مجلة حكمة
الشعار الديموقراطي

الشعار الديمقراطي

الكاتبآلان باديو
ترجمةعبد الوهاب البراهمي

  بغضّ النظر عمّا يقلّل من شأن السلطة يوما بعد يوم، فمن اليقينيّ بأنّ كلمة ” ديمقراطية” تظلّ الشعار المهيمن في المجتمع السياسي المعاصر. إنّ الشعار هو مالا يمكن تجاوزه في نسق رمزيّ. يمكنكم أن تقولوا ما شئتم عن المجتمع السياسي، وأن تواجهوه بـ”نقد ” لاذع غير مسبوق، وأن تفضحوا ” الرعب الاقتصادي “، فسيُغفر لكم، ما دمتم تفعلون ذلك باسم الديمقراطية (من نوع:” كيف لهذا المجتمع الذي يزعم أنّه ديمقراطي أن يفعل هذا أو ذاك؟”)،. إذ في النهاية، فقد حاولتم تقييم هذا المجتمع إذن، باسم شعاره وبالتالي باسمه. أنت لم تخرج من البيت، ومازلت مواطنه، كما تقول، ولست همجيا، وسنجدك في مكانك المثبّت ديمقراطيا، أولا ومن دون شكّ، في الانتخابات المقبلة.

  أؤكّد إذن هذا: يجب، كي نتحسّس واقع مجتمعاتنا المعاصرة، بمثل تمرين ما قبلي، أن نزيح شعارها. غير أنّنا لن نصنع حقيقة العالم الذي نحيا فيه إلاّ بالوضع جانبا كلمة” ديمقراطية”، بالمخاطرة بأن لا نكون ديمقراطيين، وبالتالي أن ينظر إلينا ” الجميع” tout le monde” فعلا نظرة سيئة. ذلك أن “الجميع” لدينا، لا يعبّر عن نفسه إلاّ انطلاقا من الشعار. فـ”الجميع” إذن ديمقراطيون. هذا ما قد نسمّيه مسلّمة الشعار.

 لكن، يتعلّق الأمر بالنسبة إلينا بالعالم، وليس ” بالجميع”. فالعالم، تحديدا، كما يوجد في الظاهر، ليس عالم الجميع. ذلك أن ّ الديمقراطيين، أصحاب الشعار، وأناس الغرب، يحتلّون في هذا العالم موقعا أعلى، بينما الآخرون من عالم آخر، ليس عالما بحقّ، بحكم كونه آخر. هو حيّز للبقاء فحسب، ميدان لـ الحرب، والفقر والحواجز والأوهام. نقضّي الوقت في هذا الضرب من ” العالم”، من الميدان، في جَمْعِ أمتعتنا للفرار من الرعب، أو للذهاب، ولكن إلى أين؟ بالطبع، عند الديمقراطيين، الذين يزعمون الوصاية على العالم و يحتاجون إلى من يعمل لأجلهم. نقوم بالتجربة إذن، في الدفء وفي ظلّ شعارهم، فنتنيّن أن الديمقراطيين لا يرغبون فعلا فينا، و أنهم لا يحبّوننا. يوجد، بالأساس، “زواج أقارب سياسي”: الديمقراطي لا يحبّ إلا ديمقراطي. أما بالنسبة إلى الآخرين، القادمين من ميادين المجاعة أو القتل، فنتحدثّ أوّلا عن وثائق الإقامة، والحدود، ومعسكرات الاحتفاظ، والمراقبة البوليسية، ورفض التجمّع العائلي…يجب أن يكون هناك ” اندماج”. ولكن في ماذا؟ في الديمقراطية، من دون شكّ. وحتّى يقع الاندماج (اندماج هذا الآخر)، وربّما الاعتراف يوما ما، يجب التدرّب في بلده الأصلي على أن يكون ديمقراطيا، ساعات طويلة، وأن يجهد نفسه، قبل أن يتخيّل القدوم إلى العالم الحقيقيّ. وبين تدفّقين ثقيلين، ثلاث إنزال لمظليّين لمساعدات إنسانية، ومجاعة ووباء، اشتغلوا على دفتر اندماجكم، سِفْر الديمقراطي الصغير! إنّه امتحان عسير ما ينتظركم! من العالم المزيّف إلى العالم ” الحقيقيّ “، فالمرور في طريق مسدود. الديمقراطية نعم، ولكنها تهمّ الديمقراطيين، أليس كذلك؟ عولمة العالم، بالتأكيد، ولكن وفق شرط وهو أن يُبرهن خارجه عن جدارته بأن يكون أخيرا في الداخل.

وفي المحصّلة، ينضاف بعدُ إلى كون ” عالم” الديمقراطيين ليس بالمرّة عالم ” الجميع” “tout le monde”، كون الديمقراطية بوصفها شعارا وحارسا للحواجز حيث يستمتع ويعتقد أنه يعيش عالمه الصغير، تَضمّ أوليغارشيا أو أقلية محافظة، كلُّ مَسعاها، المُحارب غالبا، هو الحفاظ، تحت الاسم المغتصب “للعالم”، ما ليس سوى ميدان حياته الحيوانية.

حينما وضعنا الشعار وفحصنا علميا بأيّ ميدان يتعلّق الأمر- الميدان الذي يتحرّك فيه و يتوالد الديمقراطيون-، يمكن أن نصل إلى السؤال التالي: أيّ شروط يجب على ميدانٍ ما أن يستجيب لها كي يطرح نفسه، بشكل مخادع بوصفه عَاَلمًا، في ظلّ الشعار الديمقراطي؟ أو أيضا: بأيّ فضاء موضوعي، وبأيّ جماعيِّ collectif قائم تكون الديمقراطيةُ ديمقراطيةً؟

يمكننا إذن إعادة قراءة ما يمثّل في الفلسفة أوّل إزاحة للشعار الديمقراطي، وبالخصوص ما قيل في الكتاب الثامن من “الجمهورية“. يسمّي أفلاطون “ديمقراطية” نظاما قياديّا، نوعا من المؤسّسة. سيقول لينين هو الآخر لاحقا: ليس الديمقراطية سوى صورة للدّولة. غير أنّه بالنسبة إليهما، ما يجب أن نفكّر فيه ليس موضوعية هذه الصورة أو الشكل بقدر ما هو أثرها الذاتي. يجب على الفكر أن يرتحل من الحقّ إلى الشعار، أو من الديمقراطية إلى الديمقراطيّ. وتتمركز القدرة على إيذاء الشعار الديمقراطي في النمط الذاتي الذي تصنعه، وفي كلمةٍ، فالأنانية، والرغبة في المتعة الصغيرة هي السمة البارزة.

لقد كان لين بيو Lin Piao في ذروة الثورة الثقافية، -وهذا يجب أن نقوله في الأثناء-، أفلاطونيًّا في هذا الصدد، حينما قال بأنّ ماهية الشيوعية المزيّفة (تلك التي هيمنت في روسيا)، هي الأنانيّة، أو أيضا بأنّ ما يهيمن على ” الديمقراطيّ” المحافظ هو بكلّ بساطة الخوف من الموت.

تحوي مقاربة أفلاطون، بالطبع، جانبا محافظا خالصا. ذلك أنّ قناعته هي أنّ الديمقراطية لا تنقذ المدينة الإغريقيّة. وبالفعل فهي لم تنقذها. فهل يمكن أن نقول بأنّ الديمقراطية لن تنقذ أيضا غربنا المعروف؟ نعم سنقول ذلك فقط بإضافة أنّنا قد عدنا إذن إلى المعضلة القديمة: إمّا الشيوعيّة، مُعادٌ ابتكارها بطرق جديدة، أو بربريّة الفاشية المعاد ابتكارها هي الأخرى. لقد عرف الإغريق المقدونيين ثمّ الرومان. وفي كلّ الحالات هي العبودية وليس التحرّر.

يلتفت أفلاطون في صورة شيخ أرستقراطي نحو أشكال (أرستقراطية عسكريّة ذات تكوين فلسفي) يفترض وجودها، بيد أنّه في الواقع هو الذي اخترعها. تقترح نزعته المحافظة الأرستقراطية أسطورة سياسيّة. ونحن نعرف مُتحوّلاتٍ معاصرة لمسألة المحافظ المتخفّي في ضرب من الحَنِينِ. وأكثرها بروزا تلك التي لدينا، الصّنمّية الجمهورية، المنتشرة جدّا في بورجوازيتنا الفكرية الصغيرة، حيث تزدهر الدعوة إلى ” قِيَمِنَا الجمهورية”. من أيّ “جمهورية” تتغذّى هذه الدعوة؟ من تلك التي وجدت في مجازر أنصار ثورة باريس؟  communrds تلك التي تقوّت في الفتوحات الاستعمارية؟ من جمهورية كليمونسو، كاسر الإضرابات؟ تلك التي أجادت تنظيم مذبحة 14-18؟ تلك التي منحت بيتان Pétain كامل السلطات؟ لقد اخْتُرِعتْ “جمهوريةُ” كُلِّ الفضائلِ هذه، من أجل متطلباتِ القضيّة: الدفاع عن الشعار الديمقراطي، الذي نعرف أنّه قد أَفُلَ بشكل خطير، تماما مثل أفلاطون، بحُرّاسه- الفلاسفة، الذي اعتقد أنّه يرفع عاليا راية ارستقراطية قد أكل عليها الدهر وشرب. وهو الدليل فعلا على أن كُلَّ حنينٍ، هو حنينٌ لشيءٍ لم يوجد.

إنّ النقد الأفلاطوني للدّيمقراطية هو مع ذلك، أبعد من أن يكون محافظا فحسب أو أرستقراطيا. يقصد قوله في الآن نفسه ماهية الواقع الذي تشكّله الديمقراطية على مستوى الدولة، والذات التي تنشأ في عالم متشكل على هذا النحو، وهو ما يسمّيه “الإنسان الديمقراطي”.

إنّ أطروحتي أفلاطون هما إذن التاليتان:

  1. العالم الديمقراطي ليس إذن عالمًا
  2. لم تتكوّن الذات الديمقراطية إلاّ بالنظر إلى مُتْعَتِهَا.

هاتان الأطروحتان هما في نظري مُؤسّستان تماما، وسأتوسّع هنا في ذلك قليلا.

كيف لا تسمح الديمقراطية إلاّ بالذات المستمتعة أو ذات المتعة sujet de la jouissance؟

يصف أفلاطون شكلين من العلاقة بالمتعة يتكوّنان في عالم الديمقراطية المزيّف. الأول، حينما نكون شبابا، الاندفاع الديونوزوسي. والثاني حينما نكون شيوخا، هو عدم تمييز المُتَع. وبالأساس تبدأ تربية الذات الديمقراطية من خلال الحياة الاجتماعية المهيمنة، بوهم أنّ كل شيء متاح: ” الاستماع دون موانع” كما يقول الفوضوي ذي الثمانية والستون سنة. ” اللباس، وأحذية ” نايك” هي متعتي” يقول المتمرّد المزيّف “للضواحي”. غير أنّ الحياة الديمقراطية ذاتها تنتهي إلى وعي صمني بأنّ كلّ شيء يتساوى، وبالتالي لا شيء له قيمة إلاّ معيار كل قيمة ممكنة أوّلا: المال ثمّ العُدَّة التي تحمي مِلْكِيَتَها: الشرطة والقضاء والسجون. من الجشع المُسْرف التي يتخيّل أنّه حريّة إلى البخل المالي والأمني، هذا هو مسار الزمن.

   ولكن، أية علاقة لهذا بالعالم؟ لا يتّضح كلّ عالم بالنسبة إلى أفلاطون كما هو بالنسبة إليّ، إلاّ بالفوارق التي ينبني عليها، وبشكل متفرّد بالاختلاف، أولا بين حقيقة vérité  ورأي opinion، وثانيا بين حقيقتين نمطهما ليس هو نفسه (حبّ وسياسة مثلا، أو فنّ وعلم). حينئذ يقع التسليم بتساوي جميع الأشياء، فلنا مُسَطّحات، وحَوامِلَ، ومظاهرَ لا محدودة، لكن لا يمكن لأيّ عالم أن يظهر. إنّه فكر أفلاطون فعلا، حينما يصرّح بأنّ الديمقراطية هي شكل لنظام حكم ” رائع وفوضوي وغريب، يضطلع بضرب من المساواة لما هو غير مُتَساوٍ كما لما هو متساو”. والقبول هو فيما يجده فيه الشبّان، الذي هو القبول والرضا بالرغبات المشبعة أو التي قد تكون كذلك من جهة الحقّ. إنّ المساواة المبنية بين اللاّمتساوي أو المتفاوت والمتساوي ليست بالنسبة إلينا سوى المبدأ النقدي، المعادل العام الذي يحذف كلّ نفاذ إلى اختلافات واقعية، إلى اللامتجانس كما هو، والذي نموذجه الإرشادي paradigme هو التفاوت بين إجْرَاءِ المعرفة وحرية الآراء.

  إنّ هذه المساواة المجرّدة الخاضعة للكمّ الرقمي هي التي تمنع اتساق عالم وتفرض هيمنة ما يسمّيه أفلاطون “فوضى”. وليست هذه الفوضى سوى القيمة المسندة آليا إلى ما ليست له قيمة. إنّ عالما قابلا للاستبدال الكوني هو عالم بلا منطق خاص، وهو تبعا لذلك ليس عالما، بل هو فحسب حكما” فوضويا” للظاهر.

  إنّ ما يعرّف الإنسان الديمقراطي، الذي تربّى على هذه الفوضى، هو أنّه يُذَيِّت subjective فيها المبدأ، مبدأ قابلية الاستبدال لكلّ شيء. لنا إذن دورة مفتوحة للرغبات، وأشياء تتعلّق بها رغبات هذا الإنسان، ومُتَعٌ قصيرة يستخلصها من هذه الأشياء. تتكوّن الذات في هذه التداول. ولقد رأينا أنّ الذات تقبل، عندما تبلغ سنّا معينة، وباسم أولوية التداول (” التحديث”)، نوعا من اللاّتحديد للأشياء. فلا تنظر إلاّ إلى رمز التداول، المال بما هو كذلك. غير أنّ الشغف الأصلي، ذاك الذي يتعلّق بالإمكانية اللانهائية للمُتَع، هو وحده الذي يمكن أن ينشّط الدورة. من هنا، فإنّه إذا كانت حكمة التداول تقيم لدى الشيوخ- الذين أدركوا أنّ ماهية كلّ شيء هي البطلان النقدي nullité monétaire -، فإنّ وجوده النشيط، وإدامته المتواصلة، تستوجب من الشباب أن يكون فاعلا مميّزا. يقوم الإنسان الديمقراطي بتطعيم شيخٍ بخيلٍ بمراهقٍ مُسرفٍ. فيحرّك المراهق الآلة ويكنز الشيخ الأرباح.

 يرى أفلاطون بوضوح أنّ العالم الديمقراطي المزيّف، في نهاية الأمر، مجبور على عبادة idolâtrer الشباب، في ذات الوقت الذي يتجنب فيه حماسه. شيء ما في الديمقراطي هو بالأساس يافع، شيء ما يتّصل بالتطهير الكوني. وفي مثل هذا العالم المزيّف، مثلما كتب أفلاطون، ” يتصرّف الشيوخ على طريقة الشباب خوفا من أن يكونوا مملّين ومستبدّين”. وحتّى يستفيد بعائداتِ ريبيّتِهِ الكَلْبِيَّةِ، يجب أيضا على الديمقراطي الشيخ أن يتنكّر في صورة شابّ مقاتل، عليه أن يطالب كلّ يوم بـ” حداثة” أكثر، و”بتغيير”، و”بسرعة”، و”مرونة”. نموذجه في ذلك هو الشيخ المحبّ لموسيقى الرّوك والذي لا يَكِلُّ والميلياردير الذي يستمرّ، مترهّلا جدّا ومتجعّدا، في الصّراخ في مصدحه وهو يتلوّى في سيارته القديمة.

  كيف ستصبح الحياة الجماعية، حينما يكون شعارها الشباب الأبدي؟ حينما يختفي معنى العمر؟ توجد من غير شكّ إمكانيتان. في غياب مستوى حقيقيّ (رأسمالي…) للتداول النقدي، تكون هذه الصورة إرهابية، لأنّها تثمّن دون حدّ وحشيّةَ وعدم وعي المراهقين. لقد شاهدنا آثار الصيغة الثورية الرهيبة لهذه النزعة “الشبابية” jeunise الفقيرة مع الحرس الأحمر للثورة الثقافية و مع الخَمير الحُمْر. أما صيغتها غير المؤدلجة، فهي العصابات المسلّحة للمراهقين، التي تحرّكها قوى خارجية أو أسياد حرب، يزرعون الرعب في عدد من البلدان الأفريقيّة. إنّها هنا الحدود الجهنّمية لديمقراطوية المراهقين المنفصلة عن التداول النقدي للأشياء، إلاّ من تداول الأسلحة القاتلة التي يوفّرونها لهم بكثرة. لكن ما هو الحال عندنا؟ تفرض الأولوية لدى الشباب عندنا الترفيه كقانون اجتماعي ” رفّهوا عن أنفسكم” هو شعار الجميع. حتى أولئك الذين لا يقدرون عليه مطلقا به ملتزمون. من هنا كانت الحماقة الأساسية للمجتمعات الديمقراطية المعاصرة.

   يسمح أفلاطون، في كلّ الحالات، بالتفكير في مجتمعاتنا بوصفها تشابكا لعوامل ثلاث: غياب عالم،الشعار الديمقراطي بوصفه ذاتية خاضعة للتداول والأمر القطعي للمتعة بما هي مراهقة كونية. إنّ أطروحته هي إذن، كون التركيبcombinaison يُعَرِّضُ بالضرورة المجتمع، الذي ينتشر فيه، إلى كارثة شاملة، لأنّها غير قادرة على تنظيم نظام للزمن.

  إنّ التوصيف المعروف الذي يقدّمه أفلاطون عن الفوضى الوجودية للديمقراطيين الراضين تُقَدّم نفسها أوّلا بوصفها مديحا ساخرا لما سيسمّيه سقراط في موضع آخر ” هذا النوع من الحكم الجميل جدّا واليافع جدّا.”:

  ” لا يحيا الديمقراطي إلاّ في الحاضر الخالص، ليس له من قانون سوى الرغبة العارضة. يأكل اليومَ طعاما شهيّا ويشرب الخمر، وغدا يُخصّصه لبوذا، الزاهد الشاب، الماء الصافي والتنمية المستدامة. ويوم الاثنين سيستعيد لياقته بالركوب على الدراجة الثابتة لساعات، ويوم الثلاثاء، ينام كامل اليوم، ثمّ يدخّن ويحتفل. ويوم الأربعاء يصرّح بأنّه سيطالع كتابا في الفلسفة، ولكنّه يفضل في النهاية أن لا يفعل شيئا. ويوم الخميس يتحمّس في الغداء للسياسة، ويثور غاضبا من رأي جاره، ويتّهم بنفسِ الحماسِ الغاضبِ المجتمعَ الاستهلاكي ومجتمعَ الفُرْجَةَ.ِ وفي المساء. يذهب ليشاهد في السينما عملا فنيا ضخما من القرون الوسطي حربيا وبلا قيمة. ثمّ يذهب لينام ويحلم أن ينخرط في التحرير المسلّح للشعوب المضطهدة. وفي الغد، يذهب إلى العمل مكفهرّا، ويحاول عبثا إغراء سكريتيرة المكتب المجاور. انتهى، لقد حلف أن ينخرط في مجال الأعمال! وسينعم بأرباح تجارة العقارات! ولكنها نهاية الأسبوع، إنّها الأزمة، سيَنْظُر في كلّ ذلك الأسبوع المقبل. هذه حياة، على كلّ حال! لا نظام فيها ولا فكرة، ولكن يمكن أن نقول عنها جذّاّبة، فرِحَة، وخاصّة حرّة بقدر ما هي تافهة. أن ندفع الحريّة ثمنا للتفاهة، فذاك مقابل بخس. (1)

   إنّ أطروحة أفلاطون هو أنّه في يوم من الأيّام سيُحقّق هذا النمط من الوجود، – الذي ماهيته عدم انضباط الزمن- وشكل الدولة الذي يتملّكه – الديمقراطية التمثيلية-، بطريقة مرئية، ماهيَتَهُ الاستبدادية، أي الحكم، بوصفه مضمونا واقعيّا لما يقدّم نفسه ” جذابا ويافعا”، ولاستبدادِ غريزة الموت. لأجل ذلك ينتهي الجواز الديمقراطي، بالنسبة إليه، إلى كابوس واقعي للاستبداد. يقترح إذن أفلاطون القول بأنّه يوجد ارتباط بين الديمقراطية/ العدمية، حالما نواجه مسألة العالم ومسألة الزمن. ذلك أن اللاّعالم non-monde الديمقراطي هو انفلات زمني. فالزمن بوصفه استهلاكا هو أيضا الزمن بوصفه إهلاكا أو إفناء. فشعار العالم المعاصر إذن هو الديمقراطية، والشباب هو شعار هذا الشعار، لأنّه يرمز إلى زمن غير محتفظ به. ليس لهذا الشباب بالطبع أيّ وجود جوهراني، إنّه إنشاء إيقوني iconique، نتاج الديمقراطية. غير أنّ مثل هذا البناء يستدعي أجسادا. وهذه الأجساد مكوّنة حول سمات ثلاث: المباشرتية l’immediateté (لا توجد سوى التسلية)، النمط (تعاقب حاضر قابل للاستبدال) وحركة في نفس المكان (” نحن نتحرّك”).

   أن لا أكون ديمقراطيا، هل هو أن أصير أو أصير من جديد شيخا؟ لكن لا، لقد قلت ذلك، يستيقظ الشيوخ ويجمِّعون. وما يجب قوله، هو هذا: إذا كانت الديمقراطية تجريدا نقديّا كتهذيب لغريزة الموت، لا يكون نقيضها إذن بالمرّة الاستبداد أو ” الكليانية”، بل نقيضها هو ما يريد أن يَطْرَحَ الوجود الجماعي من سيطرة هذا التنظيم. هذا يعني، على نحو سلبي، بأنّ نظام الدوران لا يجب أن يكون أبدا نظام النقد، ولا نظام التراكم الذي للرأسمال. سنرفض إذن مطلقا أن نُودِع صيرورة الأشياء للمِلْكية الخاصّة. يعني هذا وَضْعِيًّا، أنّ السياسة، في معنى التحكّم الذاتي – للفكر العملي- في صيرورة الشعوب، سيكون لها، مثل العلم أو الفنّ، قيمة بذاتها، وفق المعايير اللازمانية التي يمكنها أن تكون معاييرها. سنرفض إذن توجيهها إلى السلطة والدولة. إنّها(أي السياسة)، وستكون، منظِّمة لاضمحلال الدولة وقوانينها في صلب الشعب المُجَمّع والفاعل.  

ــــــــــــــــــــــــــ

1- يوجد هذا المقطع في نص ” الجمهورية” الكتاب الثامن، 56id. الصياغة التي قدّمت هنا فهي لترجمة ” متوحّشة” hypertraduction أصلية لهذا الكتاب أنا بصدد القيام بها.، وستنشر في نهاية 2010. يقصد هذا العمل إظهار أن أفلاطون هو معاصر رئيسي. وفي هذه الصياغة، يقتطف هذا المقطع من الفصل 7 بعنوان” نقد للسياسات الأربعة الماقبل شيوعية”. ولقد كان لا بدّ لي من تحوير تقسيم الجمهورية في عشر كتب، و تقسيم هو دون أيّ دقّة في عصر متأخر قام به أحد أو عدّة نحويين اسكنرانيين.

   لقد رأى أفلاطون بوضوح هذين العاملين، حتّى لو، في حدود الزمن الذي هو زمنه، قيّدهما فيما يسمّيه حياة” حرّاس” المدينة، مُستبْقيًا كلّ الآخرين في مواضع منتجة ثابتة. فالحراس لا يملكون شيئا، يهيمن لديهم “المشترك” والتقاسم، وسلطتهم ليست سوى سلطة الفكرة، ذلك أنه ليس للمدينة قوانين.

  سنعمّم هذه المبادئ على سائر الكائنات البشرية، هذه المبادئ التي يحتفظ بها أفلاطون لأرستقراطيته العارفة. أو بالأحرى، كما يقول أنطوان فيتاز، فيما يخصّ المسرح والفنّ، وميلهما إلى أن يكونا ” نخبوبة للجميع”، سنتحدّث إن شئنا عن” ارستقراطوية للجميع” ” aristocratisme pour tous”. غير أن الأرستقراطوية للجميع هي التعريف الأسمى للشيوعية. ونحن نعرف أنّ أفلاطون كان أوّلا، بالنسبة إلى العمّال الثوريين للقرن 19م، الصورة الفلسفية الأولى للشيوعية.

  وإذا ما كنّا نفهم ممّا يناقض مذهبا، لا نسخته الكاريكاتورية، بل التأكيد الإبداعي الذي يجعل كلّ العُدّة بلا جدوى، نفهم عندئذ هذا: نقيض الديمقراطية، في المعنى الذي يضفيه عليه الرأسمال- البرلمانوي، لحظة شفقه اللامنتهي، ليس إذن الكليانية، وليس الديكتاتورية، إنّما الشيوعية التي، لو تحدثنا مثل هيجل، تمتصّ وتتجاوز شكلانيّة الديمقراطيات المحدودة.

  في نهاية هذا التمرين الذي، يعلّق كل سلطة لكلمة ” ديمقراطية”، والذي يتيح لنا فهم النقد الأفلاطوني، يمكننا مع ذلك استبعاده، في معناه الأصلي: وجود الشعوب، المنظور إليها بوصفها سلطة على نفسها. السياسة المحايثة للشعب بوصفها مسارا مفتوحا لاضمحلال الدولة. نرى بوضوح إذن بأنّنا لا نملك فرصة للبقاء ديمقراطيين حقيقيّين، وبالتالي أناس متجانسين مع الحياة التاريخية للشعوب، إلاّ بقدر ما نصبح مجدّدا شيوعيين، في أشكالٍ تُبتكر اليوم ببطء.

                                      آلان باديو – “الديمقراطية، ما حالها؟”

                                                                                  (مجموعة مؤلفين )

Démocratie, dans quel éta  –    ” écosociété” 2009 ص 10-17