مجلة حكمة
فلسفة برشلونة الكروية

الفلسفة وأسلوب برشلونة

الكاتبهانز أولريش غومبريخت
ترجمة وتقديمعبد الحميد محمّد

مقدمة المترجم

أن يكتب فيلسوفٌ ما عن كرة القدم فليس في الأمر مفاجأة كبرى خاصة حول شعبية كرة القدم كما فعل الكاتب الأوروغوياني إدواردو غاليانو Eduardo Galeano وغيره.

لكن أن يكتب فيلسوف عن كرة القدم بصورة المحلّل العارف بتكتيكات كرة القدم وأساليبها ومهاراتها وخفايا كلّ فريق، مثلها مثل خفايا المدرّبين وما يميّز كلّا منهم من خطط واستراتيجيّات ثم يُحيل ذلك إلى قراءةٍ فلسفيّة، فحكما لن يبقى الأمر طبيعيّا أبدا.

هانز أولريش غومبريخت HANS ULRICH GUMBRECHT، الكاتب والفيلسوف والصحفي الألماني وبعد ذهابه للإقامة في أمريكا والتدريس في جامعاتها أصبح مشجّعا لكرة القدم الأمريكية، ليكتشف هناك أنّ الأمريكيّين حين يتحدّثون عن كرة القدم يتحدّثون عن زمن استحواذ الكرة، ولكنّهم حين يتحدّثون عن الجنس فهم يتحدّثون عن مدى خطورته من دون واقٍ ذكري، كأنّما يتحدّثون عن الجنس حين يتحدّثون عن كرة القدم.

تشكّل له كرة القدم جزءا من الظواهر الثقافية ولذلك فإنّ ما يهمّه في كرة القدم هي الكفاءة والجانبين الجمالي والمهني فيها، وما قدّمه اللاعب البرازيلي مانويل فرانسيسكو دوس سانتوس المعروف بلقب (غارينشيا Garrincha) يشكّل له معيارا ومقياسا ليس كمستوى عالٍ بل كمستوى متوسّط مقبولا في حدّه الأدنى، وهو ينظر لفريق كرة السلّة الأمريكي هارلم غوبتروترز Harlem Gobtrotters كفريقٍ غايته اللعب الجميل فقط، وما يُضفي الجمال على أيّة لعبة بالنسبة إليه هي إرادة الفوز لدى الفريقين المتنافسين مع أنّه ليس بالضرورة أن يفوز الفريق الذي يلعب بشكلٍ أجمل.

كتب غومبريخت كتابين عن الرياضة منها كتابه “مديح الرياضة Lob des Sports” الذي صدر عام 2016 وأثار جدلا حادّا، وهذا ما دفع اللجنة الثقافية في الاتحاد الألماني لكرة القدم لتنظيم جلسةٍ حوارية بينه وبين مدرّب فريق تشيلسي الحالي  توماس توخل Thomas Tuchel في العام 2017، بينما حمل كتابه الآخر عنوان “حشود الاستاد Stadium Crowds”.

أمّا أحد أكثر أمنياته فهي فوز منتخبٍ أفريقيّ ببطولة كأس العالم، فهذا من شأنه أن يقلّل من التهميش الذي تعانيه القارّة الأفريقيّة، ليصف أمنيته بأنّها رومانسيّة اجتماعية، وهذه الرومانسيّة كثيرا ما تدفعه للكتابة عن الفقر في العالم.

كثيرا ما تراه ينتقد الأكاديميّات المتخصّصة بكرة القدم مشمئزّا من المقارنات المشروطة للمثقّفين عند حديثهم عن كرة القدم كأن يقول له أحدهم: أنت لا تفهم شيئا من كرة القدم إذا لم تتحدّث عن فابيو كابيلو Fabio Capello (مدرّب إيطالي).

نظرية هانز أولريش غومبريخت عن الإبداع في كرة القدم

وُصفت نظريته بـ “المفارقة الإبداعية لكرة القدم المعاصرة“، فهو يرى في هذه النظرية أنّ الإبداع في كرة القدم يحتضر، فـ “كلّما لُعبت كرة القدم بشكلها النموذجي (تكتيكات وتشكيلة اللاعبين ونظام اللعب) الأمثل، كلّما باتت الحاجة إلى الإبداع أكثر إلحاحا (لخلق التحدي وأحداثٍ غير منتظرة وغير متوقّعة)، وبالتالي كلّما زادت صعوبة الأمر على اللاعبين المبدعين“.

وقد اعتبر أن بطولة كأس العالم التي أُقيمت في جنوبي أفريقيا عام 2010 قد أكّدت نظريته، حيث انخفض معدّلُ تسجيل الأهداف بشكلٍ كبير لدرجة أنّ المعلّقين أُصيبوا بالإحباط الذي دفعهم للادّعاء بأنّ كرة القدم لم تعد جذّابة، في وقتٍ يرى فيه غومبريخت أنّ متوسّط معدّل اللياقة البدنية في هذه البطولة كان الأعلى وكذلك الحال بالنسبة للمهارات الفنّية والتكتيكات حيث كانت أعلى بكثير مما كانت عليه من أيّ وقت مضى، ولكن هذا جعل الدور المحتمل للنجوم كميسي أو رونالدو حرجا متأزّما بل وحتّى نادرا.

لكنّ غومبريخت يؤكّد أنه ليس بالضرورة أن يؤدّي ذلك إلى عدم بروز المزيد من اللاعبين النجوم ولكن شروط قدرة اللاعب على أن يتميّز عن باقي فريقه ليصبح نجما مبدعا باتت أكثر صعوبة وتعقيدا وبات ذلك نادرا، كما إنّ احتمالات إيقاف النجوم عبر نظام اللعب زادت أكثر عمّا كانت عليه الحال سابقا بفرض مراقبة مشدّدة عليهم.

سُئل غومبريخت عن تفسيره لعدم نجاح ميسي في المنتخب الأرجنتيني رغم نجاحه الكبير في برشلونة، فأشار إلى النكتة التي تقول:

"من يمكنه إيقاف ميسي؟ عبر مارادونا"

فهو يرى أنّ ماردونا كان مدرّبا سيّئا ولكن حتى لو لم يكُ مدرّبا سيّئا فإن الشروط والظروف التي وُفرت لإبداع ميسي في برشلونة لم تتوفّر في منتخب الأرجنتين.

يُسهب غومبريخت في تفسيره ليؤكّد على أن ذلك الجيل الذهبي لبرشلونة قد تمّ إعداده عبر عمليّة تطويرٍ طويلة جدّا ومشتركة جعلتهم يطوّرون من أنفسهم وينمّون قدراتهم بشكل متزامن وبحيث يكمّلون أنفسهم في طريقة اللعب، فـ “تشافي” و” إنييستا ” لعبا بالطريقة المبدعة التي كانا يلعبانها لأنّهما امتلكا ميسي في الفريق، وميسي لعب بطريقته المبدعة لأنّه امتلك تشافي وإنييستا في فريقه.

ينظر غومبريخت الذي يضاهي السبعين من العمر حاليا إلى الزمن الذي أنجب بيكينباور وكرويف ومارادونا كزمن بطوليّ، وهو حرص على مشاهدة كرة القدم أو الاستماع إلى مبارياتها عبر أثير الراديو كما فعل أوّل مرة في عام 1954، وينظر إلى مارادونا كأذكى لاعبٍ في تاريخ كرة القدم، يليه بيكينباور ثم كرويف، فيحلم بولادة مارادونا جديد.

تسأله عن رأيه في كريستيانو رونالدو فيجيبك أنّ رونالدو في كثيرٍ من الأحيان يبدو شاحبا في المنتخب البرتغالي، وهذا يُثبت أنّ الشروط التي وضعها في نظريته تبدو أكثر تعقيدا وفتكا ممّا هي الحال مع ميسي، وكرة القدم الحديثة تحتاج إلى لاعبين يُجيدون الحفاظ على سير اللعب وكأنّه محرّك لا يتوقّف أبدا ليخلقوا تلك اللحظة الدرامية التي لا يمكن توقّعها كما يفعل ميسي.

غومبريخت سبق وقمتُ بترجمة مقالين فلسفيين له أحدهما عن جاك دريدا ويمكن قراءته عبر هذا الرابط أو الرابط، والثاني عن يورغن هابرماس ويمكن قراءته عبر هذا الرابط.

الانجذاب والشغف بأسلوب برشلونة في كرة القدم أصاب الملايين في هذا الكوكب ومنهم كاتب هذا المقال نفسه وكذلك مترجم المقال، ورغم مرور سنوات على بداية هذا الأسلوب فهو ما زال موضوعا لأحاديث محلّلي كرة القدم في كل أنحاء العالم كما هو الآن موضوع المقال المترجم من اللغة الألمانية وسبق ونُشر في صحيفة فرانكفورت ألغماين faz.

الترجمة الكاملة للمقال

أسلوب برشلونة

قبل عامين تواجه فريقا برشلونة ومانشستر يونايتد في نهائي دوري أبطال أوروبا. هل مازلتم تتذكّرون؟ كان برشلونة قد نجح بصعوبة في تجاوز الدور نصف النهائي، بهدفٍ متأخّر وبقرارين غريبين من حكمٍ نرويجيّ سحبا الفوز المستحقّ من تشيلسي اللندني. في الدقائق الأولى من المباراة النهائيّة كان الطرف الإنكليزي هو المسيطر مرّة أخرى. كريستيانو رونالدو Cristiano Ronaldo كان بإمكانه إحداث تحوّلٍ مختلف على المباراة مع أوّل احتكاكٍ له مع الكرة. لكن بعد ذلك بعشر دقائق كان صموئيل أيتو Samuel Eto’o قد سجّل الهدف الأوّل بعد جريٍ جامحٍ لا يُقاوم، ليلعب بعدها برشلونة مع مرور الدقائق دقيقة تلو دقيقة بشكلٍ أجمل وأكثر اطمئنانا باستمرار.

في النهاية، لعب برشلونة بشكلٍ أفضل من أيّ فريق سبق له أن لعب قبل ذلك في تاريخ كرة القدم-كالمطمئنّ وهو يسير نائما ويعملُ منتشيا، كما لو أنّ أيّ خطأ لن يحدث أبدا، دون إجهادٍ قاهرٍ أو قسريٍّ ملزم. ضربة رأس من ليونيل ميسي  Lionel Messi، لم يسبق لقزمٍ مثله أن تمكّن من الوصول إليها في الواقع، أوضحت أنّ هذا الكمال يُداني شيئا غير مرئيّ_أسلوبا لم يكُ ممكنا تصوّره من قبل.

لكن ما كان ذلك الجديد في طبيعة هذا الانتصار؟ شكّلت السبعينيّات والثمانينيّات حقبة بارزة للفرديّة: يفكّر المرء بالتالي في بيليه Pelé، يوهان كرويف Johan Cruyff، فرانز بيكينباور Franz Beckenbauer، وفي دييغو مارادونا Diego Maradona في المقام الأوّل. على العكس من خلفائهم الحاليّين من اللاعبين، كان لديهم وقت ومساحة كافيين لاستلام الكرة من خطّ الوسط، ليُقرّروا بعد ذلك ويُحدّدوا لمن سوف يُسدّدون ضرباتهم العبقرية “القاتلة”.

ماتيوس يعزل مارادونا

لم يكُ من قبيل الصدفة اختراع دور “الليبرو Libero” كلاعبٍ يستطيع التحرّر من مضايقات لاعبي الخصم بفضل أسلوبه. لكن قبل ذلك، وأثناء بطولة كأس العالم، لم ينجح مارادونا في الحفاظ على هذا الأسلوب، حيث كان لاعب خطّ الوسط المتمرّس لوثر ماتيوس Lothar Matthäus على قدر كبير من اللياقة البدنية والسرعة والقدرة على التحمّل.

بنظرة على الماضي، يبدو أنّ عزل مارادونا عبر ماتيوس قد شكّل نقطة تحوّل حاسمة. آنذاك دوّن أحدهم من الأيام الخوالي ملاحظة تقول إنّ اللعبة قد غدت “ألعاب قوى مع كرة”. نتج عن ذلك أنّ كلّ لاعب بات لديه دوما وقتا أقلّ لإيقاف الكرة وتمريرها، لتصبح رؤية مهاجمٍ غير محمي بسبب الضغط البدني للاعبي الخصوم أمرا أشبه بالمستحيل تماما، ليولد أسلوب “اللمسة الواحدة One touch” الذي يتشابه فيه عمليّا الاستلام والتسليم. ثم أتت بعد ذلك مرحلة زين الدين زيدان  Zinédine Zidane حيث كانت الكرة تُمرّر على الفور إلى أن تُتيح فجوةٌ صغيرة في الدفاع إمكانية تمرير الكرة بشكلٍ حادّ داخل منطقة الجزاء.

اليوم لا يمكن لأيّ لاعب أن يؤدّي وظيفة واحدة فقط في المساحة المخصّصة والمقابلة له في الملعب. ما سبق وقام به إنتر ميلان  Inter Mailand في أوائل السبعينيّات عبر بعض المدافعين الاستثنائيّين والذين كانوا مهاجمين أيضا، وما سعى إليه بعد فترةٍ وجيزة المنتخب الهولندي مع “الكرة الشاملة totalen Fußball” غدا معيارا عامّا. كان ذلك في البداية على حساب الجمالية. قلّة قليلة من اللاعبين، مثل رونالدينهو Ronaldinho في أفضل فتراته، كانوا جيّدين بما يكفي للعب الكرة بأناقة في تلك الظروف. يبدو أنّ التوازن بين القدرة الفنّية والقدرة القتالية كان مفقودا. الصدفة ساهمت بقوّة في جبر التوازن في اللعبة.

حين أصبح النجاح والجمال متطابقين

خلال موسم 2008/2009 أصبح نادي برشلونة  FC Barcelona أوّل فريق في تاريخ كرة القدم، يملك عددا كافيا من اللاعبين، ممّن تواكبُ مهاراتهم الكروية قدراتهم البدنية ما يسمح لهم بلعب أسلوب اللمسة الواحدة دون ترك اللعبة تحت رحمة الصدفة والحظّ. أمسى نهائي دوري أبطال أوروبا في روما حدثا، ذلك أنّه قد شهد فريقا لم يُشكّل له الضغط سببا ليُحجم عن الدقّة والإتقان، فريقا يُمكنه التمرير والتسديد على المرمى في وقتٍ يمارس فيه التمرير فقط في منطقة جزائه أيضا، وهذا ما فاجأ به الخصوم فقط ولم يفاجئ نفسه قطّ، فهو لم يعد بحاجة إلى مزيدٍ من العبقرية. تمّ التغلّب على التعارض بين الجماليّة والنجاح. استغرقت كرة القدم ما يقرب من عشرين عاما لتبلغ ذلك، لكن الآن ها هو الأسلوب الجديد هنا.

لقد أظهرت نقطة التحوّل هذه فجأة، وبكلّ وضوح مرّة أخرى ما يجذب مئات الألاف إلى الملاعب وما يشدّ مئات الملايين للأجهزة (يقصد التلفاز وغيره): فالحماس للرياضات الجماعيّة لا يكمن ببساطة فقط في أن تشاهد فريقك وهو يفوز. ما يُلهم أولا وقبل كلّ شيء هي التجربة الجمالية بالمعنى الفلسفي الكامل للكلمة. ما يريده المشجّعون هي مبارياتٍ جميلة يقدّمها الفريق، جمالا وبهجة لا تُحتمل، يسعى الفريق الآخر للحيلولة دونها ومنعها، جمالٌ سرعان ما يختفي وهو بالكاد قد ظهر.

سيكون ذلك أفضل بكثير إن أدّى إلى تسجيل الأهداف، وسيكون أفضل إن فاز فريقك، ولكن من وجهة نظر المتفرّج يجب عكس الجملة بالنظر للجماليّة كوسيلةٍ لتحقيق غرضٍ ما في كلّ الأحوال. على العكس من ذلك: نحنُ نتفرّج بمتعةٍ كبيرة حين تغدو غاية الفوز وسيلة للعب الجميل.

بدوا أنّهم لا يُقهرون قطّ

هكذا كانت وضعية نادي برشلونة في موسم 2008/2009. وليس من داعٍ للتأكيد على أنّه لم تكُ نيّة خوان لابورتا Joan Laporta وبيب غوارديولا   Pep Guardiola أو لاعبيهما هي اللعب الجميل، لكنّ البراغماتية كانت في خدمة المشاهد من الناحية الجمالية. أدّى نجاح برشلونة في هذا الحلّ إلى فوز الفريق بالألقاب المحلّية الثلاث وبكل الألقاب الدولية المتاحة والممكنة في موسمٍ واحد. كان الفوز سهلا للغاية، ذلك أنّه لم يكُ هنالك من فريق آخر ويملك علاجا ضدّ ذلك الأسلوب.

كانوا لا يُقهرون. لقد سبق وذكرنا مباراة نصف نهائي أبطال أوروبا ضد تشيلسي Chelsea. بدوا أنّهم لا يُقهرون قطّ، خاصة في الفترة التي تلت نيلهم لقب دوري أبطال أوروبا Champions-League-Titel. من الناحية الجماليّة لم يكُ نادي برشلونة في موسم 2009/2010 أقلّ إثارة للإعجاب من فريق الموسم السابق، لكنّه لم ينجح في الفوز بدوري أبطال أوروبا مرة أخرى. وحتى لو كان البرشا Barça قد لعب في مباراة نصف النهائيّ التي خسرها مع إنتر ميلان بشكلٍ أفضل مما لعبه في مباراته التي كان قد فاز فيها على تشيلسي، فإنّ هنالك شيئا مهمّا يكمن في هزيمته تلك في العام 2010.

لأنّ تلك المباراة قد جرت ضدّ فريقٍ يدرّبهم جوزيه مورينهو José Mourinho الذي ابتدع استراتيجيّة خاصة لمواجهة أسلوب برشلونة الجديد. استندت تلك الاستراتيجيّة على رؤية أنّ مبدأ برشلونة يكمن في تجميد اللعب وتعطيله عبر سلسلةٍ متوالية وطويلةٍ من التمريرات إلى أن تحين فرصة التهديف، عبر الهجمات السريعة مع تمريراتٍ طولية حاسمة تخلخل التحصينات. عدا ذلك، فقد قلّل إنتر ميلان من الفرص القليلة التي يحتاجها برشلونة، عبر الدفاع غير المشروط دون قيود، ذلك أنّهم يُتقنون الدفاع كما لو أنّهم لا يُفكّرون بالهجوم بعد ذلك أبدا.

شيء رائع أصبح عمليا فجأة

من وجهة النظر الجمالية -ومن وجهة نظر برشلونة- كان أمرا صاعقا مدمّرا حين كُشفت سريعا حدود هذا الأسلوب بتلك الطريقة. ضد إنتر ميلان بدا الأمر فجأة أشبه بكرة اليد مع عدم وجود حدود زمنية لنهاية الهجوم، تمريراتٌ لا نهاية لها من اتّجاه إلى آخر، استحواذٌ لا نهائي على الكرة سعيا لإحداث ثغرة في الجدار الذي لا يقوم بأيّ فعلٍ من جهته للوصول للكرة، وحتّى ميسي المذهل عجز عن اختراق الجدار لأنّ عددا كبيرا من المدافعين يكمنون له بالمرصاد على الدوام.

لا يُخفى على أحد أنّ المنتخب الإسباني الذي أصبح بطلا للعالم عام 2010 كان نسخّة دفاعيّة محسّنة من نادي برشلونة. مما لا يُثير إلا القليل من الدهشة أنّ هذا المنتخب قد واجه صعوباتٍ جعلته يخسر مع منتخب سويسرا الذي كان يدرّبه واحد من الأنجح في العالم في استراتيجيّات الدفاع وهو أوتمار هيتسفيلد Ottmar Hitzfeld. فازت إسبانيا في جميع مبارياتها الأخرى بذات النتيجة تقريبا 1:0 بأسلوب كرة اليد الذي يستخدمُ الهجوم كحصار.

لكن وبعد مضيّ أقلّ من دقيقة واحدة حتى أصبحت هذه المباراة أيضا جميلة بجمال مباراة برشلونة في نصف نهائي أبطال أوروبا في العام 2009. على العكس من ذلك فإنّ لعب ليونيل ميسي لصالح الأرجنتين أدّى لتضاؤل إمكانية العثور على ثغرة في دفاعات الخصوم واستخدامها. أصبح الأسلوبُ الرائع فجأة وصفة عمليّة واقعيّة للنجاح.

تزايدت هالة مباراة برشلونة في 2008/2009 بسرعة في وقتٍ ساهم فيه الفوز بلقب كأس العالم WM-Titel في تعزيز مكانة برشلونة. تفسير النجاح المزدوج يتضمّن ذلك الإلهام والحماس وتلك النشوة الكبيرة باللعب التي تتجاوز العقل. من جهةٍ أخرى فإنّ وقار فريق برشلونة واتّزانه كواحدٍ من أهمّ عوامل النجاح حتى اليوم أمر لا شكّ فيه. بيكيه Piqué، بويول Puyol، تشافي Xavi، بوسكيتس Busquets، إنييستا Iniesta، بيدرو   Pedro وميسي Messi هم كلّهم نجوم لكن لا أحد منهم يدّعي أنه يلعب دورا قياديّا. إنّهم الأكثر قابلية لتبادل الأدوار فيما بينهم أكثر من قادة أيّ فريقٍ آخر في العالم. حقيقة أنّ مدرّبهم كان لاعب وسط لبرشلونة وليس أكبر عمرا من نجومه السابقين من اللاعبين وهذا ما ساعد على تعميق التجانس (في الفريق).

برشلونة يُعتبر منتخبا وطنيا لكتالونيا

إذا كان للتجانس جانبا سلبيا في أيّ فريق، فإنّ مشكلة برشلونة تكمنُ في إدماج لاعبين مهمّين جدد فيه. عشنا هذه المشكلة مع تييري هنري Thierry Henry، زلاتان ابراهيموفيتش Zlatan Ibrahimovic، وتقاعس غوارديولا الطويل عن شراء اللاعب الألماني مسعود أوزيل Mesut Özil يدخل في هذا الإطار. في النهاية فإنّ الأمر يتعلّق بشكلٍ ما من أشكال منتخب كتالونيا الوطني katalanische Nationalmannschaft، إنّه أكثر من نادٍ més que un club، وهذا يتعدّاه لينتقلُ إلى اللاعبين من غير الكتالونيين في الفريق. اعتادت وسائل الإعلام والمشجّعون على الاحتفاء بنادي برشلونة كأفضل فريق في زمننا، فأسلوبه في اللعب يُعدُّ معيارا للفرق الأخرى بما فيها المنتخبات الوطنية.

حتى الآن لا يؤكّد الموسم الذي شارف على نهايته إلا على هذه الحالة، وفاز برشلونة بالبطولة الإسبانية بتفوّقٍ يفوق السنوات الماضية، بينما سجّل ميسي أهدافا تزيد على أيّ وقتٍ مضى، أما فوز ريال مدريد Real Madrid ببطولة كأس ملك إسبانيا “Copa del Rey” فهو وصمة عارٍ في عيون الجماهير الكتالونية على الأقلّ، ذلك أنّ فريق جوزيه مورينهو لم ينجح في النسخة التالية من نهائي دوري أبطال أوروبا باستخدام ذات الاستراتيجيّة المدمّرة التي قادت إنتر ميلان إلى النجاح في العام 2010.

بالنسبة للنسخة الجديدة من نهائي عام 2009، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت الفجوة بين برشلونة ومانشستر يونايتد Manchester United قد تقلّصت الآن، وما هي الظروف التي يمكن لها أن تمنح الفرصة لمانشستر. إنّ السير أليكس فيرغسون Sir Alex Ferguson المدرّب الأكثر خبرة وطموحا والأكثر مرونة عصريّة سيراهن على عدم السماح لبرشلونة في الدخول إلى المباراة وإخراجه منها.

هجوم مانشستر مع واين روني وحوله

من رأى مانشستر يونايتد وهو يُعزّز من زعامته في الدوري الإنكليزي الممتاز وصولا لفوزه بالبطولة، كيف فرض نفسه من نجاحٍ إلى نجاح وبسهولةٍ في دوري أبطال أوروبا der Champions League، يعرف أنّ تحدّي خلق توليفةٍ بين السرعة والأسلوب قد تحسّن بشكلٍ كبير. عدا عن ذلك فإن فيرغسون يتوفّر لديه لاعبون أكثر مما لدى غوارديولا وخصوصا اللاعبون الشباب في الهجوم الذين يستطيعون العمل مع ولأجل واين روني Wayne Rooney لخلق مزيدٍ من فرص التسجيل: شيشاريتو هيرناندز   Chicharito Hernández، ناني Nani، فالنسيا Valencia، أندرسون Anderson (لا أحد منهم من الدوريات البريطانية)، على سبيل المثال لا الحصر.

هذا يعني أيضا أنّ مانشستر يونايتد ومع انخراطه في اللعب لديه إمكانية خلق مفاجآتٍ أكثر مقارنة ببرشلونة. هنالك تشابهٌ بين المنافس على نهائي دوري أبطال أوروبا والمنتخب الألماني الذي أثار الإعجاب في جنوبيّ أفريقيا قبل حوالي عام (يقصد الكاتب بطولة كأس العالم عام 2010 بدولة جنوبي أفريقيا)، لكن هذا المنتخب الألمانيّ الشاب فشل في بطولة كأس العالم الأخيرة بسبب إسبانيا، وقبل كلّ شيء بسبب الخبرة والتفوّق البدني للاعبي برشلونة على وجه الخصوص.

المصدر (فلسفة برشلونة)