مجلة حكمة
كتاب البنية فييرابند

المزيد من رسائل بول فييرابند إلى توماس س. كون عن مسودة كتاب البنية – بول هونينجين-هوين / ترجمة: منال محمد خليف


 ملخص

 وُجدت أربع رسائل من قبل بول فييرابند إلى توماس كون من عام 1950 إلى عام 1960 في حوزة كون في أرشيفات المعهد والمجموعات الخاصة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.  يتناول اثنتان منها موضوعات كانت محطة مركزية لخلاف بين المؤلفين أُجج بقراءة فييرابند لمسودة كتاب البنية ، النسخة التمهيدية من كتاب كون بنية الثورات العلمية. وهذه الرسائل المطبوعة هنا، هي على الأرجح تتمة لرسالتين تم نُشرهما سابقا من بول فييرابند إلى توماس س. كون في هذه المجلة “إلسفير المحدودة”2006.)[1])  جميع الحقوق محفوظة.


  1. مقدمة

 كلمة “مزيد” في العنوان “مزيد من الرسائل…”  ترجع إلى رسالتين من بول فييرابند إلى توماس كون تم العثور عليهما بعد وفاة فييرابند في شقته في ميلين في سويسرا، نُشرتا في هذه المجلة منذ ما لا يقل عن عشر سنوات مضت.([1]) رجع فييرابند في هاتين الرسالتين إلى مسودة كتاب كون بنية الثورات العلمية، المخطوطة التي سأشير إليها على أنَّها مسودة كتاب البنية . وأغتنم الفرصة قبل الشروع برسائل جديدة، بتصحيح عبارتين قدمتهما في تلك الورقة السابقة.

 أولاً: أكدتُ على أنَّ “فييرابند نسي بشكل واضح الرسالتين ودعمتُ هذا الزعم بدليل غير مباشر.([2]) هذا خلاف مضلل إلى حد ما، إن لم يكن كاذباً. يكتب فييرابند في سيرته الذاتية ما يلي: [610] امتدت اعتراضاتي حتى إلى الأفكار التي تشبه أفكاري، انتقدتُ على سبيل المثال مخطوطة كتاب كون بنية الثورات العلمية، الذي قرأته حوالي عام 1960 بطريقة نمطية إلى حد ما.([3])

كُتبتْ هذه الأسطر في مطلع التسعينات، لذلك كان فييرابند مدركاً على الأقل لحقيقة أنَّه قد انتقد مسودة كتاب البنية ، وربما تذكر أنَّه قد فعل ذلك على شكل رسائل عدة إلى توماس كون. ثانياً: كان ظني أنَّ الرسالة الأولى كُتبت بين خريف عام 1960وخريف عام 1961، والرسالة الثانية بين ربيع وخريف عام 1961.([4]) وعلى أية حال، وفقاً للدراسات الأرشيفية الأحدث في أرشيفات جامعة هارفارد، أرسل كون في 22 نيسان 1961، “مسودة مخطوطة البنية” لجيمس كونانت مع رسالة تدعو للانتقاد وتقدم مناشدة من أجل مصادقة كونانت للناشر،([5]) وهكذا كان كونانت بالإضافة لفييرابند من بين المتلقين لمسودة كتاب البنية ،([6]) نظراً لأنَّ الهدف إظهار كون، أي لتلقي الانتقاد ومصادقة كونانت على الناشر، ولأنَّ كونانت المنشغل([7]) سيحتاج إلى وقت، فإنَّه من غير المحتمل أنَّ كون أرسل مسودة كتاب البنية لكونانت لاحقاً قياساً لمتلقين آخرين مثل فييرابند. (سيظن المرء في الواقع أنَّ كون أرسل مخطوطه لأول قرائه حالاً بعد إتمامه واختراع ناسخة النسخ. وبهذا خلافاً لما خمَّنه كون في رسالة مؤرخة في 26 أيار 1994 لي، فمسودة كتاب البنية ربما لم يكن منتهياً في خريف أو شتاء عام 1960، بل في نيسان1961)، وبالتالي ربما تلقى فييرابند مسودة كتاب البنية كما تلقاها كونانت في أواخر نيسان عام 1961، مما يدل ضمنياً على أنَّ أقرب تاريخ مرجّح بشكل محتمل لظهور الرسالة الأولى لفييرابند هو أيار 1961.

يكتب فييرابند في نهاية الرسالة الثانية ما يلي: “ربما ينبغي أن أرسل لك رسالة أخرى”.([8]) ومع ذلك لم يتم العثور  على رسائل إضافية إلى كون في شقة فييرابند. وليس هذا مدهشاً حقاً لأنَّ الرسالتين اللتين تمّ العثور عليهما بالفعل هناك يدينان هذا بطلب فييرابند إلى كون ليعيد الرسالة الثانية له.([9]) وسيكون المكان الأكثر ترجيحاً لرسائل إضافية معهد المحفوظات والمجموعات الخاصة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا حيث يوضع ملف كون (مجموعة مخطوطة MC 240). وبالفعل وصف الإطار 21، مجلد (28) أنَّ “فييرابند، بول، 1977- 1988” يحتوي على مراسلات كون مع فييرابند، على الرغم من أنَّ الفترة الفاصلة المذكورة قد تكون مخيبة للآمال في البداية. كانت الرسائل المؤرخة في هذا المجلد كلها مكتوبة بين عامي 1983و1993 (التاريخ الأقدم عام 1977 في وصف المجلد يشير إلى تبادل الرسالة بين سكرتير مدير معهد ETH  زيوريخ، وكون في عام 1977 حول بول فييرابند).

ومع ذلك هناك أربع رسائل إضافية غير مؤرخة من قبل فييرابند. اثنان منها مكتوبة بخط اليد، واحدة تشير إلى تعليقات مغلفة لفييرابند عن كتاب “منطق الكشف” 1958 لهانسون،([10]) ومخطوطة من ورقة لكون “التوتر الأساسي” نُشرت في عام 1959([11]) (التعليقات على كتاب هانسون ليست في المجلد- طلب فييرابند من كون في الرسالة أن يراجعها)، ربما نفترض بالتالي بثقة أنَّ هذه الرسالة كُتبت في عام 1958 أو 1959. وتشير الرسالة الأخرى المكتوبة بخط اليد إلى مخطوطة لورقة عن تجارب الفكر لكون التي ظهرت في طبعة عام 1964.([12])  يشير فييرابند على أية حال إلى نسخة سابقة من هذه الورقة لأنَّه يناقش حصرياً مقطعها الأخير، الذي يقترح فيه كون وفقاً لفييرابند “أنَّ المنهج المعتمد من قبل أولئك الذين يناقشون تجارب الفكر يشبه  المنهج المعتمد من قبل فلاسفة اللغة العادية”(ص1من هذه الرسالة)، هذا المقطع مفقود بالكامل من النسخة المنشورة من الورقة. [611] يحث فييرابند كون على نشر المخطوطة “من أجل منفعة الفيلسوف، سواء في مجلة فلسفية، أو في مجلة ميتافيزيقية، أو في فلسفة العلم”، ([13]) في حين لا يبدو أنَّ كون يظهر تلك النية: “ولكني أعتقد بصرف النظر عن هذا المقطع الأخير الحاسم أنَّ ورقتك رائعة وأنا فضولي مرة أخرى إلى حقيقة أنَّ كل ما عليك أن تفعله بها هو إخفاؤها في خزانة ملفاتك وتقديمها بعض الأحيان إلى أصدقائك”(ص 4-5 من الرسالة). كما تشير ورقة كون (المطبوعة) إلى كتاب البنية مرة واحدة فقط وبطريقة سطحية جداً،([14]) لكن بالنسبة للأوراق الأخرى من مطلع الستينات، أعتقد أنَّه من المحتمل إلى حد بعيد أنَّ فييرابند الجندي يشير إلى الفترة من عام 1960 أو 1961، ولكن هذا يبقى تكهنات. ستكون رسالة فييرابند إذن من الفترة ذاتها. يعاد هنا طباعة كلّ من الرسالتين المدعوتين “الرسالة الثالثة” و”الرسالة الرابعة” في التذييل.

 تشبه الرسالتان الأخريان غير المؤرختين بشكل لافت للنظر الرسائل المنشورة سابقاً فيما يتعلق بمظهرهما المادي عموماً. يُطلق عليهما هنا “الرسالة الأولى” و”الرسالة الثانية”، على التوالي. مكتوبة بشكل واضح بالآلة الكاتبة ذاتها مثل الرسائل السابقة، حيث لها نفس الهوامش الصغيرة على كل الأطراف، وهي أيضاً لا تترك تباعد بين الأسطر. وكلاهما  يشير إلى البرادايمات وكلاهما يشير إلى “المقالة” (الرسالة الأولى، ص4 و 5؛ الرسالة الثانية، ص1و4 و7). وهذه توحي بالطبع بمسودة كتاب البنية أو كتاب البنية ، والتي تكون مؤيدة بشكل قوي بموضوعات تناولتها كلتا الرسالتان. تشير الرسالة الأولى حالاً إلى أفكار كون “عندما نُشرت” (ص 1) وتوحي بأنَّها تشير بالفعل إلى مسودة كتاب البنية . ولا يزال هذا على أية حال بعيداً بالتأكيد، لأنَّ الرسالة الأولى تشير أيضاً إلى “رد” ما من قبل كون، وهو “الرسالة” (ص1). ولا يوجد لسوء الحظ أيُّ أثر لرسالة خاصة بكون لذلك لا نستطيع أن نقرر أيٌ من الأفكار غير المنشورة لكون كانت تدور في ذهن فييرابند. تشير الرسالة الثانية إلى طالبين في صف فييرابند تسلموا الأوراق التي تبدو أنَّها مستوحاة من دراستك؛ أي دراسة كون (ص1وللتوضيح أكثر في ص6 و9). وهذا يوحي بأنَّ الرسالة الثانية كُتبت على الأقل في الوقت ذاته عندما درس كل من فييرابند وكون في جامعة بيركلي، أي قبل عام 1964 (عندما غادر كون إلى برينستون)، وفيما يتعلق بتتابع الرسالتان لا شيء يؤكد أنَّه يمكن أن يكون عن تصميم. تُعلن الرسالة الأولى بشكل ثابت في النهاية “الرسالة التالية” (ص5). ومع ذلك تشير الرسالة الثانية أيضاً في النهاية إلى استمرار التبادل (ص10)،  لا يمكنني أن أجد في أي رسالة أيُّ إشارة إلى الرسالة الأخرى، ولا إلى الرسائل التي تناولت مسودة كتاب البنية بالتفصيل.([15])

ومع ذلك، نظراً إلى أنَّ الرسالتين يطوران موضوعات قد عالجها فييرابند بالفعل في الرسائل المنشورة سابقاً، ولكن باختصار كبير جداً وبالتأكيد ليس بطريقة شفافة تماماً، فمن المرجح جداً أنَّ تكون الرسائل الجديدة استمراراً لتلك الرسائل، لذا ربما نستنتج بشكل راسخ تماماً أنَّ الرسائل كُتبت في وقت ما بين أيار 1961و1964. وربما نقلص باحتمال قوي إلى حد ما هذا الفاصل الزمني وصولاً إلى الفترة الزمنية ما بين أيار 1961 و1962، على افتراض أنَّ الرسائل الجديدة هي في الواقع استمراراً للرسائل القديمة، وأنَّها كانت مكتوبة قبل ظهور كتاب البنية .

إنَّ مضمون الرسالتين السابقتين مثيراً للاهتمام جداً، تمتلك الأولى نظرات ثاقبة جداً على نحو حاسم في الجوانب الأساسية التي يعارضها أيضاً فييرابند بشدة في مشروع كون. حيث تُذكر اتهامات فييرابند في واحدة فقط من الرسائل الأقدم: “ما تكتبه أنت ليس مجرد تاريخ، إنَّه أيديولوجيا مغلفة على أنَّها تاريخ” و”هذه هي طريقة التقديم السحرية وهي أكثر ما أعارضه، حقيقة سحرك لقرائك بدلاً من محاولة إقناعهم”([16])، ويصبح من الواضح في الرسائل الحالية أنَّه ليس إيديولوجيا لا تقبل التفاوض مع ما هو متضمن فقط، بل هو مشكلة أساسية بتدوين التاريخ كله؛ أي الانتقائية في الحكم التاريخي، فلا يمكن أن تغطي دراسة تدوين التاريخ جميع جوانب موضوعها المختار لكنها قد تصدر أحكاماً على ما هو محدد. وهكذا، يظل أيّ سرد تاريخي مقدم بالضرورة بعيداً عن القرارات المتعلقة بالقيم، وبالتالي “الحقائق التاريخية” ليست بلا قيمة، بل ممزوجة دائماً مع تلك القيم التي أدت إلى [612] اختيارها كونها تستحق أن تروى، ومع ذلك حتى لو أنَّ هذا مسلم به من حيث المبدأ، ربما لا يزال يعترض المرء في العديد من الحالات على أنَّ عنصر القيمة الضروري في التمثيلات التاريخية غير مؤذٍ. ما الذي من المحتمل أن يكون خاطئاً بإعادة سرد الموت الشديد لقيصر في تاريخ الإمبراطورية الرومانية، أو إضافةً إلى ملاحظة حول مناقشة دور آينشتاين في تاريخ ميكانيك الكم؟. على أية حال، يؤكد فييرابند على أنَّ الأساس التقييمي لتدوين التأريخ عند كون هو بأيّ حال من الأحوال غير مؤذٍ وتافه. على العكس من ذلك، فيما يتعلق بهذا الموضوع يكتب ما يلي:

أنا أعتبر الموضوع الذي نناقشه واحداً من أهم الموضوعات، ليس فقط بالنسبة للفلسفة، ولكن بصفة عامة تماماً. ربما لن توافق، ولكني أحكم بالأهمية على الموضوع من تأثير حل محدد له قد يكون بعيداً عن رفاهية البشرية. (الرسالة الأولى، ص 1)

  لذلك هناك الكثير من وجه نظر فييرابند على المحك، وهذا هو السبب في أنَّه يصر على الاستمرار في المناقشة.

  الموضوع الثاني المثير جداً للاهتمام في الرسالتين هو فهم فييرابند المعقد لموقف المُكذّب، والسبب في رأيه هو أنَّ انتقاد كون له قائم على أساس ضعيف.  ليست القضية وفقاً لفييرابند أنَّ وجهة رؤية كون للتطور العلمي تتناقض مع موقف التكذيبي، على العكس من ذلك.

 وصف التطور العلمي الذي تقدمه أنت لا يتعارض فقط مع فكرة إمكانية التكذيب، بل إنَّ هذا التطور مطلوب أيضاً بفكرة إمكانية التكذيب.(الرسالة الثانية، ص10) وهذه بالتأكيد خطوة معقدة من جانب فييرابند. ومع ذلك، كما تحكم شهرة هذه المقالة، يمكن للمرء أن يتساءل عما إذا كان هناك توتر ما بين هذه الخطوة و بين عداء فييرابند لتقديم كون لتطور العلمي في الرسالة الأولى. عند النظر في هذه المسألة، ينبغي للمرء أن يضع في اعتباره أنَّ نمط النقد المفضل عند فييرابند هو النقد الجوهري،([17]) وبالتالي فإنَّ رفض فييرابند لنقد كون لموقف التكذيبي لا يعني بالضرورة أن يؤيد فييرابند هذا الموقف.  يريد فييرابند في هذه الحالة أن يشير فقط  إلى أنَّ فهم كون لموقف التكذيبي ناقص، ويترتب على ذلك نقده له أيضاً.

 تم تصحيح الأخطاء المطبعية الواضحة في الرسائل، وكل ما في الأقواس المتعرجة هو إضافاتي؛ خصوصا الإشارة إلى فواصل الصفحات {njn +1}.

أود أن أشير في الختام إلى أيّ مدى قد تتحول السخرية إلى واقع، حتى لو استغرق ذلك عدة عقود. وفي نهاية الرسالة الأولى إلى كون، يضيف فييرابند بخط اليد: “من بول إلى سام.  أسمع أنّه سيتم تحرير مراسلاتنا بعد وفاتنا. لذا يجب أن نكون حذرين”. كنت على حق، بول!

  1. الرسالة الأولى:

 عزيزي توم،

 إذا لم يكن لديك أيّ وقت فلا تقرأ هذه الرسالة، أريد فقط أن أبدي بعض الملاحظات على ردك،  وينبغي ألا أبقى مقتنعاً حتى أدرك بنفسي أنّني كنت مخطأ أو أن تدرك أنَّك كنت مخطأً أو ندرك أنَّنا متفقان، ويحض هذا الموقف الخاص بي على الحقيقة ذلك أنَّني أعتبر أنَّ الموضوع الذي نناقشه حتى الآن واحداً من أكثر الموضوعات أهميةً، ليس فقط بالنسبة للفلسفة، ولكن بشكل عام إلى حد بعيد، ربما لن توافق لكنني أحكم على أهمية الموضوع من تأثر حلهُ الدقيق ربما على رفاهية البشر.[613] وأنا لا أقصد “برفاهية البشرية” الرفاهية المادية، بل الرفاهية التي تُستمد من بين أشياء أخرى، من تدريب خيال المرء، ومن تطور القدرات البشرية بالكامل ومن السعادة الروحية. والموضوع مهم إذا كان القرار المحدد المتعلق به، أو بحل محدد للمشكلات المرتبطة به يلمح إلى زيادة أو نقصان بتلك الرفاهية. هذا هو ما أعارضه كلياً بأي موقف، يقول: ”أسعى لإيجاد الحقيقة، ربما تأتي جزئياً”. وسوف يكون سؤالي ما الحقيقة؟ ولماذا؟. إنَّ العالم مليءٌ اليوم بالناس الذين يتعاملون مع كل أنواع المشكلات لمجرد أنَّها تشكل جزءاً من التقاليد التي تتعامل مع هذه المشكلات. لكن التقاليد لا تتطور بأسلوب عقلاني، أنت بذاتك تعترف بهذا، لذا الحقيقة التي تقول: إنَّ بعض المشكلات هو جزءٌ من تقاليد معينة ليست مفروضة علي على الإطلاق. لأنَّ التقليد كله ربما غير ضروري، أو خطر ويجب إيقافه (ليس بالقوة، أوه لا، بل عن طريق رائحة العقل الزكية).  بشكل أكثر تحديداً: لماذا ينبغي علينا مناقشة التتام ونظرية الكم؟، لماذا ينبغي أن نهتم في تاريخ الموضوع؟، إذا لم يكن لهذا الاهتمام أيّ عواقب بالنوع يشير إلى ما يتعلق برفاهية البشرية، فلا طائل منه وينبغي ربما التخلي عنه.

لماذا أقول كل هذا؟، أقول كل هذا لكي أبين لماذا أهتم بالمشكلات التي نناقشها. وأعتقد أنَّ هذه المشكلات مهمة جداً لأنَّ حلها بطريقة أو بأخرى سيكون له تأثيرٌ هائل على الطريقة التي نفكر بها، والطريقة التي نتصرف بها، وبالتالي على رفاهيتنا. هذه القناعة هي المحركُ الذي يجعلني أستمر في المناقشة، والذي  يجعلني أعتقد أنَّ هذا النقاش له قيمة مع أنَّه قد يستغرق وقتاً طويلاً على أية حال، أستمر أيضاً بالمناقشة لأنَّني أعتقد أنَّ بعض أفكارك قد يكون لها تأثير غير موات عندما تُنشر، ولا أعتقد الآن أنَّ هذه القضية صحيحة كونها خطيرة (كما يبدو أنَّك تفكر؛ يبدو أنَّ موقفك بالمناسبة يكون: إذا كان صحيحاً وخطيراً فلا أستطيع إذن أن أفعل أي شيء حياله، أنا مدافع عن الحقيقة وينبغي أن أقول الحقيقة مهما كانت العواقب، ويبدو أنَّ ذلك هو موقفك، وأعتقد أنَّ هذا هو الموقف الخطير جداً لأنَّك لست مدافعاً فقط عن الحقيقة بل أنت أولاً وقبل كل شيء عضواً من أعضاء الإنسانية ولديك التزامات تجاه البشرية؛ وتأتي هذه الالتزامات بالدرجة الأولى، ولهذه الالتزامات صفة اليقين، ولكن مهما كانت الحقائق ربما تكشف- لديها ميزة الفرضيات ويجب أن تُعامل بناء على ذلك بحذرٍ شديد عندما تُقارن مع الالتزامات المحددة التي تمتلكها) ليس لدينا مثل هذه الحالة كما أنَّني أعتقد أنَّك هنا لست مدافعاً عن الحقيقة، بل أنت  ببساطة مخطئاً.

قبل أن أتابع دعني أقول ما يلي: ستعذرني، من فضلك، عندما أطور جميع الأسباب بسبب اهتمامي في الموضوع، أنا لا أفعل هذا لأعضُك بالتزامات العالِم (أو المؤرخ)، بل لكي أوضَّح لك لماذا هذا الموضوع يجعلني أخرج هكذا ولماذا لا أتركك بسلام.

  بالعودة الآن إلى الموضوع الرئيسي، دعني أقول لك شيئاً واحداً فقط – وبعد عمل ذلك علي أن أعود حالاً إلى رسالتك. أنت تقول: إنَّك المؤرخ الذي يصف ما  يحدث، إلا أنَّك لن تصفه على نحو مختلف، لأنَّ ذلك{1j2}  سيعني أنَّه غير صحيح. الشيء المهم الآن بالأوصاف التاريخية هو أنَّها مضللة بشكل غامض، وكثيراً ما تحتوي على العناصر المعيارية والوصفية المختلطة في عملية واحدة، ويتم وضع هذه العملية وهذا الخليط أمام أعيننا على أنَّه “حقيقة” ونحن لا ندرك أنَّنا في استيعاب هذه الحقيقة المزعومة نستوعب في الوقت ذاته التقيد بالمعايير كلها التي نقبلها فقط. اسمح لي أولاً أن آخذ مثالاً بسيطاً جداً وهو ليس بعيداً عن الواقع كما قد يبدو للوهلة الأولى، فكر في المجتمع الذي قد يكون مجتمعاً من المحاربين وعلى رأسهم المجتمعات المتصارعة. [614] افترض أيضاً أنَّ المجموعات مطورة في هذا المجتمع بمزيد من التهذيب، يبدأ العلم (العلم بشكل نظري، بهذا المعنى وليس الهندسة)، وتتطور الفنون، وتتطور أدق قدرات الإنسان كلها، ولكن تتدهور في الوقت ذاته العضلات وأخيراً يتم غزو المجتمع  من قبل حفنة من القساة، ماذا يمكن أن يفعل المؤرخ في هذه الحالة؟. الشيء الواضح هو القول: إنَّ المجتمع انحط شيئاً فشيئاً، أصبح ضعيفاً، وكان في نهاية المطاف يتجه نحو الانهيار{ه}، هذه هي الطريقة التي قد يوصف بها على سبيل المثال انهيار الإمبراطورية الرومانية، وأناقة هيئة هذا الوصف أنَّه وصف واقعي؛ لأنَّه يصف ما حدث فعلاً، انحدار تدريجي بالقوة العسكرية، إلا أنَّه في الوقت نفسه يحدث ما يلي: إنَّه وصف وقائعي، لهذا السبب هو وصف صحيح وليس هناك وصفاً آخر يمكن أن يكون صحيحاً وهذا هو المفترض، ولكن إذا افتُرض أنَّ الوصف الآخر سوف لن يكون صحيحاً، يُفترض أيضاً (بصمت) أنَّ الفضائل العسكرية هي الفضائل الوحيدة التي تستحق الذكر. لذلك يتضمن هذا الوصف الواقعي بشكل واضح، تغليفه، وإخفائه عن النظر، والتقييم هو: إنَّ القوة العسكرية هي المقياس الوحيد المهم للمجتمع، ولكني لست على استعداد لقبول هذا التقييم. أميل على العكس من ذلك إلى تقديم وصف مختلف تماماً عما حدث. أميل إلى القول: إنَّ ما حدث لم يكن انحطاطاً، بل تقدماً رائعاً، تقدم على أي حال، تم إعاقته بشكل متوحش من قبل متطفلين غير متمدنين. أنوه الآن إلى أنَّ هذا الوصف متوافق مع ذلك المُقدم أولاً وهو متوافق لأنَّه يعتمد على تقييم مختلف. ما أريد أن أستنتجه من هذا المثال هو ما يلي: أوصاف تاريخية عدة تحتوي على عنصر معياري. هذا هو العنصر المعياري الذي يأخذ في حسبانه الاختلاف، وحتى أنَّ الأوصاف المتوافقة تكون مقدماً للتقدم ذاته. الآن إذا كان هذا هو الحال فإنَّ المؤرخ مجبر، إذا أراد أن يكون  أميناً، على أن يفعل شيئاً واحداً من اثنين، الأول: عليه استبعاد العنصر المعياري. ومن ثم ففرضيتي هي أنَّه سيكون غير قادر على كتابة التاريخ بما أنَّ العنصر المعياري هو الذي يوجهه في صنع الاختيار المادي الذي يقدمه، الشيء الثاني: أنَّه يستخدم العنصر المعياري. لكنه إذا كان يفعل ذلك، فهو يُفضل إذن استخدام المعايير التي هو نفسه على استعداد للتسليم بها؛ أي المعايير التي تنتمي لمعاييره ونظام القيم الخاص به، والأخلاق التي كان سيدافع عنها كمواطن مسؤول. ما عليك القيام به (يبدو لي أنَّه يكون) ما يلي: أن تستوعب معايير، أنا أثق بها، ستعارضها بشدة عندما تُقدم مع بعضها مجردة، لكنك تستوعبها لأنها جزءاً مما تأخذه بالاعتبار على أنَّه  شيئاً واقعي تماماً. لذلك تحت قناع حقيقة ما تقبله، أنا على ثقة من أنَّك لم تكن راضياً عندما تقدّمت بها في شكلها الحقيقي؛ أي في شكلها المعياري.

 وهذا يقودني حالاً إلى “العلم”. أنت تدخل هنا المرحلة كمؤرخ واقعي؛ كرجل لا يهتم بالتقييمات، بل يهتم في إيجاد بنية لما هو معطى تاريخياً. مثل غاليليو الذي يبصر نزوعه إلى المكان، والذي ينتظر ماذا سيحدث عندما تنظر إلى المادة التاريخية وتكتشف في هذه المادة العلاقات الواقعية التي ينبغي أن تصنفها بعد ذلك. هذه علاقات موجودة، وإن لم يكن مرغوب بها، فعلينا إذن أن نقبل بها على هذا النحو. الشيء المهم الآن هو أنَّه في وصفها أنت لم تنشر طابعها غير المرغوب فيه. أنت عكس الرجل الذي يقول للمجتمع في المثال أعلاه، بأنَّه متدهور، ويفترض دون ذكر{2j3}  أنَّ القيم العسكرية هي القيم الوحيدة المهمة، أو ربما القيم الوحيدة في الوجود. أنت تنظر إلى التاريخ وتعثر على وحدات محددة تشكل تقليداً. أنت تجد علاقات بين الفكر وأدوات البحث والنشر والمصطلحات…الخ، وتركزْ على هذه العلاقات (التي تشتمل على برادايم). أنت تركز عليها وتكشف بهذه الطريقة الوحدة (للالتزام بواحدة وبالبرادايم ذاته) ووحدته هذه هي التي تأخذها بالاعتبار [615] على أنَّها من سمات العلم. هكذا يكمن وصفك “الواقعي” في إظهار هذه الوحدة. لكن الشيء المهم هو أنَّك في هذه الطريقة تتغاضى عن أنَّ هناك جوانب أخرى من الوحدة ربما غير موجودة على الإطلاق. إذا أخذنا في الاعتبار على سبيل المثال، الطريقة التي يُعالج فيها البرادايم، قد نكتشف تغييراً جذرياً من موقف أكثر افتراضية إلى موقف أكثر دوغمائية (إلى حد ما هذا ما حدث بالفعل مع النسبية الخاصة، فللبدء بها أُخذت بالاعتبار على أنَّها فرضية غريبة جداً، وبالتالي مشبوهة، والآن ثبات النسبية هو شرط لا غنى عنه للنظرية العقلانية تماماً كما كانت الصفة السببية قبل حوالي قرن)؛ أي إذا لم يضع المرء البرادايم في اعتبارات المرء الأساسية، بل إذا كان المرء يضع من البداية ذاتها المناهج إلى حد بعيد من أجل تدبير أي برادايم يحتمل أن يكون مستخدم في الأساس من قبل المجتمع فإنَّ التاريخ لن يكون ربما تاريخاً للتطور المستمر، بل تاريخ تغير تدريجي من موقف أكثر افتراضية إلى موقف أكثر دوغمائية أو بالعكس. التركيز الآن على البرادايم والتحقق من دوره في تاريخ موضوع اكتشافك للوحدة التي تتصورها على أنَّها اكتشاف حقيقي. لكن كما هو الحال في المثال الزائف أعلاه قد تحصد في اكتشافك “الواقعي” المزعوم عنصراً واقعياً وعنصراً معيارياً. يكمن العنصر المعياري في الافتراض الصامت أنَّ البرادايم هو المهم وليس الطريقة التي يتمّ التعامل بها (بشكل دوغمائي كأساس راسخ للحقيقة، أو بشكل افتراضي، كافتراضات واعدة يُعمل بها). الآن بالطبع، أنت تحت انطباع أنَّ الدور الأساسي للبرادايم هو اكتشاف واقعي بدلاً من أن يكون نتيجة للاختيار وفقاً للاهتمام. إلا أنَّه ليس كذلك. كيف تقول: إنّك اكتشفت هذا الدور الأساسي؟، من خلال النظر في ظل ظروف مجتمع البحث المؤسس مع مشكلات محددة كما تحددت في مصطلحات البرادايم. ومن دون معرفتها تبدأ بالفعل بإجراء التقييم بنفسك: بأنَّ ما هو جيد هو البحث المسترشد ببرادايم. لا عجب إذن أن يؤدي هذا التقييم بك لاكتشاف الوحدات التي تكتشفها أنت. أنظر إلى ما قبل السقراطية، ليس هناك برادايم يحتفظ بكل طرق التفكير من طاليس إلى ديموقراطيس وأرسطو (ما لم نُركب على نحو زائف واحدة من الرؤية الأخيرة). وليس هناك وحدة إذا كانت الوحدة التي نفهمها ترجع إلى برادايم واحد. لكن إذا كان بالوحدة التي نفهمها طريقة للتعامل مع البرادايمات فأيّ برادايم، إذن يُوجِّد وحدة رائعة هنا: إنَّها وحدة التقليد الذي لا تُقبل فيه الأفكار كحقيقة معصومة، بل تُعتبر غير معصومة، وبالتالي بحاجة إلى تطوير.

 مع الأخذ بالاعتبار كل هذا الآن (آمل والله أن أكون قد أوضحت بنفسي) أصل إلى الاستنتاج بأنَّ اكتشافك ”الواقعي” المزعوم مزيج من عناصر معيارية، (توجه الاهتمام نحو الوحدة بالبرادايم، بدلاً من الوحدة بالمنهج) وعلى عناصر واقعية (كيف يبدو التاريخ إذا تحلل من وجهة نظر الشخص الذي يهتم بالبرادايمات ونفوذها). السؤال الذي لا يزال بحاجة إلى إجابة هو لماذا توجه انتباهك إلى البرادايمات بدلاً من المنهج؟. بالطبع، الوحدة الناتجة عن البرادايم هي الأكثر واقعية، وقد تبدو بالتالي أكثر “صدقاً” من الوحدة الناتجة عن الالتزام بالمنهج نفسه. ولكن هل هو أكثر قيمة؟، لا زال هذا السؤال بلا إجابة ويجب الرد عليه بصراحة كما تجيب عليه أنت بالفعل، دون معرفة، ضمنياً. قد تشير أيضاً إلى أنّنا تابعين للبرادايم -الوحدة -التطور وأنَّ علمنا هو العلم الناتج عن سلسلة من التطورات التي يتوسطها دائماً برادايم. ولكن هذا ليس ضروريا أيضاً. لدي أيضاً حتى الآن بالنسبة لـ {{3j4 إشارة أخرى وأوصاف بديلة أخرى لهذا التطور ممكنة أيضاً، على سبيل المثال أخذاً المنهج بالاعتبار. العلم المعاصر هو نتيجة للتطور نحو الدوغمائية – وهذا وصفٌ هو صحيح واقعياً يشبه ما لديك، إلا أنَّه مبني على قيم ضمنية مختلفة [616] ويبرز أحد الجوانب التي لم تُقدم من قبل وصفك؛ أي التي قد لا تكون كلها جيدة في منزلة العلم.

لتلخيص: أنت تقول: أنَّك تصف الوقائع، وأقول لك: لا تفعل بما أنَّك تقدم تقييمات من الباب الخلفي. وإذا قمتَ بذلك، فمن الأفضل أن تُقدم القيم التي توافق عليها بدلاً من تلك التي لا توافق عليها. وهذا سيكون أيضاً كوصف بديل ينتج من اعتماد نظام قيمة مختلف ملائم بشكل واقعي. كما أنَّه في تقديم هذه القيم المخفية وفي الإشارة إلى أنَّ العلم المعاصر كما نعرفه مؤسس على برادايم في الأساس أنت تدعو الناس إلى البحث عن برادايم والتمسك به، بما أنهم لن يكونوا على خلاف ذلك علميين. أنت تقترح (ضمنياً في مقالك، صراحةً في مناقشة) أنّنا لن نستطيع أيضاً المضي بأسلوبٍ مختلف. هذا صحيح جزئياً فقط، بالطبع نحن لن نتمكن من المضي قدماً بأسلوب مختلف ولازلنا نحصل على النتائج ذاتها في مصطلحات استمرارية التقليد؛ أي الانتقال إلى برادايم. ولكن لازلنا نحصل على شيء، ووُجد مثل هذا الشيء في الواقع (وبالتالي إجراء مختلف يقود إلى نتائج)، كان علم الكونيات الأيونية الذي قدم لنا النظرية الذرية. ماذا تريد أن تفعل أكثر من ذلك؟، وُجدت وحدة برادايم أيضاً قبل فترة طويلة من العلم الحديث الذي تريد أن تصفه عن طريق هذه الوحدة: وُجد عندما سيطرت الفلسفة الأرسطية على كل شيء. كانت هذه وحدة ببرادايم وكانت ضد هذه الوحدة الدوغمائية، وأعتقد أنَّ غاليليو قاتلَ؛ وأنَّ كل أولئك قاتلوا الذين أخذوا بجانب ديموقريطس، في كل من الفيزياء والأخلاق والذين كانوا يسمون “عبيداً للمادة والجسد” من قبل خصومهم. ثالثاً: العلم الحديث ممكن من دون وحدة البرادايم: أنظر إلى التطور في القرن العشرين. أنظر بشكل خاص إلى كل الفرضيات المتنافسة التي أخذت بالاعتبار في وقت ظهور نظرية أينشتاين لأول مرة: النظرية الأولى “للورنتز”، النظرية الثانية للورنتز، نظرية الأثير “بلانك”، ونظرية رايتز والتي استبعدت تدريجياً مع الزمن عندما لم يكن هناك برادايم في مجال الحركة فيما يتعلق بالأجسام المتناظرة.

 أكرر: رجوعك للبرادايمات باعتبارها أساسية للعلم ليس مجرد واقعة، إنَّه يحتوي على عنصر معياري، ثانياً: البرادايمات ليست أساسية فقط لما تسميه العلم؛ أي فلسفة وفيزياء الأرسطيين، ثالثاً: ما تسميه العلم ممكن من دون برادايمات. بالطبع فيما يتعلق بالنقطة الأخيرة ربما تشير إلى أنَّ البحث المتعلق بالنسبية لم يحدث من فراغ: ولكن البحث الذي سبق البرادايم النيوتني لم يحدث من فراغ.

 الآن بالنسبة لرسالتك: البند (1) أنت تقول: إنَّك لا تهتم في توجيه المنهجية، بل في “فكرة أكثر واقعية من الناحية العملية مستخدمة فعلياً بشكلٍ ناجح في العلم الفيزيائي”. بشكل ناجح- وفقاً لأيّ المعيار؟، ربما ينجح الفيزيائيين جيداً في ترسيخ نظرية معينة كتفسير بديل قد يبدو في النهاية مستحيل تماماً. وسيكون هذا ناجحاً وفقاً لمعيار دوغمائي محدد، ولكنه ليس ناجحاً وفقاً للمعيار الذي يضع تشديد على ما هو قابل للخطأ في معرفتا. تقول الحقيقة المخالفة: لم يصل الأيونيون إلى نظرية راسخة قد تقنع بعض الناس الآخرين بأن يقولوا أنَّهم لم ينجحوا حقاً – أي نجحت في تأسيس نظرية نهائية. كل النقدية التي طُرحت ضد ما قبل السقراطية تنشأ في الواقع من هذا الافتراض: قد يؤدي ذلك النجاح إلى إنشاء النظرية الأولى والصادقة. هذه النقدية هي نقدية أفلاطون، بيكون، ديكارت. لم تكن ما قبل السقراطية وفقاً لمعيار الدوغمائيين شيئاً لكنها كانت ناجحة. وتكون وفقاً للمعيار الذي يتقدم ويتغير بدلاً من أن يكن ثابتاً ذات قيمة، فما قبل السقراطية ناجح إلى حد بعيد في استمرارية التطور، والاستبعاد إلخ. النظريات {4j5}. تحتوي مرة أخرى “فكرتك الواقعية عن الممارسة العلمية” على أحكام قيمة مخبأة فيها، [617] ورأيي المخالف لذلك هو جعل أحكام القيمة هذه أوضح تماماً من تقديمها في أغلفة واقعية، وبالتالي وضع المزيد من القيم في أغلفة الحقائق.

 أنا أتفق مع نقطتك (2)- بأنَّه لا ينبغي أن يستخلص المرء من التاريخ استنتاجات تتعلق بصلاحية القواعد المنهجية – لكنك توافق بحد ذاتك على هذه النقطة (راجع مناقشتنا الماضية). وإذا لم تكن كذلك فما هو موقفك؟، كل هذا ينبغي أن يكون واضحاً. يحتوي مقالك على الكثير مما هو مخبأ؛ لأنَّه ضمني. وقد يثير الإعجاب لأسبابٍ مختلفة عن الأسباب التي يعتقد الناس أنَّها تثير الإعجاب.

 ”ولكن بعد ذلك…لا أعرف أيّ مصدر آخر يمكن للمرء أن يأمل من خلاله استخلاص…استنتاجات حول منهج ”صالح” موجه (بندك 3). وأنت تتهمني أنَّني أفعل ما نهيتك عن القيام به؛ أيّ أود أن أشير إلى العواقب المترتبة على الحياة الاجتماعية، الديمقراطية …الخ في حجج شرعية. ليست الحجة بالكامل بهذه البساطة بالطبع الآن، وأبدأ من تقييمٍ محدد. على سبيل المثال، أعتبر تطوير القدرات الخيالية للكائن البشري، وعلى الأعم، من الممكن أن يكون تطوير العديد من القدرات ذو قيمة، وأيّ شيء يعارض هذا التطور(على سبيل المثال الانضمام إلى نظام واحد) هو ذو قيمة أقل. وينبغي بالتالي تشجيع هذا التطور. ويمكن تشجيعه ضمن الديمقراطية، ضمن تقليد افتراضي، ومن ثم يتم تشجيع هذا التقليد. لذلك استمدُ تقييمي للتقليد الافتراضي من تقييمات أخرى بالإضافة إلى المعرفة الواقعية، وليس من المعرفة الواقعية وحدها.

 لا يمكن أن يكون وصفك في (4) صحيحاً للأسباب المبينة أعلاه. يتعامل غاليليو مع العلاقات بين موضوعين محددين بشكل موضوعي– السطح المنحني، الكرة المتدحرجة عليه. وعندما تؤكد على أنَّ هناك وحدة محددة بالتطور فأنت تؤكد على هذه الوحدة فيما يتعلق بأوضاع معينة، فيما يتعلق على سبيل المثال بالبرادايم. لكن يمكنك أن تختار نقطة مختلفة للمرجعية، يمكنك على سبيل المثال أن تختار كم من الألوهية المتأصلة في النظريات العلمية كمعيار خاص بك، وستجد من ثم أنَّ ما تسميه التقليد العلمي يوصف من خلال الاستبعاد التدريجي للسببية الإلهية بغرض شرح أحداث طبيعية (استعادة لفقدان الزخم في الاعتراضات غير المرنة على سبيل المثال). أنت لا تذكر نقطة المرجعية التي تختارها. أنت تعتبر أمراً مفروغاً منه أنَّ الإجراء المنهجي ليس هو نقطة المرجعية التي يتمُّ اختيارها. وهذا هو الحال لأنَّك مفتون بحبل خاص من التطور الذي يبرز لك بتقييماتك الخاصة (وهذا يشبه الأرنب – البطة، في هذه الحالة الأخيرة فقط لا تدخل التقييمات). أنظر إلى التاريخ أنت تقول: هذا هو الخط الحقيقي لتطويره وتقريره كما لو أنك صنعت اكتشاف واقعي. لكن إذا كنت اخترت، وبوعي نقطة مرجعية مختلفة، ولو أنك اخترت على سبيل المثال، اعتبارات منهجية كنقطة لمرجعيتك، لقررت حقائق مختلفة تماماً. وحبل واقعي مختلف من ناحيةٍ أخرى، إذا كانت نقطة مرجعيتك قد سمحت بتدخل كم من الألوهية. وستكون كل هذه الحبال ناجحة فيما يتعلق بأهدافها الخاصة. هذا هو السبب أيضاً في أنَّني لا استطيع النظر في بندك الخامس، هو أنَّه ليس أنا من يريد أن تكون الوقائع مختلفة. إنَّه أنت من يقرر مزج وقائع مع قيم كحقائق ومن يخلق تشويش بالتالي.

 أعتقد أنَّ هذا هو كل ما أريد أن أكتبه اليوم. يجب أن أذهب إلى الفراش الآن. وستتناول رسالتي المقبلة بنودك المتبقية. كن صبوراً معي؛ أي كن صبوراً مع الرسائل التي لديك ومع تلك التي لا تملكها بعد.

 بول

 {بخط اليد} بول. سام. أسمع أنَّ مراسلاتنا سيتم تحريرها بعد وفاتنا. وينبغي لذلك أن نكون حذرين. [618]

3 . الرسالة الثانية:

 عزيزي توم

 أموري لم تُقرّر بعد، ولن تكون مقررة لمدة ستة أسابيع أخرى على الأقل (ما لم تحدث معجزة). هذا يعني أنَّني ما زلتُ محاطاً بضجيج المحيط (نظراً لأنَّني أعطيت اهتماماً لضجيج يبدو أنَّه قد اختفى! أنا لست واضحاً تماماً بشأن ما هي أسباب هذه الظاهرة.) وغير قادر على التفكير تماماً.  لا أستطيع على أية حال أن أبقى لفترة طويلة جداً متكتماً على التعليقات التي أريد أن أقدمها على مقالك. كلما تأخرتُ في انهائها، كلما أصبحتْ أكثر تمرداً وأكثر عنفاً. هناك أيضاً ما يشكل الطابور الكوني الخامس في صفي (يتضمن لحسن الحظ ما يكفي، عضوين فقط) وأفضل شيء لإيقافها هو في اعتقادي بإيقاف مصدرها. هذا هو السبب في أنَّه على الرغم من مأزقي الحالي لا زالت أقرر اجتياح عرين الأسد بثلاثة تعليقات وانتقادين، الأول ليس نقدي كثيراً.  

 (1) العلاقة بين المنهجية والتاريخ:

  تأكيدي الرئيسي هنا: يرجع إلى تاريخ لا يلعب دوراً أياً كان في الحجج المستخدمة من أجل البرهنة والدفاع (أو الهجوم) على مجموعة معينة من القواعد المنهجية. أو للتعبير عنها في عبارات مختلفة: لا يمكن أن يساعدنا التاريخ ولو بجزءٍ ضئيل في المسائل المتعلقة بصحة هذه القواعد المنهجية.

 قبل الاستمرار ينبغي أن أوضح ربما ما لا أنكره. أنا لا أنكر أنَّ التاريخ قد يجعلنا ندرك القواعد المنهجية التي قد لا نفكر بها إلى حد بعيد. ولا أنكر أنَّ التاريخ قادر على أن يُظهر لنا أيٌ من الناس قد يتبنى تلك القواعد ومنْ يمكن اعتباره بناء على ذلك كصديق أو كعدو.  بيدَ أنّني أنكر أنَّ التاريخ يمكن أن يقدم إسهاماً لاعتبارات شرعية، بمعنى أنَّني أنكر أنَّ اكتشاف أصدقاء أو أعداء قد يُحدث أي شيء بشرعية الإجراء المشترك من قبل الأصدقاء، أو المتنازع عليه من قبل الأعداء. إنَّ السبب الأول لماذا أنكر هذا بسيط جداً. يعود لاعتقادي أنَّ شرعية أيّ قاعدة في الإجراء لا تعتمد على الإطلاق على عدد من الأشخاص الذين يتصرفون وفقاً لذلك، ولا على مقدار قوة أو مؤسسات خبيرة تمارس تطبيق هذه القواعد (لا تكف الجريمة عن أن تكون  جريمة عند ممارستها عن طريق السؤال وشرعنتها بالقول: إنَّ النفوس يتم  حفظها بهذه الطريقة). تخيل ما سيحدث لو أنَّ شرعية مطالب معينة (مثل شرعية القواعد الأخلاقية، المبادئ المنهجية، وقواعد المنطق) كانت تعتمد بالفعل على إدخالها في الإجراء، أو على إدراكها في تاريخ. يمكن لأيّ شخص يدافع عن إجراء مختلف أن يجادل إذن من أجل شرعيته لكن بعد أن يكون قد حوّل عدداً كافٍ من الناس، وتعني بما يكفي؛ من أجل جعل مدرسته مؤثرة وقوية أكثر بكثير من مدرسة خصومه. وبهذه الحالة فقط يكون باستطاعته البدء بجمع أتباع لكن عن طريق الخداع. لكن من المعقول افتراض أنَّ الكوبرنيكيون خدعوا، خدعوا وخدعوا حتى كانوا في النهاية أقوياء إلى حد يكفي لأنْ لا يحتاجوا إلى اللجوء إلى الخداع بعد الآن؟، وإذا كان هذا الافتراض غير معقول، ألن يتبع ذلك من ثم أن المناقشات من أجل أو ضد شرعية إجراء معين يجب أن تكون خالية تماماً من أيّ رجوع إلى الحجم الذي قد تكون فيه هذه  الإجراءات، أو الذي قد تكون مدركة من قبل مدرسة ما، أو جماعة أو غيرها؟.

بالمناسبة، من المثير للاهتمام ملاحظة أنَّ فكرة صلة المنهجية الوثيقة بالدراسات التاريخية لها مثيل في بعض الأفكار التي وُجدت ربما عند فيتغنشتاين:{الكلمة المكتوبة باليد مدرجة، ولكنها غير قابلة للقراءة}،القواعد سواء المنهجية أو خلاف ذلك، هي مثل هذه الأشياء يمكن الحصول عليها عن طريق تحليل الإجراءات القائمة أو “أشكال الحياة”، كما يعبّر عما يدور في نفسه أيضاً [بالمناسبة – يجب عليك حقاً قراءة فيتغنشتاين أحياناً لكي تستبعد تماماً من نفوذه]. ما لا أساس له في مثل هذه الممارسة [219] هو “قلعة في الهواء” التي ينبغي التخلي عنها ليس لكي تعوق أساس اللغة الثابت، أو الممارسات التي تُبنى عليها. مع ذلك إذا كانت هذه” القلعة في الهواء” مبنية بما يكفي من البشر، فإنَّ هذا يشكّل أسس كافية لاعتماد القواعد المتضمنة فيها. والانتقال ثانيةً من مرحلة حيث لم تكن “القلعة” معتمدةً من قبل العديد إلى أنَّ قبولها على نطاق عالمي تقريباً لا يمكن أن يحدث من خلال المناقشات، يمكن أن يحدث فقط عن طريق نوع من الخداع يوجد له أسماء مختلفة {1j2} عند فيتغنشتاين. إنَّ وجهة النظر هذه تجعل بالطبع تقديم تفسير عقلاني لتطوير معرفتنا مستحيل تماماً. وبشكل خاص أكثر، تجعل كتابة تاريخ عقلاني في أيّ موضوع يتعلق بتقدم المعرفة أمراً مستحيلاً [بطبيعة الحال، هي لا تستبعد احتمال وجود نوع من التاريخ الهيغلي، حيث تتطور الأفكار بأعجوبة بعيداً عن الأفكار الأخرى، وحيث المناقشات الفردية وبالتالي الجانب العقلاني لهذا الموضوع لا صلة له بالموضوع إلى حد ما]. هذه هي الطريقة التي يمكن أن تقوي التأكيد أيضاً على أنَّ دور البحث التاريخي ربما يؤدي إلى تدهور البحث التاريخي ذاته.

اسمح لي الآن أن أثبت ما قلته بأسلوب أكثر واقعية. أنا أُشرع في محاضراتي عن تاريخ الإبستيمولوجيا (144) عادةً على النحو التالي: أبدأ بتقديم خطوط عريضة للتقليدين اللذين أسميهما التقليد الافتراضي والتقليد الدوغمائي على التوالي. تقف العقيدة في التقليد الدوغمائي في الوسط، والهدف من ذلك هو تطبيق هذه العقيدة على كل مناحي الحياة وللإظهار كيف أنَّها تصور الأمور كما هي. وليست العقيدة أبداً هي السؤال. السؤال هو إما فهم الإنسان الحقيقي لها، أو قدرته بما يكفي لتطبيقها في الأمور العملية. إذا حدثت التغييرات في المذهب تؤدي إما إلى تغير، نسيان، سوء فهم النصوص الأقدم، أو تكون النتيجة لانتصار قبيلة تتعهد بعقيدة مختلفة. إنَّ العقلانية؛ بمعنى مناقشة تطوير أو تحسين العقيدة لا تحدث ولا يمكن أن توجد. ويُعتمد الموقف المختلف تماماً في التقليد الافتراضي فيما يتعلق بالنظريات. ويُدرك أنَّ النظريات، التي تكون نتيجة لاعتبارات بشرية ستكون قابلة للخطأ مثل الكائنات البشرية التي أحدثتها. وبالتالي فإنَّ الشيء الرئيسي هو معرفة حدودها، لتحسينها في حالات تم العثور عليها ناقصة للتوصل بهذه الطريقة إلى فهمٍ أفضل وأفضل للعالم. ومن أجل تسهيل تطوير النظريات يجب أن تُصاغ بهذا الأسلوب، وإن وجدت تلك النقائص يمكن التعرف عليها بسهولة؛ بمعنى ينبغي أن تُصاغ بلغة واضحة تسمح باختبار سهل للنظرية، وهلم جر…وهلم جر. أشير أيضاً إلى أنَّ أول الناس الذين قدموا التقليد الافتراضي وشكوا به كانوا فلاسفة الطبيعة الأيونيين (أتفق في هذا الصدد مع مقالة بوبر”عودة إلى ما قبل السقراطية”– العنوان الرئيسي “الأرسطية والسقراطية”، نُشرت في أعمال عام 1959؛ وأتفق أيضاً مع وجهة نظر مشابهة جداً قد طورها والي ماتسون في مراجعته لمقالة الحكمة الأساسية لكورنفورد وفي مقالاته الأخرى، إلا أنَّه جعل مخترعي المنهج الأيونيين مرتبطين بعلم الكون، وليس مع السمات المنهجية لأقسام العلوم كلها). أي أنَّ هؤلاء الفلاسفة لم يبتكروا النظريات الكونية فقط، بل ابتكروا أيضاً المنهج المناسب من أجل مناقشة مثل هذه النظريات؛ أي أنَّ المنهج المُقدم يطور وباستمرار (عن طريق النقدية) الحدوس الافتراضية. عندما أقول: قدموا هذه المنهجية لا أقصد القول: إنَّهم حددوا بشكل واضح قواعدها. فهذه لم تكن القضية. هم قدموا هذه المنهجية لتُختبر وتتطور ضمنياً عن طريق إبداع التقليد، الذي كان مختلفاً تماماً عن التقاليد السائدة ذلك الحين، حيث لم تشكل العقيدة أساساً للفهم واُفترضت لتظل بمنأى عن ذلك، لكن في حين أنَّها كانت نقطة بداية للنقدية التي اعتبرت{هكذا} لاحقاً كأساس. يبدو لي أنَّها مقدمة لهذا المنهج عوضاً عن النظريات الخاصة [620] المستخدمة وفقاً لهذا المنهج الذي يجب أن يُنظر إليه باعتباره الإسهام الأكثر أساسية لليونانيين. وعندما نقول: نحن مدينون بمعرفتنا لليونانيين، ينبغي أن نفكر بهذه الميزة قبل كل شيء. {2j3}

والآن بعد تقديم هذين التقليدين وبعد مناقشة اللحظات الأولى لكل منهما، أقتفي أثر تطورهما في الأوقات الأكثر حداثةً. وأشير بالأخص إلى ذلك العلم الذي ينتمي إلى التقليد الافتراضي (وستتاح التفصيلات بالإضافة إلى ذلك في وقت لاحق {الإضافة بخط اليد} وللأسف هذه الرسالة هي أطول مما ينبغي، وبالتالي ليس من الممكن تقديم التفصيلات. ولكني قدمتها في فصل). أحاول بهذه الطريقة إظهار أنَّ التقليدين مع مقاربتهما المختلفة جداً فيما يتعلق بكل المشكلات تقريبا لازالا سائدين، وأنَّ السؤال عن أيّ تقليد ينبغي أن ندعمه هو سؤال حقيقي للغاية. وهو أيضاً السؤال الأساسي إلى حد ما للإبستمولوجيا كلها (من ضمنها بالطبع فلسفة العلم).  وللتكرار، إنَّه السؤال أيضاً عن أيّ تقليد ينبغي أن ندعمه أو نصوغه بطريقة توضح جيداً استقلاله عن كلٍ من التقليدين الموجودين: أيّ منهجية ينبغي أن نعتمدها وندافع عنها-منهجية الإثبات في النسق الدوغمائي، أم منهجية تطوير الفرضيات. ولايزال هناك صيغة أخرى للسؤال هي: هل ينبغي أن نختار حقيقة مطلقة ومنهج يؤدي إلى التأسيس النهائي للنسق الحقيقي الأول، أم ينبغي أن نختار حقيقة افتراضية ومنهج يمكننا من اكتشاف عيوب فرضياتنا؟.

 يجب أن نوضح قبل الإجابة عن هذا السؤال حالات المعرفة المطلقة والمعرفة الافتراضية. فلو افترضنا كما هو مفترض من قبل العديد من الفلاسفة، أنَّ الحقيقة المطلقة موجودة في العالم وتُمثل بشكل كاف من خلال المعرفة المطلقة، وإذا كان هذا هو افتراضنا فعلينا إذن أن نأخذ هذا بالاعتبار أثناء التفسير، وينبغي أن نعترف بأنَّ المعرفة المطلقة مطلوبة بما يكفي لوصف جزء من العالم. واستناداً إلى الافتراض ذاته ربما يكون التقليد الافتراضي جانباً بالتالي لتصوير جزء فقط مما هو موجود وغير مكتمل، وإذا كان من المفترض أن يكون التقليد الوحيد الذي يستحق أن يؤخذ بالاعتبار، متحيزاً. أُظهر الآن أنَّ الصفة المؤكدة أو الافتراضية هي الميزة الصورية لنظرياتنا وليست ميزة مادية لجزء من العالم، علاوة على أنَّها ميزة لا يمكن الدفاع عنها بالرجوع إلى أي خصائص في العالم. وبطبيعة الحال، إنَّ اللحظة التي تبنينا بها الإجراء الدوغمائي، هي اللحظة ذاتها التي ينبغي أن نكتشف فيها مجموعة من “الحقائق المطلقة”. ولكن الشيء المهم هو أنَّ هذه “الحقائق” سيتم اكتشافها ولكن بعد أن يقرر المرء البدء بأسلوب دوغمائي. وبالتالي لا يمكن اعتبارها بالرجوع لوجودها الخارجي دافعاً لتبني هذا الإجراء في المقام الأول. أو التعبير عنها بأسلوب أكثر حدسية: فالميزة المؤكدة أو الافتراضية لنسق المعرفة هي ميزات لهذا النسق الذي هو من صنع الإنسان بشكلٍ كامل. وبهذه الحالة يكون القرار الذي سُيتخذ بين المعرفة المطلقة والمعرفة الافتراضية قرار لا يمكن دعمه على الإطلاق بالرجوع إلى خصائص العالم الذي نعيش فيه. وهو القرار الذي ينبغي أن نتخذه قبل أي اكتشاف حقيقي والذي، إذا اُتبع من خلال تحديد استثنائي لنوع المعرفة الواقعية (أو المعرفة) التي ينبغي أن نحصل عليها.  كما سيتحول هذا القرار في وقتٍ لاحق جداً ليؤثر على موقفنا من البشر. ولهذا هو قرار أخلاقي.

 أكرر: ينبغي قبل أي بحث واقعي اتخاذ قرار بشأن المنهج المتّبع. وهذا القرار يجعل البحث الواقعي ممكناً، ولا يمكن أن يكون منبثقاً عن مناقشات واقعية. ولكن كيف ينبغي أن نمضي الآن؟.

الإجراء ليست صعباً للغاية. وتكمن الخطوة الأولى في الإشارة إلى أنَّ المعرفة المطلقة لا يمكن أن يكون لها علاقة في الواقع.  وتكمن الخطوات الأخرى في الإشارة إلى النتائج بالنسبة للإنسان وبالنسبة للمجتمع بتبني إجراء أو آخر. وسوف تشير إلى أنَّ التقليد المطلق إذا كان ناجحاً فيجب ألا ينتج مؤسسات ديمقراطية. [621] وسوف تشير إلى أنَّ التقليد الافتراضي يزداد حريةً وقوة بالخيال وهلم جر. على هذا الأساس القرار المُتخذ (من قبلي) لصالح التقليد الافتراضي [حاشية: كل هذا له عواقب بعيدة المدى: ينبغي على سبيل المثال أن أُظهر في محاضراتي أنَّه بعد اختيار الإجراء الافتراضي سيدافع المرء عن اكتشاف بريخت والدراما اللاأرسطية في مقابل الصيغة الدرامية المعتادة، وبالتالي ليس القرار قراراً ضيقاً ومتخصصاً، بل لا بد أن يؤثر على حياتنا كلها وعلى علاقتنا مع الآخرين وهلم جر. ولكن هذا فقط من خلال الطريقة] قررنا بالتالي لصالح الإجراء الافتراضي {3j4}.

 لاحظ أرجوك الآن أنَّ الاعتبارات التاريخية لم تُدخل على الإطلاق الاعتبارات التي سبقت هذا القرار. بدأتُ بالطبع مع مناقشة التقليدين التي هي مسألة تاريخية. لكني فعلت ذلك فقط لجعلها توضح فعلاً أنَّ القرار الجوهري مطلوب تماماً وليس من أجل أن يُقرر بالفعل بطريقة أو بأخرى. ذلك أنَّ وجود التقليدين يتقدم لنا بمشكلة: أيٌ منهما سنؤيد؟، الأول أم الآخر أم كلاهما، أم ولا واحد؟، وبمناقشة هذه المشكلة الموجودة بهذه التقاليد، لا علاقة لعدد من أتباعها وكل هذه الأمور بالموضوع تماماً. بعد أنَّ نكون قد اتخذنا القرار في هذه اللحظة بالذات علينا بالطبع أن ننظر إلى التاريخ في الحاضر أو الماضي من أجل معرفة من هم أصدقاؤنا ومن هم أعداؤنا. إذا لم يكن هناك أصدقاء فينبغي علينا أن نحاول إقناع الناس بوجهة نظرنا وبهذه الطريقة نُحدث التقليد مثلما أحدثت الأيونية التقليد الافتراضي بطرائق مناقشتها الخاصة، وبعلاقتها الخاصة بين الأستاذ والتلميذ (الأستاذ يشجع التلميذ على انتقاده، ولا يطلب منه الإتباع المطلق كما هو الحال لدى الكهنوت المصريين). وإذا كان هناك أصدقاء فعلينا أن ننضم إليهم. وإذا كان هناك أصدقاء مع ذلك لا يثقون تماماً في طرائقهم ويتباهون راغبين بأنَّ يصبحوا دوغمائيين، علينا إذن أن ننتقدهم بشدة. وعلى أية حال لن يؤثر ما يحدث في التاريخ على الإطلاق في القرار الذي اتخذناه بالفعل. وسيؤثر فقط في سلوكنا على أساس هذا القرار. وبالتالي لا علاقة للمسائل التاريخية بشكل عام بالمسائل المتعلقة بصحة هذا القرار.

 وهذا يقودني إلى نقطة هامة جداً في مقالك. حيث أنَّك تؤكد أكثر من مرة (لا أتذكر بالضبط كلماتك) على أنَّ وجود فرع من المعرفة مثل الفيزياء لا يفترض مسبقاً وجود مجموعة من القواعد. وتقول بشكل أكثر تحديداً: إنَّ استمرارية تطور الفيزياء مضمون بالفعل عن طريق وجود المؤسسات، وتقليد في فهم العضوية في بعض المنظمات، ونشر في بعض المجلات وهلم جر، وهو غير قائم على وجود مجموعة من القواعد المنهجية لجميع المشاركين في التوافق التقليدي. وربما وُضعت هذه النقطة الأخيرة أيضاً عن طريق الإشارة إلى أنَّ استمرارية التطور لا تفترض سلفاً الحفاظ على أيّ قواعد خلال سير التطور. أنا مستعدٌ الآن لتسليم بهذه النقطة (رغم أنَّني أعتقد أنَّه سيكون هناك صعوبات إذا كان المرء يحاول صياغتها في أسلوب أكثر دقةً، ولكن عليّ إهمال ذلك).  ذلك أنَّني مستعد للتسليم على سبيل المثال، أنَّ الشعور بالانتماء لتقليد معين موجود ربما لدى مجموعة من الناس تمتلك معتقدات لا تفعل شيئاً مهما يكن مع معتقدات أولئك الذين أنشئوا التقليد وفقاً لرأي مشترك. أو بالتعبير عنها بكلمات مختلفة، أعتقد أنَّ الحفاظ على المذهب أو المنهج ليس افتراض مسبق ضروري لشعور أناس معينين ينتمون إلى تقليد قوي للغاية. يمكن إعطاء أمثلة مباشرةً، المثال الأول هو المسيحية (التطور من بداية المسيحية إلى القول بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية)، المثال الآخر على ذلك هو الماركسية، ولا يزال هناك مثال آخر هو الفلسفة اليونانية (تُفهم الاستمرارية من الأيونية من أفلاطون إلى أرسطو على الرغم من أنَّ هذا الأخير يشترك منهجياً قليلاُ جداً مع السابق)؛ [622] ديكارت هو أيضاً بما شعره البعض يكون سلف للوجودية وهلم جرا وهلم جرا.  ولكن كل ما يمكننا قوله هنا هو: إنَّ الناس يعتقدون أحياناً أنَّ لديهم شيء مشترك مع بعض أسلافهم عندما لا يكون لديهم أي شيء مشترك على الإطلاق. بطبيعة الحال، حقيقة أنَّ الناس يعتقدون أنَّ لديهم شيء مشترك مع بعض المفكرين السابقين سيتم التعبير عنه في أعمالهم، وسوف يتقاسمون بعض التشابهات السطحية مع هؤلاء السابقون (مثل التشابهات في المصطلحات أو التشابهات في المؤسسات) – لكن حتى هذا ليس ضرورياً كمثال عما تعرضه الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، فحلقة الوصل الوحيدة بين الأشكال الأولى والأخيرة للمسيحية هي حقيقة أنَّها تؤكد كلها على الكتاب المقدس – لكنهم يفسرونه بشكل مختلف، ويعطوه مكانة مختلفة؛ أي أنَّ الفرق لا يمكن أن يكون أكبر. والآن لا أعتقد أنَّ هذا مبدأ سليم لمؤرخ يقدم الأخطاء للناس ويبحث في الأساس لاختيار مادته. وهذا يعني أنَّ عليه ألّا يجعل نتائج الافتراضات الخاطئة عن وحدة واستمرارية معياره من أجل الوحدة أو الاستمرارية. ولتكون أكثر تحديداً: افترض أن بدايات الفيزياء تصبح دوغمائية وأنَّها تطور مذهباً ما يضبط من قبل العديد من الفيزيائيين ليكون أساسياً للبحث والذين هم غير مستعدين للتخلي عنه مهما حدث. تُوجد ميكانيك القرن التاسع عشر مثال على ما أعني (اعتقد من نص مقتبس إلى حد ما من إيرهلتونج دير كرافت). ربما لا يزال يفترض الفيزيائيون بشكل خاطئ أنَّهم ينتمون إلى التقليد ذاته الذي انتمى إليه غاليليو وحتى فاراداي. ولذلك لا يزال من الممكن شرح الدوغمائية الجديدة في المجلات الفيزيائية المعتادة (كما أنَّه ممكناً، لبور وغيره {4j5} شرح دوغمائيتهم على صفحات مجلة فيزيائية) لاحظ أنَّ إمكانية القيام بذلك واستمرارية الممارسة (والنشر، للحصول على راتب كفيزيائي وليس كعالم وجود دوغمائي) تابع لنتيجة الاعتقاد الخاطئ لما فعله بور (أنا أفكر الآن بشكل خاص بجوابه لآينشتاين في مجلة فيزيائية، المجلد 48) وما يفعله باولي (بعض المقاطع في مقالته الكتيب)، وما يفعله هايزنبرغ (إسهامه بنيلز بور وتطور الفيزياء) لا يختلف كثيراً عما  فعله فاراداي، وما فعله آينشتاين وما فعله كل الفيزيائيين السابقين. أنظر الآن إلى ما يحدث عندما يدخل المؤرخ المشهد ويباشر كما تباشر أنت على ما أعتقد، سيلاحظ  أنَّ قواعد بور ليست متطابقة تماماً مع قواعد ”آينشتاين” وأنَّ الأخير يختلف من ناحية أخرى تماماً عن تلك التي يلتزم بها هيلمهولتز وكلفن. سيلاحظ في واقع الأمر أنَّ هناك فرقً كبيراً جداً بين هاذين المفكرين. وسيلاحظ أيضاً أنَّ كلّ من بور وآينشتاين نشر في مرجع فلسفي. (أي أنَّ المسألة ليست أنَّ بور ينشر في مرجع فلسفي وآينشتاين في مرجع  فيزيائي أو الآخر بطريقة عكسية) ذلك أنَّ كليهما يشير في بعض الأحيان إلى نتائج ملاحظة، وأنَّ كليهما مدفوع إلى ذلك كفيزيائي وكمصغي للمؤتمرات الفيزيائية (حيث يسخر الفلاسفة عادةً). إنَّ اكتشافه الأول (اختلاف القواعد) يتضارب على ما يبدو مع اكتشافه الثاني (وحدة التقاليد) ما لم يتم التخلي عن الافتراض أنَّ التقليد يستلزم وجود قواعد ثابتة -وهذه هي الكيفية التي اعتقد انَّك قد تصل من خلالها إلى نتيجتك. إلا أنَّ هذه النتيجة ليست صحيحة بالإضافة إلى أنَّ اكتشافك الثاني غير صحيح. فما هو المعيار الذي ستطبقه عندما تثبت وحدة التقليد؟، إنَّ المعيار الذي تطبقه يتطابق مع معيار الفيزيائيين الذين يعتقدون أنَّ بور وآينشتاين يفعلون الشيء نفسه، وهم مخطئون بذلك. خطأهم الآن له نتائج ممتعة جداً. له نتيجة لخلق استمرارية خارجية وواضحة (مثل استخدام الأدوات ومجلات مستخدمة للنشر، وجماعات مؤسسة). تأخذ هذه الاستمرارية، التي تكون نتيجة لخطأ في الحكم على جانب من الفيزيائيين كمقياس لك. فلا عجب إذن أن تصل إلى هذه الخاتمة المذهلة ذلك أنَّ المرء لا يحتاج لإتباع أيّ قواعد إذا كان يريد أن يكون فيزيائياً. [623] كالفيزيائي الذي يخطأ بالحكم بالطبع على أنَّ المرء لا يحتاج إلى إتباع أيّ قواعد. لكن افرضْ أنَّ الأخطاء تُصحح، وافرض أنَّ الفرق الهائل معروف، ومؤكد بين بور وآينشتاين (ينتمي الأسبق إلى التقليد الدوغمائي وينتمي الأخير إلى التقليد الافتراضي). ومن ثم لن تدخل الاستمرارية بالطبع إلى حيز الوجود بما أنَّ الناس سيرفضون فعلاً ما يفعله بور. – يعيدني كل هذا إلى نقطتي الأولى: أنت تريد أن تعطي التاريخ مكانةً بارزةً باعتبارات منهجية؛ كما تريد في واقع الأمر العثور على منهجية بناءً على اعتبارات تاريخية (تقول: إنَّ التاريخ هو مادة للمنهجية). يأتي التاريخ بالنسبة لك في المقام الأول. لكن نتيجةً هذا الموقف الآن هو أنَّك لم تعد قادراً على تقديم تفسير معقول للتطورات التاريخية. وبدلاً من تحليل الأسباب من أجل الاستمرارية أنت تأخذ الاستمرارية التي تكون كما حاولت إظهارها نتيجة تاريخية لخطأ في الحكم في ذلك الخلق للاستمرارية، كما أنَّها شيء لا يمكن تحليله ولذلك أنتَّ تَحُول دون تقديم تفسير عقلاني لتاريخ العلوم؛ أي أنَّ التفسير الذي يتضمن جميع الدوافع يتضمن أخطاء. وهذا يعني أنَّ تقييمك العالي للتاريخ يؤدي إلى شيء يشبه اللاعقلانية التاريخية، حيث كانت الأشياء تتطور، وكان هذا التطور هو مقياس الحقيقة والوحدة، ولكن لم يكن باستطاعتنا أن نفهم الأسباب التي سببت التطور. وهذا هو تماماً كما عند هيغل: لكل شيء تاريخ والتاريخ فوضى.

افترض مع ذلك أنَّ المنهجية مسيطرة. فذلك يعني أنَّنا نؤكد على إمكانيات مختلفة للإجراء وعلى أهمية الفرق بين هذه الإمكانيات. ومن ثم ينبغي علينا أن نكون قادرين على وضع مقياس جيد لمعرفة التاريخ. ينبغي أن نكون قادرين على رؤية كيف يتم التخلي عن تصورات معينة{5j6}  و(“up” تتصل بكلمة غير قابلة للقراءة) لأنَّها انتهازية إلى حد ما، ولأنَّها قذرة إلى حد ما، وينبغي أن يكون باستطاعتنا أيضاً الحكم على أخطاء أولئك الذين يؤكدون أنَّ هناك خط موصول من غاليليو إلى بور، وينبغي أن نكون قادرين على أن نكتشف عندما  تُبشر اللاهوتية في زخارف فيزيائية وينبغي أن نكون قادرين أيضاً على رفع صوت التحذير عندما تصبح بوادر هذه الانحرافات الأولى واضحة.  ينبغي ألا نكون أكثر إعجاباً بالاستمرارية الموجودة وباختيار العلم الحديث كمثال لمجرد أنَّه قد يتطور بطريقة ما خارج أفكار غاليليو (أو أكثر من ذلك؟)، وينبغي أن نكون قادرين على النقد، وبذلك نقدم سبب العلم لأنَّ مقياسنا ليس جزءاً من كتلة الحقائق التاريخية غير المحددة ذاتها. ما هي مقادير الاختلاف؛ أي أنَّ الاختلاف بينك وبيني هو طبعاً اختلاف بين متلازمين، وبالتالي قيم نسبية وفقاً للجانب الأول، وغامضة وقيم مطلقة من ناحية أخرى وفقاً للآخر. أنا أفضل بحد ذاتي وجهة النظر المطلقة، ليس فقط بسبب حكمها المطلق ولكن نظراً للتوضيح الذي تؤدي إليه في التاريخ والعلم وفي كل مكان آخر. آمل أن أكون قد قدمت بنفسي توضيحاً بشأن هذه النقطة، وإذا كنت قد فعلت ألا توافقني على ذلك؟.

 (2) قابلية التكذيب: وفقاً لهذه النقطة حصلت على ردود أفعال من تلاميذي، كما تعلم ربما تخليت عن استبيان التعبير النصفي. هذا أيضاً نوع من الفحص غير مثير للاهتمام؛ لأنَّ الشيء المهم ليس أن تكون قادراً على تقديم أجوبة عن الأسئلة، الشيء المهم هو أن تكون قادراً على تحديد المشكلات. وبالتالي أطلب من تلاميذي أن يكتبوا عن موضوع باختيارهم الخاص الذي يبدو لهم مهماً وذات صلة بطريقة ما بموضوع التقدم. يبدو أنَّ المقالتين اللتان حصلت عليهما مستوحاة من تعليمك وجعلوها توضح لي جيداً ما هي المسألة حقاً (بالمناسبة كانت المقالات جيدة تماماً، رغم أنَّها لم تكن حاسمة للغاية). ينبغي أن أقسّم مناقشة هذه المسألة إلى ثلاثة أجزاء تعني (أ) العلاقة بين منهج وممارسة فعلية، (ب) تفسير صحيح لما يحدث فعلاً في العلوم، (ج) إمكانية قيام العلم على أساس منهجية قابلية التكذيب.[624]

 فيما يتعلق بالنقطة الأولى التي أوضحتُ بها موقفي بالفعل: لو أنَّه يحدث بالفعل ألا يأخذ العلماء التكذيبات على محمل الجد ولا يقتنعون بفرضيات خاصة، وإذا كانت هذه هي الحالة فعلاً فسأقول إذن: ”الأسوأ بالنسبة للعلماء”، وسيكون هذا الإجراء دلالة لي بأنَّ العلماء قد يصبحوا دوغمائيين وهذا سينهيهم بالنسبة لي. (أنا لا أهتم بالأنساق الدوغمائية، حتى لو كانت هذه الأنساق تُدرّس في أقسام الفيزياء، وحتى لو حصلوا على جائزة نوبل التي ستتطابق من ثم مع هبة الأساقفة، أو شيء ما آخر مكافئ عند الكاثوليكية الرومانية في العصور الوسطى)., بالمناسبة، ينبغي أن يكون واضحاً ما فهمته من الفرضية الخاصة. افتراض كوبرنيكوس لواقعة أنَّ النجوم الثابتة بعيدة جداً ليس فرضية خاصة بما أنَّها تعترف باختبار مستقل. الفرضية الخاصة المتعلقة بالنظريةT هي فرضية لها معيار وحيد لحقيقة ستكون غير صحيحة إذا لم تكن الفرضية صحيحة. هذه الفرضيات هي سمة لأنساق دوغمائية سادت في أسطورة بدائية حيث تكون الأسطورة في الواقع مقياساً للحقيقة. لا يتم العثور عليها بكثرة في العلوم. والمثال الجيد هو الصيغة السابقة من نظرية لورنتز التي تشمل ليس فقط انكماش لورنتز، ولكن أيضاً امتداد الوقت وكل التأثيرات الأخرى التي يمكن توقعها إذا كان الأثير موجوداً. وتكون نظرية لورنتز في هذه الصيغة السابقة في الواقع ليست شيئاً بل فرضية تحافظ على افتراض الأثير من دون إضافة اختبارات جديدة للنظرية. يجب استبعاد فرضيات من هذا النوع (أعتقد أنَّ النظرية الدافعة هي من نوع مماثل). لكن كما أكرر، أنَّها تكون نادرة جداً في العلوم. لكن إذا كان ينبغي أن تحدث فسيكون موقفي كإشارة: سيئ جداً للعلوم. وأود أن أصبح بداية واحداً من أكثر النقاد عنفاً للإجراء العلمي المتدهور بالتالي. وأعتقد أنَّك سوف تنضم أيضاً إلي في انتقادي؛ لأنَّ الحالات التي تناقشها ليست من هذا النوع المتصور هنا على الإطلاق. ومع ذلك لا يمكن أن تؤخذ في الاعتبار على أنَّها اعتراض ضد منهجية القابلية للتكذيب أيضاً. كما أنَّها تنسجم في واقع الأمر تماماً مع هذه المنهجية. وهذا يقودني إلى النقطة الثانية من ثلاث نقاط استُخرجت أعلاه. {6j7}

 كنت تشير في مقالتك أكثر من مرة إلى أنَّ التكذيب تفسيرٌ بسيط جداً وساذج لما يحدث في العلوم. لا أتذكر بالضبط كلماتك، ولكن هذا هو على الأقل فحواها: عندما نقوم بالبحث فيما يحدث للنظريات لا نجد أنَّها تقدم للمرة الأولى، ومن ثم يتم التخلي عنها مباشرة بعد النتيجة الأولى المتناقضة تجريبياً. ويحتفظون بها وقتا طويلاً، ويحاول الناس التكيف مع النتائج التجريبية للنظرية، أو ينتظرون ببساطة، على أمل أنَّه سيتم في وقت ما في المستقبل بطريقة مرضية العثور على إدراج لنتائج مقاومة للتجريب.  ولا يكون التخلي عن النظرية إذا وجدت مشكلة حقيقية ما لم تتوفر النظرية الجديدة التي يمكن أن تسيطر. أنت تستنتج بهذه الحالة، أنَّ فكرة قابلية التكذيب تقدم تفسيراً ساذجاً وسطحياً جداً أيضاً للممارسة العلمية الفعلية. يبدو بالنسبة لهذه الفكرة أنَّك تفترض أيضاً (وسوف ينتج أنَّ هذا هو الافتراض، الذي يكون خاطئ، ويقودك إلى انتقاد نظرية التكذيب) المطالبة بأن يتم التخلي عن النظرية على الفور بعد أول حالة تكذيب يتم العثور عليها. أنت تقول: ليست هذه هي الحالة فقط ، بل إنَّها أيضا مرغوب فيها، ولا ينبغي أن تكون الحالة (البند ج أعلاه): لأنَّه إذا كنا فعلاً نتقدم في هذا الأسلوب فعلينا أن نتخلى عن النظرية حالما تنشأ حالة صعبة، وإذا كنا فعلاً نتخلى عن النظرية حالما تبرز أول حالة تكذيب، فستأتي النظريات وتذهب، ولن يتمكنوا من التدرب عليها بالتفصيل، ولن يحرزوا أبداً ذلك الشكل المهيب الذي نعرفه عن الميكانيك الكلاسيكية، والإلكتروديناميك الكلاسيكية، ولن يطوروها أبداً بتفصيل من شأنه أن يقدم لنا صورة عالمية عن العالم. إنَّ فكرة قابلية التكذيب التي تستنتجها، لا تكون ساذجة بالتالي فحسب، فيما يتعلق بالإجراء الفعلي للعلم، وتتبنى ما سيحدد بحالة العلوم أيضاً. وسيحدد حالة العلوم كحالات التكذيب دائماً على الفور تقريباً، [625] وبما أنَّه ما من نظرية تعيش طويلاً جداً بناءً على ذلك وتكون مطورة بتفصيل كافي. لذا يبدو لي أنَّ هذا هو موقفك. جوابي هو أنَّ حجتك هذه تدين بها أيضاً إلى التفسير الساذج لمنهجية بوبر. التردد في التخلي عن المخطط التصوري، والاحتفاظ به حتى بعد حدوث التكذيبات الحاسمة وكل الحالات الأخرى، التي تشير إليها تتوافق تماماً مع هدف التكذيب وربما تقتضيه أيضاً. والشيء الوحيد الذي لا يتوافق مع النظرية هو استخدام مقصود للفرضيات الخاصة بالمعنى الموضح أعلاه ورفض للقلق في مواجهة الحالات المدحوضة المسلم بها. صحيح أنَّ هذه المطالب متواضعة جداً وتافهة تقريباً إلا أنَّك أحياناً تقول لي في مناقشتنا: إنَّك تجدها تافهة. ومع ذلك يجب عدم تجاهل أنَّها رغم تفاهتها، تُنتهك هذه المطالب بشكل مقصود من قبل جميع أعضاء التقليد الدوغمائي عندما تكون النظرية المعيار الوحيد للحقيقة وتكون العبارات متناقضة، وإذا صدف أنَّها أيضاً تجريبية، تُستبعد تماماً لأنَّها تتناقض مع النظرية المعتمدة. ولكن اسمح لي الآن أن أحلل بقليل من التفصيل الحالات التاريخية التي تقدمها بهدف إظهار تحديدات فكرة قابلية التكذيب، واسمح لي أن أناقش أيضاً بعض النقاط التي أثيرت في مناقشاتنا الشفهية. وأكرر: خلافي هو أنَّ كل اكتشافاتك متوافقة تماماً مع فكرة القابلية للتكذيب وحتى مطلب عدم التخلي عن النظرية مباشرة قد يكون متوافق معها.

 ينبغي أن أمضي بخطوات صغيرة لكي أجعل الأمور واضحة قدر الإمكان. لذلك اسمح لي أن أبدأ بالمثال الأكثر تطرفاً. دعني أفترض أنَّ النظرية T المكتشفة في مشكلة ومُعترف بها من قبل كل شخص، قد دحضت من خلال الوقائع. وكان هذا هو الوضع في الميكانيك الكلاسيكية قبل أن يبدأ بور أبحاثه. أنت تُأكد حتى في هذه الحالة أنَّ T سيتم الاحتفاظ بها ما لم يتم اكتشاف النظرية الجديدة التي تحل محلها. وجوابي هو: (أ) سيتم الاحتفاظ بها حتى بعد أن يتم اكتشاف هذه النظرية الجديدة، و(ب) ليس بالضرورة أن يكون هذا الإجراء متعارضاً مع فكرة القابلية للتكذيب. فيما يتعلق بـ (أ) من الضروري  {7j8}أن أشير فقط إلى أنَّنا لازلنا نستخدم الميكانيك الكلاسيكية مع ذلك لحساب سلوك الكواكب العلوية. لكن (ب) ينسجم هذا الاستخدام تماماً مع قابلية التكذيب؛ لأنَّ هذه الفكرة ليست مرفوضة ذلك أنَّ النظرية الكاذبة قد تكون وسيلة جيدة للتنبؤ، وبالتالي لا يُحظّر استخدامها المستمر على هذا النحو. وهي تؤكد فقط على أنَّ النظرية المرفوضة يجب النظر إليها على أنَّها كاذبة. ما يمنع ذلك بالتالي هو استخلاص نتائج واقعية عن النظرية التي يتم تكذيبها بشكل مسلّم به. وحالما يتم تكذيب النظرية يجب أن نتوقف عن جعلها أساساً لتفسيرنا للعالم. وينبغي وفقاً لهذه النقطة أن نعلق الحكم تماماً حتى نتمكن من فهم ما هي أسباب الإخفاق بالنظرية. وتنتهي النظرية لذلك في المعنى الأول: تنتهي كصورة للعالم. والتي كما قلت آنفا، لا تمنع استخدامها كوسيلة تنبؤيه أو كدليل مساعد في البحث عن نظرية جديدة.

 الحالات التي تناقشها أنت على أية حال ليست حالات يتم فيها تفنيد النظرية على نحو مسلم به. إنَّها حالات يوجد فيها بعض الصعوبات لكن لم يتم الاعتراف بعد أنَّ هذه الصعوبات تصل إلى دحض النظرية. ولا يُستبعد هذا الموقف من خلال فكرة قابلية التكذيب. على العكس من ذلك تماماً: تقتضي فكرة قابلية التكذيب ألا ينطبق النقد فقط على النظريات التي نمتلكها، بل أيضاً على الحالات الكاذبة التي نعتقد أنَّنا نمتلكها. وبالتردد لفترة طويلة فيما يتعلق ببساطة المعاني الأخيرة لم نقتنع بعد أن طابعها التكذيبي قد تم تأسيسه بالتأكيد. إنَّ هذا التردد لفترة طويلة والمحاولات لتقديم الحالات المتوافقة مع النظرية، يصل كل هذا بشكل قوي إلى اختبار الحالات الكاذبة ذاتها بشكل واضح. وإذا أخفقت كل هذه المحاولات، فسيتم تأكيد الحالات الكاذبة بدرجة عالية جداً وبالتالي هناك جدل حاسم جداً ضد النظرية. [626] وبوجود حالة التردد هذه، والمحاولة لإظهار أنَّ ما يبدو أساسي ضد النظرية هو منسجم في واقع الأمر تماماً معها ويجب اعتباره منسجم تماماً أيضاً مع فكرة قابلية التكذيب؛ لأنَّ هذه الفكرة تقول: إنَّ النظرية ينبغي التخلي عنها (أي، ينبغي التخلي عن التفسير الواقعي للنظرية) حالما يتم اكتشاف حالة كاذبة. ولا تقول: إنَّ النظرية ينبغي التخلي عنها حالما ينبثق التناقض الأول مع الحقائق. على العكس من ذلك تماماً، تطالب بأنَّه لا ينبغي الثقة بالحالة الكاذبة أكثر من نظرية تكون مُختبرة، ما لم يتم تعريضها لاختبارات قوية على الأقل كالنظرية ذاتها. وتطالب بعبارات أخرى بأنَّه لا ينبغي قبولها بسهولة أيضاً. ولا ينبغي قبولها قبل أن يتم اختبارها في جميع الطرق الممكنة. واختبار الحالة الكاذبة في جميع الطرق الممكنة هو الاختبار ذاته لكل الاحتمالات لجعلها تنسجم مع النظرية المقترحة. هذا ما يجعل المحاولة لاختبار النظرية قدر الإمكان يتوافق مع فكرة قابلية التكذيب. يبدو أنَّك تفترض أنَّ قبول هذه الفكرة يعني التخلي عن النظرية بأبسط حجة. لكن القيام بذلك سيعني قبول بعض الفرضيات الأخرى الأقل مرتبةً بأبسط حجة؛ بمعنى الحالة المرفوضة. وهذا ما ينبغي علينا ألا نفعله عندما نقرر بقوة اختبار كل عناصر معرفتنا. إنَّ نظرية قابلية التكذيب عند بوبر لا تقدم أيضاً فرضيات خاصة تتعلق بالطريقة التي تُقدم بها حالات كاذبة. يوافق كلانا على أنَّ الحالة الكاذبة يمكن أن تُقدم أحياناً فقط من خلال مقارنة النظرية قيد البحث مع نظرية بديلة، وسأذهب في واقع الأمر (وربما أنت أيضاً) إلى أبعد من ذلك وأقول: هذا ما يحدث دائماً (رغم أنَّ النظرية البديلة لا يتم صياغتها بشكل واضح في كثير من الأحيان، لكنها جزءاً من “معرفتنا الأساسية”). لا تمتلك نظرية قابلية التكذيب عموماً شيء لتفعله بهذه الطرق المحددة{هكذا} لتنتج حالات كاذبة. وتقدم هذه العبارة التافهة، لكن لايزال مهم أنَّه حالما يتم تقديم حالة كاذبة ييتم تجاوز النظرية الكاذبة. لا يمكنني مع الأخذ بالاعتبار كل هذا {8j9} أن أتفق معك عندما تقول: إنَّ تبنّي النظرية القابلة للتكذيب سيعني التخلي عن النظريات بأبسط حجة، لا يتم التخلي عن تلك النظريات بأبسط حجة، ولذلك الدحض ضيق جداً وفقاً للإبستمولوجيا. وينطبق هذا النقد على أي نظرية بعبارات أساسية: لو افترضنا أنَّه يوجد هناك بالتأكيد عبارات ملاحظة معينة، وأنَّ النظرية حولها، فسيكون “عدم الاتفاق مع الوقائع” نهاية النظرية بالفعل. ولكن إذا تخلينا عن فكرة أنَّ عبارات الملاحظة يمكن تأسيسها على وجه اليقين، وإذا اعترفنا بأنَّ أيّ عبارة علمية ليست سوى فرضية، فإنَّنا نحاول في اللحظة ذاتها ربما الإبقاء على النظرية في المحاولة لاختبار العبارة المختبرة ذاتها. إنَّ الشيء الوحيد الذي يجب ألا يحدث بالطبع: يجب ألا يحدث أن نأخذ صحة النظرية كمعيار (وربما هو المعيار الوحيد) لصحة العبارة المختبرة. سيعني هذا قبول الدوغمائية.

  الملاحظة الأخيرة حول ما كتبه أحد طلابك في مقالته. أساسية بالنسبة لنظرية بوبر ذلك أنَّه يجب علينا ألا نحاول إظهار أنَّ النظرية صحيحة. وما يجب علينا فعله بدلاً من ذلك هو اختبارها، وبالتالي بما أنَّ كل اختبار هو محاولة للتكذيب نقول أيضاً: إنَّ ما يجربه العالِم هو تدمير النظريات التي يحتفظ بها. ووفقاً لهذا اعترض تلميذك على أنّه عندما يتعامل الرجل مع النظرية ويريد استخدامها لتقديم تفسير لما يحدث في العالم يجب أولاً وقبل كل شيء أن يؤمن بها. وهو يؤكد أنَّه من المستحيل نفسياً بالنسبة لشخص أن يكون مهتماً بالنظرية ويحاول في الوقت ذاته الإطاحة بها ولهذا السبب لا يمكن إجراء منهجية بوبر. كما أنَّني حصلت أيضاً على حجة في الصف ذاته بالرجوع إلى فقرة في كتابك “الثورة الكوبرنيكية” حيث تقول (وأقتبس): ”يجب أن يعتقد العالِم بنسقه قبل أن يثق به كدليل على أبحاث مثمرة عن المجهول”. هذا صحيح للغاية طبعاً الآن، وتافه تقريباً. [627] سيأخذ العالِم النظرية في الاعتبار فقط إذا كان مهتماً بها (بالمناسبة – هو لا يحتاج على الإطلاق إلى الإيمان بها، وربما يختبر النظرية التي لا يؤمن بها لكي يتحقق من عدم إيمانه ويكتشف تفاجئه أنَّها تعمل). لكنه يعرف في الوقت ذاته أنَّ اهتمامه، وإيمانه ليس كافياً لضمان الحقيقة. ولذلك يجب أن يختار النظرية وسيختبرها على نحو دقيق لأنَّه يؤمن بها ولأنَّه مهتم بها [قد نختبر ربما عفة المرأة التي نريد أن نتزوج بها، ولكن لا ينبغي أن نختبر عفة المرأة التي لسنا مهتمين بها، وفي هذه الحالة الأخيرة إخلاصها ليس مهماً لنا، ولا نستطيع في واقع الأمر التهور]. ماذا يعني ذلك لاختبار النظرية الآن؟. سيدحض الاختبار الذي هو التجريب الوحيد لنتائجها النظرية. ومن ثم يكون الاختبار محاولة للإطاحة بالنظرية. تُعتمد هذه المحاولة بالطبع مع الاعتقاد، والأمل أنَّ النظرية ستبزغ كما يجب. بل من الممكن أن تكون الإطاحة بها على الرغم من ذلك؛ لأنَّه لو لم يكن من الممكن الإطاحة بها لما كان هناك حاجة لإجراء التجريب. بإمكاننا التنبؤ بنتيجتها سلفاً ويمكن أن نختصر سلفاً بنية العالَم كما هو مشاهد من خلال النظرية. لكن بصرف النظر عن وجود تكذيبات ممكنة للاختبارات، إذا كانت ناجحة، بمعنى إذا كانت تؤكد النظرية، لها أيضاً وظيفة أخرى. وهي استكشافات ناجحة للعالم وفقاً لخريطة محددة؛ أي وفقاً لنظرية. ولذلك تشكل صورة معينة للعالم، وستكون هذه الصورة محددة أكثر وتوضح باختبار أكثر حسماً وبثقة أكبر أنَّنا قد نحتفظ بنتائجها الصحيحة؛ أي ستكون هذه الصورة التي نحن بصددها أكثر تحديداً وأكثر انتقاداً لنتائج الاختبار ذاتها. وتؤدي هذه الطريقة بالإيمان بالنظرية إلى محاولات الإطاحة بها و تؤدي طريقة محاولات الإطاحة بالنظرية إلى إنشاء صورة للعالم تصبح أكثر وأكثر تحديداً حتى نرى في النهاية العالَم من وجهة نظر النظرية بأسلوب مشابه تماماً كما اعتقد كانط نرى العالم دائماً من وجهة نظر الإطار النيوتني. {9j10}

أنا لا أعرف فيما إذ كنت قد أوضحت نقاطي، وإذا كنتُ قد نجحتُ في القيام بذلك فعليك أن تدرك أنَّ وصف التطور العلمي الذي تقدمه لا يتعارض فقط مع فكرة قابلية التكذيب، بل إنَّ هذا التطور مطلوب أيضاً من خلال فكرة قابلية التكذيب.

هناك أشياء أخرى مختلفة كنت أود أن أقولها ولكني أترك كل هذا لوقت لاحق. ينبغي أن أرسل هذه الرسالة بواسطة طالب. وفي الوقت الحاضر أنا محجوز في المنزل بقدم متورمة (مصابة بالتهاب)، الأمر الذي قد يستمر بلا ريب على الأقل ثلاثة أيام أخرى. أنا فضولي بقدر ما لديك من ردود فعل.

 عمت بخير!

 بول

 شكر وتقدير

 مرة أخرى، أود أنَّ أشكر غراسيا بورني فييرابند لأنَّ كرمها أجاز بنشر الرسائل. أود أن أشكر بالإضافة إلى ذلك، الهيئة الودودة في أرشيفات المعهد والمجموعات الخاصة من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا على مساعدتهم.

 وأود أن أشكر الدكتور اريك أوبرهايم لتحسين لغتي الإنجليزية.

 التذييل الأول.  الرسالة الثالثة:

 عزيزي توم

تنطوي تعليقاتي على كتاب هانسون “منطق الكشف”. التعليقات الوحيدة إلى حد ما عن المقاطع المتعلقة بهذا الكتاب ـ هي بالأساس عن المقال الذي [628] نشره في مجلة من أجل الفلسفة وعن مقال مشابه جداً قرأه في شيكاغو. أرجوك ارجع إلى تعليقاتي حالما تقرأها- فهي النسخة الوحيدة التي أمتلكها. هل تسمح لي عذراً بالحصول على نسخة من البند الذي تشير به إلى الحاشية الثالثة من مقالك الخاص عن ”التوتر الأساسي”؟

 فيما يتعلق بهذا المقال الأخير، لدي ملاحظة واحدة وسؤال واحد.

 ملاحظتي: في الصفحة 6 أنت تستنكر غياب مجموعة من القراءات في العلوم الطبيعية. وهذا لا يبدو لي صحيح تماماً. والمجموعات التي تتبادر إلى ذهني هي:(أ) مجموعة من مقالات باير عن الفيزياء النووية (الإنكليزية والإيطالية، الفرنسية، الألمانية)، (ب) مجموعة من مقالات سوميرفيلد عن النسبية (لورنتز، أينشتاين، مينكوفسكي)، (ج) مجموعة من مقالات واكس عن العمليات العشوائية، (د) مجموعة من مقالات سكوينجر عن الديناميك الكهربائية الكمية بمقدمتها الممتعة جداً والنقدية بدرجة عالية. وعندما تؤكد ثانيةً على الميزة “المتقاربة” للكتب المدرسية لا تذكر أنَّ بعض الموسوعات {1j2}، مثل المرجع الفيزيائي “الأزرق” و”الأخضر” الشهير فضلاً عن موسوعة العلوم الرياضية (ظهر فيها مقال إهرنفست عن الميكانيك الإحصائية على نحو جديد) تُكتب بروح مختلفة جداً أحياناً. والشيء نفسه ينطبق على المقالة النقدية في مراجع عن الفيزيائية الحديثة حيث تُفسر كل الصعوبات. إنَّ أطروحتي عن مقالتك، إذا فهمتها أنا بشكل صحيح تعني: لا تحدث التطورات الثورية في النمط اليوناني حتى يتم تأسيس نوع ما من التقارب. وأتساءل فيما إذا لم تكن الحالة أنَّ العلة والمعلول هنا قد تم استبدالهما. قد لا تكون الحالة أنَّ النظرية القابلة للاختبار والشاملة (وليست الميتافيزيقية) تطرح للوهلة الأولى أيّ تفسير مفصّل بما فيه الكفاية بدقة لكثير من الأشياء، وسيصبح العديد من الناس العقلاء في الوقت ذاته تماماً مهتمين، وسيحاولون استنتاج النتائج، وتحسين النظرية بشكل أساسي، باختبارها، ويؤسس بالتالي ذلك النوع من التقارب الذي سيؤدي بالطبع حالاً بدوره إلى اكتشاف نقاط الضعف في النظرية، وبالتالي لمزيد من الثورات. وإذا كان ذلك صحيحاً فإنَّ التركيز الرئيسي لا ينبغي أن يكون على التقارب، بل {2j3} على نظريات من المحتمل أن تُسفر عن تقارب؛ أي بناءً على نظريات تكون شاملة، قابلة للاختبار، مفصَّلة، وبالتالي لأنَّها واعدة للكثيرين، ومسؤولة عن خلق التقارب؛ أي أنَّ تركيز الجهد سيؤدي بالطبع بسرعة إلى اكتشافات جديدة. هل أوضّحت نفسي؟ وهل أنا على الحق؟.

 مع أطيب التحيات

 بول

 التذييل الثاني.  الرسالة الرابعة:

 عزيزي توم

لقد قرأتُ مقالتك عن تجارب الفكر لكني لم أراجعها بعد، كما أنَّني أريد أن أعيد قراءتها بعناية فائقة. اسمح لي فقط أن أدلي ببعض الملاحظات العامة جداً. وجدتُ المقال نيراً للغاية واعتقد أنَّ عليك نشره، لمنفعة الفيلسوف، إما في مجلة فلسفية، أو مجلة عن الميتافيزيقيا أو في فلسفة العلم. مع أنَّ فرحتي غادرتني تماماً عندما التفتُ إلى الفصل الأخير حيث يبدو أنَّك تشير إلى أنَّ الإجراء المعتمد من قبل أولئك الذين يناقشون تجارب الفكر مماثل للإجراء المعتمد من قبل فلاسفة اللغة العادية؛ لأنَّني أعتقد أنَّ الموقف مختلف تماماً! اسمح لي أن أبدأ بالملاحظة الثانوية، والثانوية تعني الإجراء المعتمد. بالكاد لأيّ شخص ضمن دائرة اللغة العادية يكون ملماً بالعمل الذي تم القيام به فيما يتعلق بالألغاز التي يتعامل معها. [629] الصدمة التي حصلت لي في حياتي هي أن أسمع أوستن يناقش بجدية اللغز التالي: كلب D   يدور حول بقرة AB (A رأس البقرة).

 خافت البقرة من ترك الكلب يغيب عن ناظرها، وتلتفت نحوه: هل الكلب، أم هل أنت لا تدور ”حول” البقرة؟ لم يكن يعني هذا مثالاً عن تجربة الفكر{1j2} المنجزة منذ ألفي سنة، بل مثال عن اللغز الذي لم يتم العثور على حلٍ له بعد. ألم يسمع هذا الرجل، الذي يُفترض أن يكون واحداً من أعظم فلاسفة عصرنا (كيف يمكن أن يحدث يا ترى أن يصبح الدجال مشهوراً جداً؟) بنظرية نسبية الحركة؟ أيضاً في كتابهِ ”معضلات” يناقش رايل مطولاً مفارقات زينون دون أدنى إشارة إلى الطرق الحديثة لحلها (ممكن تماماً أنَّه لم يكن قادراً على فهم أي من هذه الحلول!). أعتقد أنَّ هذا ليس بعيدا جداً عن الحقيقة إذا قلنا أنَّه يأخذ بالاعتبار أيضاً معرفة حلول مقترحة، ومعرفة تاريخ المشكلة، ومعرفة الظروف الخاصة التي نشأت في ظلها، وهذا ليس بعيدا جداً عن حقيقة القول فيما يتعلق بكل هذه الأمور: إنَّ فلاسفة اللغة العادية هم حفنة من الجهلة (تُظهر المشكلة مرة أخرى لماذا يمكن أن يصبحوا مشهورين جداً؟). على أية حال هذه ملاحظة ثانوية فقط. الاختلاف الأهم بين فلاسفة اللغة العادية وأولئك العلماء الذين جسّدوا بحث تجارب الفكر مضوا بإعادة صياغة طرق تفكيرنا بالطبيعة هو التالي: يدرك العالِم أنَّ أدوات تعبيرنا العادية قد يكون فيها عيب وقد تحتاج إلى مراجعة. وما أن تُدرك هذه الحاجة إلى المراجعة {2j3} وتُقدم بوضوح أكثر في التجربة الخيالية، سيبدأ السعي بثبات إلى هدم أجزاء كبيرة من اللغة المشتركة واستبدالها بما سيبدو للوهلة الأولى لغة مصطنعة تماماً، لكنها ما سيكون في واقع الأمر أكثر ملائمةً. وتكون بالنسبة له تجربة الفكر نقطة انطلاق للمراجعة اللغوية. إنَّ أكثر فلاسفة اللغة العادية الذين قرأتُ عنهم أو قابلتهم، مضوا بأسلوب مختلف تماماً، وهذا بالمناسبة هو أسلوب فيتغنشتاين أيضاً. سيعتبرون المفارقات صحيحة تماماً. لكن قبل كل شيء نادراً جداً ما تُعتبر مفارقاتها مراكز لابتكارات حاسمة. وثانياً: الهدف ليس مراجعة اللغة، بل إدراك أنَّ اللغة المفهومة بدقة التي يتحدثها المرء يمكن أن تعتني بالفعل بالوضع. خذ فيتغنشتاين. ماذا يجب على المفكر عمله؟، (ضمن ما يسميه ”فلسفة”) يكون بـ”مذكرات مجمعة لهدف معين” (التحقيقات، 127). ما هو الهدف؟، الهدف “واضح تماماً” (133). ولكن كيف يُنجز هذا الوضوح؟، ليس عن طريق{3j4}  نسق من القواعد التامة والمنكمشة على ذاتها من أجل استخدام عباراتنا(133).  في واقع الأمر ”قد تتعارض الفلسفة بأي شكل من الأشكال مع الاستخدام الفعلي للغة [630]…تترك كل شيء على حاله”(124). لكن هذا يعني أنَّ فلاسفة اللغة العادية يزيلون المفارقات المعروضة في تجاربهم الفكرية بطريقة مختلفة تماماً عن الطريقة المعتمدة من قبل العلماء. هدفهم هو إظهار أنَّه دون أي تغيير في لغتنا يمكن بالفعل تفسير هذه الحالة. ومن دون حجة أخرى (لأنَّ رسالتي التي حصلت عليها بالفعل طويلة جداً) يجب أن أقول: إنَّ ذلك يتم دائماً إما عن طريق نوع من الخداع، أو من خلال اقتراح نظريات مظلمة وأكثر بدائية. لذلك لا يوجد أدنى مبرر لاعتبار مناقشة المفارقات من قبل فلسفة اللغة العادية مطابقاً لمناقشة تجربة الفكر من قبل العلماء. إنَّ المعايير والإجراءات والحالات المدروسة مختلفة تماماً في كلتا الحالتين.

 أعذرني أرجوك فعباراتي قوية، ولكن تلك نزوات متشابهة مأخوذة بجدية قد تُثير دائماً في الواقع فضولي أولاً ثم غضبي، ثم فضولي مرة أخرى. أعتقد على أية حال{4j5}   بعيداً تماماً عن هذا المقطع الأخير الحاسم أنَّ مقالتك تحفة فنية ولدي فضول مرة أخرى حول حقيقة أنَّ كل ما عليك فعله معها هو إخفائها في خزانة ملفاتك وتقديمها في بعض الأحيان إلى أصدقائك.

 بول

من بول إلى سام، يمكن أن تكون مقالتك في واقع الأمر أهم إسهام بإظهار عقم فلسفة اللغة العادية بالكامل. ويمكن القيام بذلك عن طريق مقارنة مناقشات عن مثال السطح المنحني مع مناقشة مماثلة لـ”تجربة فكر” محددة من قبل فيلسوف اللغة العادية. أعتقد أنَّ هذه المقارنة ستُظهر بشكل أكثر إقناعاً الفائدة الهائلة لـ”المنهج الغاليلياني” بالمراجعة خلافا للمنهج الآخر الذي يتحدث مراراً حول المشكلة حتى يفقد المرء مسارها (يبددها المرء). [631]

 

 


 References

  • Driver-Linn, E. (2003). Where is psychology going? Structural fault lines revealed by psychologists’ use of Kuhn. American Psychologist, 58, 269–278.
  • Feyerabend, P. K. (1995). Killing time: The autobiography of Paul Feyerabend. Chicago: University of Chicago Press.
  • Hanson, N. R. (1958). Patterns of discovery: An inquiry into the conceptual foundations of science. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Hershberg, J. G. (1995). James B. Conant: Harvard to Hiroshima and the making of the nuclear age. Stanford: Stanford University Press.
  • Hoyningen-Huene, P. (1995). Two letters of Paul Feyerabend to Thomas S. Kuhn on a draft of The structure of scientific revolutions. Studies in History and Philosophy of Science, 26, 353–387.
  • Hoyningen-Huene, P. (2000). Paul K. Feyerabend: An obituary. In J. Preston, G. Mune´var, & D. Lamb (Eds.), The worst enemy of science? Essays in memory of Paul Feyerabend (pp. 1–15). Oxford: Oxford University Press.
  • Kuhn, T. S. (1959). The essential tension: Tradition and innovation in scientific research. In C. W. Taylor (Ed.), The Third (1959) University of Utah Research Conference on the Identification of Scientific Talent (pp.162–174). Salt Lake City: University of Utah Press. (Reprinted in idem, The essential tension. Chicago: University of Chicago Press,1977)
  • Kuhn, T. S. (1964). A function for thought experiments. In L’aventure de la science. Me´langes Alexandre Koyre´ , Vol. 2 (pp. 307–334). Paris: Herman. (Reprinted in idem, The essential tension. Chicago: University of Chicago Press, 1977)
  • Kuhn, T. S. (1970). The structure of scientific revolutions (2nd ed.). Chicago: University of Chicago Press.

 

 

[1] – Hoyningen-Huene, P. (1995). Two letters of Paul Feyerabend to Thomas S. Kuhn on a draft of The structure of scientific revolutions. Studies in History and Philosophy of Science.

[2] – Ibid.

[3] – Ibid.p323.

[4] – Feyerabend, P. K. (1995). Killing time: The autobiography of Paul Feyerabend. Chicago: University of Chicago Press.p141.

[5] – Hoyningen-Huene, P, Two letters of Paul Feyerabend to Thomas S. Kuhn on a draft of The structure of scientific revolutions.p450.

[6] – Driver-Linn, E. (2003). Where is psychology going? Structural fault lines revealed by psychologists’ use of Kuhn. American Psychologist, 58, N2. p272.

[7] – To More Look: Kuhn, T. S. (1970). The structure of scientific revolutions (2nd ed.). Chicago: University of Chicago Press.p11-12.

[8] – Hershberg, J. G. (1995). James B. Conant: Harvard to Hiroshima and the making of the nuclear age. Stanford: Stanford University Press. Chap.35.

[9] – Hoyningen-Huene, P. Two letters of Paul Feyerabend to Thomas S. Kuhn on a draft of The structure of scientific revolutions.p387.

[10] – Ibid.p372.

[11] – Hanson, N. R. (1958). Patterns of discovery: An inquiry into the conceptual foundations of science. Cambridge: Cambridge University Press.

[12] – Kuhn, T. S. (1959). The essential tension: Tradition and innovation in scientific research. In C. W. Taylor (Ed.), The Third (1959) University of Utah Research Conference on the Identification of Scientific Talent. (pp. 162–174). Salt Lake City: University of Utah Press. (Reprinted in idem, The essential tension. Chicago: University of Chicago Press, 1977)

[13] – Kuhn, T. S. (1964). A function for thought experiments. In L’aventure de la science. Me´langes Alexandre Koyre´,Vol. 2 (pp. 307–334). Paris:Herman. (Reprinted in idem, The essential tension. Chicago: University of Chicago Press, 1977.

[14] – Kuhn, T. S. (1964). A function for thought experiments. In L’aventure de la science. Me´langes Alexandre Koyre´ , Vol. 2 (pp. 307–334). Paris: Herman. (Reprinted in idem, The essential tension. Chicago: University of Chicago Press, 1977)

[15] – Kuhn, T. S. (1970). The structure of scientific revolutions (2nd ed.). Chicago: University of Chicago Press.N.31. P262

[16] – Hoyningen-Huene, P. Two letters of Paul Feyerabend to Thomas S. Kuhn on a draft of The structure of scientific revolutions.

[17] – Ibid. P355.

[18] – Hoyningen-Huene, P. (2000). Paul K. Feyerabend: An obituary. In J. Preston, G. Mune´var, & D. Lamb (Eds.), The worst enemy of science? Essays in memory of Paul Feyerabend (pp. 1–15). Oxford: Oxford University Press.p.9.