية، ويجب أيضا أن يتم بناء السلطة المناسبة لهذه الحرية التعاقدية للأفراد ضد قمع القوة المشتركة وانحلالها الذي يمكن أن تسببه. فبين عودة استبداد حرية القدماء والعجز الفوضوي للحريات الخاصة البون ضيّق. إن التاريخ، التوجه التاريخي يجعل من الاستقلال الذاتي أكثر من مجرد قدرة على إعطاء قانونه الخاص، فهي ترفعه إلى مرتبة دستور ذاتي ملموس. هل ينبغي أيضا طلب هذا الإنتاج الذاتي، الأمر الذي كان يمكن أن يؤدّي إلى أقصى درجات التجريد من الملكية. إننا نكون أنفسنا بتجاهل ما نقوم به، أليس ذلك ذروة الاغتراب بأن نكون غرباء عن أنفسنا؟ لكن هذا هو الخطر الذي نذرت له إنسانية شرعت في غزو المستقبل: إنها تجازف بالضياع.

  الآن وفي الممارسة تعود مشكلات ديمقراطية المحدثين في الأساس إلى تسوية، إلى تمفصل أو مزج الديناميات الثلاثة للاستقلال الذاتي السياسي والقانوني والتاريخي. إنها مهمة شائكة من المصاعب لأن هذه الأبعاد الثلاث تحدد كل واحدة منها رؤية مكتفية ذاتيا للوضع المشترك وتميل إلى الاشتغال لحسابها الخاص، بإقصاء الأخريات. لهذا السبب فقد بحثت عودة مشكل النظام المختلط، فهو ينشأ من جهة كونه ليست له علاقة بالمزيج والتوازن بين المونارشية والأرستقراطية والديمقراطية، الإشكالية التي تم تصفيتها في العصر الحديث وكما نعلم باقتحام المنطق التعاقدي وتركيبة الجسم السياسي انطلاقا من حق الأفراد. ومع ذلك فإن الديمقراطية الحديثة وكنظام مختلط حيث تدور الحياة حول إشكالية تصريف المكوّنات. لا شيء أشد مشقّة من الاحتفاظ بها مجتمعة والسير بها معا كضرورات للشكل السياسي، ومقتضيات فرد الحق وضروريات الإنتاج الذاتي المستقبلي. إن التناقض أكثر شيوعا من التجانس. هنا يوجد تناقض نُظُمِنَا ومكمن توترها الدائم.

   من بين هذه العوامل الثلاث للاستقلال الذاتي والأكثر إدهاشا بقوته التدريبية هو الثالث وهو الزائر الأخير: التوجه التاريخي. إنه من جلب التغيرات الأشد سرعة والتي نشعر بها مباشرة، بما أن تغييرها أشد وقعا. يقع التوجه التاريخي بين 1750و1850 من اختراق منظور التطور إلى الاستيلاء على السلطة من خلال نتائج الثورة الصناعية. إذ من خلالها نشأ بُعْدُ نُظُمِنَا التي أصبحت الأكثر ألفة، إنه بعدها الليبرالي.

   من البديهي أنه يمكن تصوّر الديمقراطية على أساس القانون فقط. فمبادئ قانون المحدثين كما سجّلته الولادة كافية لإعطائها تعريفا مكتملا. علاوة على ربيع ثورات القانون الطبيعي لنهاية القرن الثامن عشر، من الولايات المتحدة وفرنسا، تلك التي احتفظت نظمنا برابط جنيالوجي مباشر بها. إن التطور وفي جزء منه مضلل، مع ذلك وبقدر ما تخفي عمل إعادة التأويل للقانون الطبيعي في ضوء التاريخ الذي أشرف على تشكيل النظم التمثيلية كما نعهدها. إن التوجه التاريخي هو الذي منح طابعه الخاص للتنظيم السياسي الليبرالي الذي نمارسه.        

  يستوجب الميل نحو المستقبل إعادة تنظيم شامل لترتيب المجتمع، وهو يحث منذ البدء على اكتشاف المجتمع بصفته مركزا للدينامية المشتركة ومنبعا للتغيّر، إنه يُشَرْعِن إنعتاق المجتمع المدني من ربقة الدولة، وهو يُجْرِي داخل الجماهير قلبا للعلامة في العلاقات بين السلطة والمجتمع. إن تصوّر الإنشاء الذاتي للإنسانية في الزمن ينكشف كحامل لسياسة الحرية، والقاعدة الأولى لهذا ينبغي أن تترك المجتمع حرا بوصفه المحرّك الحقيقي للتاريخ. فالسلطة في هذا الإطار لا يمكن النظر إليها كسبب للمجتمع وكهيئة مسؤولة عن فعلها موجودة عن طريق الأمر إما بكسر نظام متعال أو بعنوان إدارة ضروراتها الداخلية. يتم الاحتفاظ بالسلطة من أجل فعل المجتمع،.لا يمكن إلا أن تفرزه ولا يمكن أن يكون دوره سوى إتمام المهام التي منحته إياها. في كلمة ليس لها من معنى إلا تمثيلها. إن مهمة التمثيل ستؤدّيها بشكل أفضل إذا تم الاعتراف بها  صراحة وتعينها بحرية من قِبَلِ المجموعة.

  أقترح أن نسمّي قلبا ليبراليا الاعتراف بهذه للعلاقات بين السلطة والمجتمع والتي أذنت بولادة الحكومة التمثيلية في معناها الحديث. لا يتعلق الأمر هنا بقرن أفضل جزء من الجسم السياسي بالسلطة مثلما كان الأمر في التمثيلية الوسيطة، بل يتعلق بتغيير السلطة بعبارة المجتمع، بالمعنى الذي تكون فيه هذه الأخيرة موطن الإبداعية الجماعية.

  أريد أيضا أن أدعو بنفس الطريقة فعلا ليبراليا هذا الاعتراف العملي باستقلال المجتمع المدني ومبادرة الفاعلين فيه، أو ومن أجل صياغة تبرز بدقّة خاصيته الثورية، هذا الاعتراف بالأولوية والأسبقية التي للمجتمع المدني على الحكومة السياسية، اعتراف يتضمّن القبول بالجوهر التمثيلي للشرعيّة التاريخية. فوحدها الترجمة العادلة لحاجات المجتمع تجعل الدولة شرعيّة، أيا كان شكلها المؤسساتي.

  بغض النظر عن الأيديولوجيا الليبرالية فإن حقيقة أن أولوية المجتمع هذه تشكّل موضوعيا التمفصل المركزي لمجتمع التاريخ، ونعنى بذلك لا فقط المجتمع الذي يُفْهَم كتاريخي بل أيضا ذلك الذي ينتظم تاريخيّا. إن الأيديولوجيا الليبرالية ليست إلا قراءة من بين قراءات أخرى ممكنة لهذا الحدث وللعواقب السياسية التي تُعْطَى له.

    بعبارة أخرى فإن مجتمعاتنا مسلّحة ببنية ليبرالية، حسب توجهها التاريخي وسعيها للاستقلال الذاتي من خلال تحويل نفسها وإنتاجها. من خلال العلامة الليبرالية دخلت الديمقراطية ببطء في المجتمعات الأوروبية في غضون القرن التاسع عشر. فحسب مسار يمكن اختزاله في توسيع ديمقراطية الحكومة التمثيلية بفضل الاقتراع الكوني، تستوعب الحكومة التمثيلية من حيث المبدأ نسخة النخبة وتحتفظ بترك المصلحة العامة لمداولات الأشخاص الأكثر مسؤولية والأكثر تنويرا. لكن بما أن مقدماته ، فإن النظام الليبرالي وبحسب التاريخ محكوم بالتوسّع نحو ليبرالية ديمقراطية، فكل فاعل يُعْرَف بكونه أفضل حاكم على مصالحه، والتمثيل الذي تم الحكم عليه بكونه الأكثر نجاعة ذلك الذي يكون لأكبر عدد من الفاعلين للتاريخ المشترك، وبالفعل فإن الدَّمَقْرَطَةُ التي لا تقاوم للنظم التمثيلية التي شهدنا انتصارها حوالي 1900.

  في نفس الوقت فإن ظهور الحكومة الليبرالية الديمقراطية ستصحبها أزمة حيث يمكن أن نعرف أول أزمة لتطوّر الديمقراطية، مع السمات المميّزة والتي ترجع إلى حقيقة كونها أزمة تأسيس. إنها تحتضن وترسم نفسها طيلة المدة الزمنية 1880-1914، وتنفجر إبان الحرب العالمية لتتوّج سنوات 1930.

   أزمة تطوّر إذ من جهة تدخل الشرعية الديمقراطية الحقائق بشكل لا يُقْهَر في الوقائع وتفرض حكم الجماهير، ومن جهة أخرى فإن هذا التقدم النظري للاستقلال الذاتي يضمن وبفضل السلطة النابعة من الاقتراع الكوني، وبعيدا من أن يؤدّي إلى حكم ذاتي فعّال وإلى فقدان السيطرة الجماعية. إن النظام البرلماني ينكشف في الآن ذاته مضلل وعاجز، فالمجتمع يعمل من خلال تقسيم العمل وتضاد الطبقات، ويعطي الانطباع بالتمزّق، فالتغيّر التاريخي وفي نفس الوقت الذي يتعمّم ويتسارع ويتضخّم يتفصّى من المراقبة. وهكذا فإنه وفي اللحظة التي لا يكون فيها للأفراد قدرة على تجاهل أنهم يبدعون التاريخ فإنهم لم يكتسبوا حرية الفاعلين إلا ليَرْتموا في الفوضى وضعفهم في مواجهة بعضهم بعضا.

   إزاء هذه الأزمة الجبارة ينبغي فهم الظاهرتين السياسيتين الهائلتين للقرن العشرين، والتي هي إجابة عن هذه الأزمة، هجمة الكليانية وتشكل الديمقراطيات الليبرالية. إن البديل ومن أجل صياغته كخيار نيّر لم يكن كذلك بالتأكيد وهو التالي: إما استعادة السلطة السياسية وإعادة بنائها كقوّة للحكم الذاتي في إطار مجتمع التاريخ بتمفصلاته الليبرالية، أو القطع مع هاته الأخيرة من أجل البحث عن سيطرة المصير المشترك، فالاقتدار الذاتي ما دام غير متلائم مع خمائر عدم النظام والفوضى التي هي حرية المجتمع المدني وحرية الأفراد فيه.

   التاريخ جد معروف لكنه اكتسب معقولية بمجرّد إعادته في هذا المنظور. لقد أمسكت الكليانات بالحبل سنوات 1930 إلى حد الإشارة إلى زمن كان فيه العصر الليبرالي البورجوازي يقترب من نهايته، بالاشمئزاز من يمينه ويساره. بعد ذلك، وفي أواخر 1945 كان على الديمقراطيات الليبرالية أن تتغيّر بطريقة جد عميقة حتى تتجاوز الآلام التي خلّفتها كخطأ عضال كنا نعتقد أنه لا يمكن علاجه. سيكون لنا بذلك وطيلة ثلاثة عقود نموا غير مسبوق، مرحلة لإعادة تشكّل النظم الليبرالية التي تمت دمقرطتها بالاقتراع الكوني والذي سيشكل الديمقراطيات الليبرالية التي نعرفها. مرحلة تعزيز واستقرار انتهت بحمله على التغلّب عل خصومه القدامى الرجعيين والثوريين. في سنة 1974 يبدأ الانتشار مع ثورة القرنفل في البرتغال. إن ما دعاه علماء السياسة بـ”الموجة الثالثة للدمقرطة”[3] ستكون مهلكة للطغاة مما أدى إلى استمرار العواقب للفاشية في جنوب أوربا، قبل أن تفوز أمريكا اللاتينية وأن تتوّج بانهيار ما ندعوه “الأنظمة الاجتماعية الحقيقية”.

    بيد أنه وبالتوازي مع هذا التوسّع العالمي، والذي حدَث تقريبا في نفس التاريخ فإن النظم الديمقراطية الليبرالية المستقرة دخلت في مرحلة تغيّر داخلي هام. تحولات ساهمت في الحركة العامة بما أنها تتلاءم مع اختراق وتعميق إضافي للروح الديمقراطي. تحولات سوف تنطلق في سنوات 1990، عندما تم استهلاك انتصار الديمقراطية على أزمة نمو ثانية تشبه في مبدئها الأولى ولكن مختلفة في تعبيراتها عميقا. إن هذا التشابه والفرق هو ما ينبغي إيضاحه الآن.

   هذا التوضيح يفترض كشرط قبلي أن تكون لنا فكرة واضحة عن نقطة الانطلاق. بمعنى الإصلاحات التي أنتجت استقرار معادلة الديمقراطية الليبرالية المابعد 1945. إن مجموعها يمثّل الجواب المنهجي لأزمة النظم الكليانية. بإعادتها لما هو هام فإنها تمثّل جرعة لقوة الديمقراطية في المجتمع الليبرالي. هذا ما سيتم توضيحه بالتفصيل، بفضل تشابك دقيق للسياسي، وللاجتماعي-التاريخي، وللقانون. إن ما يبدو بمعنى النظام وكمزيج من النظام الليبرالي والنظام الديمقراطي يقوم على تشابك علمي ومعقّد للعناصر الثلاثة لحداثة الاستقلال الذاتي. لأجل ذلك علينا أن نتحدّث عن خلاصة الليبرالية الديمقراطية مثل نظامنا المختلط.

   هذه الإصلاحات توزّعت وفقا لثلاث اتجاهات أساسية، وسأكتفي بذكر الإلهام العام من أجل الوصول إلى الرهانات.

  1. بداية كانت تتألف من الإصلاحات السياسية المتجهة إلى الإجابة عن الضعف البرلماني والتمثيليّة السيئة ومن خلال إعادة تقييم دور السلطة المنتخبة خاصة في النظام التمثيلي، فهو أفضل من يحمل هذه الوظيفة الإلغازية التي هي التمثيل.

  2. لقد مرّت بعد ذلك بسلسلة من الإصلاحات الإدارية والتي أسست إلى جانب جهاز الخدمات العمومية جهازا للتنظيم والتنبؤ موجّه إلى معالجة التجريب الأهوج ونزع سلاح فوضى السوق التي كانت عماد الدول الليبرالية. هذه التي سيكون بمستطاعها الإبقاء على الوسائل القوية لمعرفة المجتمع وتنظيم الوجود المشترك وقيادة مسار تحوّلاته.

  3. إنها تتألف أخيرا وهذه خاصيته المعروفة جدا، من الإصلاحات الاجتماعية التي يمكن أن نلخّصها تحت عنوان بناء دول الرعاية. يمكن لهذه أن تقوم على أساسين: فالدولة الاجتماعية ليست فقط أداة لحماية الاستقلال الحقيقي للأفراد ضد الأخطار التي تهّددهم (المرض، البطالة، الشيخوخة، العوز…) بل هي أيضا أداة دخول المجتمع ضمن جماعة والتحكم في نظامها من وجهة نظر العدالة.

    إن النتيجة الإيجابية لهذه التحولات نحو تزاوج الضبابية التاريخية والقوة المتجددة وحق الأفراد الذي تحدده، في سُمْكِه المحسوس. فالحرية الليبرالية محترمة بل تضخّمت أيضا من جهة الوسائل المتاحة وأُثْقِلَت من جهة الحريات الشخصية أو حرية الإبداع والإنشاء الذاتي للمجتمعات المدنية. غير أنها وفي هذه المرة محرومة من عبارة وسياسة أساسية لتجسّد الحكم الذاتي للجماعة التاريخية بهذه الطريقة في قوّتها الإبداعية حيث ترتفع الحرية الليبرالية حقا إلى حرية ديمقراطية فمن الليبرالية الديمقراطية نمر إلى الليبرالية الديمقراطية في امتلاء معناها.

  الحقيقة أن الإصلاحات الكبرى أنْجِزَت في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لقد بدت جد ناجعة على الأقل من أجل جني انسجام الشعوب. لقد نزعت رويدا رويدا الإكراهات والاعتراضات التي ظهرت في زمن ما في ذروة اضطرابات 1930 يجب أن تنشر الأنظمة الليبرالية الحداثة من قِبَل ما بدا أنه ضعف لا يقبل العلاج. لقد كوّنت الديمقراطية حشدا أعمق من أجل مواصلة المسيرة، منذ أواسط 1970 وسط أزمة اقتصادية حادة. الأزمة التي أعقبت انهيار 1929 والتي أدّت إلى تفاقم الرفض الثوري، ثم الأزمة التي أعقبت صدمة النفط سنة 1973 والتي تميّزت بالتخلّي عن الآمال الثورية وصدق الوعود الكليانية.

   الأزمة (أو ما ندعوه بهذا الاسم لغياب لفظ أفضل) لا يمكن أن تكون دون عواقب. مع ذلك وبما أنه ينتهي إلى أن يُتَرْجَم في الحقل السياسي، وبشكل غير منتظم كما كان هذا الاندفاع العام نحو الديمقراطية. بما أنه من نجاحها ذاته يكون اهتزازها الداخلي. إن توازي التأليف بين البعد الديمقراطي والبعد الليبرالي الذي تم اكتسابه في بداية 1970 سوف ينكسر بفضل هيمنة مستجدة للبعد الليبرالي.

  هذه الولادة الجديدة لليبرالية العملية والأيديولوجية وبعد مرحلة طويلة من الخسوف هي السمة الأشد وضوحا لانقلاب المشهد الجماعي في المرحلة الأخيرة. بيد أن دلالة الظاهرة إذا ما عدنا إلى جذورها هي على خلاف ذلك غائرة. فالذي ينبغي أن نتحدّث عنه لنعرف كل أبعاده هو الإحياء الجديد لمسار الخروج عن الدين. إن النتائج التي اكتسبها في خصوص بلورة الاستقلال الذاتي. لقد خلقت شروط خطوة إضافية وسمحت بمرحلة جديدة للتوسّع والذي تُرْجِم بتطوّرات جديدة للعوامل الثلاث للاستقلال الذاتي. ثمة في الواقع تعميق تناوبي للسياسي وللقانون والتاريخ، غير أن تحوّلات الدولة-الأمة تساهم قبل كل شيء وفي الوقت الحالي في إبراز انسحابها من صلاحياتها السابقة. بيد أن تعميق التوجه التاريخي قد بدا أفضل بالانغلاق في الحاضر وفي النهاية أخذ الحاضر الدائم لنهاية التاريخ والذي بموجب النِّسَب على الرغم من الشعور الشائع لتسريع التاريخ على النحو الذي يكون فيه عنصر القانون والذي يمثّل منزلة النجم في الترتيب الراهن، إنه يمنح لونه السياسي للهجوم الليبرالي بالتشديد على ممارسة حقوق الفرد على الأقل بنفس القدر وأكثر على مَلَكَات المبادرة للمجتمع المدني.

  إن التعبيرة الأشد وضوحا لتحوّل الاتجاه مقارنة بالمرحلة الكبرى للتنظم بعد الحرب كانت في الواقع إحياء مسار الفردنة. فمن جهة تتحدد في استمرارية مع المرحلة السابقة، بقدر ما ورثت العمل الضخم لإنشاء الفرد المحسوس بقيادة الدولة الاجتماعية حيث تنضاف إلى نتائجه. لكن ولإحداث لمسة تؤدي إلى مكان آخر بإعطاء مكانها للفرد المجرّد انطلاقا من الفرد المحسوس. أن نكرّس الحركة في هذا الخط، حتى أنه يوجد تاريخ لإعطاء سند رمزي لهذا الانجاز تتويجا لجلالة فرد الحق وحقوق الإنسان في غضون 1980. سوف تبقي سنة 1989 مثل التشديد الساحر للخاصيّة غير المُتَجَاوَزَة لمكتسبات الثورة البورجوازية. بعد قرنين وفي ضوء انهيار التجاوز المفترض، هذا لا يعني طبيعيا أنه لم يحدث ما هو دال خلال هذين القرنين ولا أن كائن الحق هذا العائد للمسرح العمومي هو عينه مواطن 1789. إن هذا سيستغرق الكثير. فمشكلتنا هي بالتحديد أن نفهم كيف غيّر الطريق المقطوع من شروط اشتغال الديمقراطية إلى حد أنه جعل من سندها الطبيعي منبع مشكلاتها.

   في نفس الوقت فإن القيمة التاريخية للظاهرة لا يمكن المبالغة فيها، فبفضل عودة فرد الحق أصبحت الديمقراطية بصدق ما لم تكنه مطلقا. خارج المحاولة الافتتاحية وموجز الثورة الفرنسية هي ديمقراطية حقوق الإنسان. لقد ادعت أنها بعيدة وبالطبع عملت على الحفاظ عليها سلبيا وكضمانة شخصية في المجال القضائي. ولكن إذا كان ثمة شيئ واحد مفهوم منذ انبثاق سلطة التاريخ في القرن التاسع عشر فهو تجريدهم من عصر لآخر، ليمثّلوا مبادئ جليلة غير أنها معطّلة. كان من المقبول أن يسترشد الفعل السياسي بالمعرفة الملموسة للمجتمع وديناميّته إن كان يرد أن يكون ناجعا. فقد قدّمت الحقوق الشخصية في شكل حقوق اجتماعية داخل دولة الرعاية التوضيح الأشد إقناعا. إنه ومقارنة بخسوف قرنين من الزمن ينبغي التدقيق في نطاق الانعطاف الذي سنكون شهودا عليه. فالديمقراطية تعود إلى مدرسة هذه الأسس لتزويدها بترجمة إيجابية، لقد أصبحت إعادة التملّك هذه ممكنة بالتغيّر في هيئة حقوق الإنسان والتي تشكّلت بطيئا في مسار تاريخ تحتي وأصبحت تمثل علامة تاريخية في مسار التاريخ الطويل للقانون الطبيعي. لقد سار كل شيء وكأن وهم حالة الطبيعة قد أصبح حقيقة، لكأنه مع الحالة الاجتماعية واحد. لا وجود لعائق بحيث أن الحقوق التي يتمتع بها الإنسان بحكم طبيعته يتم تطبيقها دون أن تواجه عقبة أخرى.

هذا هو منبع العود الإلغازي للديمقراطية كضد لنفسها، كما اقترحت تسميته مما يجعلها تتراجع بنفس القدر الذي تتقدم فيه والذي يفرغها من جوهرها بدل تعميقها، لأن الآثار السياسية لهذا الاتفاق القضائي المتجدد للديمقراطية هاته. إن مفهوم دولة القانون قد اكتسب في هذا الظرف رونقا تجاوز القبول الآلي حيث كانت محصورة. إنها تتجه إلى الاختلاط بفكرة الديمقراطية ذاتها، والمندمجة مع حماية الحريات الخاصة والحفاظ على المسارات التي تُشْرِف على تعبيرتها العمومية. إن التشديد قد مرّ من سيادة الشعب نحو سيادة الفرد. فالمهم ليس القوة المشتركة بل الحريات الشخصيّة وحقها في التغلّب على الجماعة.حيث يؤدي تعزيز القانون الديمقراطي إلى العجز السياسي للديمقراطية، وفي كلمة كلّما تسود الديمقراطية فإنها تحكم أقل.

    يمكن رؤية هذا التناقض الحميمي في مستويين بالذهاب من السطح نحو العمق. إنه يتمظهر بداية وفي مستوى أول بتغيّر في فهم الديمقراطية حيث نتجه لاختزالها إلى ديمقراطية دنيا. لقد أصبح النموذج الوظيفي الجديد للديمقراطية هو التعايش الاجرائي للحقوق. فالمزيد من الحق لكل واحد يعني سلطة أقل للمجموعة. إن الحماية السياسية كفّت على الحكم، فقد تحوّلت إلى مجتمع سياسي للسوق وفي شكله الإجمالي هو نتاج فعل الأفراد والمجموعات. وفي نهاية مسار تجميع التنظّم الذاتي حيث لا يكون المحكومين هنا إلا من أجل ضمان قواعد اللعبة. من أجل حماية مجموع المصالح والهويات والاعتقادات.

    في الواقع لقد كان ثمة دوما حكومة حتى وإن كانت محدودة ومقيّدة بأقل قدر ممكن من سلطة التوجيه التابعة، وبما أن الأفراد والجماعات لا يكترثون إلا بأنفسهم بمعتقداتهم وهوياتهم ومصالحهم الخاص، من خلال ترك وجهة النظر تامة لموظفي الحكومة، فإننا نشهد أوليغارشية نامية لمجتمعاتنا السياسية، إنها  لا تمنع هيجان المحتجين بعنوان الخصوصية. فهذا الانغلاق عينه هو نقيض السلبية في مواجهة الحاكمين غير أن الخيارات التي تتعلق بمستقبل الجميع كما هي أو في شكلها فيتم تنفيذها في الكواليس، في جماعات صغيرة، وعلى صعيد دولي، باسم الاكراه التقني وخارج المداولات العمومية. هاهنا يتجسّد شعور نزع الملكيّة الذي يميّز ديمقراطية الحقوق، حيث لا تكف الهوة بين النخب والشعوب على الاتساع، وثقة الشعوب في النخب على التآكل، وذلك في المقابل ليس دون إثارة احتجاجات شعبوية عنيفة هنا وهناك.

    لكن في مستوى ثان عن اضطرابات الديمقراطية وهي أكثر عمقا، حيث تأخذ عبارة “الديمقراطية ضد نفسها” معناها المكتمل. ليس من المبالغة القول أننا شهود وفي مستويات عدة على مسار تآكل الأسس الوظيفية للديمقراطية. نستطيع الحديث عن نسف ذاتي ناعم والذي يترك المبدأ سليم لكنه ينزع نجاعته.

   إن الكونية التأسيسية التي تجهد الديمقراطية تميل إلى رفض أي إطار للممارسة، هي بالتعريف محدودة. تحت هذا الضغط فإن الديمقراطية مدعوّة لعدم الاعتراف بنفسها والدخول في الفضاء حيث تشكّل حدود إهانة لكونية المبادئ التي تدّعي أنها قائمة عليها، ولا تُدْرَج في تاريخ من شأنه أن يحيطها بخصوصية ليست أقل قبولا. إنها منقادة إلى عدم قدرتها على تحمّل الشروط التي أنتجتها، اجتثاث يجعلها تعيش في الواقع على ميراث تاريخ دون رفع اكراهات ولا تكترث بدعم المكاسب ونقلها. ويحدث أن تنظر لنفسها كبداهة طبيعية فيما يتعلّق  بالحاضر البشري اللامعقول وبالمستقبل اللامكترث لأنها لا يمكن إلا أن تكون تأبيدا لنفسها. 

    بنفس الطريقة وبتأثيرات مباشرة أكثر فإن الديمقراطية، وهذه مفارقة فائقة، تصبح مضادة للسياسة. إنها تتجه إلى رفض آلة السلطة القادرة على نقل الخيارات المشتركة إلى الواقع، إلى هذا المنبع ينبغي أن نرد ارتجاج الدول ومبدأ سلطتها. بل هي تتعدّى ذلك إلى ما هو أبعد من تراجع امتيازاتها الاقتصادية التي يكون من السهل اختزالها إليها. إن الظاهرة تمس جملة مجالات أنشطتها. الحقيقة أن وظيفة جهاز الحكومة المشترك لم تعد مفهومة، إن فعلها المحكوم باللاشرعية يصطدم بشكل بنيوي بالتعسّف. من هنا يكون الاكتشاف المؤقت للعجز العمومي. غير أن هذا العجز يصنعه المواطنون ومن غير شك يأتي في جزء منه من الخارج،  لكن في جزء مكافئ يجيء صامتا من الداخل.

    وهكذا فإن الأزمة الحالية للديمقراطية تستحق لقب أزمة أسس الديمقراطية أزمة لم يكن مصدرها إلا أسسها في القانون. أسس قانونية ضد تأسيس تاريخي وسياسي: هذا هو الصراع الداخلي الفريد الذي يجعل الاستقلال الذاتي من جديد غير قابل للتحكم. لقد ولّد تعميق الاستقلال الذاتي ديمقراطية حقوق الإنسان والتي تتجه إلى إلغاء أو تحلّل شروطها العملية للممارسة.

   بيد أننا إن نظرنا إليه طيلة المدة التي حدثت فيها الحداثة فإنه يمكن تحليل الأزمة بعبارات أخرى. إنها تبدو نوعيا كما لو كانت مشكل تكوّن بين العناصر الثلاث للمجتمعات الحديثة، بين العوامل الثلاث للاستقلال الذاتي، إنها أزمة نظامنا المختلط. لقد وجد القانون نفسه مدفوعا إلى موقع قيادي وقائد، من خلال استبعاد السياسي وإلقاء الاجتماعي-التاريخي في الظل، السياسي الذي يحتاجه والاجتماعي التاريخي الذي يتفصّى من المراقبة- إن عدم التوازن هذا هو الذي يُتَرْجَم إلى شعور باختزال المشترك بأي ثمن.

   إن النقطة هامة لتخيّل المستقبل وهذا ما يمكن أن يكون مخرجا للأزمة. لا يمكن تجاوزها إلا بإعادة ترتيب التوازن بين العناصر الثلاث والتي ينبغي أن تعمل معا لكي تشتغل ديمقراطية متجانسة. كيف يمكن التفاوض على حلّ وسط مع القيود المتبادلة التي تفترضها، بين منطق فرد الحق والشكل السياسي للدولة- الأمة ( حيث تأخذ سريعا العمق المجازي في المجال الأوربي، بموجب ظهور فيدرالية الدول-الأمم، من أجل الاختفاء) والديناميكا الاجتماعية التاريخية؟ هذا هو المشكل المنتصب قبالتنا.

   ليس ثمة حاجة للبحث عن محرّك هذا التفاوض. لا شيء يوجد خارجا إلا في التناقضات الداخلية، وبالتأكيد ليس في مكان آخر غير التناقضات الشديدة، وبالتأكيد ليس المقصود منه التراجع، التي تنتج عن الوضعية الحالية. إن التصعيد لا يمنع ما تم إعلاءه من البقاء والإلحاح، فإنكار التاريخ لا يمحي الحقيقة، لا يستطيع إطلاقا درء القلق الناجم عن عدم معرفة مكاننا بالضبط وفي أي اتجاه تحملنا الحركة. من الصعب أن نعيش العجز الجماعي، حتى بالنسبة للأفراد الأكثر جبروتا، وخاصة بالنسبة إليهم ربما لكي تنتهي. على مستوى الأفراد فإن مفارقة الحرية دون سلطة لا يمكن إلا أن نشعر بها عاجلا أم آجلا. إنها من طبيعة لا يمكن فهمها إلا بحكومة مشتركة تعطي معنى للاستقلال الفردي.

   يبدو لي أن عددا من المعطيات تبرر التشاؤم في الأمد القريب والتفاؤل في الأمد البعيد، إن سمحتم لي باستعادة معادلة هذا مكان تدقيقها. في الأمد القريب وفي كل الاحتمالات وفي المرحلة التي نحن فيها فإن الأزمة لا يمكن إلا أن تتفاقم. نحن على أعتاب تحلل التوازنات القديمة وزخم العوامل الجديدة. في المقابل وعلى الأمد البعيد ثمة أسباب جيّدة لأن ندرك أن أزمة التطوّر سيتم تجاوزها. بهذا المعنى ليس فقط مثال الماضي ما يساعدنا، بل توجد أيضا علامات عديدة، لإعادة التشكيل الجارية بالفعل، حتى وإن كانت بشكل جنيني.

     يحق لنا أن نقدّر وبشكل معقول أن تكون ديمقراطية 2005 أعلى من تلك التي في 1905، ولا يبدو لي أنه من غير المعقول أن نعتقد أن ديمقراطية 2105 ستكون ديمقراطية مثلى لتلك التي نعرفها. علينا أن نجتهد.

المصدر


الهوامش

[1]  التشديد من الكاتب وقد وردت العبارات en italique .

2 لقد أنرت هذا التغير للمنطق الميتافيزيقي الخاص بمجيء الدولة في مفهومه الجديد في ” الدولة في مرآة منطق الدولة”

L’état au miroir de la raison d’état in Raison et déraison d’état, sous la direction de Yevs Charles Zarka, Pari, Puf. 1994 ; p 193-244.      

3 Samuel Huntington, The Third Wave, Democratization in the Late Twentieth Centry; Norma, University of Oklahoma press, 1991,

الموجة الأولى حسب هانتنغتون من 1918 إلى 1926 والثانية من 1943 إلى 1962 ويمكن أن تقتصر على التغيرات المتعاقبة للنظم بين الحربين الكونيتين.