مجلة حكمة
عين الغريب عين الغريب

عين الغريب

الكاتبمحمد الضامن

من الممكن أن نفهم رمزية العنف الصامت نحو الغرباء، والذي تصادق وتعترف به الأمم كحق، مما تشيّده الأمم من أسلحة على مر تاريخها استعدادا لتلك اللحظة التي قد يأتي فيها الغرباء البرابرة _ لنتذكر البدائي الذي يمسك حربته بيده ويضعها عند رأسه حين نومه، ومن ثم الجنود في عصور الحضارات القديمة حين يسهرون مدشنين بالسلاح والمدافع على حراسة المدن من القلاع التي تشرف على آفاق قد يتسلل منها الغرباء _ لكنهم قد لا يأتون كما تشير قصيدة قسطنطين كفافيس: ( في انتظار البرابرة ) ليتحول ذلك الحشد المهيب كما تصفه قصيدة كفافيس من الاستعداد لاستقبالهم ـ بدءا من الملك حتى البسطاء من الناس ذلك الانتظار الذي يشتعل، ويشتغل من هاجس قدوم الغرباء ليعطي لحياة الملك، والشعب معنى من جراء استنفار طاقته في هدف لا يبرره؛ إلا قدوم البرابرة ـ إلى لحظة متاهة معنى كينونة الشعب التاريخية. لذا يختم كفافيس قصيدته متسائلا بعد أن وصل خبر اختفاء، وانعدام وجود البرابرة:

( والآن مالذي سيحل بنا بلا برابرة؟

لقد كانوا، هؤلاء الناس، نوعا من الحل ). ( كفافيس الأعمال الشعرية الكاملة، ترجمة رفعت سلام).

لا يقول لنا كفافيس نوع الحل؛ لكن القصيدة تشير لمعنى يمكن استقصاءه مما يستشعره الناس في تلك اللحظة من طاقة الفرح والنشوة التي ينشرها كون البرابرة قادمون، فيعمل على تنشيط حياته حين يعلم بقدوم البرابرة؛ فكل تلك المهابة التي يتزيّن بها الملك، وحاشيته تفقد معناها بمجرد اختفاء البرابرة!. مما يعطي الانطباع؛ بأن هذه المهابة التي تتجلى في تلك الملابس البراقة، والتيجان، والأسلحة تكون في حالة خمول، وفاقدة؛ لأي بريق، ومعنى يبرر وجودها. من هنا يضفي البرابرة الغرباء الذين قد يأتون ذلك المعنى المهيب الذي يجلل الملك وحاشيته. هذا المعنى الذي تضفيه القصيدة على انعدام معنى الجلال الذي يلف الملك، وانتظار الشعب منهمكا في حركة عامرة تعمل لاستقباله حين يختفي العدو البربري يستحضره فلم ( A Royal Night Out من إخراج julian jarrold ) عن ملك بريطانيا في لحظة انتصار بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، واستسلام المانيا، في تلك الليلة حين يحتفل الشعب بالانتصار، وتعم البلاد الفوضى يلقي الملك من نافذة قصره على تلك الحشود نظرة متأملة، ويتساءل: لقد عمت الفوضى، ترى مالذي سيفعلونه الآن؟!. إن حيرة الملك من فقدان الهدف الذي كان وحّد الشعب ونظمه؛ ليواجه عدوا من الداخل صار غريبا بعد أن فقد معناه حين انتهى العدو الخارجي؛ فهو الذي أعطى الملك مهابة، كما أن التفاف الشعب حولَه جراء ذاك العدو أمَّن معنى حكمه للشعب دون نزاع. فبعد اختفاء ذاك العدو يبدو خوف الملك من تلك الفوضى من أن تعيد توجيه طاقة الشعب لمواجه معنى الحكم، وهدف حياة الشعب بعد الحرب، وزوال العدو الغريب الذي به تُشحَد هِمَمَ الشعب في نسيج مُتخيل عن وحدة هويته!. وهذا ما تفعله الإمبراطورية في رواية ج.م. كوتزي:( في انتظار البرابرة) التي هي بمثابة إعادة صياغة نثرية لقصيدة كفافيس فما يشغل عقلها الخفي كما يقول القاضي بطل الرواية هو: (كيف لا تنتهي، كيف لا تموت، كيف تُطيل عمرها). ولكي تحقق ذلك؛ فإنها:( في النهار تلاحق أعداءها، إنها مراوغة وقاسية، ترسل كلاب صيدها إلى كل مكان). هذا كله؛ لتوحي بحضورها الفعال؛ لكنها:( في الليل تُغذي نفسها على تخيلات لكوارث: نهب المدن، اغتصاب السكان، أهرامات من عظام، فدادين من خراب). هذا التصور الذي تبنيه الإمبراطورية عن نفسها بين الليل، والنهار؛ كي تبقى، وتستمر يقوم على مدى فاعلية تخييل العدو البربري، واستمراره حضورا في ذهنية الشعب بحيث لا تحتاج الإمبراطورية لإعادة انتاجه إذ صار تحت النظرة؛ إلا في لحظاتها السياسية غير المرتبطة بطموح الشعب، والهادفة للتوسع!. من هنا يعترف القاضي بعد ترصده لهواجس الناس حول ( البرابرة ) بكونهم مجرد تخييل خاضع لوجد الناس على الحدود مع ناس آخرين، ويعيشون في يُسر، يقول القاضي:(  أنا شخصيا، لم أر، من هذه الأخبار، شيئا. لا حظت، بشكل خاص، أنه يحدث مرة في كل جيل، حالة من هستيريا حول البرابرة، ولم أخذل ولا مرة. ليست هناك امرأة واحدة تعيش على طول الحدود، لم تحلم بيد (برابرة) سوداء تخرج من تحت السرير لتمسك بكاحلها، ولا يوجد رجل لم يُخوِّف نفسه برؤى عن برابرة يسرفون في شرب الخمور في منزله، يكسرون الأواني، يشعلون النار في الستائر، ويغتصبون بناته). لماذا يحضر كابوس البربري بهذه القوة المُتخَيَّلة!؟. يُجيب القاضي:( الأحلام هذه هي نتيجة اليسر التام). لذلك يصر على صرخته:( أروني جيشا بربريا، وسأصدقكم)!. كان هؤلاء (البرابرة) مجموعات بدوية مترحلة تعيش حياتها في مسارين زمنيين حسب مواسم الصيد، وحين تقترب من حدود الإمبراطورية كما يدافع القاضي؛ فإنها تأتي؛ لأراضيها التي استعمرتها الإمبراطورية، ومنعتها من ارتياد مصائدها ورزقها؛ لذلك عوقب القاضي، وعذب من قبل عميد الإمبراطورية؛ لأنه فضح المتخيل الذي تعيش عليه الإمبراطورية حول وهم العدو البربري!. فقد كان القاضي يحاجج بيقين الحياة التي عاشها على الحدود:( كيف يمكنني أن أصدق أن الليل مليء بأشباح مرفرفة للبرابرة: لوكان للغرباء وجود في هذا المكان لكنت أحسست به تماما. انسحب البرابرة بقطعانهم نحو أعمق وديان الجبال، في انتظار أن يحس الجنود بالتعب ويرحلوا. عندما يحدث ذلك سيظهر البرابرة من جديد… سيقومون برعي مواشيهم ويتركوننا لحالنا، سنزرع حقولنا ونتركهم لحالهم، وسيستعاد السلام، في بضعة أعوام على الحدود). لم يُقبل تصور ودفاع القاضي هذا حيث جاء رد عميد الامبراطورية عليه بقوله:( هراء، أنت ببساطة جاهل بالحقائق. إنك تعيش في عالم ينتمي إلى الماضي. أنت تعتقد بأننا نتعامل مع جماعات بدوية صغيرة ومسالمة. في الحقيقة أننا نتعامل مع عدو جيد التنظيم). فحوكم كخائن للإمبراطورية؛ لأنه قام بالاتصال بالعدو، حيث ذهب مع مجموعة من الأشخاص للقاء البدو؛ ليسلمهم فتاة كانت أسرت مع والدها الذي قتل تحت التعذيب، حين أراد الدفاع عن ابنته التي كانت تتعرض للاغتصاب، والضرب!.

تدشن الامبراطورية سلطتها من خلال استعراض السلاح المادي؛ لكن هذا لا يكفيها؛ لذلك تنمّي رموزها الثقافية ذات الصبغة الرمزية؛ فتكون سلطتها الرمزية ممثلة في العين التي تراقب الحدود، وتصنع بالتالي الشكل الرمزي للغريب في مخيلة ثقافتها حين تسمّيه سواء في شكل شتيمة، أو في مروية مضادة تحمل حكما تاريخيا على ثقافته، وسلوكه.

من هنا حين كتب كفافيس قصيدته، وكوتزي روايته كانت كلمة ( برابرة ) مرت بتاريخ طويل احتشد فيها مما احتشد تلك المعاني التي ضمناها مرويتهما الأدبية عن رمزية عين الإمبراطورية عندما تُقولب الغرباء عبر التسمية، والمروية؛ لتجعلهم تحت عينها الثقافية، فلا يبرحونها؛ إلا بتأويل جديد حسب اللحظة السياسية التي تستدعيها!.

فمما نلاحظه في سياق هذا التاريخ تعقيبا على كلمة ( برابرة) أنها التصور العام للغرباء في مخيلة الأقوام الضعيفة التي تتعرض للغزو من قبل أقوام أقوى؛ لكنها مروية لا تحضى بالانتشار؛ لضعفها السياسي والثقافي، أما استعمال الإمبراطورية في رواية كوتزي؛ لتصف به مجموعات بدوية، فهو إعادة تخييل للكلمة التي ترتبط بالدموية، والوحشية؛ لكي تُشعر الشعب بأنهم محاطون بجيوش منظمة، ومتوحشة مما يحمي معنى وجود الإمبراطورية وجيوشها. بينما يتمثل شكل الغرباء لدى الغزاة الذين يمتلكون القوة بتعابير: الهمج، أو بحسب أكثر تعبير تداولا لدى الاثنوغرافيين الغربيين في القرن الثامن عشر عن الإنسان البدائي الذي مثله إنسان القبائل الأفريقية، وأمريكا الجنوبية هو: المتوحش الطيب!. وهو تعبير أنتجه الباحثون، والدارسون للإنسان الذين يمثلون القوة في معناها الثقافي، والرمزي في تلك اللحظة من التاريخ. هكذا يدل التعبيران على الشكل المتخيل للغريب بناء على واقع امتلاك السلطة؛ فالقوة تعمل على تحقير، واستصغار شكل الغريب في مخيلة الأمة، بينما الضعف يحول الغريب إلى بربري كاسح، وهاتك!. ومن جهة أخرى يطلق من يمتلك الحضارة، والقوة العسكرية على الغرباء الغزاة : البرابرة الهمج بحيث يضفي على قوة الهتك في كلمة ( برابرة ) معنى مليء بالتصغير، والاحتقار قياسا بما تمثله ثقافته بوصفها الأعلى مكانة، وحضارة. من هنا نجد استخدامها مثلا في القرن السادس الميلادي في ( تاريخ الكنيسة) ليوحنا الآسيوي حين يصف الشعب، أو القبائل التي واجهت الرومان ب (البرابرة) في فصل يعنونه بقوله:( عن الشعوب البربرية والرومان). وتحمل الجملة التي يفتتح بها الخبر الازدراء حيث يقول:( واجه الرومان عقبة ثانية من الشعوب البربرية المقيتة الذين يجدلون شعورهم كالنساء، أولئك الذين يسمون الآفار). هكذا كان يوحنا يصف الآفار، وهم شعب كان يتاخم الإمبراطورية الرومانية من جهة الشرق ب ( البرابرة ) على الرغم مما فعلوه بأهل مدينة سرميوم التي تركها الرومان لهم بحسب مايذكر يوحنا في خبر يسبق الخبر السابق الذكر. وكانت المدينة تعاني المجاعة، والهلاك، وحين دخلوها قاموا بإطعام أهلها، وبعبارة يحونا:( فعندما دخل الآفار المدينة ورأوا فاقة أهلها الشديد، ساعدوهم إذ أعطوهم خبزا يأكلونه وخمرا يشربونها، حتى شبع كل سكان المدينة طوال عامي المجاعة أما الذين نجوا من المجاعة فخرجوا من المدينة وارتحلوا عنها. واستولى عليها البرابرة واستوطنوها). هذا الفعل النبيل الذي قام به الآفاريون لا يصمد بحيث يُقنِع انطباع الذاكرة التي يتحدث عبرها يوحنا فيزيح عنهم تسمية( البرابرة) هو الذي كان يثني على الفعل حين يذكّر بخذلان الرومان لمن هم من جلدتهم، وديانتهم، ويتركوهم فريسة المجاعة!.

إن فعل العنف الذي تواجهه الجماعات من جماعات غريبة أقوى في الانطباع في الذاكرة من أي فعل كريم، أو نبيل. فالحذر رفيق دائم لذاكرة الجرح يتوج واقعيا على مستوى الشعوب بتطويق المدن بالأسوار، وتوظيف الحراس الدائمين على الحدود!.

قبل يوحنا الآسيوي ورد استعمال كلمة ( برابرة) لدى المؤرخ الأغريقي هيرودوت المعروب بأبي التاريخ في بدايات كتابه ( تاريخ هيرودوت ت: عبدالاله الملاح) حين يذكر هدفه من كتابة تأريخه وذلك؛ ليخلد :(مآثر الأغريق والبرابرة) ويستعملها الاغريق للدلالة على الشعوب التي لا تتحدث لغتهم، وفي تأريخ هيرودت يراد بها الفرس كما يوضح واضع شروحات الكتاب د. أحمد السقاف، بينما هيرودت نفسه يقول في كتابه الثاني المخصص للمصريين بأن لقب ( البرابرة):( هو اللقب الذي يطلقه المصريون على كل من لا ينطق بلسانهم). لعل في توضيح الشارح ملامسة خفيفه لما تنطوي عليه كلمة ( برابرة) إذ أسباب كتابة هيرودوت لتاريخه كما يوضح هو توثيق أسباب النزاع، والحروب بين الاغريق، والفرس.

من هنا نتلمس المعنى الازدرائي المرتبط بغرابة البطش الذي تحمله الكلمة في وصفها للشعوب الغريبة التي تحاربها، وتشن عليها الحروب!. فقد:( كان الاغريق ينظرون لكل الأغراب باحتقار وكانوا يدعونهم برابرة، وتعني التأ-تائين لأنهم لا يعرفون الاغريقية)!. وهذا المعنى هو مايؤكده لوكاكافللي سفورزا في ( الإنسان في الشتات). لقد دخلت إذن كلمة ( برابرة ) مسرح التاريخ الثقافي منذ الاغريق، وكان منشؤها الصدام مع الغريب!. فيتضح لنا من هذا التاريخ أن استعمال التسمية؛ كشتيمة هو سلاح رمزي متبادل بين الشعوب تصف به الشعوب ُالشعوبَ الغريبة عنها في النطق؛ لكنها محملة بكمية هائلة من الاحتقار، والتصغير!. لعل في تسمية ( العجم) الذي يرد بكثرة في مدونات التراث العربي بعد الإسلام نسخة مقاربة كان العرب يستعملونها مع من دخل الإسلام من غير العرب، حيث سينسب للعجم تهمة إفساد اللغة العربية؛ كما تخبرنا رواية ابن عبد ربه في العقد الفريد عن أبي عبيدة:( قال: مر الشعبي بقوم من الموالي يتذاكرون النحو، فقال لهم: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده). فالأعجمي من غير العرب، والأعجمي ضد الفصيح كما يذكر أبو حاتم الرازي في (كتاب الزينة) تحت كلمتي( العربي والعجمي):( هو الذي لا يفصح، وإن كان عربي النسب) و( يقال: رجل أعجم، وقوم عجم، إذا لم يفصحوا، ورجل عجمي، وقوم عجم، إذا لم يكونوا من العرب…). و( قال ثعلب: يقال قد أفصح الرجل الأعجمي إذا تكلم بالعربية). فيتضح مما يرويه الرازي علاقة العجمة بعدم الإفصاح أي عدم التحدث بالعربية بوضوح؛ فلا يفهم كلامه حتى وإن كان عربي النسب. هذه العجمة استعملت في عصور الخلافة الأموية، والعباسية؛ كدلالة على الازدراء، والانتقاص حيث يذكر من يرمى بها بأصله غير العربي!. بينما تشير لنا بعض المعاجم العربية على هذه الدلالات. ففي المنجد الأبجدي يقول عن (البربري) بأنه:( المتوحش والهمجي) وهذا المعنى الحديث الرائج. وذلك في الاستعمال المجازي للكلمة كما يشير المعجم. لكن ( البربر ) كما يشرح ابن منظور في لسان العرب:( جيل من الناس يقال إنهم من ولد بر بن قيس عيلان) في حين يحددهم المنجد الأبجدي بأنهم:( قوم بمغرب أفريقيا). وتحمل الشروحات الأخرى لتنويعات الكلمة على ارتباط كلمة ( برابرة) بعدم فهم اللغة، أو القدرة على الكلام بشكل واضح، ف (البربرة) كما يقول ابن منظور:( صوت المعزى). و( البربرة: كثرة الكلام والجلبة باللسان، وقيل الصياح. ورجل بربار إذا كان كذلك؛ وقد بربر إذا هذي). فالصياح والهذيان، والجلبة لا تجعل الكلام مفهوما، وبالتالي لا يتحدث بما يفهم؛ لأن ( البَرْبَرِي) كما يقول ابن منظور هو:( الكثير الكلام بلا منفعة). و(البَرْبَرَة: التخليط في الكلام…). تنسجم هذه المعاني مع دلالات استعمال هيوردت لكلمة (برابرة) على الأقوام الذين لا يتحدثون الإغريقية، وعلى الاستعمال المجازي الدال على التوحش، والذي يمكن القول؛ بأنه معنى جاء تاليا، وبفعل الحروب بحيث أعطي البربري الذي لا يفهم لغة القوم معنى الهمجية، والتوحش حين يدخل معها في حرب وصراع، لذلك تعمقت دلالته بحيث يكاد لا يعرف لكلمة ( برابرة أو بربري) إلا دلالة التوحش، والهمجية، وهي الدلالات التي ترسخت، وانتشرت حين أعيد استعمال الكلمة بشكل مفرط مع عصر الاستعمار الأوروبي منذ القرن الخامس عشر!. أما في العربية فقد استعمل المتنبي في بيت من قصيدة يمدح بها بدر بن عمار كلمة ( بربر ) بمعنى الصياح عند الغضب، وهو يحيلنا على المدى الشاسع الذي تم تضمينه للكلمة رمزيا بحيث تشير في الغالب إلى عنف رمزي كما يدل عليه استخدام المتنبي في قوله:

ألقى فريسته وبَرْبَر دونها،    وقرُبت قُربا خاله تطفيلا

يوضح الشارح ـ شرح ديوان المتنبي. عبدالرحمن البرقوقي ـ معنى (بربر) بأنها:( الصياح) غير أنه يستدرك، ويحيل أصل معناها إلى : ( كلام المُغضِب ) وهي استعارة: (لزمجرة الأسد). يتمثل العنف هنا في الصياح، والغضب الموجه نحو الآخر، كما تضمر معنى عدم الفهم في علاقة الاستعارة بصياح الأسد حيث هو أعجم، ولا يعرف من كلامه؛ إلا الصياح؛ فالصياح صوت أحادي لا يحيل على معنى سوى هدف الإزعاج، والإنذار، وإعلان الغضب!.

تكتنز كلمة ( بربر) إذن معنى عدم الفهم حيث تبين مما سبق أنها تطلق على من لا يعرف، أو يفهم من كلامه معنى واضح. فهو يتحدث كما تتحدث الغنم مجرد ( بربر ). وفي عاميتنا نقول عمّن لا نفهم كلامه بأنه شخص ( يبربر). إضافة لهذا الانعدام للمعنى يتحول معنى عدم الفهم بارتباطه بالغريب بوصفه حاملا للّامعنى إلى عنف مكبوت!. وهذا يكمن وراء نعته بالتوحش. عنف رمزي بدءا، ممثلا في المجهول الذي يحضر مع الغريب. هكذا يتماثل في الغريب الذي (يُبربر) معنيان مخيفان: فلا لغة تفهم، وبالتالي يكون العنف حاضرا خلف اللامعنى، حيث الصمت التام هو مايثير التوجس!. وعلى إثر الصمت تستعمل كلمة ( بربري ) و( برابرة ) كعلامة تحذير، من ثم مع تعالي قيم الذات إلى استهجان، واحتقار. وهي مجابهة رمزية مع الغريب؛ لتصغير كمية ذلك العنف المتواري خلف إيحاءات المعاني التي قد يحملها الغريب قاصدا بها الذات؛ فهي معان تختزن سمية عين الغريب الرمزية!. والمعني الآخر التوحش عبر إحالة معاني الأصوات التي لا تفهم إلى كونه حيوانا متوحشا!.

في القرن التاسع عشر الميلادي ـ انظر موسوعة علم الإنسان ت شارلوت سيمور- سميث ـ شاع مصطلح ( البربرية ) للدلالة على مرحلة من مراحل تطور البشرية الذي تأسس على يد مونتسكيو أول مرة ثم انتشر في الدراسات الانثروبولوجيا الاجتماعية. وهو مصطلح استخدمه مونتسكيو؛ لرسم مخطط لمراحل تطور تاريخ البشر حيث قسمهم من خلال هذا المخطط لثلاث مراحل:

  • ١- الصيد، وهي مرحلة التوحش.
  • ٢- البربرية، وهي مرحلة رعي، وفيها ظهر الاهتمام بصناعة الفخار والمعادن، والزراعة.
  • ٣- الحضارة.

مع شيوع هذا المصطلح في القرن التاسع عشر؛ إلا أن الاستعمال الشائع وقتها مع انتشار الاستعمار كان بمعنى ( البرابرة ) المتوحشين الذين يمثلون ثقافة دونية مقارنة بثقافة المستعمر. هكذا كانت تصف تقارير الاثنولوجيين، والرحالة الغربيين الثقافات الإفريقية، والأمريكية، والآسيوية؛ عدا لحظة ليفي شتراوس الذي قام عبر إعادة اعتباره؛ لهذه الثقافات بقول مايشبه جملة اعتذار عن ذلك التاريخ الانثروبولوجي الاستعماري!.

يجابه القوي العنف بالعنف العاري؛ إلا في لحظات الهدنات حيث تنشط اللغة الرمزية للعنف الصامت جراء تخييل ( عين الغريب ). ففي هذه اللغة يتم تمرين مخيلة الأمة على أسطورة البطل القومي عبر تكرار المرويات، ومع السينما دخلت مروية البطل الأسطورة عصرا ذهبيا حيث تجلى البطل القومي الخارق في أبهى عمل تقني، ولا زعامة تضاهي زعامة هولوود في ذلك. فما أنتجته في فترات الحرب الباردة كم مهول معيدة إنتاج مخيلة شعبها عبر هذه الأفلام بكونها تحت التهديد الدائم من الغرباء، وتزودها في ذات الوقت بالفخر القومي بما تملكه من أبطال قوميين!. هذا البطل حاضر دائما ـ انظر سلسلة أفلام رامبو على سبيل المثال التي استمر انتاجها مع ذات الممثل ( سلفستر ستالون) منذ مطلع الثمانينات حتى الجزء الخامس في العام٢٠١٩ ـ ومجهز للقيام بمهمته الوطنية للتصدي لشرور الغرباء!. وهي إذ تعمل على هذا التخييل تدل على هشاشة فكرتها عن نفسها؛ كدولة لذلك تحتاج كما هي الامبراطورية في رواية كويتزي إلى حضور عين الغريب المتخيلة على الحدود في ذهنية الشعب لتؤمن بقاءها!. أما الضعيف حتى من الأقوام القليلة الحيلة؛ فعلى الرغم من تغنيه بأسطورة بطله المنتظر؛ لإنقاذه؛ إلا أن حضور الطقوس الحامية من شرور الغرباء هي ما تشكل بناء تأمين على حياته من تلك الشرور، وحتى الوقت الراهن يُعد حضورها تكريسا لاستمرار طقوس القبائل البدائية!.

 فالضعيف يملك طقوسا أكثر لدرء مخاطر الغرباء. طقوسا سحرية تعبر عن العجز بامتلاك قوة مادية، تعمل؛ كأسلحة غيبية؛ لاتقاء الشر القادم مع الغرباء، لذا تحتفظ بها البيئات الشعبية، والمجتمعات الفقيرة والبسيطة ماديا!.

فقديما كانت العرب كما يشير جواد علي في ( المفصل ج ٦ ) تعلق على الصبي ماتسميه ( النفرة ) بسبب الخوف من النظرة!. ومن أنواع الخرز التي تستعملها العرب للغرض ذاته خرزة ( الكحلة ) التي يقول عنها الزبيدي في معجمه ( تاج العروس ):( الكَحْلَة: خَرَزَةٌ من خَرَزَاتِ العربِ للتأخيذِ تُؤَخَّذُ بها النساءُ الرجالَ، قاله اللِّحْيانِيّ… أو هي خَرَزَةٌ سَوْدَاءُ تُجعَلُ على الصِّبيانِ للعَينِ والنَّفسِ من الجِنِّ والإنسِ ). وهناك ( الودَعة ) وهي كما يقول جواد علي مما يرميه البحر؛ فتؤخذ، وتثقب، وتعلق كقلادة للحماية من العين !. ويروي الدميري في كتابه ( حياة الحيوان الكبرى ) أن العرب بسبب تشاؤمها من الغراب، ونجاسته لأكله الجثث؛ كانوا يعتقدون بأنه: ( إذا علق منقار الغراب على إنسان حفظ من العين ). أما في المعاجم العربية؛ كالقاموس المحيط للفيروزآبادي؛ فإن :( مايعلق على الصبيان) للحفظ من العين هو ( التميمة). فهي ( عُوذة تعلق على الإنسان) بحسب ابن منظور في لسانه، ويضيف:( هي خرزة كانوا يعتقدون أنها تمام الدواء والشفاء). وفي زيادة يقول:( التميمة: قلادة من سيور، وربما جُعلت العُوذةَ التي تعلّق في أعناق الصبيان. قال أبو منصور: التمائم واحدتها تميمة، وهي خرزات كان الأعراب يعلقونها على أولادهم ينفون بها النفس والعين بزعمهم…). ويؤكد ابن منظور نقلا عن ابن منصور أن التميمة هي الخرز، وليس السيور، وذلك مايفهم من قول الفرزدق:

وكيف يضِلُّ العنبريُّ ببلدةٍ        بها قُطعت عنه سيور التمائم؟

لكن ابن منظور لا يخبرنا عن نوعية هذا الخرز، ومما يؤخذ بحيث تبقى التميمة غامضة حين نربطها بحجر العين الذي يتحدث عنه البيروني كما سنرى. هذه التميمة هي الطوطم البدائي الحامي كما نلقاها لدى القبائل الاسترالية ـ انظر الأشكال الأولية للحياة البدائة. إميل دركهايم ـ حيث لكل فرد من أفرادها طوطمه الذي قد يتمثل ماديا في صخرة، أو شجرة. تعمل هذه الطواطم على تقديم الدعم، والحماية؛ لأفرادها من الشر، والسوء، وعلى الأخص من الأعداء؛ فهي تزود صاحبها بالقوة والشجاعة!. هكذا تفترض هذه الطقوس الحافظة أن عين غريب محدقة بمعتنقيها كلما كان هناك لقاء، ونظرة!. نظرة كانت خارج سياق فلسفة لفيناس الأخلاقية التي تخففت من هذا العبء التاريخي؛ لتسعى لبناء نظرة تحيل على عين الغريب؛ كبداية على المعرفة!.

فمن بقايا هذه التمائم، والأحجار رموز العين الزرقاء في البلاد العربية وتركيا، ومجسم، أو صورة الكف مرسوما في وسطها عينا وحيدة زرقاء؛ كأن اليد هنا تعبير عن القوة التي تعمل للتصدي؛ لشرور كل عين غريبة!. أما عن أماكن استعمالها ذات الدلالة؛ فكثيرا ماتعلق هذه الرموز في صدر المجالس المعدة لاستقبال الضيوف، أو في مداخل البيوت، أو تلبس على شكل قلادات متدلية على الصدر مثلما يفعل في التميمة العربية، أو في خاتم، أو أسوارة يد. فمن أقدم الآثار على هذه الرموز ما عثر عليها في نمرود العاصمة الآشورية القديمة في قصر الملك آشور ناصربال الثاني، وعرفت بكنز نمرود حيث وجد له ضمن هذه الكنوز خاتما به عين من الفيروز الأزرق، إضافة لخنجر من الذهب تزينه عين زرقاء من الفيروز!. هذا الاستعمال القديم لهذه الرموز بالنسبة لملك إحدى الممالك الكبيرة في العصور القديمة هو إشارة لامتلاك القوة السحرية للآلهة، والقوة المادية التي يمثلها السلاح الملكي. فهذا التعبير المزدوج هو سمة الممالك القديمة التي طورت رموزا دينية مثل فيها الملك صورتين تتقاطع واحدتها مع القوى الغيبية، والأخرى صورة بشرية بحيث يمكن القول عن هذا التمثل للقوة أنه خطاب عن امتلاك القوة العضمى في العالم التي لا يمكن أن تهزم باعتبار أن سحر قوة الآلهة معهم!. فقد كان ( الفيروزج) _ كما يُعرف قديما _ يسمى بحسب مايذكر البيروني في كتابه ( الجماهر في معرفة الجواهر) نقلا عن جابر بن حيان:( حجر الغلبة، وحجر النصر، وحجر العين). تدلنا هذه التسميات على المعاني الرمزية للحماية، وكف الأذى التي اعتقد بها الإنسان منذ القدم في حجر الفيروز الأزرق!. أما في العصر الحاضر؛ فنجد هذه الرموز ماثلة الاستعمال بواسطة استبدال للعين السحرية عن طريق إطلاق أسماء الرموز الدينية على الأسلحة الحديثة حيث برز هذا الاستمرار الرمزي لاستعمال القوى السحرية للرموز الدينية في العراق زمن الرئيس صدام حسين. فقد أُطلقت أسماء لرموز دينية على الصواريخ التي أطلقت على الاحتلال الاسرائيلي، وكذلك في حربه مع إيران. كما استخدمت في المقابل أيضا إيران الرموز الدينية؛ كتسمية؛ لصواريخها الموجهة في حربها ضد العراق. فقد سمّت أحد أنواع صواريخها ( بذي الفقار) حيث يحمل إشارة رمزية لسيف ذي الفقار الذي عُرف بحمله علي بن أبي طالب!. فإذا كانت الدول قديما، وحديثا تحتمي بالقوتين المادية، والسحرية الغيبية المتمثلة في الأحجار، والأسماء، والرموز المقدسة؛ فإن انهيارها، وضعفها لا يبقي في يديها، وشعوبها؛ إلا الخرافة، والعودة القوية للإيمان بالغيبيات كما يخبرنا يوحنا الآسيوي في كتابه( تاريخ الكنيسة) عن أثر انهيار مملكة العرب في القرن السادس الميلادي، وتفككها إلى قبائل. يقول يوحنا في القصة الحادية والأربعين، والثانية والأربعين عن تعاظم مملكة العرب أتباع الروم، وانهيارها: (انقسمت مملكة العرب إلى خمسة عشرة زعامة قبلية…ومن ثم ضعفت وانهارت مملكة العرب المسيحيين بسبب خداع الرومان. وبدأت البدع تظهر بين العرب). وهذا ماكان عليه الحال بعد انهيار الدولة العراقية جراء الغزو الأمريكي في العصر الحديث!.

بين هذا التحول نلحظ التبدل في رمزية الحماية في الثقافة الإسلامية حين استبدلت العين الزرقاء، والكف بالعبارات الدينية ـ وإن كانت تتوهم أنها تؤصل؛ لمعنى مضاد للوثني حيث هي في العمق استمرار لتقاليد التمائم الدينية القديمة وما الاختلاف؛ إلا في تغير المسميات والعبارات ـ مثل الصلاة على النبي، والعبارات المنتشرة على واجهة المنازل وزجاج السيارات: ماشاء الله، هذا من فضل ربي، أو كتابة الآيات القرآنية ذات العلاقة هنا بسياق التمائم الدينية:( قل أعوذ برب الفلق (١) من شر ماخلق).

يسجل لنا أرشيف ذاكرة الأمثال العربية هذا المعنى القار حول نظرة الغريب المسمومة الذي تحول من الحدث إلى المثل؛ ليثبّت المعنى كالنقش الحجري في جملته القصيرة الغامضة، وذلك في قول العرب في أحد أمثلتها كما يروي العسكري في ( كتاب جمهرة الأمثال ):( أكذب من سالئة ). حيث يعبر الكذب في المثل عن الخوف من العين. فبحسب شرح العسكري يُضرَب المثل فيمن بلغ بها الخوف أشده من نظرة الآخرين لما تملك. فالمثل  يشير إلى خوف المرأة التي تعد سمنها من أن تصيبها العين. وهذا مايؤكده الميداني في ( مجمع الأمثال ) حين يقول أن المرأة إذا سلأت سمنها ـ أي طبخته، وأذابته ـ :( كذبت مخافة العين )!. ومعنى الكذب هنا كما يوضح الميداني أنها تقول:( قد ارتجن، قد احترق..).

يُحيل المثل على ظاهرة واسعة حين يستخدم الكذب أداة للتواري عن العين حيث نجدها ماثلة؛ كأسلوب من أساليب الحياة الاجتماعية في الحياة العربية؛ فعبر التواري هذا يتم إعطاء استخدام الكذب هنا دلالة على استعمال العقل بوصفه يشير للتنبه من شرور محتملة من كل غريب قد يلتقط مالدى المتحدث من خير؛ فيثير طمعه فيه، حيث تُمثل العين هنها قوة الشر، وبالتالي زوال الخير حين يعتقد الشخص أن عينا أصابته؛ لذلك جاء في مدونات الكتاب المقدس في ( سفر الأمثال ) أن:( الرجل الذكي يستر المعرفة)!. وهي نتيجة لما تم إقراره في السفر ذاته بأن:( ضرراً يُضَرُّ من يضمنُ غريبا )!. وهذا يكمن وراء ظاهرة إخفاء الأسماء الحقيقية، واستبدالها بمسميات حركية؛ كي لاتستعمل في السحر!. ومما له دلالة على ذلك ما يرويه ابن السكيت عن أبي عبيدة في ( كتاب الألفاظ ):( يقال: لا تشوَّهْ علىّ، أي: لا تقل: ما أحسنه! فتصيبني بعين ). وتستعمل العرب في أمثالها العين الزرقاء دلالة على البغض حيث تقول : ( هو أزرق العين ) فتعني به العداء، والبغض، وهو الشرح الذي يحيلنا عليه الميداني روايةً عن الأصمعي حيث يقول: ( هو من صفات الأعداء ). وتقول العرب أيضا دلالة على هذا المعنى بحسب الأصمعي :( هو أسود الكبد، وهم سود الأكباد، وصُهْبُ السِّبَال). فهكذا كانت العرب تسمي الأعداء كما يرد في ( نقائض جرير والأخطل ) تعليقا على قول الأخطل:

عوادلَ عُوجا عن أُناسٍ كأنما      يرينَ بهم جمع الصقالبة الصُهبِ

حيث يشير الشارح إلى ( الصقالبة الصهب ) بأنهم:( صنف من العجم…أعداء العرب ). ويضيف ذات التسميات السابقة عن الأصمعي توضيحا لمسميات العرب للعداء. وتتوارد كثيرا هذه التسميات في الشعر العربي ماقبل الإسلام. فيقول الأعشى بشكل واضح:

وما حاولتِ من إتيان قومٍ      هم الأعداء فالأكبادُ سودُ

وعن عمرو بن معد يكرب يروى قوله:

ولم يُر معشرٌ في الناس مُردٌ      سمعتُ بهم ولا صُهْبُ السِّبالِ 

 وتحميل زرقة العين العداء ربما يلمح من إشارة الأخطل ل( الصقالبة الصهب ) دلالة على الروم، أوالرومان، والإغريق الذين دخل العرب معهم في حروب، وأيضا صداقات، وحروب تجارية ترجع بعضها لما قبل الميلاد. فبيت الأخطل السابق من قصيدة يمدح بها عبدالملك بن مروان؛ كغاز للروم في كل سنة كما نقرأ ذلك في قوله:

وفي كل عام منكَ للروم غزوةٌ     بعيدة آثار السّنابكِ والسّرْبِ

من هنا دوّن المثل لهذا العداء تلميحا؛ لزرقة عيونهم؛ فزرقة العين ليست مشهورة في العرب كما يشير الميداني!. على أن السؤال حول تضمين معنى الشر في زرقة العين منذ حضارة الرافدين يثير إلغازا؛ إلا إذا أحلنا معناه إلى ذات الفكرة!. لقد ربط المعري في أحد أبياته في ( اللزوميات ) بين الشر، والعين في قوله:

والشر في الخَلْق طبعٌ لا يزايله     فقِس على خرَز، في العين، أو نَجل

 قبل أن تمر رمزية العين بكل هذا التاريخ كانت قد عبدت كآلهة. فسجل الآثار يخبرنا أنها عبدت، وعرفت في الحضارة السومرية ضمن مجمع الآلهة السومرية حاملة معنين متضادين ـ انظر كتاب ( الحضارة السومرية) لخزعل الماجدي ـ أحدهما ( العين الحاسدة ) التي تتسبب بالأذى. وقد عبدت في تل براك بوصفها شيطانة الشر اتقاء لشرها. أما المعنى الرمزي الآخر فهو رمز ( إلهة العين ) الطاردة للحسد، والشر. وهي واحدة من آلهة المجمع الديني السومري، ولها تماثيل حجرية منحوتة تتميز بعين واسعة، ومحدقة. وقد عرفت رمزية الكف في ديانة اليمن القديمة أيضا كرمز سحري ـ انظر كتاب الإله عثتر في ديانة سبأ لخليل وائل الزبيري ـ تقدم، وتوجه للآهة عثتر والمقه في سبأ، ومعين توسلا للحماية حيث تعد من الرموز الدينية الخاصة بطقوس عبادتهما غير أنها تبدلت مع دخول الإسلام؛ فأصبحت تسمى حتى الآن بكف فاطمة حيث فاطمة في الأعراف الشيعية رمز للحماية، والخير، ويُتوَسل بها؛ كي تحفظ من كل شر، وهي نسخة شيعية من رمزية مريم؛ كأم حافظة في التقاليد المسيحية التي طورتها من نسخة الربة عشتار!. وهذا التحوير راجع لحضور التيارات الشيعية في اليمن، وانتشار التيار الفاطمي حيث خضعت للدولة الفاطمية في مصر منذ القرن السادس الهجري!.

كذلك تحضر في التقاليد الدينية المصرية ( عين حور أو حورس ) بمعنى مضاد للعين الشريرة، والحاسدة ـ انظر ( الديانة المصرية) لخزعل الماجدي ـ حيث يعتقد أن حاملها سينعم بالبركة، والأمان، والشجاعة، والقوة. هذه المعاني الرمزية التي أسبغت على العين، لم تكف عن الاستمرار، والحضور كرمز حام؛ ولكنه هذه المرة مراقب مثلما تحضر كرمز لمجمع الأخوة الأحرار ( الماسونية ) وسط مجموعة من الأدوات الهندسية التي ترمز للبنائين!. من وجهة نظر الغرباء الذين هم خارج المجمع يُنظر لهذه العين كشر، وتكفي الحكايات الشعبية حول هذا التجمع؛ لتكشف مدى الخوف من هذه العين التي يقال دائما أنها تتحكم بالعالم، وتريد به الشر، وعلى الأخص المروية الشعبية في العالم العربي!. هذه العين الطقوسية كما تحضر في الماسونية هي تطور لما عرف في تقاليد السياسة العربية منذ ماقبل الإسلام بالعين الجاسوسية!. فحين يقال: عين فلان، فيعرف بأنه من يقوم بمراقبة الآخرين لمصلحة سلطة ما. يفصّل لنا هذا المعنى ابن منظور؛ فيقول في لسانه:( العين الذي يُبعث ليتجسّس الخبر، ويسمى ذا العينين، ويقال تسميه العرب ذا العينين، وذا العُوَينتين ). وبعنى ضربة العين المسمومة يقول:( العين: أن تصيب الإنسان بعين…يقال: أصابت فلانا عين إذا نظر إليه عدو، أو حسود؛ فأثرت فيه فمرض بسببها). غير أننا نلقى جدلا لاهوتيا حول عبارة ( عين الله ) توسع رمزية العين المراقبة حيث يروي ابن منظور أنها:( لا تفسر بأكثر من ظاهرها ) فيمتنع بذلك السؤال عن كيفيتها، وماهيتها!. لكنها رمزيا تحيل إلى مراقبة الإله لخلقه حيث كما يرد في القرآن الكريم: ( لا تأخذه سنة ولا نوم له ). من هنا يتصف الخلق الذي يقع تحت ( عين الله ) الدائمة بالعبودية؛ فأحد معاني العين كما ترد لدى ابن منظور:( عبد عين أي مادِمت تراه فهو كالعبد لك)!. هكذا تحوِّل النظرةُ الدائمة الغريبَ إلى الاستعباد الذي يتمثل في جعل حركة الغريب الذهنية مشلولة حين يستشعر أن عينا تراقبه!. وهذا المعنى الذي تضفيه التقاليد الدينية على رقابة ( عين الله ) حيث تحث المؤمن على أن يجعلها رقيبة عليه؛ كي يأمن الزلات، ومخالفة وصايا الرب؛ وذلك بوصفها ممثلة للخشية من الله. وهذه الفكرة تتناسل في التقاليد الدينية الكتابية إذ نجدها في الكتاب المقدس مدونة في سفر ( الأمثال ) باعتبارها بداية الحكمة حيث جاء:( بدء الحكمة مخافة الرب ). عين الرب هذه تتحول رمزيا بطريقة متعاكسة لعين الدولة. هكذا يكون المواطن صالحا أمام الدولة بوصفه متبعا لخشيتها حين يطبق قوانينها؛ فيكون بذلك نصب عينها!.

 يزودنا ابن منظور أيضا بمعنى آخر في هذا السياق، بقوله:( والعين: الذي ينظر للقوم) يحيلنا هذا المعنى على فكرة السلطة العميقة التي تنظر للشعب حيث تملك ترسانة من التقانة تمثل عينا ساهرة تراقب كل حركة، وشاردة وواردة؛ ليس فيما يخص الشعب فقط بل الحدود التي لا يُعرف متى يأتي عبرها البرابرة!. من هنا كما قلنا تتقاطع عين الدولة رمزيا مع فكرة عين الإله!.

هذه العين اليقظة دائما في أوقات السلم كانت معروفة منذ القدم. فقد وردت بهذا المعنى لدى يوحنا الآسيوي في ( تاريخ الكنيسة ) عندما استرخى الرومان بعد هزيمتهم للفرس في القرن السادس للميلاد وتركوا السلاح، وأراحوا الجيوش. هنا يقول يوحنا:( فجأة جاءت عيونهم، أي جواسيسهم، وقالوا لهمانهضوا تسلحوا لأن جيش فارس قادم..)

 في روايته الشهيرة ( ١٩٨٤) يرتكز جورج أورويل في تصوره للتسلّط على المجتمع على ( نظرة الأخ الأكبر) وقد بات غريبا عن المجتمع. إنها عين مسمومة تحضر بكل ثقلها الرمزي عبر التاريخ، وقد تمثلت في سلطة مغتربة عن المجتمع؛ لتعيد للمجتمع هواجسه من عين الغريب التي تراقبه، وتكمن له بالشر على الرغم من كونها عينا نبتت من ثقافته؛ لكنها تحضر؛ للتعبير عن اغتراب عميق للمجتمع عن شكل سلطته. ومن هنا تتصف بالشر!. بمعنى آخر يتمثل اغتراب السلطة في ذهنية الناس بالشر كما هو تصور الغريب منذ البدايات. منذ النظرة الأولى العامرة بغموضها كان الغريب: شرا!.

إلا أن منتهى رموز هذه العين الآن ـ إذا ابتعدنا عن حضورها في المعتقد الشعبي ـ فلكلورا سياحيا سنجدها تتواجد بأشكال متنوعة في متاجر التحف من السوق العربية، والتركية حتى اليونان الحديثة ـ هناك اهتمام جمالي كبير في سوق المجوهرات اليونانية حول العين الزرقاء يتمثل في تنوع الصياغة، والتصميم ـ حيث ستصادفك في كل متجر يبيع التحف، وأدوات الزينة، والمجوهرات الحديثة؛ ليكون هذا الفلكلور تذكارا جماليا؛ لاشباع رغبات السياح التواقة؛ لاقتناء غرائب التقاليد!.