مجلة حكمة
عنف العنف

العنف والعنف – جان لوك نانسي / ترجمة: وليم العوطة

  1. أدوّن هنا ما بإمكانيَ استرجاعه، بمساعدة ملاحظاتي، من المداخلة الموجزة التي طُلبَت مني في اختتام ندوة “المائدة الفلسفية المستديرة”. يبدو لي أنّه من المستحسن أن أبقى قريبًا قدر الإمكان ممّا قيل بالفعل حينها. سأضيف إليه فقط لأختتم، بطريقة مميّزة الوضوح (تحت رقم 7)، ببعض المؤشرات عن الموضوع الّذي كنت سأحاول تطويره لو سمحت الظروف بذلك (بينما من  الواضح أنّ فحواه لا يمكنه أن يغيب عن مداخلتي).
  2. عند الاستماع إلى شركائي في هذه المائدة المستديرة، أدهشني عددٌ معين من أوجه التقارب، والجدير بالملاحظةِ أنّ هذه الأوجه لم تعكس اتفّاقًا مسبقًا. مع كونها، بلا شكٍّ، شكليةً، إلى حدٍّ ما (ولكن فقط إلى حدّ ما)، لم توفّر هذه التقاربات، مع ذلك، إشارةً في اتّجاه ما يشبه “سمة العصر”. ولكن، وعلى الرغم من إنّها لن تخلقَ “عصرًا” بالمعنى القويّ للكلمة، ولكنّ “سمات العصرِ” تكشف عن بعضِ ضروراتِ الفكر.

فلنصف الوضع الّذي ساقنا إلى هذه السمة: ندوة مكرسة للـ”عنف”، وقبل كلّ شيء، من زاويةٍ اجتماعية وسياسوية. ويوضّح برنامجها أنّها ستتناول، في المقام الأوّل، تحليلَ شروط العنف الاجتماعيّ، وأسبابه، وأشكاله، من أجل تظهيرٍ أفضلٍ لإدانته، واستخلاصٍ أحسن لطرق مقاومته أو تقليصه.

دعيَت مجموعةٌ متنوّعة جدًا من الفلاسفة، وبدا أنّ الجميع قد استعدّ مسبقًا، لا للمشاركةِ البسيطةِ، من منظورٍ فلسفيّ، في تحليلٍ نقديّ للعنفِ فحسب، بل لاقتراح تحليلِ تعقّدٍ analyse d’une complexité، أو حتّى تضاربٍ جوهريّ لموضوعِ العنفِ ذاته. إذا اعترفنا بأنّ الأمر لا يتّصل بمتلازمةٍ مبتذلةٍ من المماحكةِ “المتفلسفة”، وليس أيضًا بنزوعٍ (سيّىءٍ) مخفيّ من أجل شرعنةِ العنف (هذا الشيطان القديم للـ”توتاليتاريا الفلسفية”)، فيجب أن نأخذ بالاعتبار ما يلي: تتوفرّ أمامنا، اليوم، مسألةٌ عن العنفِ، وهي ليست خارجيّةً فقط (تنفتحُ على المقاومةِ الأخلاقيةِ والسياسيةِ للعنوفِ[1] الفعلية – وهذه المقاومة لا تكوّن، في نهايةِ المطاف، مسألةً، بل إجماعًا غالبًا ما يقترنُ بالعجزِ)، بل تكون داخليّةً أيضًا.

وعلى وجهِ التحديد: يتجاوزُ التفكيرُ في شيءٍ ما في العنفِ، أو مّما يوضع، على وجهِ السرعةِ، تحت خانةِ المصطلح الفريد للـ”عنفِ”، إدانتَه البديهية. لا شكّ أنّ “ماهية” العنفِ لم يستنفدها شجبُه، وربّما لن تكون معالجة مسألةِ “الماهية” هذه (و\أو المفهوم، و\أو تاريخ المفاهيم والماهيات نفسها) من دون أثرٍ على التحديداتِ الأخلاقية والسياسيةِ الّتي نحتاجها. يبقى أن نفكّر -أو هذا ما يتبادر اليوم إلى الذهن- بما هو من نمطِ تنوعٍ للـ”عنوف”، وربّما “طيّةٍ” داخليةٍ للـ”عنف”.

لهذا السبب، عنونتُ هذه الملاحظات بـ”العنف والعنف”، لا بقصدِ أن أعنيَ بذلك المكان topos “عنفٌ وعنفٌ” (الشرعيّ واللاشرعيّ، الجيّد والسيّىء، الثوريّ والرجعيّ…إلخ)، وهو الّذي استُنفِدَت سرديته أيضًا(مع المشاكل المرتبطة اليوم بعنوفِ الدولةِ، والعنوفِ الثورية، وبـ”الدفاع المشروع” في كافّةِ حالاته، وبالحربِ “العادلة”، وعقوبة الموت…إلخ.)

ما يبرِزُ، بالإضافة إلى ذلك، سمةَ العصر كما هي، أي الحضور الجليَّ، والمتصدّر للأحاديث المدلى بها في الندوة، لما يمكن تسميته بحقّ التقاليد الفلسفية الحديثة والمتعددة لتعقيد complexification أو لتفكيكِ مفهوم “العنف” أو مفهوماته، وهو ما سأعود إليه.

  • بدا لي أنّه يمكن رسم التقارب بين تصريحاتِ الفلاسفة في الندوةِ، وهو، مرةً أخرى، أقلُّ من التفاوت بينهم، في ثلاث نقاط:
  • يوجد ما هو أوليّ وتكوينيّ في العنف، ويرتبطُ بالغيرية altérité، وبالعلاقة بصفتها كذلك(لكنّه، في هذه الحقيقة بالذات، يختلفُ عن دافع “العدوانية الطبيعية”)
  • على الرغم من ضرورته، يشكّل القانون وحده ردًّا غير كافٍ(وليس فقط لأنّه سيفتقر، في حدّ ذاته، إلى القوّة)
  • لا يمكن لآخرِ العنفِ أن يكون لاعنفًا محضًا وبسيطًا، بل يتطلّب “عنفًا مضادًا”.

اعرِضُ عن هذا الترسيم الثلاثي، وعن أسئلةٍ لا حصر لها يثيرها. ليس لي أن أطوّره من وجهةِ نظرِ المتحدّثين الآخرين، بافتراض أنّهم يقبلونه كما هو. من ناحيتي، حاولت التعليق عليه من المنظور التالي:

  • بادئ ذي بدء، وبطريقةٍ بسيطةٍ للغاية، يوجدُ اعتبارٌ تاريخيّ: يتوفرُّ في الحداثة كلّها، وبلا شكّ كواحدةٍ من أكثر سماتها تحدّدًا، موضوعٌ متكررٌ للالتباسِ والازدواجية، وحتى لانعدام قدرةِ البرهنةِ على العنف. هي مسألة موضَعة [من موضوع]، وليس استخداماتٍ متعدّدةٍ للعنف، ولا حتّى لعنوفٍ من طبائع مختلفة، بل بالأحرى مسألة تكوينٍ ملتبسٍ جوهريًا للعنف – وهذا الأخير، علاوة على ذلك، ربّما لم يُعثَر عليه إلاّ في هذا التطوّر التاريخيّ للمفهوم و/أو المسألة الّتي تعنينا.

لا أريد تعقّبَ هذا التاريخ، بل سأكتفي بسلسلةٍ من الأسماء التي سيكون لها بذاتها، ومن دون شكٍّ، بلاغةٌ خاصّة: هيجل، وشوبنهاور، وماركس، ونيتشه، وسوريل، و[والتر]بنيامين، وباتاي، وهايدغر، وسارتر، ودريدا، و[رينيه]جيرار، على الأقل. (عند تقاطعِ هذه النصوص كلّها ، ليس كموضوعٍ فحسب، بل بالمعنى التاريخيّ الدقيق لكلمة “تقاطع”، ينبغي، بلا شكٍّ، إعادة تفحّصِ نصّ بنيامين في هذا الصدد).

لن أتعقّبَ هذا التاريخ، لكنني مقتنع بأنّ إعادة بنائه بدقّةٍ، بحسبِ تكوّنٍ حقيقيٍّ للعنف كخاصيةٍ للحداثة، ستكون حجر الزاوية في عملية البناء. في هذه الأثناء، أودّ ببساطة اقتراحَ التالي: الخيط الأساسيّ لهذا التاريخ يقوم، مع الحداثة وكواحدة من آياتها، على أنّ العنف ولجَ الكائنَ ذاتَه(هذا لا يستبعدُ إرجاعُ “الحداثة”، هنا كما في أيّ مكانٍ آخر، إلى كلّ “عصورها القديمة”، حتّى على نطاق أوسع.

لكنني لن أعيد تنشيط النقاش برمّته حول مفهوم “الغرب” في هذه النقطة، على الرغم من أنّ اللافت للنظر أنّ “العنف” يشغلُ، بلا شكٍّ، في هذه الإشكالية، مقامًا -هل يجب أن نقول “للأسف”؟ – متميّزًا). تعني عبارة “ولجَ العنفُ الكائنَ ذاته”: أنّه لم يعد من الممكن تمثيله آويًا إلى “طبيعةٍ” خارجيةٍ، أو، على نفس المنوال، مستوعَبًا في “الثقافة” (وهي نفسها تتصوَّر، بالعمقِ، أنّه هو من يوجّهها). يجب أن يُفكّر بـ”الثقافة” نفسها (و/ أو “الذات”) وفقًا للعنف، وفقًا لعنفٍ أو لـ “طيّةِ” العنف – وهو “عنفٌ” يكوّن، من ثمَّ، “الذاتية” نفسَها .

  • . (أعرض هنا ملاحظة تخطرُ لي: يتشارك العنف “في الكائن” مع عنفٍ في اللّغة – بل بتفكيرٍ في اللغة وفقًا للعنف. من دلالةٍ عنيفةٍ إلى عنفٍ دالٍ، مرورًا باغتصابٍ للّغة، سيتوفرّ لنا مسارٌ للحداثة نميّز فيه أسماء هيجل، وهوغو، وبودلير، ومالارمي، ورامبو، وبروست، وباوند، وسيلين، وجويس، وبيكيت، وسيلان، وأولئك الّذين أنساهم والعديد من المقلّدين. لن نتخلّصَ من تحليلٍ للعنف إذا لم نمر بهذه الحالات كلّها. وبكافةِ المعاني الممكنة، سيلزمنا هذا التعليقُ من هذا الشطر لبيسوا: “كلماتكِ تنكّلُ بي”. علاقة عنيفة باللغةِ، واللغة – واللّغات في ما بينها أيضًا – كعلاقٍة عنيفة. ها هو جزءٌ أساسي من تراثنا.)
  • هذا الظهور للـ”عنف” في الكائنِ واللّغة (بل، ككائنٍ وكلغةٍ، وأيضًا كعلاقةٍ بين الكائنِ واللغة) يرتبطُ بظهورِ مسألة العلاقة، على هذا النحو وعلى نحوٍ مطلق – وبالعلاقةِ الأونطولوجية أو بأونطولوجيا العلاقةِ كحالةٍ أخيرةٍ حقيقيةٍ، بالأونطولوجيا بما هي كذلك. يسرّني أن أقول: بتَّت هذه القضية مع روسو). لكن، هذا لا يعني أن العلاقةَ ستستلزم، وباستمرارٍ، العنفَ ذلك لأنّه يحيل، قبل كلّ شيءٍ، إلى السلطة. فالسلطة نفسها، مع عنفها الخاصّ، لاحقةٌ للعلاقة. (هذا ما سعى روسو، على نحوٍ مبهمٍ، إلى التفكير فيه. لكن تبقى صورة العقد نفسها لاحقةً للعلاقة في حدّ ذاتها.)

بالمقابل، سيكون من الضروري التفكير في آنٍ واحد:

  • بأنّ العلاقةَ تعاصرُ حدودها وتتمادى [من امتداد] معها. هذا ما بدأ مع هيجل ويستمر معنا، بدون أن تجد هذه التعاصرية contemporanéité والامتدادية للعلاقة وحدودها طريقها لتتمفصَل خاصّةً على هذا النحو (وربما لا تتوفرّ على تمفصلٍ “خاصّ” بما هي كذلك…). يفكَّر دائمًا بالعلاقةِ على أنّها “من واحدٍ إلى آخر”، بينما لا يمكن أن يوجد “الواحد” و”الآخر” إلاّ عبرها، أي أنّ كلّ “واحدٍ” هو “آخر”. لم تُستوعَب بعدُ العلاقةُ بما هي “جماعة” communauté للآخريةِ (مثل “مشتركٍ” بالقوّة الكاملة للمعنى المزدوج للكلمة)، لأنه يُعتقد أنّها تطرأ على الواحدِ وعلى الآخر، ومن ثمَّ، كالتياثٍ altération للواحدِ والآخر، بدلاً من أن تكون غيريةً أصلية. هذا ما يمكن أن أسمّيه التعاليَ المطلق للـ في جماعيّ en-commun (حيث تشير الـ “في” en بدقة شديدة إلى لاجوهرية ولاهوية الـ”جماعيّ” على هذا النحو ، أو الكائن-في-الجماعيّ).
  • بأنّ العلاقة، وعبر هذه الحقيقة بالذات وهذه الحقيقة وحدها، وبفعلِ التعالي المطلق لما هو جماعيّ، هي تمزّقٌ لتكامليةِ المتجانسِ (أيا كان: تجانسُ أحدهم، أو تجانس آخرٍ، أو جماعتهما). العلاقة تمزّقٌ للمتجانس، والمستمرّ، وللجوهريّ، أو انسحابٌ أصليٌ منه (أو، إذا أردنا القول، انسحابٌ من الكائنِ: الكائنُ- في- الجماعيّ كسرٌ للكائنِ). هكذا، يوجد عنف أرشي Archie أو عنفٌ متعالٍ مطلقٌ للعلاقة، عنفٌ بتمثلُّ تحديدًا في لاجوهريته أو في لاماهويته، أو للدقّةِ، في ماهويةِ لاماهويته. وبالمثل، عند هيجل، وكصنفٍ من نموذجٍ أوّل للعلاقة، فإن عنفّ القوّة هو ما يحدث للجوهر من حيث هو محايثٌ مجرّد، والأخير، على هذا النحو، “لا يلقى سوى ما يستحقّه”. لدينا هنا، في الواقع، إحدى حالات “السالبية المردودة إلى الذات”، أيّ أننا في قلب الديالكتيك.

لن أذهب هنا أبعد من ذلك، أي إلى التحليل الذي ينبغي إجراؤه في إطار الديالكتيك الهيغلي- الذي يمكن لـ”قلبه” أن يكون فكرًا “عنيفًا” مثل الفعل المتعاليّ للعلاقة. أودُّ القول ببساطة: هي ليست مسألة أنّ “العلاقةَ عنيفةٌ”، بل بالأحرى إنّ “العنف علاقة”.

  • لكنّني أرغب بالإشارة إلى التالي: يتبقّى ما لم يُفكّر فيه إلاّ قليلاً، وهو أنّ هذا “العنف” “الأصليّ” للعلاقة بما هي كذلك، أي “تمزّق” المتجانسِ، واللا-اختلاف، [أي] التفاضلية بصفتها هذه، والّتي يوجد “الواحد” و”الآخر” عبرها، والواحد مثل الآخر، بكل معاني التعبير(في هذا الصدد ، يجب أن نعيد قراءة “Violence et métaphysique” لـ دريدا)

هذا “العنف” ليس عنفًا يمارس ضدّ ذاتٍ ما، أو عليها، طالما لا توجدُ ذاتٌ تسبقه، وأنّ “ذاتًا” ما لا توجد إلاّ منه. يمكن أيضًا أن يقال عنه إنّه “لا-عنف” (وهذا ما يفعله دريدا). ومع ذلك، هذا لا يكفي، بل قد يكون من الخطورة  أن يفقد [العنف] قوّته في الاقتحام، وقوّته في استئناف تاريخٍ وتشييدِ تناهٍ – [أي] قوّته في الحدث.

ربما تكون المسألة على وجه التحديد أن نفكّر في الحدث-التفاضليّ، والزمنيّ، والتاريخيّ، والمتناهي، بصفته كذلك، وربما تكمن هذه الـ “بصفته كذلك”، وقبل كلّ شيء، في قوّةٍ تخريبيةٍ- تخريبيةٍ للاشيء، ولكنّها تخريبية على نحوٍ فعّال (وحتّى الفعّالية نفسها.) إذن، لا يوجدُ عنفٌ ولا يوجد لاعنفٌ، [بل]ما يمكن أن أسميه ربّما، ولكن مؤقتًا، الانفجار، انفجار وتفجّر العلاقةِ التي يوجد بها أحدٌ وآخرٌ، في فجوةٍ مضطربةٍ.

يمكن القول: إنّ الانفجار جوانيّةُ البرّانية على هذا النحو، ولا يعود “إليـ”ـها بذاتها، بل ينكشفُ كذاته، مثل “الخارج” بلا “داخل”، ولكنّه خارج علاقةٍ، ما يجعل العلاقة، بما في ذلك وقبل كل شيء، علاقةً بالذات.

إذاً، فالعنفُ “بالمعنى الصحيح” سيكون ما ينشأ عمّا لا يطيق هذ الانفجار وهذا التفجّر في الأصل. قد يكون العنف عنيفًا بقدر ما لا يطيق التقاسم العنيف للأصل. هو لا يطيقه لأنّه ملتزمٌ بتمثيلٍ لذاتٍ مسبقةٍ، لمتجانسٍ يطرأ الانفجار عليه.العنف: السخطُ ضد الانفجار.

هكذا، فالعنف مزدوجٌ بهذا المعنى – وهي الازدواجية التي يمكن، بلا شكّ، أن نجدها في نتاجِ سلسلةٍ من النصوص الحديثة المذكورة سابقًا. لا ريب أنّ هذه النصوص كلّها كان يطاردها حسٌّ بالضرورةِ: أن تقف قبالةِ العنف، وليس اللاعنف، ولكن ما أراد بنيامين أن يسميه “العنف الإلهي”، مقابل “العنف الأسطوري”.

بقولنا هذا، لا نقول شيئًا أصليًا للغاية. ونذكر، مرة أخرى، أنّ العنف سخطُ الاختزالِ إلى الهوويّ l’identique. لكن ربّما ما يهمّنا وما ينقصنا حتى الآن في خطابنا وممارساتنا أمام العنف، هو أن نعير اهتمامًا كافيًا إلى أنّ العنف هو بالضبط  الوجهُ الآخر للانفجار في الأصل، أو هو الانفجار وقد أصبح لا يطيق نفسه، وهو الّذي ينتهكُ واقع العلاقة لمخيالِ تكامليةٍ بلا علاقات.

على هذا النحو، نكتسب هذا على الأقلّ: انفجارُ الأصل لا يطاق بالفعل، ومهمة الوجود – مهمّة الإحساس المحدود للوجود – هي، حقيقةً، مهمّة صعبة تتناسبُ وقساوة الانفجار. لذلك لا يكفي معارضة العنف بإدانةٍ أخلاقيةٍ تستند في حدّ ذاتها إلى الافتراض المسبق لسلامٍ آمنٍ، للاعنفٍ بمثابةِ تسكينٍ لكلّ انفجار. لا شيء يمكنه معارضةَ العنف إذا لم تتضمّن إيماءة المعارضة، وفي الآن عينه، إشارةً إلى الانفجار المضطرب، وبالنتيجةِ، إلى “العنف” المطلوب أيضًا من أجل تعميده بالفاعلية والرهان.

لا يمكننا نبذ (أو العدول عن) العنف بالدعوة إلى الحبّ أو باستدعاء القانون. هذا هو، في الواقع، التاريخ الحديث والمخيف لما يمكن أن نطلق عليه “الديموقراطية المسيحية” بمحاباةٍ ميتاسياسيةٍ للمصطلح: ليس فقط بسبب إخفاقاتها المدويّة، بل، وقبل كلّ شيء، بسبب تواطئها في تعيين أصلٍ ووجودٍ لن يكون انفجارهما لا يطاق، وسيتحمّلانه كما هو. (ومع ذلك، لا ينبغي لـ “طيقَ ما لا يطاق” أن يكون قضيةً بطولةٍ يسندها عنفٌ أصمّ يكون قادرًا، بدوره، على [فعل] الأسوأ. وربّما تكون هذه هي النقطة الأصعب.)

على العكس من ذلك، وإن ظلّ يتعيّن علينا أن نساءل صيغة المستحيل تلك الّتي أرادت كلّ ثقافةٍ العثور على إمكانية وجودها، لا يمكن بلوغ “الحبّ” أو “القانون” – أو “قانون الحبّ”، إلا بشروط عنفٍ أو انفجار. ما نحتاجه هو توضيح هذه الشروط والتعبير عنها.


المصدر:

Jean-Luc Nancy, Violence Et Violence, Éditions Hazan , « Lignes »,1995/2 N° 25 | Pages 293 À 298, Article Disponible En Ligne À L’adresse :

[1]  نقترح عنوف صيغةَ جمعٍ لعنف.