مجلة حكمة
ما بعد العلمانية

عالم المجتمعات ما بعد العلمانية: حول الأهمية الفلسفية للوعي في المجتمعات ما بعد العلمانية والمجتمعات ذات الثقافة التعددية (حوار مع يورغن هابرماس، أجرى الحوار إدواردو مندييتا) – ترجمة: علي الرواحي

مندييتا: على مدى العامين الماضيين، كنت تعمل على مسألة الدين من خلال وجهات نظر مختلفة: فلسفية، سياسية، اجتماعية، أخلاقية، ومعرفية. في محاضرات جامعة ييل من خريف 2008م، تعاملت مع تحدي حيوية وتجدد الدين في المجتمع العالمي من حيث الحاجة لإعادة التفكير في العلاقة بين النظرية الاجتماعية ونظرية العلمنة. ففي تلك المحاضرات، تقترح أننا بحاجة إلى فصل نظرية التحديث عن نظرية العلمنة. هل هذا يعني أنك تبتعد عن الاتجاهات السائدة في النظرية الاجتماعية في الغرب، والتي بدأت مع باريتو، واستمرت مع دوركهايم، ووصلت ذروتها مع ماكس فيبر، وبالتالي من مركزية أوروبية صريحة، ومعُلنة؟

هابرماس: لا يجب أن نتخلص من الطفل بماء الاستحمام.أدى الجدل حول الأطروحة الاجتماعية للعلمنة إلى مراجعة كل ما ذكرت أعلاه بناء ً على البيانات التنبوئية أو المتوقعة. فمن ناحية أصبح النظام الديني أكثر تمايزا ً، وتقديم خدمات الرعاية الرعوية والبسيطة، أي أنه فقد وظائف أخرى كثيرة إلى حد ٍ كبير. ومن ناحية أخرى، لا توجد علاقة عالمية بين التحديث المجتمعي وفقدان الدين المتزايد لأهميته، وهي صلة قريبة جدا ً بحيث يمكننا الاعتماد على اختفاء الدين. في النزاع الذي لم يُحسم بعد بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة دينية، أو أوروبا الغربية العلمانية هي استثناء لإتجاه تنموي عام، فقد طورت خوسيه كازانوفا على سبيل المثال نظريات جديدة مثيرة للاهتمام. على أي حال، علينا أن نعتمد على الحيوية المستمرة لأديان العالم.

وبالنظر إلى العواقب التي تتحدث عنها، فإنني أعتبر برنامج المجموعة حول صمويل آيزنشتات، وأبحاثها المقارنة حول الحضارات واعدة وغنية بالمعلومات. في مجتمع العالم الناشيئ، وفيما يتعلق بالبنية التحتية الاجتماعية، هناك، كما كانت، الآن فقط مجتمعات حديثة، ولكن هذه تظهر في شكل حداثات متعددة، لأن ديانات العالم الكبيرة كانت لها قوة عظيمة في تشكيل الثقافة عبر القرون، ولم يفقدوا هذه السلطة بالكامل. وكما هو الحال في الغرب، مهدت هذه التقاليد “القوية” الطريق في شرق آسيا، والشرق الأوسط، وحتى أفريقيا لتطوير الهياكل الثقافية التي تواجه بعضها البعض اليوم – على سبيل المثال، في النزاع حول التفسير الصحيح لحقوق الإنسان. لقد نشأ فهمنا الغربي للحداثة من المواجهة مع تقاليدنا. إن الجدلية نفسها بين التقليد والحداثة تُكرر نفسها اليوم في أجزاء أخرى من العالم. هناك ايضا ً، يعود المرء إلى تقاليده الخاصة لمواجهة تحديات التحديث المجتمعي، بدلا ً من الاستسلام لها. في مقابل هذه الخلفية، لم يعد كم الممكن إجراء الحوار بين الثقافات حول أسس نظام دولي أكثر عدالة من جانب واحد، من منظور بكر. يجب أن تصبح هذه الخطابات إعتيادية [sich einspielen]، في ظل الظروف المتماثلة لتبادل وجهات النظر المختلفة إذا أراد اللاعبون العالميون أخيرا ً السيطرة على ألعاب القوى الداروينية الاجتماعية. بحيث يصبح الغرب مشاركا ً واحدا ً من بين مشاركين آخرين، كما يجب أن يكون جميع المشاركين مستعدون على لتلقي وتبادل التنوير من قبل الآخرين حول نقاطهم العمياء.إذا تعلمنا درسا ً واحدا ً من الأزمة المالية، فهذا هو الوقت المناسب لقيام مجتمع عالمي متعدد الثقافات لتطوير دستور سياسي.

مندييتا: دعني أعود إلى سؤالي الأصلي: إذا لم نعد نستطيع تفسير التحديث من حيث العلمنة، فكيف يمكننا التحدث عن التقدم المجتمعي؟

هابرماس: إن علمنة سلطة الدولة هي في صُلب عملية العلمنة. إنني أعتبر ذلك إنجازا ً ليبراليا ً لا يجب أن يضيع في النزاع بين الأديان العالمية. لكني لم أعتمد قط على التقدم في الأبعاد المُعدة “للحياة الجيدة”. لماذا يجب أن نشعر بالسعادة [glücklicher] أكثر من أجدادنا أو العبيد اليونانيين المُحررين في روما القديمة؟ بالطبع شخص واحد أكثر حظا ً [hat mehr Glück] من شخص ٍ آخر. كما لو كان في البحر، تتعرض المصائر الفردية لموجات من الطوارئ. والسعادة [das Glück] توزع اليوم بشكل ٍ غير عادل كما كان دائما ً. ربما تغّير شئ ما في مجرى التاريخ في الأطياف الذاتية للتجارب الوجودية. لكن لا يوجد تقدم يُغير أزمات الفقد والحب والموت. لا شيئ يخفف من الألم الشخصي لأولئك الذين يعيشون في بؤس، والذين يشعرون بالوحدة أو المرضى، والذين يعانون من المحن أو الشتائم أو الإذلال. ومع ذلك، فإن هذه البصيرة الوجودية في الثوابت الأنثروبولوجية، لا ينبغي أن تقودنا إلى نسيان الاختلافات التاريخية، بما في ذلك ثبات التقدم التاريخي الذي يوجد في جميع تلك الأبعاد التي يمكن للبشر أن يتعلموا منها.

لا أقصد الاعتراض على أنه تم نسيان الكثير من [الدروس] في مجرى التاريخ. ولكن لا يمكننا العودة إلى نقطة سابقة لعمليات التعلم عن قصد.هذا يُفسر التقدم في التكنولوجيا والعلوم، كما هو حال التقدم في الأخلاق والقانون، أي إلغاء مركزية منظوراتنا التي تُركز على الأنا والمجموعة، عندما يكون الهدف هو إنهاء الصراعات بدون عنف. تُشير هذه الأنواع المعرفية الاجتماعية من التقدم بالفعل إلى الأبعاد الإضافية للتأمل والتفكير، أي القدرة على التراجع وراء الذات. هذا ما قصده ماكس فيبر عندما تحدث عن “نزع السحر”.

 يمكننا بالفعل، على الأقل للآن، تتبع آخر دفعة ذات صلة اجتماعية في الوقت الحاضر لها علاقة بانعكاسية الوعي في الحداثة الغربية. في الحداثة المُبكرة، يُشير الموقف الأداتي لبيروقراطية الدولة تجاه سلطة سياسية خالية إلى حد ٍ كبير من المعايير الأخلاقية إلى مثل هذه الخطوة الإنعكاسية، كما يفعل الموقف الأداتي، الذي يظهر في نفس الوقت تقريبا ً، نحو طبيعة موضوعية منهجية، والتي تجعل في المقام الأول إمكانيات العلم الحديث ممكنة. بالطبع، لدي في ذهني، قبل كل شيء، خطوات للتأمل الذاتي التي يدين بها القانون العقلاني والفن المستقل في القرن السابع عشر، ثم في القرن الثامن عشر، الأخلاق العقلانية والأشكال الدينية والفنية الداخلية للتعبير عن التقوى والرومانسية، وكذلك التنوير التاريخي في القرن التاسع عشر. هذه دفعات معرفية لها تأثيرات واسعة النطاق ولا تسمح لنفسها بأن تُنسى بسهولة.

في سياق هذا التوجه الواسع النطاق نحو التفكير، علينا أن ننظر إلى التفكك التدريجي للتقوى الشعبية التقليدية. حيث نشأ عن ذلك شكلين حديثين من الوعي الديني: من جهة، الأصولية التي إما أن تنسحب من العالم الحديث أو تتجه نحوها بقوة. من ناحية أخرى، الايمان الإنعكاسي أو التأملي يرتبط بنفسه بأديان ٍ أخرى، ويحترم الرؤى غير المعصومة للعلوم المؤسساتية وكذلك لحقوق الإنسان. لا يزال هذا الإيمان راسخا ً في حياة الجماعة، ولا يجب الخلط بينه وبين الأشكال الجديدة غير المؤسسية من التدين المتقلب الذي انسحب بالكامل إلى الذات.

مندييتا: منذ أكثر من عقدين من الزمان، كنت تجادل من أجل تنوير التفكير الفلسفي من حيث التفكير ما بعد الميتافيزيقي “postmetaphysical thinking”. لقد وصفت هذا التفكير من جهة إعادة صياغة العقل على انه إجرائي – أي لغوي تماما ً- وفي نفس الوقت يحتل موقعا ً تاريخيا ً، مما أدى إلى إنكماش استثنائي. وهكذا، فإن التفكير ما بعد الميتافيزيقي شحيح جدا ً، قابل للخطأ، متواضع في ادعاءاته. في عملك الأخير، تدعي أن التفكير ما بعد الميتافيزيقي يجُبرنا على اتخاذ الخطوات التالية، وهي الخطوات ما بعد العلمانية تحديدا ً. أنت تتحدث عن “مجتمعات عالمية ما بعد علمانية” كحقيقة اجتماعية ثقافية. إذن، ما هو السبب وراء دوافع التطورات في المجتمعات ما بعد العلمانية ، وباي معنى كانت هذه التطورات نتيجة للدوافع الداخلية للتفكير ما بعد الميتافيزيقي؟

هابرماس: ينبهني سؤالك إلى عدم وضوح المصطلحات. إن الأسلوب الواسع النطاق للتمييز بين جميع أنواع الظواهر الجديدة من الظواهر المالوفة فقط من قِبل حرف الجر post””، له عيوب عدم التحديد. حيث يظل التفكير ما بعد الميتافيزيقي علمانيا ً حتى في حالة وصفت بأنها “ما بعد علمانية”، ولكن في هذه الحالة المختلفة، قد تصبح معرضة لسوء فهم ذاتي علماني. من الواضح أنه يجب أن أتجنب المعادلة المضللة لكل ما بعد الميتافيزيقة “postmetaphysical”، وما بعد العلمانية “postsecular”.

من خلال اعتبار كانط أول مفكر ما بعد ميتافيزيقي، سأتبع ببساطة عُرف معُين. حيث يُنهي “جدليته المتعالية” بعادات سئية لتطبيقها على فئات الفهم المختلفة، التي يتم قطعها أو فصلها عن الظواهر الدنيوية الداخلية، على العالم بشكل ٍ كامل. إن تقليل هذا البيان الجوهري حول الطبيعة والتاريخ بشكل ٍ كامل، هو أحد النتائج بعيدة المدى ل”الثورة الاسمية” في العصور الوسطى العليا والفكر الحديث المُبكر. تعود الكثير من الإنجازات البشرية الذاتية واللغوية – أي تحول النموذج paradigmالفكري والتحليلي نحو فلسفة الوعي واللغة، في هذا العالم إلى المركزية البشرية، وإلى هذه الثورة أيضا ً. وبالفعل في القرن السابع عشر، أدت العلوم الطبيعية والموضوعية، إلى الفصل بين العقل النظري والعملي/التطبيقي. حرض هذا الفصل بدوره محاولات القانون العقلاني، والأخلاق العقلانية، لتبرير الالتزامات ووجهات النظر المجردة بناء ً على أساس العقل العملي، بدلا ً من “طبيعة الأشياء” “nature of things”. أخيرا ً، ومع ظهور العلوم الإنسانية منذ أوائل القرن التاسع عشر، كان الفكر التاريخي، الذي يقلل من قيمة – إلى حد ٍ ما – المقاربات المتعالية، يشق طريقه. علاوة على ذلك، فإن نتائج التأويلات التي تواجهنا بانقسام في قدرتنا المعرفية للوصول إلى العالم: العالم الحياتي الذي يكشف نفسه لفهمنا (افتراضيا ً على الأقل) كمشاركين في الممارسات اليومية، لا يمكن وصفه من المنظور العلمي الطبيعي بهذه الطريقة التي يمكننا من خلالها التعرف على أنفسنا من خلال هذا الوصف الموضوعي.

تُحرر العلوم نفسها من المبادئ أو المتطلبات [Vorgaben] التوجيهية للفلسفة في كلا الاتجاهين: فهي تنص على أن الفلسفة من الأعمال الأكثر تواضعا ً للتفكير باثر رجعي، من ناحية التقدم العلمي المتناسب مع العلوم، هذا من جهة، ومن ناحية السمات العالمية المفترضة لتلك الممارسات وأشكال الحياة التي هي بالنسبة لنا بدون بدائل، حتى لو وجدنا أنفسنا فيها بشكل ٍ طارئ. وبعبارة أخرى، فإن التركيبات العالمية الغير ممكن تجنبها [nicht-hintergehbaren] للعالم الحياتي بشكل ٍ عام، تحل محل موقف الموضوع المتعالي. وعلى طول مسارات الأنساب للفكر الحديث، التي تم رسمها هنا فقط، حدث اختلاف وتمايز سقطت فيه الادعاءات الميتافيزيقية القوية. يُمكننا أيضا ً التفكير في عملية التمايز هذه على أنها فرز للأسباب التي لا تزال وحدها “تُحتسب” ضمن التفكير ما بعد الميتافيزيقي. على النقيض من ذلك، فإن العبارات المتعلقة بالجواهر [Wesensaussagen] التي تُعتبر نموذجية للتفكير ما بعد الميتافيزيقي الأحادي [Alleinheitsdenken]، وتصنيفات العقول التي يمكن أن يحشدها التفكير ما بعد الميتافيزيقي، قد تم التقليل من قيمتها كبديهية أولية [prima facie]، أو كظهور أول.

وعلى النقيض من ذلك، فإن تعبير “ما بعد العلمانية” ليس جينالوجيا ً، أو متعلقا ً بعلم الأنساب، بل له فاعل اجتماعي. أستخدم هذا التعبير لوصف المجتمعات الحديثة التي يجب أن تضيف لحساباتها المجموعات الدينية، والأهمية المستمرة للتقاليد الدينية المختلفة، حتى لو كانت هذه المجتمعات نفسها علمانية إلى حد ٍ كبير. فبقدر ما أصفه بأنه “ما بعد علماني”، ليس المجتمع بحد ذاته، ولكن تغيير مماثل في الوعي يحدث فيه، حيث يمكن أيضا ً استخدام الفاعل الاجتماعي للإشارة إلى الفهم الذاتي المُتغير للمجتمعات العلمانية إلى حد ٍ كبير في أوروبا الغربية، وكندا، أو أستراليا. هذا هو سبب سوء الفهم. ففي هذه الحالة، تشير “ما بعد العلمانية” “postsecular”، مثل “ما بعد الميتافيزيقية”  “postmetaphysical”، إلى عملية قيصرية في تاريخ العقلية، أو قطيعة مفاهيمية. لكن الفرق هو أننا نستخدم الفاعل الاجتماعي كواصف من منظور المراقب، بينما نستخدم المنظور الجينالوجي من منظور الشخص الذي يشارك في هدف الفهم الذاتي.

أخترت فقط المناقشة حول أطروحة العلمنة كنقطة انطلاق لسؤال يهدف إلى توضيح الفهم الذاتي للتفكير ما بعد الميتافيزيقي. وبالنسبة للثورة الاسمية، أسفرت عن نتيجة أخرى، وهي أنه في القرن السابع عشر فقد اللاهوت الاتصال بالعلم المعُاصر الذي قدمته فلسفة أرسطو للطبيعة، بنظرتها الغائية التي شيدت عالم الحياة.و منذ ذلك الحين، انحازت الفلسفة إلى العلوم وتجاهلت اللاهوت بشكل ٍ أو بآخر. على أي حال، منذ ذلك الوقت حدث تغيير في توزيع أعباء الإثبات. حتى فلاسفة المثالية الألمانية، الذين يتحيزون لتراث التقليد اليهودي- المسيحي، يعتبرون سلطتهم بأنها قادرة على قول ما هو صحيح في العناصر الدينية وما هو غير ذلك. هم أيضا ً لا يزالوا يعتبرون الدين مكونا ً أساسيا ً من الماضي. لكن هل هو كذلك؟

بالنسبة للفلسفة، هناك مؤشرات تجريبية على أن الدين ظل يُمثل تكوينا ً معُاصرا ً للروح [Gestalt des Geistes]. بالإضافة لذلك، تجد الفلسفة أيضا ً أسبابا ً داخلية لهذا، أسبابا ً متوفرة في تاريخها. حيث بدأت العملية الطويلة لترجمة المضامين الدينية الأساسية إلى اللغة الفلسفية في أواخر العصور القديمة. نحتاج فقط للتفكير في مفاهيم مثل: الفرد والشخصية، العدالة والحرية، التضامن والمجتمع، التحرر، التاريخ، والأزمة. لا نعرف ما إذا كانت هذه العملية قد استولت على الإمكانات الدلالية من الخطاب الذي لا يزال في جوهره لا يستطيع الوصول إليها حيث استنفدت نفسها، أو بإمكانها الاستمرار في ذلك. العمل المفاهيمي للكُتاب والمؤلفين الدينيين مثل الشاب بلوخ Bloch، بنيامين Benjamin، ليفيناس Levinas، أو دريدا Derrida، يتحدثون عن تأييد مواصلة الانتاجية الفلسفية لمثل هذه الأعمال. وهذا يُشير إلى تغيير في الموقف من أجل علاقة حوارية، مفتوحة للتعلم، مع جميع التقاليد الدينية، والتأمل في موقف التفكير ما بعد الميتافيزيقي postmetaphysical thinking، بين العلوم والدين.

يدفع هذا التفكير في اتجاهين: فمن ناحية، يتحول إلى فهم ضد علماني للفلسفة يطمح للفهم الذاتي، والاندماج مع العلم، أو لتظهر في شكل ٍ واحد. كل استيعاب للعلوم يسحب الأبعاد التأملية أو الانعكاسية التي تُميز الفلسفة في فهم الذات عن البحث. تتوجه العلوم المنهجية مباشرة بنفسها بدون وساطة موضوعية، وبدون التحقق أو التأكيد الإنعكاسي [reflexive Vergewisserung] من المساهمات الحتمية لممارسات ونتائج البحث العلمي الخاصة بها. عليهم أن يتظاهروا بالنظر إلى العالم من لا مكان “no-where”. هذا النسيان الذاتي مقبول. إنها تُصبح مشكلة فقط عندما يرتدي الفلاسفة مثل العلماء، ثم يجتمعون خلسة – أي أن يمتدوا إلى العالم ككل، مجالات العلوم الموضوعية. أما بالنسبة إلى اللامكان “no-where” الذي لا يزال يفترض ذلك بدون تفكير، والذي تتوقع منه النظرة الطبيعية للعالم القاسي، فهو لا يُعتبر إلا الشريك السري ل”وجهة النظر الإلهية” الشاغرة للميتافيزيقيا.

من ناحية أخرى، لا ينبغي لنا أن نطمس الاختلاف الموجود بين الإيمان والمعرفة في طريقة أخذ الحقيقة taking-to-be-true. حتى إذا كان التفكير في الوضع ما بعد العلماني يجب أن يؤدي إلى تغيير الموقف تجاه الدين، فقد لا تُغير هذه المراجعة من حقيقة أن التفكير ما بعد الميتافيزيقي هو تفكير علماني يصر على التمييز بين الإيمان والمعرفة كطريقتين مختلفتين بشكل ٍ أساسي للأخذ بالحقيقة taking-to-be-true. أكرر: على الأكثر قد نُطلق على الحالة “ما بعد العلمانية” “postsecular”، على الوضع الذي يكون فيه العقل العلماني والوعي الديني الذي أصبح إنعكاسيا ً في علاقة متبادلة، على سبيل المثال، يعتبر الحوار بين ياسبرز Jaspers، وبولتمان Bultmann، مثاليا ً.

مندييتا: في ورقتك “الجذور المقدسة لتقاليد العصر المحوري” تقدم لنا نظرة شاملة وكاملة للنظرية الأنثروبولوجية والاجتماعية من أجل استكشاف العلاقة بين الأسطورة والطقوس. لقد شرعت في إثبات التفاعل الرمزي له جذوره البشرية في الممارسات الطقسية. بينما تقر بصعوبة الحصول على أدلة منطقية، أثرية لأولوية الطقوس على السرد الأسطوري (الميثولوجي)، حيث يبدو أنك تجادل بأن الأبعاد المقترحة للتفاعل بالوسائط اللغوية تعود إلى تطور الطقوس، والذي على أقل تقدير، نعلم أنه تمثيل رمزي في شكل لوحات الكهوف. هل تقترح أن قبل أن يصبح البشر كائنات عاقلة Homo sapiens، كانوا كائنات طقوسية Homo ritualis؟

هابرماس:أنت تُشير إلى فصل من العمل الجاري. في هذا، أستأنف موضوعا ً قديما ً في ضوء التحقيقات الجديدة: أصول اللغة. أي استخدام الرموز التي لها نفس المعنى لأعضاء المجموعة. في الفترات الزمنية العريضة لتطور الإنسان العاقل، يجب أن يكون أسلافنا قد استخدموا هذه الرموز تحت تصرفهم، على أبعد تقدير، وتحديدا ً عند النقطة التي نظمت فيها هذه المجموعات حياتهم معا ً عن طريق معاني علاقات القرابة المعُممة بشكل ٍ رمزي، أي عندما عاشوا في معا ً في عائلات. يتم التعامل مع جميع الوالدين، الأعمام، والأطفال، بنفس الحالة التي يتمتع بها الآباء، والأعمام، والأطفال. نظرا ً لأن اللغات النحوية لديها بنية معقدة- لا يمكن أن تبرز بحسب تشومسكي – بين ليلة وضحاها، فإن اليوم بدلا ً من ذلك (أو، الأفضل: مرة أخرى) يفترض مستوى سابقا ً من الاتصال الإيمائي الذي لم يتم تمييزه افتراضيا ً بعد. وعلى ما يبدو، فإن الممارسات الطقسية التي نعرفها من الأنثروبولوجيا الثقافية تنتمي إلى هذا المستوى، حتى لو كانت تُميز نفسها عن التواصل اليومي بين المُرسل والمتلقي من خلال هيكلها الدائري الغريب ذو المرجعية الذاتية. وبالتالي، هناك بعض الأدلة على الرأي القائل بأن الطقوس، من حيث تاريخ تطورها، أقدم من السرد الأسطوري، الذي يتطلب لغة نحوية.وليكن ما يكون، أنا مهتم هذه المرة بالتعقيد بين الطقوس والاسطورة، ليس لأسباب اجتماعية نظرية (كما هو الحال في نظرية الفعل التواصلي)، ولكن لأن الطقوس لا تزال قائمة، ومستمرة في ممارسات العبادة الجماعية لأديان العالم. عندما نسأل أنفسنا اليوم ما الذي يميز “الدين” بهذا المعنى الضيق الذي شكّل تقاليد “قوية”، عن وجهات النظر الأخرى، فإن هذه الممارسات أو الطقوس هي الحل.

إن الأديان لا تبقى على قيد الحياة، أو تستمر، بدون الأنشطة الطائفية من الجماعة. هذه هي السمة المميزة الفريدة [„Alleinstellungsmerkmal“]. في الحداثة، تكونوا فقط عن طريق صورة روحية [Gestalt des Geistes] التي لا تزال تستطيع الوصول إلى عالم تجربة الطقوس بالمعنى الدقيق للكلمة. يمكن للفلسفة أن تعترف فقط بالدين باعتباره تكوينا ً روحيا ً مختلفا ً، ومُعاصرا ً، إذا أخذنا العنصر القديم على محمل الجد، دون التقليل من قيمته إلى حد ٍ كبير. بعد كل شيء، كانت الطقوس مصدرا ً للتضامن المجتمعي، حيث لا توفر الأخلاق المستنيرة الاحترام المتساوي للجميع بما يضمن التكافؤ الحقيقي والتحفيزي – ولا أخلاقيات الفضيلة الأرسطية ولا اخلاقيات الخير. هذا بالطبع لا يمنع بأي حال ٍ من الأحوال أن احتمالية هذا المصدر، المحمي في الوقت نفسه من قبل المجتمعات الدينية، والذي يُستخدم في كثير ٍ من الأحيان نحو أهداف ٍ مشكوك فيها سياسيا ً، سيجف يوما ً ما.

مندييتا: في نفس هذه الورقة، تقول ما يلي: “أود أن أفحص ما إذا كان الأصل المشترك للميتافيزيقيا والتوحيد في ثورة وجهات النظر العالمية والتي حدثت في “العصر المحوري” قد حوّلت أيضا ً المنظور الذي يواجه من التفكير ما بعد الميتافيزيقي للتقاليد الدينية، التي واصلت في جعل تلك الأصوات تُسمع بشكل ٍ مرتفع في المناقشات حول فهم الذات الحديثة. ربما يتغير الفهم الذاتي للفلسفة فيما يتعلق بالتقاليد الدينية الموروثة، وظواهر الإيمان والتقوى بشكل ٍ عام، إذا تعلمت هذه الكوكبة المعاصرة فهم العلوم والدين بطريقة “ما بعد ميتافيزيقية”، وكنتيجة لعمليات التعلم التي “للإيمان” و “المعرفة” (على الأقل من منظور تاريخهم في الغرب) قد تداخلوا مع بعضهم البعض.وباعتراف الجميع، نتبع هذا المسار في علم الأنساب باعتبارنا “غربيين معُاصرين”. هناك في الواقع عدة مطالبات هنا، لكنني أريد أن أسألك عن أثنين فقط على وجه الخصوص. من ناحية، هل تدعي أن التفكير ما بعد الميتافيزيقي يخدع نفسه إذا لم يعترف بأصوله المشتركة مع التوحيد، وبعبارة أخرى، هذا التفكير الإنعكاسي أو التأملي الذاتي هل ينبغي أن يعترف بجذوره المشتركة مع الأديان المحورية العظيمة؟

هابرماس: هناك خداع ذاتي معين في الفهم الذاتي لعلمنة فلسفة “العلم”، ترى نفسها حصريا ً وريثة للفلسفة اليونانية وكخصم ٍ طبيعي للدين. وهذا خطأ من عدة نواح. باديء ذي بدء، لا يتم الاعتراف بالشخصية الدينية في الأصول الفلسفية الأفلاطونية: فالصعود إلى الأفكار هو مسار حقيقي للخلاص، والذي يُميز الفلسفة اليونانية، كما يٌمكننا أن نرى أيضا ً لدى فيثاغورس، أو إمبيدوكليس، كظاهرة موازية للشرق الآخر الكوسمولوجي، والأديان الآسيوية (مثل الكونفوشوسية والبوذية). ومع ذلك، لم تتجذر الفلسفة أبدا ً في ممارسات طقوس المدينة اليونانية، غير أنها مع أرسطو سرعان ما اتخذت توجها ً دنيويا ً، وعلميا ً. قد يفسر هذا سبب اندماج الطريق إلى الخلاص من خلال التأمل مع المسار المسيحي للخلاص في الثقافة الرهبانية في العصور الوسطى، أو بالأحرى في التصوف المسيحي.

ثانيا ً: إن الفهم العلماني للذات قمع تتبع المفاهيم، المذكورة أعلاه، التي تركت أثرها في الفكر الفلسفي للتقاليد التوحيدية من خلال تآزر الفلسفة اليونانية مع المسيحية البولينية. لقد مهدت الثورة الاسمية في فكر القرون الوسطى لظهور العلم الحديث، وللإنسانية، وللمناهج المعرفية الجديدة، والاتجاهات القانونية العقلانية، كما هو الحال مع البروتستانتية وعلمنة المسيحية [Verweltlichung]، أي لما كانت الكنيسة الكاثوليكية تعني أولا ً “العلمنة” من منظورها، (شدد تشارلز تايلور مؤخرا ً على ذلك في كتابه “عصر علماني”). بقدر ما يمكن فهم هذه التطورات المعقدة أيضا ً على أنها عمليات تعّلمُ لا تؤدي أي منها إلى مسار معقول يعود إلى نقطة قبلها، فإن فهمنا الذاتي يتوسع بكل بساطة.

وبالمناسبة، فإن توسع علم الأنساب هذا يجعل البديل الذي قدمه كارل شميدت Carl Schmitt، وهانز بلومنبرغ Hans Blumenberg بدون جدوى. ذلك أن الحداثة في أشكالها السياسية والروحية، ليست مجرد نتيجة للعلمنة، فهي نتيجة تعتمد على جذورها اللاهوتية – لأنه في هذه الحالة، لن يتعلم المرء أي شيء. كما أن الفكر الذي عمل منذ ذلك الحين بفرضية [premise etsi deus non daretur] [كما لو لم يكن هناك إله] يرجع إلى مجرد فصل عن التراث اللاهوتي الذي لا يزال معارضا ً له. بالنسبة لمستويات هذه الجينالوجيا تم التغلب عليها بشكل ٍ حاسم، كما دخل مفهوم الفهم الذاتي ما بعد الميتافيزيقي الذي يعتبر نفسه نتيجة لعلميات التعلم. حيث أن الوعي الذي أثار النقد قد حُفظ في الذاكره [rettende Erinnerung].

مندييتا: السؤال الثاني الذي تقترحه ورقتك يتعلق بكيفية التفكير الما بعد ميتافيزيقي الذي تغلب على العقلية العلمانية، من خلال الانعكاس أو التأمل الذاتي في أصوله، ليس فقط على الفكر الحديث بل أيضا ً على الغرب. والسؤال هو: هل تعتبر تشكيل الفكر ما بعد الميتافيزيقي، الذي تغلب على هذا المنظور، إنجازا ً ذا صلة بالغرب فقط، أم إنه إنجاز له أهمية إنسانية عالمية؟

هابرماس: ربما يكون البديل بسيطا ً جدا ً. مرة أخرى، العلمانية فقط هي التي تقود الفلسفة إلى الضلال في فهمها الذاتي كعلم، حيث تُعد الفلسفة نشاطا ً علميا ً، لكن تقدير “الطابع العلمي” scientificity للحجاج الفلسفي لا يعني أن العمل العام الفلسفي لفهم الذات قد استنفد في العلم. المسار الملكي للفلسفة [König-sweg] هو انعكاس ذاتي. هذا السبب في أنه نظام، ولكنه ليس علما ً “عاديا ً” بجانب العلوم الأخرى، ولهذا السبب، فإنه محايد إلى حد ٍ ما تجاه المحاولات الفلسفية المماثلة لفهم الذات في الثقافات الأخرى. من ناحية ٍ أخرى، فإن فهم الذات فيما يتعلق بالتفكير ما بعد الميتافيزيقي يهدف بالطبع إلى تعيين “مساحة أسباب” مشتركة بين الثقافات.

في هذا، ومع ذلك، علينا أن نُميز وبعناية بين التحليلات الفلسفية من جهة، أي الاقتراحات حول الفهم الصحيح لنوع الأسباب التي يمكن اعتبارها من البداهة الأولى [prima facie]، ومن المتوقع أيضا ً أن “تحُسب” بين الثقافات، ومن ناحية أخرى فإن الحجج المستخدمة في الواقع للمحاولات المقابلة لفهم الذات، توفر المادة، كما كانت، بأثر رجعي لمثل هذا التحليل الفلسفي. إلى هذا الحد، أنت على حق: إن محاولة إعادة بناء التفكير ما بعد الميتافيزيقي هو إقتراح فلسفي طبقي، ليس فقط على الفكر الغربي، ولكن على الفكر المعُاصر بشكل ٍ عام. ومثل جميع المساهمات الفلسفية الأخرى، فإن هذه المساهمة أيضا ً عُرضة للنقاش النقدي بين الأقران بشكل صارم. ومن ناحية أخرى، عندما نشارك بمثل هذا الفهم الذاتي في الخطابات بين الثقافات حول بعض المواضيع السياسية أو الثقافية المحددة أو غيرها، فإننا نتصرف كأشخاص ثانويين لمشاركين من خلفيات ٍ ثقافية مختلفة. في هذه الحالة، لا نتصرف مع أنفسنا كفلاسفة يرغبون في اكتشاف خصائص للأسباب التي نفترض أنها مقبولة عالميا ً، لكننا نوجه أنفسنا إلى المشكلات التي يتعين حلها بنفسها. في هذا الدور التمثيلي، قد نتمكن من معرفة الحاجة إلى تصحيح التحيزات الغربية المحتملة في إعادة بناء التفكير ما بعد الميتافيزيقي. وبالنسبة لوعي عدم الوقوع في الخطأ فإنه ينتمي بطبيعة الحال إلى التفكير ما بعد الميتافيزيقي.

مندييتا: تعود لكارل جاسبرز في نظريته للأنساب ضمن كتابه عن العصر المحوري، ويرجع ذلك جزئيا ً إلى أننا نجد في مقترحه نهجا ً عالميا ً، وليس مُقيدا ً بالمركزية الأوروبية، تجاه الإنجازات المعرفية للبشرية. في الواقع، يسمح لنا العصر المحوري بالتفكير في الإنجازات المعرفية والمجتمعية من حيث عمليات التعلم العالمية، التي تنتمي إلى الأنواع البشرية في حد ذاتها، وليس إلى حضارة واحدة. ولكن عند قراءة نصك الأخير، يتبقى تضمين قوي وهو أنك تأخذ بعين الإعتبار أننا على عتبة، أو ربما في خضم شيء مثل عصر محوري جديد. هل صعود “مجتمعات عالمية ما بعد علمانية” هو توقع أو تعبير عن فترة محورية جديدة؟

هابرماس: تنعكس دوافع هذه القراءة في ثلاثة أبعاد تساهم في تطور النظرة العالمية للعصر المحوري: ينشأ وعي تاريخي مع عقائد دوغمائية تعود إلى الشخصيات المؤسسة، وذلك من وجهة النظر المتعالية الداخلية أو الخارجية إلى الأحداث الدنيوية الداخلية، حيث يمكن للفرد أن ينظر إلى مجمل العلاقات الشخصية والحُكم عليها وفقا ً لأوامر عالمية، ولأن المصائر الفردية تفصل نفسها عن المصائر الجماعية، فإنه يظهر وعي المسؤولية الشخصية عن حياة المرء. يمكننا أيضا ً وصف ذلك بأنه تمايز بين عوالم الحياة في سياق التعقيد الاجتماعي: حيث تظهر علاقة إنعكاسية أو تأملية بين التقاليد والاندماج الاجتماعي، وهو تكامل يتجاوز الآن مجموعات القرابة وحتى خارج الحدود السياسية، بل يصل إلى علاقة الأفراد بأنفسهم. في الحداثة الأوروبية، نلاحظ دفعة معرفية أخرى في نفس هذا البُعد، حيث نلاحظ تهذيب الوعي بالاحتمال، وتوسيع الترقب المستقبلي، على أن تصبح المساواة عالمية أكثر في ظل الوضوح القانوني والأخلاقي، بما يضمن وجود تدرج فرداني. في كل الأحوال، ما زلنا نستمد فهمنا المعياري لذواتنا من هذا (بغض النظر عن الإنكار القصير المتعرج والمألوف).

وبالطبع، لا ينبغي أن ننظر لهذا باعتباره تطورا ً خطيا ً، على الرغم من وجود بعض العتبات التطورية. حيث جلب اللقاء ما بعد الاستعماري Postcolonial، مع ثقافات أخرى في القرن العشرين إنتباهنا إلى جروح الاستعمار والنتاءج المدُمرة لإنهائه، وبالتالي الجدلية الصادمة المنعكسة على المستويات العُليا. نجد أنفسنا اليوم في مرحلة الانتقال إلى مجتمع عالمي متعدد الثقافات تصارع من أجل دستورها السياسي المُستقبلي، والنهاية مفتوحة بالكامل على كل الاحتمالات. بالنسبة لي، تبدو الحداثة العالمية بمثابة ساحة مفتوحة حيث يتصارع [streiten] فيها المشاركون من وجهة نظر المسارات المختلفة للتنمية الثقافية، على البنى المعيارية والتنظيمية للمستويات الاجتماعية التحتية المشتركة إلى حد ٍ كبير. إنه سؤال مفتوح، عما إذا كنا سننجح في التغلب على الحالة الرجعية للداروينية الاجتماعية ( أحصل على قدر ما تستطيع بقدر الإمكان) والتي أصبحت مهيمنة اليوم في العلاقات الدولية، إلى النقطة التي يمكن فيها ترويض الرأسمالية، التي أطُلق لها العنان دوليا ً، وعالميا ً، والتي يمكن توجيهها بطريقة مقبولة من الناحية الاجتماعية.

مندييتا: أود أن أتناول تلك الإشارة الحاسمة لنقد الرأسمالية الجشعة، وغير المقيدة. ولكن هذا موضوع آخر لحديث ٍ آخر. أنت تُجادل بأن الفكر ما بعد الميتافيزيقي يجب أن ينتقد الإغراءات العلمانية ، وأن إحدى طُرق الإبقاء على مثل هذا الإغراء هي الاقتراب من مسألة الدين باعتباره “تكوينا ً فكريا ً معُاصرا ً”، لا يمكن فهمه بشكل ٍ صحيح إذا لوحظ فقط من خلال وجهة النظر المعرفية. ومن أجل التغلب على هذا التراجع “المعرفي” للدين، أنت تتجه لدراسة الطقوس والأساطير، وتكتب: “اليوم عندما يقوم أفراد المجتمع الديني بممارسة طقوسهم، يبدو أنهم يسعون إلى ضمان مصدر تضامن لم يعد متُاحا ً بأي وسيلة أخرى”. ألا يمكن الادعاء بأن المواطنين غير المتدينين كانوا قادرين على الانخراط في “ممارسات طقسية” غير دينية، والتي يمكن أن يجدوا فيها ضمانات للتضامن؟ خُذ على سبيل المثال، ممارسات المتطوعين للقيام بتسجيل الناخبين، الالتفاف السياسي، الذهاب إلى واشنطن، العمل في مطابخ الحساء، زيارة السُجناء، والمساعدة في بناء المنازل للمشردين. هناك عدد كبير من “الطقوس” غير الدينية – دعنا نسميها “الطقوس المدنية” – التي يمكن أن تمنح جميع المواطنين حق الوصول إلى هذا الشعور بالتضامن الذي تعتقد أن المواطنين المتدينين وحدهم لهم حق الوصول إليه.

هابرماس: في كتابه “بعد التقدم” وصف نورمان بيرنبوم Normen Birnbaum، الجذور الدينية الخلفية المُحفزة للحركات الاشتراكية والتقدمية في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية التي حددت التاريخ الاجتماعي للغرب لأكثر من ربع قرن، وتحديدا ً حتى انهيار النظام السوفياتي. كانت هذه الحركات الاجتماعية، وفقا ً لفهمها الذاتي، ملحدة تماما ً. يمكن للمرء أن يتكهن بأنه بهذا المعنى، ان المواجهات المدنية [zivilgesell-schaftlich] قد احتفظت حتى بين المواطنين غير المتدينين في بعض الحالات، ببعض السمات التحررية، والمثيرة للمشاركين في العبادة الجماعية للطائفة في يوم الأحد. لأن هذا النوع من العمل التطوعي، كما نعلم، هو إحدى السمات المميزة للثقافة السياسية الأمريكية. يبدو أن ما تم الكشف عنه في هذا العمل التطوعي هو أقل تشابها ً بين الطقوس الدينية والمدنية [staatsbürgerlich] من الإمكانات التحفيزية المستمرة للإختلاط الديني الذي يستمر في الغالب أن يكون فاعلا ً دون وعي.

لا أعتقد أنها موضة منتشرة بشكل ٍ كبير بين علماء الاجتماع، لتطبيق المفهوم المحدد للغاية للطقوس على كل سلوك يتكرر. يبدو، على النقيض من ذلك، أن المصادر الأساسية التي توفر الحيوية للتضامن في الطقوس، والتي وصفها علماء الانثربولوجيا، هي تلك الأفكار والخبرات التي تدين نفسها وبشكل ٍ خاص للغاية لنوع مميز من التواصل. يُميز هذا النموذج نفسه ، أولا ً، من خلال عدم وجود علاقة بالعالم في تلك الممارسة الجماعية، واعتبارها كمرجعية ذاتية تدور حول نفسها. ثانيا ً: يُميز نفسه عن طريق المحتوى الدلالي الكُلي لاستخدام غير مميز، أو لم يتم تمييزه بشكل ٍ افتراضي بعد، مستخدما ً رموزا ً مختلفة (مثل الرقص والاغنيات، الإيماءات، الزينه، التلوين على الجسد، وهكذا). أود التأكيد أنه اليوم، فقط الجماعات الدينية، ومن خلال ممارساتها الدينية، تبقى مفتوحة للوصول إلى التجارب القديمة من هذا النوع. في حين تبقى هذه التجارب مغلقة لأولئك الذين لا يتناغمون مع المسائل الدينية، أما أمثالنا، يجب أن نكتفي بتجارب جمالية كبديل عال ٍ. هذا التشابه حفّز في الواقع بيتر فايس Peter Weiss، على إيجاد الأمل السياسي في “جماليات المقاومة” أي في فتح العيون على قوة وتضامن الفن الذي “ينكسر في الحياة”. حتى لو تلاشى هذا الأمل، في هذه الأثناء، والمستوحى من السريالية، فلا يوجد سبب يدعو للإعتماد الآن بشكل ٍ أعمى على القوى التحفيزية للدين ضد التحرر الليبرالي الجديد للمجتمع.وكما نعلم، فإن هذه القوى التحفيزية متناقضة للغاية من الناحية السياسية. فالدولة الديمقراطية الدستورية لا تنسجم معها كلها، ولكن فقط مع الممارسات الدينية غير الأصولية.

مندييتا: لقد كنت تجادل في أن الأيديولوجيا العلمانية للديمقراطيات الدستورية الحديثة منعت مجالاتها العامة من المحتويات الدلالية التي لا غنى عنها للصحة الأخلاقية لسياساتها. ولهذا السبب، تدافع عن أكبر قدر من التسامح، أو حتى التكيف أو التأقلم في المجال العام، مع أنواع الحجج التي يقدمها المواطنون المتدينون. الآن، من وجهة نظر الولايات المتحدة، فإن دعوتك للمجال العام ما بعد العلماني، يذكرنا في الواقع بما يحدث بالفعل. ماذا لو قلت عن اقتراحك بشأن المجال العام ما بعد العلماني ما قاله ريتشارد رورتي Rorty عن راولز Rawls، أي أن ليبراليته السياسية كانت التعبير الفلسفي السياسي للممارسات السياسية للمواطنين الأمريكيين؟ وبكلمات ٍ أخرى، ما تُعبر عنه نظريتك هو ممارسة محلية للغاية، أي نوع من الدين المدني أو التثاقف من خلال التعريف الطائفي الفريد للولايات المتحدة فقط.

هابرماس: أفهم لماذا لديك هذا الانطباع. إن انتقاداتي موجهة ضد فهم اللائكيين [laizistisch] لفصل الدولة عن الكنيسة. هذه وجهة نظر أوروبية. في هذا البلد، الذي يُصلي فيه الرئيس وهو في منصبه، يجب أن يهدف النقد الموجه إلى نفس المبادئ المعاكسة للإتجاه السياسي. من وجهة نظري، المواقف التي لا ترغب في إخضاع التأثير السياسي للأصوات الدينية لقيود رسمية تشوش الحدود التي بدونها لا تستطيع الدولة العلمانية الحفاظ على حياديتها. ما يجب الحفاظ عليه هو أن قرارات المُشرع، السلطة التنفيذية، والمحاكم، لا تتم صياغتها بلغة يسهل الوصول إليها عالميا ً فحسب، بل يتم تبريرها أيضا ً على أساس الأسباب المقبولة عالميا ً.وهذا يستبعد الأسباب الدينية من القرارات المتعلقة بجميع المعايير التي تقرها الدولة – أي المُلزمة قانونيا ً. وبصرف النظر عن ذلك، لا أعتقد أن المواطنين العلمانيين يمكنهم تعّلم أي شيء من العقائد الأصولية التي لا يمكنها التعامل مع حقيقة التعددية، والسلطة العامة للعلوم، ومع المساواة في مبادئنا الدستورية. من ناحية ٍ أخرى، أنت على حق في أن الثقافات السياسية مختلفة بالفعل بين مجتمعاتنا الغربية لدرجة أن المبادئ العالمية للدور العام للدين – بشكل ٍ عام، لما نسميه في الغرب “فصل الكنيسة عن الدولة” – يجب تحديده وإضفاء الطابع المؤسسي عليه بشكل ٍ مختلف في كل سياق ٍ محلي.

مندييتا: الآن، في مقالك بعنوان “ما المقصود بالمجتمعات ما بعد العلمانية ؟” ومن مناقشتك حول “الإسلام في أوروبا” في كتابك الأخير “أوروبا: المشروع المتعثر” Europe, the Faltering Project)) (المنشور باللغة الألمانية عام 2009م – المترجم)، تشير إلى ثلاث ظواهر من الممكن أن تُفسر التغيير في الوعي الذي تسميه “ما بعد العلماني”. أولا ً، الطريقة التي تثير بها وسائل الإعلام العالمية باستمرار مواضيع عالمية تشير للدور المتواصل للدين في تعزيز الصراعات والتسويات. ثانيا ً، الوعي المتزايد باستمرار حول كيفية تشكيل القناعات الدينية الموثوقة وتوجيه الرأي العام من خلال تدخلاتها في المجال العام. والثالث، وهذا هو المكان الذي أريد التركيز عليه، وبالمناسبة يتعلق بالمجتمعات الأوروبية التي لم بها يتم بها “الانتقال المؤلم بعد إلى مجتمعات المهاجرين ما بعد الكولونيالية أو الاستعمارية”. هل تقترح إذن، أن الوعي ما بعد العلماني يجب أن يكون مرتبطا ً بنوع من المواطنة ما بعد الاستعمارية، بحيث يجب التعامل مع المواطنين بمساواة، بغض النظر عن العرق والمعتقدات الدينية؟

هابرماس: هناك بالتأكيد صلة بين ظهور الوعي ما بعد العلماني وتدفقات الهجرة الجديدة، التي طرحت بشكل ٍ أساسي مشكلتين للدولة القومية. أولا ً: يجب دمج المهاجرين المتجنسين من ثقافة مختلفة اجتماعيا ً واقتصاديا ً، ويجب منحهم في نفس الوقت مساحة لتأكيد هويتهم الجماعية. ثانيا ً: يجب وضع الأجانب غير المتجنسين، وغير القانونيين جزئيا ً الذين لا يتمتعون بحقوق المواطنة على قدم المساواة مع المواطنين، على الأقل فيما يتعلق بوضعهم القانوني والمدني. تطرح هذه المشكلة، على سبيل المثال، في الولايات المتحدة اليوم فيما يتعلق بإصلاح الرعاية الصحية، التي كان من المفترض أصلا ً أن تشمل السكان غير الشرعيين.

تعاملت مجتمعات المهاجرين الكلاسيكية بشكل ٍ أفضل مع المشكلة الأولى من المجتمعات الأوروبية التي إما فتحت نفسها في المقام الأول للمهاجرين من مستعمراتهم (مثل: بريطانيا العظمى وفرنسا)، أو للعمال الأجانب (مثل ألمانيا). في مجتمعاتنا الأكثر تجانسا ً – وأيضا ً الأكثر تجانسا ً دينيا ً – نحن الأوروبيين فهمنا وطبقنا المبادئ الدستورية حتى الآن في ضوء ثقافتنا الوطنية. ومع ذلك، فإن التعددية الثقافية والتعددية المتزايدة تنفتح على هذا الاندماج.نتعلم أن المبادئ القانونية المجردة التي تعد جميع المواطنين بحقوق متساوية يجب فصلها عن ما أعتبرته ثقافة الأغلبية حتى الآن ضمنيا ً على انه منحة.أحد الأمثلة على ذلك، هو حكم المحكمة الدستورية الألمانية حول إشارة الصليب في الفصل الدراسي.يجب على الثقافة السياسية الأوسع نطاقا ً أن تُشكّل نفسها وتنمو إلى ما بعد ثقافة الأغلبية، حتى يتمكن جميع المواطنين من العثور على مكان ٍ فيها.

والمشكلة الأخرى ناتجة عن التدفق غير المنضبط للمهاجرين الاقتصاديين واللاجئين.إذا رأيت بشكل ٍ صحيح، فإن جميع الدول تجد صعوبة في تقنين الهجرة “الرمادية”. إن اقتراحك للحصول على جنسية ما بعد الاستعمار يهدف من عواقبها واتجاهها للحصول على حق غير محدود في اللجوء للمهاجرين بجميع أنواعهم. وحتى مع تجاهل ردود الفعل حول كراهية الأجانب (مثل: القارب ممتلئ) المنتشرة في كل مكان، لن أعتبر هذا الاقتراح له عمليا ً له جدوى، حتى من الناحية الاقتصادية البحتة. وبدلا ً من ذلك، فإن هذا الموضوع المثير للحساسية يوجه انتباهنا إلى استمرار تشكيل نظام دولي أكثر عدالة. من شأن إضفاء الطابع الدستوري على القانون الدولي أن يُشجع على وضع دستور سياسي للمجتمع العالمي متعدد الثقافات، وبالتالي تمكين السياسات المحلية العالمية التي يمكن أن تُعالج جذور تدفقات الهجرة في جميع أنحاء العالم، أي أنه لا يمكن محاربة نتائج الهجرة، ولكن أسبابها. وبشكل ٍ عام، لا يهاجر المرء من أجل المتعة وعطش المغامرة.

مندييتا: لقد كنت تقود هنا في نيويورك ندوة في جامعة ستوني بروك Stony Brook University، ناقشنا فيها أعمال شميت Schmitt، شتراوس Strauss، ميتز Metz، وراولز Rawls. أتساءل ما إذا كان بإمكانك أن تشاركنا أهدافك الخاصة من دراسة بعض المفكرين البعيدين بقدر ما يمكن لأي شخص أن يكون بعيدا ً من حدسك الفلسفي ومواقفك.

هابرماس: أنا مهتم بمسألة ما إذا كان يمكن للمرء أن يعطي معنى غير ضار للمفهوم المشحون بشكل معياري “للسياسة”، على الرغم من سوء استخدام مختلف دلالالته الميتافيزيقية واللاهوتية، بجانب المفاهيم الاجتماعية العلمية لكل من “النظام السياسي” و”السياسة”. يبدو أن السياسة – لا تخطو بحسب دريدا- نحو مكان جيد. من الناحية الوصفية، قد لا يشير المفهوم بعد الآن إلى أي شيء سوى الحقل الرمزي الذي تُمثل فيه المجتمعات المنظمة الأولى للدولة نفسها. تشير السياسة إلى المظهر الرمزي، والتعرف الذاتي الجماعي أو ضمان الذات [Selbstvergewisserung] لتلك الثقافات العالية المبكرة التي تختلف عن المجتمعات القبلية شبه الطبيعية، المدمجة من خلال، من بين أمور ٍ أخرى، أن تصبح إنعكاسا ً للسياسة، وهذا يعني أن الوعي تمت شرعنته، عن طريق الدمج المجتمعي. مع التطور المعُقد الجديد للقانون والسلطة السياسية، ظهر نوع جديد تماما ً من الحاجة إلى المشروعية في ذلك الوقت: ليس من الطبيعي أن يتخذ شخص واحد أو عدة أشخاص قرارات جماعية مُلزمة للجميع. فقط الارتباط المُقنع بالأفكار والممارسات الدينية يضمن للحكام الطاعة القانونية لسكانهم. وبينما النظام القانوني يستقر من قبل السلطة التي تفرض العقوبات على الدولة، فإن الحكم السياسي، بدوره، يجب أن يعتمد على سلطة إضفاء المشروعية على القانون المقدس لكي يتم قبوله على أنه عادل. في هذا البُعد الرمزي، تبرز اختلاط المشروعية، بين الدين والسياسة، حيث يشير هذا الخلط إلى الجانب السياسي. يستمد “الدين” قوته الشرعية من حقيقة امتلاكه لجذوره الخاصة، بعض النظر عن السياسة، في أفكار الخلاص والبؤس، [Heil und Unheil]، وفي ممارسات التعامل لتعزيز قوى الخلاص الخافتة.

لكننا مدينون بالمفاهيم الأولى للسياسة، للفكر البدوي في إسرائيل والصين واليونان.وبشكل ٍ عام، إلى القوة المنطقية لوجهات النظر الميتافيزيقية والدينية التي ظهرت في ذلك الوقت. بمجرد أن تُحرر الروح البشرية نفسها من أجل البحث الفردي عن الخلاص من مكر الأحداث، التي تدير تدفقها، وتسيطر عليها القوى الأسطورية، حيث يتم تحريرها عن طريق الإشارة إلى إله خارج العالم، أو نقطة التلاشي المتأصلة في الشرعية الكونية، ذلك أنه لا يمكن النظر إلى الحاكم السياسي إلا على أنه الممثل البشري للإله، ولم يعد تجسيدا ً له. وبصفته إنسانا ً، فهو أيضا ً من الآن فصاعدا ً خاضعا ً للبدائل، وذلك بالرجوع إلى كل عمل بشري يتم قياسه. ما يحدث أخيرا ً في الغرب هي تلك الأبراج البعيدة التي جعلت من الممكن صعود المسيحية البولينية Pauline، إلى دين الدولة الرومانية والتعاضد المُنتج بين اللاهوت والميتافيزيقا اليونانية. في هذه السياقات التاريخية فقط من الممكن تفسير التفكير الموجه بمفهوم السياسة، التي هي طريقة تفكير يمكن أن يربطها ليو شتراوس Leo Straussبالفلسفة السياسية لليونانيين، وبالقانون الطبيعي المسيحي، وكارل شميت Carl Schmitt باللاهوت السياسي الذي ترك آثارا ً عميقة في الغرب المسيحي منذ أيام أوغسطين Augustine.

إلا أن هذه المفاهيم السياسية المتطورة للغاية فقدت “مكانها في الحياة” “place in life”في ظل ظروف الحداثة المختلفة تماما ً. ومع ذلك، أراد شتراوس إبقاء البُعد السياسي مفتوحا ً، حتى في ظل الظروف الحديثة، عن طريق الرجوع مباشرة إلى القانون الطبيعي التقليدي، في حين أعترف كارل شميت في الحكم السيادي للدولة الحديثة المُبكرة بهيكل ٍ يصلح القوة السياسية للبلاد. في ظل ظروف سياسية استبدادية جماهيرية، كان يرغب في تجديد مفهوم السياسة من وجهة النظر التاريخية لعصر الدولة الذي كان يقترب من نهايته. من وجهة نظري، فشل كلا المفهومين، ولكن يجب على المرء أن يحذر من الخلط بين فاشية شميت الدينية، وبين إعادة تفسير شتراوس الممتازة للقانون الطبيعي الكلاسيكي. ومع ذلك، فإن مفهوم السياسة يحتفظ بأهمية خاصة في مواجهة التطورات “ما بعد الديمقراطية” “postdemocratic”، التي تبتعد عن سياسات الوعي العام كوسيلة من ممكنة للترويج النشط لتكامل اجتماعي شامل للجميع. قد يفسر هذا أيضا ً الواقع التحتي لكل من شميت وشتراوس، اللذين تم تبني نظرياتهما بشكل ٍ غير ناقد حتى من قبِل اليسار، والتي تسمم الفكر السياسي من هذا الشكل غير الناضج.

وبالمناسبة، ليس من قبيل المصادفة أن أتطرق لهذا الموضوع في ظل ظروف التخويف التي تشل كل شيء: ذلك إنني مندهش من غياب كل أنواع الاحتجاجات العفوية ضد الظلم الاجتماعي الصارخ  لعمليات الإنقاذ التي تبلغ قيمتها تريليون دولار لصالح البنوك على حساب الضرائب المستقبلية والبطالة المتزايدة، وعلى حساب إفقار القطاعين العام والخاص، وتحديدا ً في المقام الأول تلك الطبقات والقطاعات ومجالات الحياة التي تحتاج لخدمات ٍ حكومية ٍ أكثر من غيرها.

ولهذا السبب، في ندوتنا المشتركة، أردت أن أختبر، بالرجوع إلى مثال ٍ مضاد لليبرالية السياسية لجون راولز، سواء في ظل الظروف الرصينة للديمقراطية الدستورية الليبرالية، حيث يمكن إعطاء معنى معقول لمفهوم الجمعيات السياسية الغنية بعد كل شيء. وللتلميح على الأقل لهذه الأطروحة، يجب أن نفهم أن حقيقة إحدى عواقب علمنة الدولة لا ينبغي الخلط بينها وبين علمنة المجتمع المدني. طالما بقيت التقاليد والمنظمات الدينية قوى حيوية في المجتمع، فإن الفصل بين الكنيسة والدولة في سياق دستور ليبرالي لا يمكن أن يؤدي إلى القضاء التام على تأثير الجماعات الدينية على السياسة الديمقراطية. من المؤكد أن علمنة سلطة الدولة تتطلب دستورا ً محُايدا ًبين وجهات النظر العالمية، وحيادية القرارات المُلزمة بشكل ٍ جماعي التي تمت صياغتها عن طريق الدستور، في مواجهة المجتمعات المتنافسة من وجهات نظر الأديان العالمية. لكن الديمقراطية الدستورية، التي تأذن صراحة للمواطنين للقيام بحياة دينية، قد لا تُميز في الوقت نفسه ضد هؤلاء المواطنين في دورهم كمشرعين ديمقراطيين. لفترة طويلة أثار هذا التلميح للمفارقة الاستياء ضد الليبرالية، بشكل ٍ غير عادل، ما لم يساوي المرء الليبرالية السياسية لتفسيرها اللائكي [laizistisch]. لا يجوز للدولة الليبرالية في المجال السياسي العام، وهذا يعني، في جذر العملية الديمقراطية، أن تنتقد تعبيرات المواطنين المتدينين، ولا يمكنها السيطرة على دوافعهم في صناديق الاقتراع.

إلى هذا الحد، لا ينبغي أن يظل الفهم الذاتي الجماعي لنظام الحكم الليبرالي دون مساس بالتعددية الدينية في المجتمع المدني. حيث من المؤكد أن محتوى التعبيرات الدينية يجب أن يُترجم إلى لغة يسهل الوصول إليها قبل أن تتمكن من الوصول إلى جداول الأعمال الرسمية، والدخول في مداولات مؤسسات صنع القرار. لكن المواطنين المتدينين والمجتمعات الدينية يحتفظون بنفوذهم على وجه التحديد في تلك الأماكن التي تنشأ فيها العملية الديمقراطية في المواجهة بين الأقسام الدينية وغير الدينية من السكان. طالما أن الرأي العام بهذه الصلة السياسية يتغذى من هذا المخزون، من الاستخدام العام للعقل من قبل المواطنين المتدينين وغير المتدينين، فإنه يجب أن ينتمي إلى الفهم الذاتي الجماعي لكل المواطنين الذين شكلوا عن عمد شرعية ديمقراطية تغذيها أيضا ً الأصوات الدينية والمواجهات التي يُحفزها الدين. وبهذا المعنى، فإن مفهوم “السياسي”، الذي انتقل من الدولة إلى المجتمع المدني، يحتفظ بالإشارة إلى الدين داخل الدولة الدستورية العلمانية.

مندييتا: كمتابعة لما سبق، لقد فوجئت بسرور عندما سمعت في مناقشات الحلقة الدراسية أن لديك نظرة مختلفة على شميت مقابل شتراوس من ناحية، وميتز، من ناحية أخرى. وهناك كما عبّرتم شكلين من اللاهوت السياسي: أحدهما مناهض للتنوير، والآخر مؤيد له. هل يمكنني القول إذن أن نسخة ميتز من اللاهوت السياسي تُجسّد نوع التنوير الديني ما بعد الميتافيزيقي الذي تدافع عنه في فلسفتك السياسية؟ وهل ميتز هو شريكك المثالي اللاحق في الحوار الديني؟

هابرماس: هذا هو التعبير عنها بعبارات ٍ جذابة، لكنها ليست خاطئة تماما ً. تتمثل ميزة ميتز العظيمة في جعلها تُراعي الحساسية الزمنية للتفكير ما بعد الميتافيزيقي دون أي انقطاعات سياقية، بحيث يمكن للموضوع أن يكون بمثابة جسر إلى اللاهوت المعُاصر. جزئيا ً من خلال تأثير ميتز، ظهر جيل صغير من اللاهوتيين في ألمانيا. لم يعد هذا الجيل يشارك الرأي الذي عبر عنه البابا في خطابه في ريغنسبورغ Regensburg. يبدأ أعضاء هذا الجيل من الناحية اللاهوتية، كما كان، بعد نقد العقل لكانط، لذلك لا يرثون أو ينوحون على الاسمية كبوابة لتاريخ الانحطاط الحداثي. وبدلا ً من ذلك، فإنهم يدركون أيضا ً اتجاهات التفكير ما بعد الميتافيزيقي من خلال عمليات التعلم التي نشأت منها هذه الاتجاهات.

المصدر