مجلة حكمة
الدستورانية - موسوعة ستانفورد للفلسفة الدستورانية - موسوعة ستانفورد للفلسفة

الدستورانية

الكاتبويل والوتشو
ترجمةعبد الرحمن المشعل
تحميلنسخة PDF

حول معنى الدستورانية الضيق والواسع، والسيادة مقابل الحكومة، والحصانة، والقانون الدستوري مقابل العرف الدستوري؛ نص مترجم ومنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة بعض التحديث أو التعديل من فينة لأخرى منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة. نسخة PDF


         الدستورانية عبارة عن فكرة، غالباً ما يتم ربطها بالنظريات السياسية لجون لوك John Locke والآباء المؤسسين للجمهورية الأمريكية، والتي تعني أن الحكومة يجب أن تكون مقيدةً قانونياً في سلطاتها أو من الممكن أن تكون كذلك، وأن شرعيتها وصلاحياتها يعتمدان على مدى مراعاتها لتلك القيود. يستتبع هذا المفهوم العديد من الأسئلة المزعجة والمثيرة للاهتمام، ليس فقط للأكاديميين القانونيين بل لكل من يسعى لاستكشاف الأسس الفلسفية والقانونية للدولة. كيف يمكن لحكومةٍ ما أن تكون مقيدةً قانونياً في حين أن القانون هو من صنعها؟ هل معنى هذا أن الحكومة من الممكن أن تُقيِّدَ نفسها بنفسها؟ وهل ذلك فعلاً مُتَصَوَّر؟ إن لم يكن كذلك، فهل هناك طُرُقٌ أخرى لتجنب هذه التَبِعات؟ وإذا كانت القيود ذات المعنى مُمكنة في الواقع، فربما يجب أن تكون القيود الدستورية بطريقة ما«مُحصَّنَة» أي عصيَّة على التغيير أو الإلغاء مِن قِبَل مَن سُلطتهم مقيدة؟ وربما يجب أن لا تكون فقط مُحصَّنَة بل منصوصٌ عليها بقواعد مكتوبة. في هذه الحالة، كيف ستُفَسَّر هذه القواعد؟ هل بناء على معناها الأصلي أم المعنى العام أم مقاصد مشرعيها، أو بناء على ما تُعَبِّر عنه من مبادئ وقيم، والتي هي متغيرة على الدوام؟ في النهاية، إجابة شخص ما على هذه الأسئلة ستعتمد بشكل رئيسي على كيفية تصوره لهوية الدساتير وطبيعتها وسُلطَتِها. هل يجب على الدستور أن يُنشِئ إطاراً ثابتاً لممارسة السلطة العامة، والتي هي بطريقةٍ ما تُحدِدها عوامل معينة كالمعنى العام الأصلي والنوايا السلطوية؟ أم أنه ذو طبيعة حيوية، ينمو ويتطور تزامناً مع ما يطرأ على المبادئ والقيم السياسية من تغيرات؟ هذه التساؤلات مع أخرى غيرها سيتم تناولها في الأسفل.

  1. الدستورانية: المعنى الضيق والواسع.

  2. السيادة مقابل الحكومة.

  3. التحصين.

  4. الكتابة.

  5. مونتيسكيو والفصل بين السطات.

  6. القانون الدستوري مقابل العرف الدستوري.

  7. التفسير الدستوري.

  8. الأصلانية.

  9. الدستورانية الحيوية.

  10. نقد النظريات.

  • المراجع

  • أدوات أكاديمية

  • مصادر أخرى على الإنترنت

  • مقالات ذات صلة


  1. الدستورانية: المعنى الضيق والواسع

Constitutionalism: a Minimal and a Rich Sense

 

         بالمعنى الضيق للعبارة، يحتوي الدستور على مجموعة من المعايير (قواعد أو مبادئ أو قيم) التي تُنشِئُ قوة الحكومة وسلطتها، وتؤسسها، ومن الممكن كذلك أن تُحدِدَها. بهذا المعنى تُعتبر كل الدول لديها دساتير، وكل الدول هي دولٌ دستورية. فكل ما يمكن اعتباره دولة يجب أن يكون لديها من الوسائل التي تُكَوِّن وتُحدِّد القيود(أو تنفي وجودها) المفروضة على أشكال السلطات الثلاث الأساسية للحكومة: السلطة التشريعية(سن قوانين جديدة)، السلطة التنفيذية(تنفيذ القوانين)، والسلطة القضائية(الفصل في المنازعات بموجب القوانين)[2]. خذ على سبيل المثال أشد درجات السيادة المطلقة، المَلَكِيَّة/الملك Rex، الذي يمتلك سلطةً غير مقيدة على المجالات الثلاثة. ولنفترض أنه من المقبول به بشكلٍ واسع أن الملك بيده هذه السلطات، كما أن سلطةَ ممارستِهِ لها تكون كما يحلو له. فإذن، سيُقال أن دستور هذه الدولة قائمٌ على قاعدة واحدة، وهي التي تمنحُ المَلِكَ سلطةً مطلقة. وهو غير مسؤولٍ قانونياً عن مدى أخلاقية مراسيمه أو الحكمة منها، ولا حتى أنه ملزمٌ بإجراءات معينة أو أي نوع آخر من القيود أو الشروط عند ممارسته لسلطاته. فكل مراسيم الملك Rex صحيحةٌ دستورياً.

 

         على أي حال، عندما يتحدث الخُبراء عن الدستورانية فهم عادةً يَعنُون بها أمراً يكون خارج نطاق قضاء المَلِك Rex’s case[3]. ولا يعنون بها فقط أنَّ ثَمَّةَ قواعد تُنشِئُ السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، بل أن هذه القواعد تفرضُ قيوداً مهمة على هذه القوى.[4] غالباً ما تأخذ هذه القيود شكل الحقوق المدنية في مواجهة الحكومة، كحقوق حريات التعبير والتجمع والمساواة والإلتزام بالاجراءات القانونية. لكن القيود الدستورية قد تأخذ أشكالاً أخرى متنوعة. فهي من الممكن أن تُحَدِّد نطاق سلطة ما(على سبيل المثال في النظام الفيدرالي من الممكن أن تكون حكومات الولايات أو المحافظات هي صاحبة السلطة في شؤون الصحة العامة والتعليم، بينما يمتد نطاق سلطة الحكومة الفيدرالية إلى شؤون الدفاع العام والنقل العام)، أو الآلية المستخدمة في ممارسة السلطة المعنية(على سبيل المثال تُقَيِّد الاجراءاتُ المطلوبة شكلَ القوانين وطريقتها) وبطبيعة الحال أيضاً الحقوق المدنية(على سبيل المثال ميثاق أو وثيقة الحقوق). الدستورانية، بهذا المعنى الواسع للمصطلح، هي الفكرة التي تعني بأن الحكومة يجب/أو من الممكن أن تكون سُلطتها مُقَيَّدة، وأن شرعيتها تعتمد على إلتزامها بهذه القيود. وبهذا المعنى الواسع للمصطلح، لا تتبنى الأنظمةُ الملكيةُ Rex’s society الدستوريةَ، بسبب عدم فرض قيود دستورية على السلطة الممنوحة لها. وبالمقارنة مع دولة أخرى، تملك الملكةُ Regina فيها كل السلطات التي بيد الملك Rex ، باستثناء افتقارها لسلطة تشريع قوانين تُعْنَى بأمور الدين. ولنفرض أيضاً، أن الملكةَ Regina تفتقرُ كذلك لسلطة تنفيذ القوانين الخارجة عن اختصاصها التشريعي، أو سلطة الفصل بناءً عليها. نستطيع أن نلمح هنا بذور الدستورانية ، من حيث هي فكرة تحاول أن تأخذ مكانتها في الفكر القانوني الغربي.

 

         في صدد الحديث حول تاريخ الدستورانية وطبيعتها، غالباً ما يتم المقارنة بين توماس هوبز Thomas Hobbes وجون لوك John Locke، وهما اللذان يُعتقد أنهما دافعا، بشكل متوالي، عن فكرة دستورية السيادة المطلقة(على سبيل المثال الملك Rex) في مقابل السيادة المُقيَّدَة بشروط العقد الإجتماعي المتضمن لقيود موضوعية(على سبيل المثال الملكة Regina)[5]. ثَمَّةَ نقطة محورية مشابه نجدها عند المفكر القانوني الإنجليزي جون أوستن John Austin والذي اعتقد، مثل هوبز Hobbes، أن فكرة السيادة المُقَيَّدة ذاتها فكرة غير منطقية. يرى أوستن Austin أن جميع القوانين عبارة عن أوامر صادرة من شخص ذي سيادة أو جهاز مُكوَّن من أشخاصٍ ذي سيادة، وبالتالي فإن الفكرة القائلة بأن السيادة من الممكن أن تكون مُقَيَّدة بموجب القانون، تشترط شخصاً ذا سيادة يُقَيِّد نفسه بنفسه، من يأمر/تأمر نفسه/ـها بنفسه/ـها. إلا أنه لا يستطيع أحدٌ تقييد نفسه بنفسه، باستثناء المعنى المجازي، ومن ثم فإن فكرة السيادة المُقَيَّدَة، بالنسبة لأوستن Austin (وكذلك لهوبز Hobbes) فكرة غير منطقية تُشبه فكرة الدائرة المربعة.[6] في الوقت الذي تبدو فيه سِمة نظرية أوستن Austin مقبولة ظاهرياً عند تطبيقها على نظام الحكومة البريطاني، والذي يمكن أن يقال عنه أنَّ البرلمان يملك السلطة العليا وغير مُقيَّد دستورياً[7]، إلا أنها تواجه صعوبات واضحة عند تطبيقها على أغلب الديمقراطيات الدستورية الأخرى، كالتي يجدها المرء في الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، والمكسيك وألمانيا، فمن الواضح جداً أن سلطات الحكومة فيها مُقيَّدةٌ بموجب الدستور. ستكون إجابة أوستن Austin، على هذه الثغرة الواضحة في نظريته، عن طريق الاستعانة بالسيادة الشعبية popular sovereignty، وهي الفكرة القائلة بأن السلطة السيادية تكمن في «الشعب the people» في النهاية، وهم الناس بشكل عام. من الممكن أن تُقَيَّد الأجهزة الحكومية -على سبيل المثال البرلمان أو الرئاسة أو القضاء- بموجب القانون الدستوري، بينما يبقى الشعب صاحب السيادة غير مُقَيَّد في سلطاته الآمرة. يبقى السؤال حول عمَّا إذا كانت هذه الاستعانة بالسيادة الشعبية تُقَدِّم أوستن Austin  بطريقة ملائمة للتعامل مع الديمقراطيات الدستورية أمرًا محل تساؤل. صاحب السيادة الأوستني Austin’s sovereign، يُفترض فيه أن يكون فرداً مُحدداً أو مجموعة من الأفراد الذين تُشَكِّل أوامرهم القانون، عند الغالبية من الناس. لكن عندما نُعرِّف الآمرون بأنهم الناس أنفسهم، عندئذ فلا محالة أننا سنواجه النتيجة المتناقضة التي حددها هارت H.L.A. Hart — الآمرون يأمرون الآمرين. بشكل مختصر، نحن ننزلق في اللامنطقية. (Hart 1994, 73–78; Austin 1995, Lecture VI).

٢. السيادة مقابل الحكومة Sovereign versus Government

 

         على الرغم من وجود بعض الصعوبات الجادة في عمق محاولة أوستن Austin لجعل السيادة الشعبية النهائية منطقية، وبالرغم من كل ما فيها من ضعف، إلا أنها تكشف عن مدى الحاجة للتمييز بين مفهومين مختلفين: السيادة والحكومة. بشكل تقريبي، يُمْكِنُنا أن نُعرِّف السيادة بأنها حيازة السلطة العليا المعيارية supreme normative power (والتي ربما تكون غير مُقيَّدة) والهيمنة على بعض المجالات، بينما الحكومة هي أولئك الأشخاص أو المؤسسات الذين تُمارَس السيادة من خلالهم. متى اتضح هذا التمييز، فسُرعان ما سيتضح لنا أنه من الممكن أن تكمن السيادة بيدٍ أخرى ليست هي يد الحكومة، ولا يد أولئك الذين يمارسون سلطات الحكومة. وعند قبولنا بهذه النتيجة، فبإمكاننا المُضي قُدُماً بالحديث عن حكومة مُقيَّدة مقرونة بسيادة مطلقة. هذا ما قد يقال عن الديمقراطيات الدستورية التي تكون فيها سلطة السيادة الشعبية نهائية وغير مُقيَّدة، بينما أجهزة الحكومة- على سبيل المثال المُشرعون والرؤساء والمحاكم- والتي من خلالها يتم ممارسة السيادة نيابة عن الشعب، مُقيَّدة دستورياً وبمرتبة أدنى. كما قال لوك Locke سابقاً، تبقى السيادة المطلقة بيد الشعب، الذي يملك السلطة المعيارية  لنقض سلطة حكومته(أو جزء منها) في حال تجاوزها لقيودها الدستورية.

 

         وعلى الرغم من أن كُلاً من السيادة والحكومة فكرتان مختلفتان، وعادة ما تُمنحان لجهتين مختلفتين، إلا أنه يبدو نظرياً أن بالإمكان منحهما لجهة واحدة ولنفس الشخص أو المؤسسة. يمكن القول بأن هوبز Hobbes أصر على تماثل السيادة والحكومة بقدر إصراره على إشتراط النقل الكامل(تقريباً) لجميع الحقوق والسلطات من الأفراد ذوي السيادة إلى السيادة السياسية والتي يجب أن تكون سلطتها مطلقة، الأمر الذي يجعل بالإمكان الخروج من بؤس حالة الطبيعة والتي تكون الحياة فيها منعزلة وفقيرة ومقرفة ووحشية وقصيرة[8]. في نظرية هوبز Hobbes، بشكلها النهائي، يجب أن تبقى السيادة المطلقة في يد الشخص أو الجهاز الحكومي الأعلى، والذي يتمتع بسلطة وصلاحية مطلقة لحكم الصالح العام commonwealth. وأيُّ مستوى أقل من هذه النهائية، ستُدَمِّرُ السيادةُ المطلقةُ إمكانيات استقرار الحكومة وكل ما يجعلها كذلك، مع الأخذ بعين الاعتبار الطبيعة البشرية والعالم الراهن. ومن ثم فإنه حتى لو كانتا السيادة والحكومة تُعبِّران عن مفهومين مختلفين، فلا يعني ذلك ولا يدل أن المفهومين لن يتعلقا بكيان واحد.

٣. التحصين Entrenchment

 

         وفقاً لمعظم المفكرين، ثَمَّة جانب آخر مهم في الدستورانية ألا وهو أن القواعد التي تفرض قيوداً على سلطة الحكومة يجب أن تكون بطريقة ما وبدرجة معينة مُحَصَّنَة، إما قانونياً أو عن طريق الأعراف الدستورية constitutional convention[9]. بتعبيرٍ آخر، أولئك الذين تكون سُلطتهم مُقيدة دستورياً- على سبيل المثال المؤسسات الحكومية- يجب أن لا يكونوا أحراراً دستورياً في تعديل تلك القيود أو إلغاءها كما يحلو لهم. تحتوي غالبية الدساتير المكتوبة صِيغاً تعديلية، والتي ممكن للأجهزة الحكومية أن تَتَّبِعَها أو يُشترط مشاركتها فيها، وهي التي تَحِد من سُلطاتها. لكن هذه الصِيغ دائماً ما تتطلب أمراً آخر أكثر من مجرد قرارٍ منفردٍ من قِبل الحكومة الراهنة لإنفاذ التعديل، على سبيل المثال من خلال أمر رئاسي أو تصويت الأغلبية العادية للمشرعين. أحياناً، تكون المجالس الدستورية مطلوبة، أو أصوات الغالبية العظمى، أو الاستفتاء، أو موافقة ليس فقط الحكومة المركزية في الأنظمة الفيدرالية ولكن أيضاً نسبة مئوية أو عدد من الحكومات أو الكيانات المحلية داخل النظام الفيدرالي[10]. لا يُقَدِّم التحصين فقط مستوى من الاستقرار والتوقع بمضي الزمن(وهو ما يُعتبر سِمة تطمح لها الأنظمة الدستورية) بل يمكن القول بأنه مطلبٌ بحد ذاته للحكومة المُقيدة دستورياً. ومتى كانت الحكومة قادرة، بحسب رغبتها، على تعديل صِيغ قيودها الدستورية ذاتها، فسيحق لنا التشكيك عَمَّا إذا كان هناك، في الواقع، أيَّ قيودٍ أصلاً. فلننظر مرة أخرى في حالة المَلِكة Regina. فمتى كانت قادرة، بحسب سلطتها التقديرية، على إلغاء القيود الدستورية(وربما إعادتها لاحقاً) التي تمنعها من التشريع في مسائل الدين والتي تكون لديها حُجة قوية فيها، فإذن سيكون محلاً للشك القول أن المَلِكة Regina مُقيَّدة بهذا الشرط.[11] على الجانب الآخر، في حال وجود قاعدة أو عرف دستوري ينص على أن المَلِكة Regina قادرة على تعديل تلك القيود في حال فقط أنها نجحت في إقناع ثلثي رعاياها للتصويت في صالح التعديل، عندها سيشعر المرء بالراحة أكبر عند حديثه عن القيود الدستورية. بكل تأكيد، فإن هذه القاعدة أو العرف فوق الدستوري constitutional meta-rule خاضع بذاته للتعديل أو للإلغاء- وهي الحقيقة التي تثير الكثير من المعضلات لاحقاً. على سبيل المثال، هل يشترط هذا الإجراء أيضاً تطبيق القاعدة نفسها محل النظر-مثال ذلك تصويت أغلبية الثلثين- أم أن شعب مجتمع المَلِكة Regina’s society ذا السيادة حُرٌ في تغييره أو إلغاءه متى أرادوا ذلك. متى قَبِلنا (أ) التفريق بين الحكومة والسيادة كما بيَّناه آنفاً، (ب) بأن السيادة النهائية تكمن في الشعب الذي تحكمه المَلِكة Regina، و (٣) بأن السيادة لا يمكن أن تُقَيِّد نفسها بنفسها، (س لا يمكن أن يُقيد س)، فإذن يمكن أن نصل إلى النتيجة القائلة بأن القواعد فوق الدستورية- ومن ثم نظام الحكم الدستوري كجزء لا يتجزء منه- كلاهما يتوقفان على رغبة سكان مجتمع المَلِكة بشكل عام. قد يكون التحصينُ عنصراً رئيسياً لأنظمة الحكم الدستورية، ولكن يبدو أن الدساتير لا يمكنها ولا يجب عليها أن تكون مُحَصَّنَة تجاه أفعال الشعب ذي السيادة.

٤. الكتابة Writtenness

 

         يعتقد بعض الخُبراء أن القواعد الدستورية constitutional norms لا وجود لها إلا في حال تدوينها بطريقة ما في وثيقة مكتوبة (مثال: Rubenfeld 1998). لكن الأغلب يعتقد أن الدساتير(أو أحد مكوناتها) من الممكن أن تكون غير مكتوبة، نستشهد على ذلك بدستور المملكة المتحدة، وهو المثال الواضح على هذه الإمكانية. ومع ذلك، فعلى المرء أن يكون حذراً. فبالرغم من عدم وجود ما يشبه الدستور الأمريكي ووثيقته للحقوق في المملكة المتحدة، إلا أنها تملك عدة وثائق مكتوبة يُنظر لها- منذ عدة قرون- بأنها العناصر المركزية لدستورها. ربما يعتبر العهد الأعظم Magna Carta (١٢١٥م) الوثيقة الأقدم لدستور بريطانيا، بينما تشمل الوثائق الأخرى كلاً من عريضة الحقوق Petition of Right (١٦٢٨م) ووثيقة الحقوق Bill of Rights (١٦٨٩م). إضافة إلى ذلك، من الممكن القول بأن ثَمَّة حدود دستورية في بعض مبادئ القانون العام، تم الاستشهاد بها صراحةً في معرض النظر في القضايا المتعلقة بحدود سلطة الحكومة. ومع ذلك، تبقى الحقيقة بأن دستور المملكة المتحدة نُظِرَ إليه تاريخياً على أنه غير مكتوب، مما يشير بقوة إلى أن الكتابة ليست السمة المميزة للدستورانية.

 

         لماذا يُخيَّل إلى البعض- بالرغم، على ما يبدو، من وجود أمثلة نقيضة واضحة- بأنه يجب أن تكون القواعد الدستورية مكتوبة، بدلاً من أعراف غير رسمية أو قواعد اجتماعية؟ أحد الأسباب المحتملة[12] هو أن الأعراف والقواعد غير المكتوبة في بعض الأحيان تكون أقل دقة من القواعد المكتوبة، ومن ثم تكون أكثر قابليةً للتفسير وللتغيير تدريجياً، وفي نهاية المطاف للإبطال. في حال كان ذلك صحيحاً، فمن الممكن أن يتشكك المرء عمَّا إذا كانت القواعد غير المكتوبة، من الناحية العملية كأقل تقدير، أن تَحِد سلطة الحكومة بصورة كافية. لكن لا يوجد هناك من سببٍ ما يدعم هذه الحُجَّة. فالأعراف والقواعد الاجتماعية المترسخة تكون في بعض الأحيان دقيقة وواضحة، كما لو أنها أكثر صلابةً وتحصيناً من القواعد المكتوبة، والسبب وراء ذلك أن إلغاءها وتعديلها وإعادة تفسيرها يتطلب تغييرات واسعة في السلوكيات التقليدية والاعتقادات والتصرفات. وهو أمرٌ صعب حدوثه.

٥. مونتيسكيو والفصل بين السلطات

Montesquieu and the Separation of Powers

 

         هل تشترط الدستورانية ، كمسألة ضرورية من الناحية العملية أو النظرية، الفصل بين سلطات الحكومة كما دعى إليها مونتيسكيو Montesquieu واحتفى بها الأمريكيون كحصن منيع ضد إساءة استعمال سلطة الدولة. لايوجد في حالة المَلِكة Regina فصلٌ بين تلك السلطات: فالتشريع والتنفيذ والقضاء جميعها كامنٌ بشخصِها. لكن للمرء أن يتساءل، كيف يمكن لها هي(بصفتها كقاضٍ) أن تُحدِّد عمَّا إذا كانت تشريعاتها متوافقة مع القيود الدستورية المُحدَّدة؟ فحتى لو كان دستور المَلِكة Regina’s constitution، من الناحية النظرية، يمنعها من إلغاء حدودها الدستورية متى أرادت ذلك(لأنه يجب عليها الحصول على موافقة الثلثين كقاعدة فوقية meta-rule ) فهل بإمكانها، ولكن ليس دائماً، أن تتجاهل قيودها أو أن تُفَسِرها بطريقةٍ ما تُمكنها من التخلص من قوتها الملزمة؟ قد يكون الأسقف هودلي Bishop Hoadly على حق عندما قال في خطبته sermon أمام ملك إنكلترا (١٧١٧م): «من يملك السلطة النهائية لتفسير أي قانون مكتوب أو متعارف عليه written or spoken laws، فهو الذي، في الحقيقة، من يمنح القانون مقاصده وغاياته، وليس من كتبه أول مرة أو نطق به». (quoted in Gray 1986, p.12). وعلى الرغم من أنه نادراً ما تُثير بعض القيود الدستورية أسئلةً تتعلق بالتفسير، على سبيل المثال تلك التي تُقيِّد الرئيس المكسيكي لمدة رئاسية واحدة فقط، إلا أن هناك الكثير منها يُثير ذلك بالفعل( كتلك التي تتعلق بالحقوق المدنية تحديداً). قد تُجادل المَلِكةُ Regina من أن المرسوم الذي يُلزم المحلات أن تُغلق يوم الأحد( السبت عادةً) لا يتعلق بمسألة دينية لأن الهدف منه هو يوم راحة للجميع، وليس كشعيرة دينية. لكن قد يُجادل في ذلك آخرون، وبمعقولية متساوية، من أنها في الحقيقة تتعلق بمسألة دينية، ومن ثم سيكون ذلك خارج حدود اختصاصها التشريعي.

 

         تلك الدساتير، والتي كثيراً ما تُثير أسئلةً تفسيرية، تُثير أيضاً أسئلةً أخرى مهمة: هل تشترط القيود الدستورية المفروضة على السلطتين التشريعية والتنفيذية، كمسألة سياسية من الناحية العملية، أن تكون السلطةُ القضائيةُ، التي تتشكل من بعض الأفراد أو مجموعة من الأفراد والتي بواسطتها يتم تفسير هذه القيود وتطبيقها، مستقلةً عن من بيده السلطتين التشريعية والتنفيذية؟ بعبارة أخرى حديثة، هل يجب على القيود الدستورية المفروضة على الجهاز التشريعي، كالبرلمان أو الدوما Duma أو الكونغرس، أو الجهاز التنفيذي، كرئيس الدولة أو مَجْلِسِها الاستشاري، أن تكون خاضعةً للتفسير والتطبيق من قِبَلِ سلطة قضائية مستقلة؟ أجابت قضية Marbury v Madison على هذا السؤال بالموافقة، كمسألة تتعلق بالقانون الأمريكي، بل إن هناك الكثير من الدول التي أيدت Marbury (ومونتيسكيو Montesquieu) من أن الضرورة العملية تستلزم هذا الحل. لكن، في الحقيقة، ليس من الواضح أن الضرورة العملية تستلزم هذا الحل، ناهيك عن الناحية النظرية لذلك. على الرغم من الأسقف هودلي Hoadly، فلا وجود لما هو غير منطقي في القول أنه من الممكن أن تكون س X مقيدة بقاعدة مُحَصَّنَة، R[13]، ويُترك أمر تفسيرها وتطبيقها لـ س X. يمكن القول، بأن هذه هي الحالة في نيوزيلاندا New Zealand والتي تكون المحاكمُ فيها ممنوعة من نقض القوانين استناداً على أن ذلك يتجاوز حدودها الدستورية. مُراقبة هذه الحدود وتطبيقها أمرٌ متروك لأجهزة تشريعية تكون سُلطتها، مع ذلك، مُحدَّدَة دستورياً (وتخضع لأي ضغوطات قد تُفرض عليها سياسياً عندما يُعتقد بأن أفعال الدولة تُخالف الدستور). من المهم معرفة أن ما تشترطه القاعدة، R، ليس بالضرورة يتطابق مع ما قد تعتقده س X أو ما قد تشترطه. ولا حتى أنه يتطابق مع ما تَلتزمُ به س X من قيود من الناحية العملية. هذا الأمر صحيح حتى في حالة عدم وجود مؤسسة عليا لها السلطة والصلاحية لفرض التوافق في أحكام س X’s judgment أو لتصحيحها في حالة أنها كانت خاطئة، أو يبدو أنها كذلك.

 

         أحياناً، هذه الحدود الدستورية يتم تفاديها أو تفسيرها بطريقة ما لتجنب فعاليتها، ولا يكون هناك ثَمَّة احتمال لتصحيح التفاسير الخاطئة وإساءة استعمال السلطة، لكن ذلك لا يتضمن، بناء عليه، عدم وجود حدود دستورية. لكن هل يتضمن ذلك غياب فعالية الحدود؟ ربما نعم، لكن أيضاً ثَمَّة ما يدعو لنكون حذرين من تقديم نتائج عامة. مرة أخرى، يجب علينا أن نتذكر أن التقاليد الراسخة في النظام البرلماني البريطاني (ومن ضمنها نيوزيلاندا) والتي بموجبها يملك البرلمان وحده السلطة النهائية لإنشاء حدوده الدستورية وتفسيرها وتطبيقها. ومهما كانت مساوءه، فهناك القليل من الشك من أن البرلمانات التي على غرار النموذج البريطاني تماماً، ستتصرف بمسؤولية تجاه إلتزامها بحدودها الدستورية.

٦. القانون الدستوري مقابل الأعراف الدستورية

Constitutional Law versus Constitutional Convention

 

         يشترط مفهوم الدستورانية قيوداً مستمدة من القانون الدستوري على سلطة الحكومة وصلاحياتها. لكن وفقاً لغالبية الخُبراء الدستوريون، يعتبر الدستور أكثر من مجرد كونه قانون دستوري. سيجد الكثيرُ من الناس حيرةً في هذا الأمر، مَن يؤمنون أن دستورهم ليس أكثر(ولا أقل) من (عادةً) مجرد شكل لقانون أساسي، فهو وثيقة مكتوبة، أنشأها غالباً مجلس دستوري خاص، يتشكل من عِلْيَة الشعب. لكن ثَمَّة تقليدٌ راسخ بتعريف الدساتير بأنها عبارة عن أكثر من مجرد قانون دستوري. أحد أشهر الداعين لذلك هو Dicey، فبالإضافة إلى القانون الدستوري، يحتوي النظام الدستوري البريطاني على مجموعة من الأعراف الدستورية التي تُقَيِّد الحكومة بفعالية، في حال غياب القيود القانونية. في حقيقة الأمر، هي تعتبر بمثابة القوانين الإجتماعية التي تَولَّدَت عبر ممارسات المجتمع السياسي التي فرضت بدورها قيوداً مهمة، لكن ليست قانونية، على سلطات الحكومة. أحد الأمثلة لعُرف دستوري بريطاني هو أنه لا يحق للمَلِكة أن ترفض منح الموافقة الملكية Royal Assent لأي قانون نال موافقة كِلا المجلسين للبرلمان البريطاني. وربما هناك مثالٌ آخر للعُرف، وهو أن الأشخاص المُختارين لتمثيل ولاية فلوريدا Florida في مجمع الانتخابات الأمريكية the American Electoral College (الهيئة التي تختار الرئيس الأمريكي من خلال أصوات الأغلبية) يجب عليهم التصويت للمرشح الرئاسي الذي اختارته الأغلبية في فلوريدا ليلة الإنتخاب. واستناداً إلى كونها مجرد أعراف سياسية، غير ملزمة في المحاكم القانونية، يمكن القول بأن الأعراف الدستورية تختلف عن القوانين الدستورية، والتي تعتبر بحق ملزمة قانونياً. ومتى نحن قبلنا بتفرقة Dicey، فليس لنا أن نُطابق الدستور بالقانون الدستوري. فهو يتضمن بالإضافة إلى ذلك أعرافاً دستورية. ومع ذلك، علينا أن نُدرك أيضاً إمكانية أن تكون الحكومة ممنوعة دستورياً من فعل ذلك[14]، حتى لو كان الشروع بذلك بناء على واقعة معينة في حدود سلطتها القانونية. ومن الممكن كذلك، كمسألة في القانون الدستوري، أن تملك المَلِكة Regina سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية غير مُقَيَّدة، ومع ذلك، تكون مُقَيَّدة بأعراف دستورية تُحدد كيفية ممارسة هذه السلطات. ومتى هي خالفت أحد هذه الأعراف، فسيكون تصرفها صحيحٌ قانونياً، لكنه غير دستوري، وسيكون الخاضعون لها في مأمنٍ متى هم عارضوا فعلها، بل وربما حتى لو أزالوها من منصبها — نتيجةٌ محيرةٌ ستكون متى اعتقد المرء أن كل ما هو متعلق بالدستور متعلقٌ أيضاً بالقانون الدستوري.

٧. التفسير الدستوري Constitutional Interpretation

 

         كما لاحظنا سابقاً، يعتبر الدستور أكثر من مجرد قانون دستوري. وكما بيَّنا أيضاً سابقاً، أن القواعد الدستورية لا تستلزم دائماً أن تكون قواعد مكتوبة. وبغض النظر عن هاتين الملاحظتين المهمتين، فثمة معلومتان يجب أن يُعلما كذلك: (١) أن الغالبية من القضايا الدستورية تعتمد على أسئلة في القانون الدستوري، و(٢) أن الدساتير الحديثة تتكون بشكل أساسي من وثائق مكتوبة.[15] تباعاً لذلك، تُثير القضايا الدستورية، أحياناً، مسائلَ نظرية تتعلق بالمنهج المناسب لتفسير الوثائق المكتوبة—مصبوغ، بالطبع، بالدور الخاص التي تلعبه الدساتير-أو يجب عليها أن تلعبه- في تعريفها وتقييدها لسلطات الحكومة وصلاحياتها. تظهرُ للملأ بقوة العديد من وجهات النظر المختلفة حول هذه المسألة عندما يتعلق الأمر بتفسير النصوص الدستورية المتعلقة بالحقوق المدنية المُجرَّدة abstract civil rights (مثال، الحق في المساواة واتباع الإجراءات القانونية).[16] أما عن الكيفية التي يتم بها تفسير هذه النصوص فهو ما قد يخضع للاختلاف الشديد من قِبل المُفَكِّرين والممارسين القانونيين. وكما سيتبين لنا لاحقاً، فغالباً ما تَكمن الاختلافات الشديدة للآراء في وجهات النظر المختلفة حول تطلعات الدساتير أو في الدور المناسب للقضاة في الديمقراطيات الدستورية.

 

         تأخذ نظريات التفسير الدستوري أشكالاً عدة، لكن يبدو أن جميعها، بطريقة ما أو بأخرى، تُعطي أهميةً لعدد من العوامل: المعنى النصوصي أو الدلالي textual or semantic meaning؛ السياسي، والإجتماعي والتاريخي القانوني؛ المقاصد؛ المعنى الأصلي؛ والنظرية السياسية/الأخلاقية. سيعتمد، بشكل رئيسي، الدور الذي سيلعبه أحد هذه العوامل في نظريةٍ ما للتفسير الدستوري على الكيفية التي سيُعبِّر بها المُفَكِّر theorist عن الدستور ودوره في تقييد سلطة الحكومة. سعياً لتبسيط هذا الأمر، هناك رأيان رئيسيان يتنافسان حول هذا السؤال. في الجانب الأول، سنجد مُفَكِّرين ينظرون إلى الدستور باعتباره قانوناً أساسياً هدفه الرئيسي هو رسم إطار عام طويل الأمد، ومن خلاله تُمارَس السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية عن طريق أجهزة الحكومة المختلفة. سيميل هؤلاء المُفَكِّرون لصالح النظريات التفسيرية التي تُعطي مكانةً عالية لعوامل مثل مقاصد intentions من أسس الدستور، أو الفهم العام الأصلي original public understandings للكلمات التي أُختيرت لإدراجها في الدستور. وفقاً لهذه الرؤية الجامدة fixed view للدستور، من الطبيعي أن يكون التفكير بأن عوامل مثل هذه يجب أن تُطَبَّق متى كانت واضحة ومتسقة. والسبب وراء ذلك واضح ببساطة. من وجهة النظر هذه لا يطمح الدستور فقط لإنشاء إطار تُمَارس من خلاله سلطات الحكومة، بل يطمح لإنشاءِ واحدٍ يتعالى على الخلافات العميقة والاختلافات الحزبية، أو مُنْبَت الصلة عنها، والتي نصادفها بشكل طبيعي، يوماً بعد يوم، في القانون والسياسة. يتمثل طموحه، بشكل مختصر، ليكون ثابتاً وأخلاقياً ومحايداً سياسياً. ولنكون أكثر وضوحاً، في حديثي عن طموحات الدستور، من وجهة النظر الجامدة، ليكون أخلاقياً ومحايداً سياسياً، لا أعني بذلك بتاتاً نكران أن أي من هؤلاء الذين يعتقدون بهذا الموقف يُعبِّرون عن رؤية سياسية معينة أو عن مجموعة من الإلتزامات الرئيسية لقيم ومبادئ محددة في الأخلاق السياسية. بل ببساطة عكس ذلك. كل المُفَكِّرين الدستوريين سيوافقون على أن الدساتير تنص عادةً، وهي في حقيقة الأمر تُنشِئها، على مجموعة من الإلتزامات السياسية والأخلاقية لمبادئ مثل الديمقراطية والمساواة وحرية التعبير وسيادة القانون. لكن ثمة نقطتان يتوجب التأكيد عليهما هنا.

 

         الأولى، أن وجهات النظر الجامدة تحاول تبديل الأسئلة حول أخلاقية وسياسية هذه الالتزامات لأسئلةٍ تاريخية، والنظر بشكل رئيسي حول صحة هذه الأسئلة. لن تكون المُهمة هنا أن نسأل: ما الذي نعتقده نحن الآن بقيم مثل المساواة وحرية التعبير؟ بل أن نسأل: ما الذي كانوا هم- مؤسسو الدستور أو مَن بناء على سلطتهم أسسوا هم الدستور- في الحقيقة يعتقدونه بهذه القيم؟ ماذا كان فهمهم الأصلي لها، أو الفهم الشائع بين أفراد السكان عامةً الذين كانوا يعيشون في وقت إنشاء الدستور( أو تعديله، في حال كان النص محل النظر أتى في وقت لاحق)؟ وعليه، فالاستقرار والحياد، وفقاً لوجهات النظر الجامدة، ساعدا إلى حدٍ ما بأن أصبح الدستور قادراً على تبديل أسئلة الأخلاق السياسية لأخرى تاريخية.

 

         ثانياً، لن ينكر أحدٌ من المؤيدين عن وجهة النظر الجامدة أن الإلتزامات الأخلاقية المُجرَّدة المُعبَّر عنها في الدستور تميل إلى كونها فضفاضة، إن لم تكن مشتركاً عالمياً شائعاً بين أفراد مجتمعٍ سياسي معين. ومن ثم، ووفقاً لهذا المعنى فإن الدستور، على الرغم من الالتزامات الأخلاقية التي يُجسدها، محايدٌ بين المواطنين واختلافات توجهاتهم في الرأي حول اسئلة أخلاقية أكثر تعيينًا. لا يتفق جميع من ينتمي للديمقراطية الدستورية الحديثة، كألمانيا والولايات المتحدة، حول المدى الذي يستلزمه الحق في التعبير من حرية للتعبير عن الآراء التي تُعبِّر عن الكراهية وتُروج لها تجاه مجموعات دينية أو عرقية معينة. لكن في الواقع لا أحد ينكر الأهمية الأساسية لحرية التعبير في مجتمع ديمقراطي وحر حقيقي. ومن ثم، بناءً على وجهات النظر الجامدة، يمكن النظر للدساتير على أنها نظير للقواعد الأساسية لمجتمع مُتحاور debating society. فكلٌ منهما يضع الإطار الثابت المتفق عليه، والذي من خلاله تأخذ النقاشات(والأفعال) المختلفة مكانتها. وهذا المجتمع المُتحاور لن يكون فَعَّالاً متى كانت قواعده الأساسية مفتوحة دوماً للنقاش والتعديل أثناء تطبيقها، وكذلك الدستور لن يُحقق هدفه متى كانت نصوصه مفتوحة دوماً للنقاش والتعديل من قبل فاعلين participants يطمحون للحكم من خلال طُرُق سياسية وقانونية. سنتجاهل هذه النتيجة، وفقاً لهؤلاء الذين يتبنون وجهة النظر الجامدة، إلى الحد الذي نستطيع استبدال الأسئلة السياسية والأخلاقية المختلفة بأسئلةٍ تاريخية تتعلق بمقاصد مؤسسي الدستور وقت قيامهم بما فعلوه، أو عن الفهم الشائع لللغة التي اختاروها للتعبير عن الشروط الدستورية وقت اختيارهم لها.

 

         بشكل مختصر، الرغبة بالاستقرار والحياد قادت المؤيديين المعاصرين لوجهات النظر الجامدة لإظهار التفسير الدستوري على أنه، عند الإلتزام به كما ينبغي، ممارسة تهتم بمقاصد المؤسسين أو بالمفهوم الأصلي لمضمون ومعنى الكلمات المختارة للتعبير عن القيود المتفق عليها على سلطة الحكومة وصلاحياتها. سيكون دور الدستور في مأمن فقط إذا ألزم المفسرون أنفسهم بعوامل معينة، ولم يحاولوا إدخال وجهة نظرهم الخاصة تحت غطاء التفسير. عندئذٍ فقط ممكن أن يخدم متطلباته الطبيعية بصفته إطاراً ثابتاً ومحايداً سياسياً. يُطلق بشكل عام على هؤلاء المُفكِّرين الذين يتبنون وجهة النظر هذه تحديداً في تفسير الدستور بـ«الأصلانيين originalists».

 

         لا يعتقد جميع المُفكِّرين الدستوريين أن الدور الوحيد والمهم للدستور هو وضع إطار ثابت ومحايد لقوانين الأحزاب والسياسة. ولا يعتقد المُفكِّرون أيضاً أن التفسير الدستوري ما هو إلا محاولة للوصول لفهم المعنى الأصلي ونوايا المؤسسين. فعلى العكس من ذلك، يتبنى الكثير من الأكاديميين الدستوريين الدستورانيةَ الحيويةَ living constitutionalism، كمنهجية ترى الدستور بأنه ذو هوية حيوية ومتطورة، والتي بطبيعتها قادرة على التكيف مع الظروف الاجتماعية المختلفة والاعتقادات السياسية والأخلاقية الجديدة (والتي يُعتقد أنها الأفضل). بفضل هذه الآراء المختلفة عن الدساتير تناول العديد من مختلف المُفكِّرين طبيعة التفسير الدستوري وحدود شرعيته. أحد إتجاهات الدستورانية الحيوية، والتي سنتناولها لاحقاً، تُشدِّد على المدى الذي يتشابه فيه التفسير الدستوري بالتسبيب الموجود في المجالات القانونية الأخرى ذات الصلة بالأنظمة التشريعية للقانون العام، على سبيل المثال قانونا العقود والتعويض torts. وأيضاً، كما هو الحال في قانون المسؤولية التقصيرية contributory negligence التي ظهرت وتطورت في بلدان القانون العام عبر الكثير من القضايا بشكل تدريجي على مدى عدة عقود، وكنتيجة للعديد من الأحكام القضائية، وقانون الحماية المتساوية، وحرية التعبير والاجراءات القانونية، وما شابه ذلك من تطورات في الأنظمة الديمقراطية الغربية كالقضايا الدستورية التي تم البت فيها على مدى سنوات.

 

         تُعَد الخلافات بين الأصلانيين originalists والدستورانيين الحيويين living constitutionalists من أكثر الخلافات جدلاً وحيويةً الصاعدة في الوسط الأكاديمي الدستوري منذ عدة عقود ماضية. كانت الخلافات تميل للتركيز على الحقوق المدنية المُجرَّدة في نصوص الدساتير، مثل بند الإجراءات القانونية the due process clause في الدستور الأمريكي، أو الفصل السابع من الوثيقة الكندية للحقوق والحريات the Canadian Charter of Rights and Freedoms، والذي «يكفل الحق في الحياة، والحرية والأمن للإنسان، والحق في عدم حرمانه من ذلك إلا وفقاً لمبادئ العدالة الأساسية».[17] من وجهة النظر الجامدة التي يلتزمون بها، يرى الأصلانيون المعاصرون أموراً أخرى أكثر من مجرد المحاولة للبحث عن الفهم الأصلي للنصوص، إضافةً إلى المحافظة عليه وتطبيقه، كمراجعة دستورية أو «كبناء construction»، غالباً ما يتنكر بالتفسير الأصلي دون تغيير.[18] في الجانب الآخر، نجد أنَّ الدستورانيين الحيويين الذين يرون الأصلانية كنظرية مُحافظة جداً ورجعية تهدف فقط لتقييد المجتمع الديمقراطي حتى يلقى حتفه بيد الماضي. الأصلانيون يجعلوننا، كما يدَّعي خصومهم، غير قادرين على الاستجابة بشكل معقول ومسؤول لتغيرات الظروف الإجتماعية ولتطورات وجهات النظر الأخلاقية المتعلقة بمتطلبات القيم والمبادئ النظرية المُدرجة في الدساتير الحديثة. يعارض الأصلانيون بالقول بأن الدستورانيين الحيويين يُوصون بممارسات دستورية تُهدد العديد من القيم العزيزة، والتي من ضمنها سيادة القانون والفصل بين السلطات. في الحقيقة، هم فَرِحُون بوضع الدستور تحت يد قضاة معاصرين يسمحون، تحت غطاء التفسير، بتغيير الدستور بهدف وضع ميولهم السياسية الشخصية وتفضيلاتهم الأخلاقية. وهذا ما يصب فقط، كما يدَّعي الأصلانيون، في صالح إعاقة القيم العزيزة المكفولة بوجود دستور ثابت ومحايد سياسياً، وهو ما يجعل كل قول عن قيود دستورية حقيقية لا معنى له.

٨. الأصلانية Originalism

 

         تأخذ الأصلانية[19] عدة أشكال واسعة(Bork 1990; Scalia 1997; Whittington 1999b; Barnett 2004; Solum 2008). قد تُحاجج أصلانيةٌ ما بأن وجهة نظرها تنبع بالضرورة من أكثر نظرية عامة للتفسير: أن تُفَسِّر فذلك يعني بالضرورة استعادة أمرٍ ما وجِدَ وقت التأليف—كهدف أوّلي. قد يفرح إمرُؤٌ آخر بمعرفة أن التفسير من الممكن، من الناحية النظرية، أن يأخذ شكلاً إبداعياً innovative  وإبتكارياً creative والذي بدوره يُقيِّم الأصل أو بطريقة ما يُغيِّره، كما هو الحال في تفسير ثوري لعمل مسرحي ما أو عمل فني. لكن قد يمضي هذا المُفكِّر في إضافة أن هذه التفاسير الإبتكارية innovative interpretations، نظراً لأسباب ترجع لأمور تتعلق بالأخلاق السياسية، على سبيل المثال مبادئ الديمقراطية وسيادة القانون والقِيَم المؤسِسة للفصل بين السلطات، فلا يجب على المُفَسِّرين الدستوريين السعي لها. يجب أن يبقى الهدف من التفسير الدستوري، لأقصى حد ممكن، محكوماً بعوامل مثل الفهم العام الأصلي أو مقاصد المؤسسين. ومع ذلك، فمن الممكن هنا أن يتنازل قليلاً أصلانيٌ آخر وهو على اقتناع، باقتراحه أمراً ما كالتالي: على الرغم من وجود افتراض ما، وربما يكون قوياً، في صالح التفسير باعتباره استعادة للأصل retrieval of an original، إلا أنه ممكن تجاوزه، في حالات نادرة جداً. على سبيل المثال، يمكن أن يقول هذا الأصلاني أن الافتراض الذي يصب في صالح الاستعادة من الممكن التغلب عليه متى كان هناك تغييرٌ واضحٌ وعميق في وجهات النظر العامة في بعض مسائل الأخلاق السياسية المهمة، التي تتضمنها النصوص الدستورية المُجرَّدة. هذا ما كان محلاً للنقاش في الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بالعبودية والحماية المتساوية. فمن المفترض أن «الحماية المتساوية equal protection» كانت مفهومة أصلاً باعتبارها متوافقة مع التمييز العنصري segregation، من قبل كُل من مشرعي التعديل الرابع عشر والناس الذين يُشرَّع بالنيابة عنهم. وبكل تأكيد، فإن هذا الفهم المادي للحماية المتساوية مُنْتَقَدٌ بشكل كبير في الوقت المعاصر. وهذا الرفض الكبير أصبح بمثابة الإلهام الرئيسي وراء قضية Brown v. Board of Education، والتي من الممكن القول أن تفسيرها الإبتكاري لبند الحماية المتساوية the equal protection clause  قد غيّر الفهم الأصلي للفكرة أو استبدلها.[20] ومع ذلك، فثمة تنازلٌ آخر، يبدو في هذه الحالة أن العديد من الأصلانيين يتبنونه، وهو المتعلق بقوة سلطة تفسيرات المحكمة للدستور وتأثيرها. يعتقد العديد من الأصلانيين أن قضية[21] Roe v. Wade انتهت إلى تفسير خاطئ لدستور الولايات المتحدة، عندما رفضت المقاصد والفهم الأصلي؛ لكن في الحقيقة لا أحد من الأصلانيين يذهب بعيداً وينكر أن أي تفسير حديث للتعديلات الأول والرابع والخامس والتاسع والرابع عشر لا يكون مبرراً إلا متى كان منسجماً مع ذلك الحكم. بتعبير آخر، في الواقع جميع الأصلانيين يوافقون على أن تأسيس سابقة قضائية جديدة من الممكن أن تتغلب على الفهم الأصلي. لكن عمَّا إذا كان هذا التنازل الظاهر، في النهاية، يتوافق مع روح الأصلانية، فهو ربما يكون محل شك. مثل هذه «الأصلانية المترددة faint-hearted originalism» (Scalia 1989) من الممكن، في نهاية المطاف، أن تنحدر لشكل ما من الدستورانية الحيوية.[22] في الحقيقة، وكما سيظهر لنا في الفصل القادم، أن دور التفاسير القضائية للنصوص الدستورية المُجرَّدة مركزيٌ لذلك الشكل الأبرز من الدستورانية الحيوية، التي ترى أن التفسير الدستوري يرتكز على شكل من سببية القانون العام common-law reasoning.

 

         جانبٌ آخر ينقسم فيه أيضاً الأصلانيون وهو تحديد معالم الهدف الرئيسي من التفسير. قد يهتم أحد الأصلانيين في استرجاع الفهم العام الأصلي للعبارات الدستورية الرئيسية مثل «حرية التعبير»، و«مبادئ العدالة الأساسية» أو «العقوبات القاسية وغير المألوفة cruel and unusual punishment»، بينما قد يرغب آخرٌ بأن لا يهتم المُفَسِّرون بالمقاصد الأصلية للمشرعين الدستوريين المعنيين. لكن علينا أن نكون حذرين هنا. فمن المحتمل أن يكون الفهم العام الأصلي مُهماً لهذا الأصلاني الثاني، وذلك لأن الوسيلة الرئيسية للتعبير عن مقاصد المرء في سياق التشريع القانوني هي الكلمات المختارة للتعبير عن هذه المقاصد. وهذه الكلمات لن تُعبِّر عن مقاصد المرء إلا في حال افتراض وجود مستوى معين من الفهم أو وجود مفهوم عام مشترك، فهمٌ عامٌ مشتركٌ قابل للوصول إليه من قِبل كُل من المُشرِّعين والقُرّاء، بحيث يكون هؤلاء الأخيرون قادرون على إدراك مقاصد المؤسسين، ومن المتوقع منهم فعل ذلك. لكن هذا الفهم أو المعنى لن يكون شيئاً آخر غير الأصلي نفسه، وذلك لأن المؤسسين لا يملكون كُرةً سحرية، وبالتالي فليس باستطاعتهم استشراف الفهم المستقبلي. إذن، مُفَكِّرةُ المقاصد الأصلية حتماً ستقضي بأن يُعطي المُفسِّرون أهمية للفهم العام الأصلي- وربما إلى حد يفضي إلى أن تؤول نظريتها

 في الأخير إلى شكل من أصلانية الفهم العام. أمرٌ مشابهٌ سينطبق على أصلانية ينصب إهتمامها الرئيسي على الفهم العام الأصلي: فعليها أن لا تنسى مطلقاً صلة مقاصد المؤسسين، على الأقل في بعض القضايا. هل يعني ذلك، على سبيل المثال، أن الفهم العام الأصلي يؤدي لتطبيقات ونتائج غير متوقعة والتي لدينا من الأدلة التاريخية الكافية للاعتقاد أن المؤسسين لم يقصدوها، أو أنهم بلا شك سيرفضونها في حال أنهم فهموا ما نحن حالياً نفهمه، قد يسمح أصلانيٌ ما لمقاصد حقيقية أو افتراضية من أن تتغلب على الفهم العام الأصلي.

 

         أحد الطُرق التي يستطيع بها المرء أن يُحدِّد ما لم يقصده مشروعو الدستور، أو ما لم يرغبوا بتأييده، في واقعة محددة أو نتيجة ينتهي إليها الفهم العام الأصلي لنصوص الدستور هي من خلال إستدعاء الأهداف العامة أو الغايات، والتي لدينا من الأسباب الكافية ما يجعلنا نؤمن أنها كانت مقصودة لتحقيقها من خلال ما شرعوه. في بعض الأحيان، تكون هذه الأهداف والغايات، والتي غالباً ما تُسمى بالمقاصد البعيدة/الإضافية further intentions، مُعبَّرٌ عنها بشكل واضح في مقدمة الدستور، كما هو الحال في القوانين العادية. لكن مثل هذا التعبير عن الهدف في الدستور يميل لأن يكون فضفاضاً بشكل واسع وتجريدي للغاية، وغالباً ما يكون محدود الاستخدام في التعامل مع الأسئلة التفصيلية التي تنشأ بموجب وقائع معينة لنصوص دستورية.[23] في بعض الأوقات مثل هذا الاستدعاء يستجلب نقاشاً رسمياً (وغير رسمي كذلك) وجدالاً حول تأليف الدستور وتصديقه وتطبيقاته، أو حول نصوص معينة مطروحة. وأوقاتاً أخرى يستجلب الاستدعاءُ المعتقداتَ المشتركة الواسعة في ذلك الوقت ذات الصلة بالمسألة المطروحة. من المؤكد تقريباً أن الشنق hanging، على سبيل المثال، كان يُحكم به على نطاق واسع في القرن الثامن عشر في أمريكا، لكونه شكلاً سريعاً وإنسانياً نسبياً للإعدام. ولهذا بإمكان المرء أن يجد سبباً تاريخياً جيداً للاعتقاد أنه لم يكن من ضمن مقاصد مشرعي التعديل الثامن حظر مثل هذا الفعل. التفسيرُ الأصلاني لهذا التعديل قد يلقى تأييداً من هذه الحقيقة، في حُجته المزعومة لتأكيد دستورية صحة الشنق.

 

         لكن يبدو أن الأمور ليست بهذه الدرجة من البساطة. فلنفرض جدلاً أننا متفقون على أن هدف مشرعي التعديل الثامن هو حظر العقوبات القاسية وغير المألوفة، ولهذا هم يعتقدون، بجانب تقريباً جميع الأمريكيين في الوقت الحاضر، أن الشنق لا يدخل ضمن حدود هذه العبارة. بتعبير آخر، ما نسميه نحن بـ مفهومهم المادي لفكرة«العقوبات القاسية وغير المألوفة»المُجرَّدة، هو بمثابة السماح باستعمال الشنق. إذا كان الأمر فعلاً كذلك، وإذا كان يعتقد المُفسرون المعاصرون أن جميع أشكال عقوبة الإعدام، من ضمنها الشنق، هي في حقيقة الأمر قاسية وغير مألوفة، إذن فمن الممكن لها تكوين حُجة لهذا النوع التالي، نوعٌ يتضمن صبغة أصلانية، على الأقل بشكل سطحي. وفيما يتعلق بالمقاصد العامة للمشرعين- لحظر العقوبات القاسية وغير المألوفة- فإنه في الحقيقة تتطلب إعتبار الشنق غير دستوري، حتى لو كان المشرعون(ومن يتم ممارسة السلطة باسمهم) سيرفضون هذا الإدعاء. ومع الأخذ بعين الاعتبار قابلية وجهات نظرهم الأخلاقية للخطأ، فإنه من الممكن أن تكون مقاصد مشرعي التعديل الثامن أن على أجهزة الحكومة مُراعاة معيار أخلاقي نظري تُحْظَر بموجبه الحكومات من أن تتصرف بطريقة ما ممكن تصنيفها بأنها قاسية أو غير مألوفة. في الحقيقة، قد تكون هذه هي غايتهم وقت صياغة التعديل الثامن بالطريقة التي تمت بها، عن طريق التعبير بمبدأ مُجرَّد كمقابل لنص أكثر تفصيلاً يُحدد أنواع الممارسات المادية التي رغبوا بحظرها، والتي هي عبارة عن مفهومهم المادي لـ «العقوبات القاسية وغير المألوفة». وما اعتبروه مفهوماً مادياً من الممكن أن يكون خاطئاً، ولم يكن هدفهم أو غايتهم عدم النص على هذا الفهم المغلوط بل لحظر ما هو فعلاً قاسٍ وغير مألوف. قد يستلزم الأمر، استناداً لمقاصدهم وفقاً لهذه الأحوال، الحكم بعدم دستورية كل ما يدخل ضمن حدود النص المذكور، بمعنى، كل ما يُشَكِّل في الحقيقة سلوكاً جنائياً قاسٍ وغير مألوف. فالنتخيَّل أن بإمكان أحدهم استدعاء مشرعي التعديل الثامن للحياة، وبإمكانه أن يُقْنِعَهم، عبر حُجةٍ أخلاقية وتجريبية، أن عقوبة الإعدام بكل أشكالها هي في الحقيقة قاسية وغير مألوفة. كيف سيكون ردهم على هذا الإدعاء الذي يزعم بأن الطريقة الوحيدة لاحترام مقاصدهم هي بالاستمرار بقبول تطبيق الشنق كأمر دستوري. غالباً ما سيكون ردهم عن طريق القول بأن: «ما قصدناه هو حظر العقوبات التي هي في حقيقة الأمر قاسية وغير مألوفة، وليس ما بإمكاننا الآن أن نرى بأننا، بجانب كل شخص آنذاك حقيقةً، قد فهمناه بصورة خاطئة وبأن الحظر قد شَمِلَه. ولو كنا نريد بشكلٍ دقيق أن نحظُر فقط الأمور التي كنا نعتقدها آنذاك من أنها تُشَكِّل عقوبةً قاسية وغير مألوفة، فسوف نختار كلماتنا بشكل مختلف. ولسوف نحظرها بشكل صريح.» ومع ذلك، فسوف يكون محلاً للشك عمَّا إذا كان إستدعاء هذه المقاصد بهذا الشكل سيكون كافياً لجعل المرء أصلانياً- متى كان فقط متردداً. مثل هذا الإستدعاء قد يؤدي إلى تحويل النظرية الناتجة عن التفسير الدستوري إلى واحدة مُقاربة لأحد أشكال الدستورانية الحيوية.[24]

 

         في جميع الأحوال، قد يختلف الأصلانيون في التفسير الدستوري فيما يتعلق بأهدافه وغاياته، والتي غالباً ما يتم الإشارة لها بالمقاصد البعيدة/الإضافية. فقد يكون أصلانيٌ ما مستعداً للسماح ببعض المقاصد البعيدة لكي تتغلب على الفهم الأصلي المادي في بعض القضايا، بينما قد يرفض آخرٌ تماماً استخدام مثل هذه المقاصد. أحد أسباب تردد هذا الأخير- وكذلك من أجل تركيز غالبية الأصلانيين المعاصرين حول المعنى العام المُعتاد، كمقابل للمقاصد الأصلية- هو على الأرجح سوف يكون أن الأدلة التاريخية المتعلقة بوجود مثل هذه المقاصد وبمحتواها تميل لأن تكون غير موثوقة بشكل كبير أو لا يمكن الوصول لها من قِبل المُفسِّرين اللاحقين. أحد أهم وظائف القانون هي ضبط السلوك. ومن ثم فلن يكون المرء مُنضبطاً من قِبل القانون طالما أنه لم يفهمه أولاً، ويعرف معناه. وإذا كان معناه يعتمد على عوامل عدة يثور حولها خلافٌ كبير، أو لا يمكن الوصول لها، كما هو الحال غالباً عند التطرق لمقاصد المشرعيين المتوفيين منذ فترة طويلة، عندئذ لن يكون المرء منضبطاً من قِبل القانون. من هنا، يمكن استخدام حُجج سيادة القانون لتبرير منع(بشكل أساسي) إستدعاء مقاصد المشرعيين(البعيدة أو غيرها) بشكل عام ماعدا في بعض القضايا الاستثنائية. السبب الثاني لرفض إستدعاء المقاصد البعيدة هو أنه في الحقيقة يوجد إختلافٌ كبير بين ما يقوله الدستور أو ما يعنيه حقيقةً وبين ما كان يريده أولئك الذين ألَّفوه أو ما قصدوا تحقيقه عند تأليفهم له. فالتفسير هو محاولة للإستعادة وذلك من أجل المحافظة على الأصل أو تطبيقه، وليس ما هو لاحق.

 

         تخضع الأصلانية، من حيث هي عائلة عامة من النظريات التي تربط المُفسِّرين الدستوريين بالفهم الأصلي و/أو المقاصد، للعديد من الاعتراضات. على سبيل المثال، الفهم والمقاصد الأصلية غالباً ما تكون غير واضحة، إن لم تكن غير محددة بشكل واسع، تاركةً المفسرين في حاجة لإستدعاء عوامل أخرى.[25] في بعض الأوقات الأمر الوحيد الذي قد يتفق عليه المُشَرِّعون المُشْتَركون هي الكلمات التي تم اختيارها بالفعل. في نفس الوقت، ثمة صعوبة أخرى تواجهها الأصلانية تتصل بما سبق: غالباً ما تختلف الحياة المعاصرة بشكل كبير عن الحياة المُعاشة من قِبل أولئك الذين عاشوا وقت مصادقة الدستور. وكنتيجة لذلك، العديد من التطبيقات أو النتائج المادية التي يستلزمها الفهم والمقاصد الأصلية، تبدو في الوقت الحالي غير منطقية أو غير مرغوب بها بشكل كبير في ضوء التطورات الإجتماعية والعلمية وتَحسُّن الفهم الأخلاقي. بالإضافة إلى ذلك، تحتوي الحياة الحديثة على حالات لا نهائية لم يكن باستطاعة سَلَفِنَا التفكير بها، فضلاً عن قصدهم أو نية التعامل معها بطريقة معينة. فالحق في حرية التعبير التي نجد صداها في العديد من دساتير الحقبة الأولى من العصر الحديث، من المستحيل أنها فُهِمَت(أو قُصِدَت) من قِبل مؤيديها بحيث أنها تشمل، كمثال، الصور الجنسية قي الانترنت.

 

         إستجابة لهذه المعضلة الأخيرة، قد يلجأ أصلانيٌ ما لما يسمى بالمقاصد أو الفهم الإفتراضي hypothetical intent or understanding. الفكرة الأساسية هي أن على المُفَسِّرة دائماً التفكير، في القضايا التي تتضمن ظروفاً جديدة وغير المتوقعة، في الأسئلة الإفتراضية التي كان سَلَفُها يُريد تحقيقه أو قصده في القضية المطروحة، هل هم عَرفوا ما نحن الآن نعرفه بأنه صواب. فنحن الآن، من وجهة النظر هذه، نضع أنفسنا افتراضياً مَحل أولئك الذين سبقونا. وعلينا تحديد ما سوف يريدونه أن يتم في الظروف الجديدة التي نواجهها الآن، ربما على ضوء معتقداتهم العامة وقِيَمِهم وأهدافهم المقصودة وغاياتهم، وربما كذلك عن طريق نوع ما من قياس التطبيقات المادية التي لدينا من المبررات الكافية ما نعتقد أنهم سيقبلونَها بشكل تام آنذاك. لكن هذه الخطوة مُعقَّدة. فأولاً، هي تفترض أنه بإمكاننا تحديد قائمة تشتمل على الغايات والقيم والتطبيقات المادية التي تُعزى إلى أسلافنا. بينما الناس دائماً ما يكون في تفكيرهم أشياء مختلفة على الرغم من اتفاقهم على النص الدستوري. فالبعض يعتقد أن الحق في حرية التعبير يحمي خطاب الكراهية، بينما يعتقد آخرون أن حظر مثل هذا الخطاب يُشَكِّل قيداً مُبرراً على هذا الحق. ثانياً، حتى لو كان بإمكاننا تحديد قائمة مقبولة من الغايات والقيم والتطبيقات التي نتوصل لها بتحقيق إفتراضي، فيبدو أنه من المستبعد أن يكون هناك دوماً جواباً فريداً لأسئلة مغايرة لتلك التي كان المشرعون يقصدونها أو يريدونها أن تتم على ضوء هذه العوامل. ومتى كان ذلك، فمن الراجح أن المُفَسِّر المعاصر، في نهاية المطاف، سينقاد بآرائه الأخلاقية في اختيار إجابة ما على هذا السؤال المُغاير للحقائق. فما يعتقده المُفَسِّر من أن المشرعين قد قرروه قد ينتهي في نهاية الأمر من أنه في الحقيقة لا أكثر ولا أقل من ما يعتقده هو من أنه يجب على المشرعين إقراره في حال أنهم معنا في الوقت الحالي.

 

         انتهينا الآن من سؤال لِمَ علينا التكهن بمقصود مجموعة الأفراد المتوفيين منذ فترة طويلة أو ما كانوا يريدون إتمامه، وهل هم عرفوا ما نحن الآن نعرفه. يبدو أن الإمتياز الرئيسي للأصلانية هو تقييد التفسير الدستوري بحقائق تاريخية على الحياد الأخلاقي حول المعتقدات والمقاصد والقرارات الفعلية للأفراد المتمتعين بالسلطة الشرعية للإجابة على الأسئلة الأساسية المتعلقة حول الشكل والقيود المناسبة للسلطات الحكومية. إذا كان علينا الآن التفكير، ليس بما قد قرروه أو اعتقدوه أو فهموه، ولكن بما يجب عليهم اتخاذه في حال أنهم موجودون اليوم وبمعرفتهم بما نحن الآن نعرفه، فعندئذ سيتلاشى المطلب الرئيسي للأصلانية. بالتالي السؤال الطبيعي المطروح هو: لِمَ لا ننسى ببساطة هذا الجانب الافتراضي والعملية المغايرة للواقع، ونقوم باتخاذ القرارات بأنفسنا؟

 

         لكن إن لم نكن مُقَيَّدين بهذه الطُرُق المُسماة باليد الميتة للماضي عند تطرقنا للتفسير الدستوري، فإذن كيف لنا أن نمضي قُدماً؟ البديل المُهيمن، الدستورانية الحيوية، تأخذ حافزها من الصعوبات الكامنة في الأصلانية المذكورة في الفقرات السابقة. هي تفعل ذلك عن طريق تفسير الدستور—أو على الأقل تلك الأجزاء منه التي تتضمن مبادئ مُجرَّدة[26]— باعتباره كياناً حيوياً تكون قُيوده في بعض الأوقات مفتوحة لإعادة النظر والتعديل في ضوء الأزمنة المتغيرة وتطورات الفهم الأخلاقي/السياسي(المأمول) والتي تميل لإثارة مشاكل عديدة للأصلانية.

٩. الدستورانية الحيوية Living Constitutionalism

 

         مهما قيل عن القانون، فإن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها: أنه متى وجد القانون فإن سلوكنا سيكون خاضعاً لأشكال متعددة من القيود. لكن هناك العديد من الحالات، التي من الممكن إلغاء تلك القيود ذات الصلة أو تغييرها عن طريق القليل من الجهد، كما هو الحال عندما يتم التخلي عن سابقةٍ قضائية مُشْكِلة في القانون العام نظراً لتغير الظروف الإجتماعية، أو عندما يُلغى قانون ما أو يُعَدَّل نظراً لأنه لم يعد صالحاً لغايات مفيدة. لكنَّ الأمر ليس كذلك بالنسبة للدساتير. كما أشرنا سابقاً، فهي تميل لتكون عالية التحصين. فالدساتير تهدف أيضاً لتكون طويلة الأمد، وذلك لخدمة قِيَم الديمومة والاستقرار في الإطار الأساسي الذي تتم من خلاله الشؤون القانونية والسياسية المختلف حولها. لا تُثير طبيعة التحصين للدساتير مُشكلةً كبيرة عندما نكون بصدد مسائل مثل مدة ولاية عضو مجلس الشيوخ، أو مَن مِن أجهزة الحكومة المسؤول عن تنظيم التعليم العام. لكن الأمور تتعقد أكثر وتُثير جدلاً أكثر عندما نتجه لنصوص عالية التجريد، وللأحكام الأخلاقية في معظم الدساتير المعاصرة والتي لديها من القوة لتقييد سلطات الأجهزة الحكومية بشكل جوهري. هذه الخصائص المميزة للدساتير تتعاضد لتثير أسئلة أساسية، أحدها وهو ما يثير مُشكلة للأصلانية بينما تدَّعي الدستورانية تقديمها لإجابة أفضل: كيف لمجموعة من الأشخاص تبرير وضع معوقات دستورية مُحَصَّنة ذات طبيعة أخلاقية بشكل واضح في طريق مجموعة أخرى من الأشخاص، مَنْ قد يعيشون في ظروف مختلفة جذرياً وربما مع وجهات نظر أخلاقية مختلفة جذرياً كذلك؟ بشكل مختصر، كيف يمكن شرعياً لجيلٍ ما أن يُقَيِّد الخيارات الأخلاقية لجيلٍ آخر؟ الإجابة المُرضية لهذه المشكلة بين الأجيال intergenerational problem، والتي يؤكد الدستورانيون الحيويون عليها، تتطلب أن نعتبر الدساتير قابلة للنمو والتكيف مع الظروف المتغيرة باستمرار من دون التفريط بهويتها أو شرعيتها.

 

         وفقاً للدستورانيين الحيويين، فإن معنى ومضمون نَصٍّ ما مُحَصَّن مثل الفصل ٣(١) للقانون الأساسي الألماني German Basic Law والذي ينص على:«جميع الأشخاص متساوون أمام القانون All persons shall be equal before the law» المتضمن للحقوق ولمبادئ الأخلاق السياسية المُعَبَّر عنها، ليس هو تلك الحقوق والمبادئ التي كانت متطلباتها مفهومة بشكل عام وقت تشريعها، أو التي اعتقدها أولئك الذين إختاروا تضمينها في الدستور أو قصدوها. فحرية توظيف مصطلحات أخلاقية مُجرَّدة(مثل:«العقوبات القاسية وغير المألوفة») بدلاً من أخرى مادية أكثر وغير أخلاقية(مثل:«الشنق العام public hanging» أو «السحل والتقطيع لأربع أجزاء drawing and quartering») من المحتمل أن يكون من أجل أربع حقائق حاسمة على الأقل: (١) من المهم أن لا تُخالف الحكوماتُ حقوقاً معينة مُهمة من الأخلاق السياسية، (٢) لا يتفق المُشروعون الدستوريون دائماً بشكل كامل على ما هو مطلوب بشكل دقيق في مختلف السيناريوهات والقضايا المتعلقة بتلك الحقوق ذات الصلة، أو من الممكن أن تكون كذلك مستقبلاً، (٣) ليس باستطاعة المُشروعون الدستوريون توقع المستقبل ولا حتى مختلف السيناريوهات والقضايا، والتي قد تكون هذه الحقوق المهمة ذات صلة بها بطريقة ما، (٤) حتى لو كانوا مُتفقين على ما تتطلبه تلك الحقوق بشكل دقيق وقت تبنيها، وراضين على إلزام أنفسهم ومعاصرينهم بذلك الفهم المادي، فهم في الحقيقة غير راضيين بفعل ذلك بالنسبة لأجيال المستقبل، الذين سيعيشون بأوقاتٍ مختلفة جداً وقد يُفكرون بشكلٍ مختلف أيضاً. ومن ثم، فقرار التعبير عن إلتزامات دستورية بمصطلحات مُجرَّدة عالية— «عقوبات قاسية وغير مألوفة» مقابل «السحل والتقطيع لأربع أجزاء»— سيَترك للأجيال اللاحقة استبدال فهمهم المادي، والذي من الممكن أن يكون مختلفاً، بفهم[27] أولئك المشروعون أو أولئك الذين عاشوا وقت التشريع. فالنتيجة إذن هي أنه طالما أن الفهم المادي لنصوص الحقوق الدستورية المُحَصَّنة يتطور، فإن النتائج المكفولة بناءً على هذه النصوص من الممكن شرعياً أن تُغير الحق إلى جانب ذلك. ومن المهم للدستورانيين الحيويين الذين لا يرغبون بالاستسلام للتهمة القائلة بأنها تحث على الكفر بالدستور، أن هذه التغيرات يمكن أن تقع دون أن يتم تغيير الدستور، كما هو الحاصل لو أنَّ إجراءً رسمياً لتغيير الدستور قد تم بنجاح وتم إلغاء نص حقوقي مُجرَّد من الدستور.

 

         على الرغم من جاذبيتها غير المشكوك فيها (على الأقل لدى الكثيرين)، تخضع الدستورانية الحيوية للعديد من الاعتراضات المهمة. ربما أكثرها أهمية هي هذه: ١) تجعل النظرية كل الحديث عن التفسير الدستوري، كالفهم الصحيح باعتباره استعادة للمعنى المقصود، لا معنى له ألبته: ويصبح التفسير الدستوري ليس أكثر من اللاتقييد، وإنشاء دستور ما أو تفسيره مُتَنَكِّراً على أنه تفسير؛ ٢) تختلس الدستورانية الحيوية من الدستور قابليته التي تخدم أغراضها التوجيهية—فكيف سيتم ضبط الأفراد من قِبل دستور تتحدد تطبيقاته على سلوكهم واختياراتهم بناء على وجهات نظر غير مُقَيَّدة لمن يُسَمون في وقت لاحق بالمفسرين؟؛ و ٣) تنتهك الدستورانية الحيوية مبدأ الفصل بين السلطات— فإذا كان الدستور وقيوده سيصبح أي شيء سيعنيه المُفسِّرون المعاصرون، وإذا كان هؤلاء المُفسِّرون يتواجدون بشكل حصري في المحاكم المملوءة بأفراد مُعَيَّنِين وليسوا مُنتخبين، فإذن ديموقراطياً سينتهي إلى هؤلاء القضاة غير المُسائلين تحديد ما يجب أن يكون من قيودٍ مناسبة على سلطة الحكومة، وهي المهمة التي من الواضح أنهم غير مؤهلين لها والتي يجب أن تُعهد لأفراد(على سبيل المثال مُشرعو الدستور) ذو أهلية ديموقراطية للاضطلاع لهذه المهمة. ومن هنا تظهر الأصلانية.

 

         لدى الدستورانيين الحيويين مجموعة من الأجوبة على هذه الاعتراضات. على سبيل المثال، يمكن القول بأن النظرية لا تؤدي بالضرورة إلى اللاتقييد والتعسف في استعمال السلطة القضائية، فغالباً ما يصورها خُصومُها بهذا الشكل. يُشير الدستورانيون الحيويون مثل Strauss (2010) و Waluchow (2007a) إلى أن آلية تفسير نصوص الحقوق المُجرَّدة الدستورية هي عملية تشبه إلى حدٍ كبير العملية التي يقوم بها القضاة، على قدم المساواة، بتطوير أفكار القانون العام المُجرَّدة مثل «المسؤولية التقصيرية negligence » و «الاستعمال المعقول للحق the reasonable use of force». فوفقاً لـ Strauss، أن النظام الدستوري الأمريكي:

 

         أصبح نظاماً قانونياً عاماً common law system، تكون فيه السوابق القضائية والممارسات السابقة مهمة على قدر أهمية الدستور الأمريكي نفسهوليس نظاماً يقوم فيه القضاةُ (أو أي أحد غيرهم) ببساطة باستبدال أفكارهم الخاصة بذلك. (Strauss 2010, 3)

 

         من وجهة النظر هذه، يجب على التفسير الدستوري أن يتوافق مع المحاولات السابقة لتفسير وتطبيق نصوص الحقوق المُجرَّدة المنصوص عليها في النص الدستوري. فهذه الأحكام التفسيرية السابقة تعمل كسوابق قضائية. وكما هو الحال في القواعد التقليدية للسوابق القضائية التي تدمج بين ماتكنه من احترام لحكمة(ولو كانت محدودة) وسلطة صُنَّاع الأحكام السابقة(المُشرعون والقضاة) وبين مراعاة الحاجة للسماح بالتكيف في حال مواجهة تغييرات في الآراء والظروف الجديدة وغير المتوقعة، ومن ثم يجب على المُفسِّرين الدستوريين احترام حكمة وسلطة المُفسِّرين السابقين، وفي نفس الوقت السماح للدستور بأن يتكيف ويتجاوب مع الآراء المتغيرة والظروف الجديدة وغير المتوقعة. فالتفسير الدستوري الحيوي، على الرغم من مرونته وتكيفه، ليس أقل تقييداً وإنضباطاً من المنطق الذي يوجد في القانون العام.

 

         جوابٌ آخرٌ يُقدِّمه الدستورانيون الحيويون ألا وهو إنكارهم القول بأن نظريتهم في التفسير تتجاهل الدور الرئيسي الذي يلعبه النص الدستوري ومشرعيه. يلعب النصُ دوراً مركزياً كما هو الحال في أي تفسيرٍ دستوري، والذي ربما يكون إبتكارياً، يجب أن يتوافق مع ذلك النص، إلى حين مجيء الوقت الذي يتم فيه تعديله رسمياً بواسطة بعض الإجراءات المعروفة للتعديل الدستوري. ليس ثمَّة سببٌ للرفض بأن الفهم الأصلي للنصوص المُجرَّدة الدستورية من الممكن أن يكون ذا صلة وثيقة بالتفاسير اللاحقة. ينطبق هذا الأمر بوجه خاص على التفاسير التي ظهرت بعد تبني الدستور بوقت قريب، وقتها لم تظهر المخاوف المتعلقة بشأن تقييد الأجيال مستقبلاً. ببساطة، الفهم الأصلي لا يجب أن يكون نهائياً، على الأقل ليس أبدياً. في النهاية، نسبية أهمية العوامل مثل معنى النص، والفهم العام، والتفاسير اللاحقة، والغايات المقصودة، ربما تكون بشكل أساسي كما أشار Joseph Raz (1996, 176–91)، بأنها سؤالاً عن الأخلاق السياسية والذي لا يمكن الإجابة عنه بشكل مُجرَّد ودون الأخذ بعين الاعتبار ما الذي يُبرر، عند تلك اللحظة من التفسير، وجود دستورٍ مُحصَّن على الإطلاق، ناهيك عن وجود دستور مثل هذا وبمحتوي معين. في بعض الأوقات يكون استعادة الفهم المادي أمراً مطلوباً، لا سيما عندما يكون الدستور في مهده ويكون هدفه جزئياً حل مجموعة من الأسئلة الأخلاقية الملموسة كالقيود المناسبة على سلطة الحكومة، على الأقل لفترة محدودة. لكن إذا كان مُفسِّرٌ ما لديه من الأسباب الكافية للاعتقاد بأن فعالية هذه الحلول قد تم تجاوزها نتيجة أمور أخرى أكثر إلحاحاً، فربما إذن تظهر الحاجة للتكيف في ضوء الظروف المتغيرة جذرياً أو الفهم الأخلاقي الأكثر أفضلية، عندئذ من الممكن الدعوة لتفسير أكثر ابتكاراً. ومرة أخرى، القول بأن على المُفسِّرين الدستوريين أن يكونوا مُبتكرين في بعض الأوقات ليس معناه أنه يمكن تفسير الدستور ليكون معناه ما يريده المُفسِّر أن يعني.

١٠. النظريات النقدية Critical Theories

 

         بالرغم من أنَّ الدستورانية مُتبناه بشكل واسع في العالم، إلا أنها لا تخلو من مُنتقدين لها. هذا الأمر يصدق خصوصاً عندما نتطرق لتلك الدساتير التي لا تكتفي فقط بإنشاء وتنظيم أجهزة الحكومة ولكن أيضا تزعم بأنها تحمي الحقوق المُجرَّدة للأخلاق السياسية. بعض النُّقاد— سنُلَقِّبهم بالنُّقاد المتشددين hard critics— يؤكدون بأنه على ما يبدو أن هذه الدساتير الحامية للحقوق لا تستطيع بفعالية ومشروعية أن تحمي الأفراد من القوى الظالمة للحكومات.[28] على العكس من ذلك، هي تسعى إلى تغطية الممارسات القانونية والسياسية بعباءة مزيفة من الشرعية. نُقادٌ آخرون— سنُلَقِّبهم بالنُّقاد الديموقراطيين democratic critics— لا يرفضون تماماً الدساتير الحامية للحقوق. بينما، ينصب اهتمامهم على اختبار الدور الذي يلعبه عادةً القضاة غير الخاضعين للمساءلة ديموقراطياً في تفسير وتطبيق تلك الدساتير.

 

         وفقاً للنُّقاد المتشددين، عوامل مثل الفهم الأصلي والانضباط المفترض لمنطق القانون العام نادراً ما تنجح بملائمة القيود ذات المعنى على سلطة الحكومة. ومن ثم، فالثقة بهذه العوامل في الحُكم الدستوري يهدف فقط: أ) لعقلنة القرارات السياسية البحتة للقضاة التي تتبع، بقصد أو من غير قصد، معتقداتهم السياسية. مما يُشَكِّل النتائج اللاحقة: ب) ضررٌ بالغٌ على الديمقراطية. في غالبية الديمقراطيات الدستورية، يكون القضاة الذين يفصلون بشكل نهائي في القضايا الدستورية مُعَيَّنين، وليسوا مُنتخبين. معنى ذلك، أنهم يشغلون الوظيفة ليس بسبب أنهم مُختارون لفعل ذلك بواسطة مجتمع ديمقراطي، ولكن بناء على اختيار من قِبَل الحاكم، رئيس الوزراء، مجموعة صغيرة من زملائهم القضاة، أو لجنة قضائية من البرلمان. أضِف إلى ذلك، يغلب على هؤلاء القضاة المُعَيَّنون أنهم أتوا من فئات نخبوية privileged classes في المجتمع. المُحصِّلة النهائية هي مجموعة صغيرة من القضاة النُخبويين elitist judges وغير المُختارين، بيدهم سلطة لاستبدال آرائهم الجدلية بشأن القيود المناسبة على سلطة الحكومة بالأحكام المعنية لممثلي الشعب، على سبيل المثال أولئك الأعضاء في الكونغرس أو البرلمان المُنتخبين الذين يُمارسون، باسم الشعب، حقه السيادي للمشاركة في القرارات السياسية التي تمس حقوقه الأساسية. ومن المحتمل: ج) كبت لأولئك الذين لا تحظى مصالحهم باعتراف مساوٍ— النساء، مجموعات عرقية أقلية، الفقراء، وما إلى ذلك— وغير محمية من قبل المعتقدات السائدة والشائعة التي يتمتع بها أولئك القضاة النخبويون. وبدلاً من كبح سلطة الحكومة التي تُهدِّد الحقوق، والتي من المفترض أنها تستند على فكرة الدستورانية ، لدينا كبحٌ سياسيٌ مُتنكر بعباءة مزيفة من الشرعية الدستورية.

 

         إذاً، فالنقاد المُتشدِّدون يُشككون بشدة في الممارسات الدستورية وتلك النظريات التي تُشيد بالدستورانية بوصفها حِصناً ضد الظلم.[29] كما ذُكِرَ في بداية هذا المدخل، العنصر الرئيسي في فكرة الدستورانية هو أن الحكومة يجب/من الممكن أن تُقيَّد في سلطتها وستعتمد صلاحيتها على إلتزامها بهذه القيود. وكما ذكرنا بعد ذلك، أن صلاحية الدساتير في الديمقراطيات الدستورية، بشكل عام، عادةً ما تكمن في «الشعب the people». وأحد مضامين النظريات النقدية المُتشدِّدة هي: د) أن مفهوم «الشعب» غير حقيقي fabrication بشكل كبير. فبدلاً من أن تتشكل من مجموعة من الأفراد المُتَّحدين في اهتمامهم بالحقوق الأساسية، تَتَشكل المجتمعاتُ الغربيةُ من مجموعاتٍ مختلفة تتقاتل إما من أجل الهيمنة (مثال الرجل الأبيض والأثرياء) أو من أجل الاعتراف والقضاء على الظلم (مثال الفقراء، النساء والأقليات العرقية). فالقانون، ومن ضمنه القانون الدستوري، يُمثل أداةً للسلطة تم استخدامه، تاريخياً، من قبل مجموعات مُهيمنة لتأمين مركزهم السُلطوي وللمحافظة عليه.

 

         يمكن القول أن المثال الأبرز لهذه النتيجة الأخيرة هي قضية Lochner v New York وهي القضية المشهورة التي حكمت فيها المحكمةُ العليا للولايات المتحدة الأمريكية بأن قانون ولاية نيويورك، الذي ينص على منع عُمَّال المخابز من أن يعملوا أكثر من عشرة ساعات في اليوم وستون ساعة في الاسبوع، مخالفٌ للتعديل الرابع عشر، والذي يؤكد على منع أي ولاية من «حرمان أي فرد من حياته، وحريته أو ممتلكاته من دون مراعاة الاجراءات القانونية»[30]. قضت المحكمة أن التعديل الرابع عشر يتضمن «حق الفرد وحريته في التعاقد» للعمل لمدة أطول اسبوعياً. حُكم Lochner أنشأ ما يسمى عادة بـ «عصر Lochner» وهي حُقبة امتدت تقريباً ما بين عام ١٩٠٥م حتى عام ١٩٣٧م والتي أًلغت المحكمةُ العليا العديدَ من القوانين الاتحادية وقوانين الولايات من أجل تحسين شروط العمل للعمال. ومن ثم، يبدو أنَّ ثَمَّة حُقبة من الزمن عَمَل فيها دستور الولايات المتحدة الأمريكية، تحت يد محكمة نخبوية، من أجل فقط «شرعنة» القمع السياسي العلني. وفقاً للنقاد المُتشدِّدين، عصر Lochner هو مجرد قطعة صغيرة من صورة أكبر بكثير.

 

         خلاصة القول، وفقاً للنقاد المُتشدِّدين، أن الدستور ما هو إلا الحماية من سلطة الحكومة غير المنضبطة، والتي أشار إليها دُعاتها على مر القرون. وما أُعتبر على أنه المعنى الواضح لمصطلح أساسي مثل «المساواة أمام القانون equal before the law» في الحقيقة ما هو إلا ما فَهِمَته المجموعةُ المُهيمنة أو ما ادَّعت أنه كذلك. وما أُعتبر على أنه الفهم الأصلي الواضح أو النوايا التاريخية لمشرعي الدستور، في حقيقة الأمر ما هو إلا الفهم أو النوايا التي طابقت معتقدات المجموعات المُهيمنة. وما أُعتبر على أنه التعبير الأفضل لحق المساواة المُستمد من التحليل العادل والمنضبط للقانون العام لهذا الحق، ما هو في الحقيقة إلا عقلنة للأنظمة الاجتماعية المعاصرة، والتي جميعها اضطهدت بشكل منهجي مصالح المرأة والأقليات والفقراء.

 

         كما ذُكر سابقاً، النقاد الديمقراطيون لا يميلون لرفض الدساتير تماماً وحماية الحقوق الدستورية كما لو أن بينهما صلة غير متوافقة. فاعتراضهم الرئيسي يدور حول العملية التي ترتبط بها عادةً هذه الجوانب من أنظمة الدساتير الحديثة: الرقابة القضائية أو الدستورية judicial or constitutional review. وهي العملية التي من خلالها تقوم المحاكم بمراقبة القوانين أو التصرفات الرسمية الأخرى للحكومة(على سبيل المثال قرارات هيئة إدارية، مثل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية the US Food and Drug Administration أو لجنة التلفاز والإذاعة والاتصالات الكندية the Canadian Radio-television and Telecommunications Commission) لتحديد مدى موافقتها للدستور.[31] فثمَّة اختلافٌ كبير في حالات معينة لهذه العملية. في بعض الأنظمة القضائية، مثل الولايات المتحدة، تشمل الرقابة القضائية سلطةَ الإلغاء والإبطال لقانون ما تم إصداره من قبل الجهاز التشريعي أو الجهاز الإداري وحُكمها في ذلك نهائيٌ ولا رجعة فيه. بينما في أنظمة أخرى، المحكمة إمَّا أنها لا تملك سلطة الإلغاء أو الإبطال، وإمَّا أنَّ حُكمها قابلٌ للتغيير من قِبل جهاز حكومي آخر. على سبيل المثال، لا تملك المحاكمُ في المملكة المتحدة سلطةَ إبطال تشريعات البرلمان، أي، أن تُعلن أنها باطلة ولا تتمتع بأي تأثير أو قوة. لكنها تملك رسمياً، بناء على الفصل ٤ من قانون حقوق الإنسان ١٩٩٨م Human Rights Act 1998، سلطةَ إعلان أن القانون لا يتوافق مع الاتفاقية الاوربية لحقوق الإنسان The European Convention on Human Rights. بموجب هذا الإعلان، يلتزم البرلمانُ عادةً بتعديل التشريعات المخالفة أو بإلغائها. لكن عندما تختار عدم القيام بذلك، تبقى التشريعاتُ سليمةً ولن يكون أمام المحاكم أيّ بديلٍ قانوني آخر. في كندا، تملك المحكمةُ العليا سلطةَ إبطال قانون ما تُؤمن بأنه لا يوجد ما يُبَرِّر مُخالفة حقٍ مكفول وفقاً للفصل ٢ أو ٧ – ١٥من الميثاق الكندي للحقوق والحريات The Canadian Charter of Rights and Freedoms، لكن الفصل ٣٣ من الميثاق ذاته، يمنحُ البرلمان أو الهيئة التشريعية للإقليم سلطةَ تجاوز هذا القرار. هذا ما يسمى بـ «البند الإحترازي notwithstanding clause» الذي يسمح للبرلمان أو الهيئة التشريعية للإقليم الإعلان أنه، على الرغم من المخالفة غير المُبَرَّرة لأحد الحقوق المذكورة، فإن التشريع المخالف سيبقى سليماً دستورياً. أضحى الشكلُ الأكثر قوةً للرقابة القضائية المُمارَسة في الولايات المتحدة يُدعى «الرقابة قوية الشكل strong-form review» بينما النسخةُ الأقل قوة التي تبنتها كل من المملكة المتحدة وكندا تُدعى «الرقابة ضعيفة الشكل weak-form review»[32]. بقدر ما تترك رقابة الشكل الأضعف الحكم النهائي فيما يتعلق بمعنى الحق الدستوري وحدوده والقيود التي تفرضها على السلطات الحكومية في يد السلطة التشريعية، بقدر ما يتم وصفها من قبل المدافعين عنها بأنها متوافقة مع مبدأ الديمقراطية. في حين أنه وفقاً لنقادها فإنها تُجَرِّد الدستور من أحد أهم وظائفه: وهي حماية حقوق الأفراد والأقليات في مقابل ما يسميه ميل Mill، مُتَّبِعاً في ذلك دي توكفيل de Tocqueville، بـ «استبداد الأغلبية the tyranny of the majority»[33].

 

         أحد أكثر النقاد الديمقراطيين المعاصريين تأثيراً هو Jeremy Waldron. وأقل ما يقال عن Waldron بأنه ليس من مؤيدي الرقابة الدستورية. ولا حتى أنه من مُحبي المواثيق الدستورية الكبيرة و وثائق الحقوق التي تكون أشد إثارة للجدل من حيث ممارسة هذه السلطة من قِبل المحاكم. فوفقاً لـ Waldron ومؤيديه من النقاد الديمقراطيين، فإن الرقابةَ الدستوريةَ، المُستَنِدة لميثاق أو وثيقة حقوق مُحَصَّنين، محفوفةٌ بصعوبات نظرية وعملية. فهي تُهدد الديمقراطية وهي بشكل أساسي غير عادلة وخَطِرَة سياسياً. وهي أيضاً تعتمد على آراءٍ عَفَا عليها الزمن حول طبيعة الحقوق الأخلاقية— أي أن ثَمَّة حقوق عالمية وموضوعية للأخلاق السياسية، والتي تُحيل إليها المواثيق ووثائق الحقوق، ومُتَّفق عليها بشكلٍ واسع داخل المجتمعات الديمقراطية، والتي بناءً عليها يُطلب من القضاة الاستعانة بها بشكل منطقي ومُبَرَّر

من أجل حماية المواطنين من الممارسات المُتعسِّفة لسلطة الحكومة. في الوقت الذي يصح فيه القول بأن الرقابة الدستورية يجب أن لا تستند على الاستعانة بحقوق مُجرَّدة للأخلاق السياسية — قد يكون ذلك، على سبيل المثال، مقصوراً على أسئلة معينة مثل عمَّا إذا كان كل من الكونغرس أو الهيئة التشريعية للإقليم قد إتَّبَعا الإجراءات المناسبة— وكذلك من الصحيح القول بأنه يجب أن لا تملك فعلياً القدرة على إلغاء قانون ما، إلا أن التركيز الرئيسي للنقاد الديمقراطيين ينصب على الرقابة الدستورية قوية الشكل والتي تُجسد هاتين الخصيصتين.

 

         وفقاً للنقاد الديمقراطيين فإنه من الصعب التقليل من شأن السلطة التقديرية التي تضعها الرقابة الدستورية، بناء على ميثاق أو وثيقة حقوق مُحَصَّنين، في يد القضاة الذين هم عادةً غير مُنتخبين في الديمقراطيات الدستورية الحديثة، ومن ثم فهم غير مسؤولين بصورة مباشرة أمام المجتمع الديمقراطي. وعلى الرغم من عدم مساءلتهم، إلَّا أنَّ هؤلاء القضاة مُكلَّفين بمهمة تقديم إجابات رسمية لأعمق الأسئلة المثيرة للجدل حول الأخلاق السياسية، والتي تنشأ في ظل الرقابة الدستورية وما يتعلق بها من اختلافات عميقة. قد تتراوح الأمثلة ما بين السماح بالإجهاض أو الإنتحار الطبي physician-assisted suicide، إلى حظر خطاب الكراهية أو نشر العنف والتحقير عن طريق الصور الإباحية على الإنترنت. وبناء على هذه الأسئلة المثيرة للجدل ينتهون هم بتحديد ما يمكن اعتباره مقبولاً قانونياً في المجتمع. وهو ما يعتبر سلطة سياسة واسعة جداً لمجموعة صغيرة غير مُنتخبة من شأنها أن تهز المجتمع الديمقراطي بأسره، بصرف النظر عن مدى معرفتهم وحكمتهم. لكن ربما يكون الأهم من ذلك هو، أن منح مثل هذه السلطة هو أمرٌ غير ديمقراطي في الأساس: فالمواطنون الأفراد قد حُرموا، في الحقيقة، من حقهم في التصويت بناء على ذلك. فكل مواطن بلغ سن حق التصويت يجب أن يملك، في المجتمع الديمقراطي، حقاً مساوياً بالمساهمة في إنشاء القوانين التي تَحْكُم هذا المجتمع. هذا ما سَتُمارِسَه مباشرة عبر صنادق التصويت وبأي مساهمة في الخطاب والمحادثات العامة حول المسائل المُثيرة للجدل التي هي اختارتها. هي أيضاً تقوم بذلك بصورة غير مباشرة عن طريق الأصوات التشريعية لمن اختارتهُ من المُمثلين، مَن مهنته القيام بتمثيل مصالحها وآراءها. إلا أنه وفقاً للرقابة القضائية قوية الشكل كل ذلك قد تم استبداله بإخضاعه لأحكام القضاة. آراء المواطنين وممثلينهم في القوانين التي ستحكمهم، والتي وصلت(من المفترض) من خلال عملية ديمقراطية عادلة لصنع القرار، كل ذلك في الحقيقة، تم استبعاده من أجل أحكام أخلاقية جدلية لحفنة غير مسؤولة ديمقراطياً، ألا وهم القضاة النخبة. ومما يزيدُ الطِّينَ بَلَّةً الحقيقةُ التي لا يمكن إنكارها وهي أن القضاة في محاكم الاستئناف غالباً ما يختلفون بقوة فيما بينهم حول حقوق الأخلاق السياسية، والتي في النهاية، عليهم في أكثر الأحيان أن يعتمدوا على أصوات الأغلبية لحسم إختلافاتهم. وليس بالأمر الغريب أن نجد أن الأصوات تنقسم عندما تتطرق المحكمةُ لمسألة خلافية حول مبدأ أخلاقي مثل التمييز الإيجابي، الإجهاض والإباحية. وفي الغالب، تتبع هذه الأصوات المنقسمة أساليب متماشية مع نزعات القضاة السياسية الظاهرة.[34] أضف إلى ذلك، أنَّ القضاة يصدرون قرارات يبدو أنها في الغالب تتعارض ليس فقط مع آراء مشتركة بشكل واسع في المجتمع، ولكن أيضاً مع قراراتهم السابقة في قضايا مُبَكِّرة، وما قد يبدو كأنه فكرة رائعة بشكل مُجرَّد— دستورياً الحقوق الأخلاقية والمصالح الأساسية مكفولة ضد إساءة إستخدام سلطة الحكومة— يتحول لكابوسٍ مُعاش. كابوسٌ هُجِرَت فيه، في واقع الأمر، كل من الديمقراطية والإنصاف وسيادة القانون، واستبدالهم بحُكم قِلة من الرجال والنساء، كنوع من «الأوليجاركية القضائية judicial oligarchy». وبصرف النظر عن ما نَكِنُه من التقدير العالي للقضاة في الديمقراطيات الدستورية الحديثة، إلا أن ذلك ليس شكلاً من أشكال الحكومة الذي نَتَلهفُ لتبنيه.

 

         تُمثل كِلا النظريات النقدية، الديمقراطية منها والمُتَشدِّدة، تَحَدٍ جدِّي ليس فقط بالنسبة للنظريات التقليدية والممارسات المعتادة للتفسير الدستوري، ولكن أيضاً لمفهوم الدستورانية بحد ذاته— الذي ينص على أن الحكومة من الممكن أن تكون مُقَيَّدة ويجب أن تكون كذلك بطريقةٍ ما من أجل حمايتنا من سلطة الدولة التعسفية. فوفقاً للأصلانية، الدستور يحمينا من القضاة وموظفي السلطة عن طريق تقييدهم (إلى حد كبير)بصورة غير مثيرة للجدل أخلاقياً وسياسياً، وبقرارات مُحايدة حول الفهم والمقاصد التاريخية. ووفقاً لأحد اتجاهات الدستورانية الحيوية، فإن دستورنا المتطور بإمكانه فعل ذلك وبصورة موازية تسمح للدستور بالنمو والتكيُّف مع الظروف المتغيرة و(أملاً بـ) فهم أخلاقي أفضل. فعل الموازنة هذا من الممكن أن يقوم به ذلك التطور الدستوري طالما أن القضاة، من وُضِعَ بأيديهم سلطة تفسير الدستور وتطبيقه، مُلتزمون بإخضاع تفكيرهم لإلتزامات منطق القانون العام. ومع ذلك، يحتفظ النُّقادُ بشكٍ كبير. فالقضاة العاديون، يؤكد المُفَكِّرون النُّقاد ذلك، ليسوا ملوكاً أو ملكات أفلاطونيون/ـات، يُقدِّمون العدالة تحت ضوء الحقيقة الأخلاقية الموضوعية. وعلينا دائماً أن نتذكر، يؤكد النُّقادُ ذلك، أن قُضاتنا أشخاصٌ عاديون، مُعابون بجميع أنواع القصور الفكري والأخلاقي، ومُعرَّضون للضعف والتحيز لأقرانهم من البشر. وبالإضافة إلى ذلك هم أيضاً، في أكثر الأحيان، جزء من طبقة مهيمنة(مثال الأثرياء، الرجال البيض) من يتشاركون في خلفيات إجتماعية، وتعليمية، وفكرية وقِيَم تلك الطبقة. لكن إذا كانت الدساتير كلها تحت رحمة النظريات المهيمنة dominant ideologies وأهواء وأحكام القضاة النخبة، فإنه من المحتمل أن تكون درجة الحماية المُبَشَّر بها من قِبل مفهوم الدستورانية مُجرد خرافة، وأمر معيب بنفس الوقت.

 

         إذن ما هو الحل يا تُرى وفقاً للمُفكِّرين النُّقاد؟ ستختلف الحلول المطروحة بشكل كبير إعتماداً على إلى أي حد من التفكير الصارم hard-line سيميل له الناقد. يؤيد الثيوقراطي theocrat الإسقاط الكامل للحكومة الديمقراطية الدستورية، بينما سيرغب الناقد النسوي الليبرالي liberal feminist critic للعمل وفقاً للنظام الدستوري الحالي للقضاء على بقايا النظام الأبوي والذي تعيش فيه الحركات النسوية الحالية (MacKinnon, 1989; Strossen 1995). يُحاجج Waldron ومؤيديه من النُّقاد الديموقراطيين بأنه يجب علينا ترك عملية الرقابة القضائية على التشريعات بناءً على مواثيق مُحَصَّنة ووثاق حقوقية، ونَدَع القرارات السياسية إلى حيث تنتمي: الشعب وممثليه المنتخبين المُساءَلين (Waldron, 1992, 2006; Marmor, 2007). ثَمَّة حلٌ آخر، وهو تسليط الضوء على المدى الذي يحتله أبرز الإعتراضات على الرقابة قوية الشكل، حيث تكون الأحكامُ القضائيةُ نهائيةً ولديها قوة إلغاء جهود السلطة التشريعية والتي تعتبر ديمقراطية. ومتى تم تحديد ذلك، فالخطوة التالية هي تعزيز الأشكال الرقابية الضعيفة والتي يمكن القول بأنها تعكس توازناً صحياً بين إحترام الحقوق الأساسية، من جهة، وأهمية الإجراءات الديمقراطية من جهة أخرى(Gardbaum, 2013). حينما يكون ثَمَّة شكل فعَّال من أمرٍ ما، كالتجاوز في الفصل ٣٣ الكندي مُتَضَمِّناً في الدستور، عندئذ سيكون بإمكان المحاكم أن تُحافظ على دورها المقصود كحامية للحقوق، بينما يُترك أمر الكلمة النهائية للسلطة التشريعية في القضايا التي تكون فيها الاختلافاتُ المُستعصيةُ في الرأي عميقةً.[35] لكن أياً كان الحل الأفضل، فإنه يبدو أن جميع مُنتقدي الدستورانية مُتفقون على أن التقدم سيكون ممكناً فقط متى تم الكشف عن جميع الخُرافات— القوة المقيدة للفهم الأصلي، المقاصد، التاريخ، الإلتزام بالقانون العام، وما إلى ذلك—التي تُحيط بالحماية الدستورية، وتكون تلك القوى السياسية الحقيقية العَامِلة في العملية الدستورية مُعترفاً بها وتعمل بأريحية أمام الملأ. عمَّا إذا كان بالإمكان لمفهوم الدستورانية أن ينجو من دروس الانتقادات الدقيقة هذه هو سؤالٌ في محله.


المراجع

  • Ackerman, Bruce, 1991,We The People: Foundations, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • –––, 1998,We The People 2: Transformations, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • –––, 2007, “The Living Constitution” Harvard Law Review, 120: 1737. [Available online].
  • Adler, Matthew & Kenneth Himma (eds.), 2009,The Rule of Recognition and the U.S. Constitution, New York: Oxford University Press.
  • Allan, T.R.S., 2001,Constitutional Justice: A Liberal Theory of the Rule of Law, Oxford: Oxford University Press.
  • Alexander, Larry (ed.), 1998,Constitutionalism, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 2016, “Was Dworkin an Originalist”, in W. Waluchow & S. Sciaraffa (eds.),The Legacy of Ronald Dworkin, New York: Oxford University Press.
  • Alexander, Larry & Solum, Larry, 2005, “Popular? Constitutionalism?”,Harvard Law Review, 118(5, Mar): 1594–
  • Altman, Andrew, 1990,Critical Legal Studies: A Liberal Critique, Princeton: Princeton University Press.
  • Austin, J.L., 1995,The Province of Jurisprudence Determined, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Balkin, Jack M., 2011,Living Originalism, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • –––, 2016, “The Roots of the Living Constitution”,Boston University Law Review, 92: 1129–
  • Barak, A., 2005,Purposive Interpretation in Law, Princeton: Princeton University Press.
  • Barber, N.W., 2010,The Constitutional State, Oxford: Oxford University Press.
  • Barber, Sotirios & J. Fleming, 2007,Constitutional Interpretation: The Basic Questions, Oxford: Oxford University Press.
  • Barnett, Randy E., 1999, “An Originalism for Nonoriginalists”,Loyola Law Review, 45: 611–
  • –––, 2004,Restoring the Constitution: The Presumption of Liberty, Princeton: Princeton University Press.
  • –––, 2016,Our Republican Constitution: Securing The Liberty and Sovereignty of We The People, New York: Broadside Books.
  • Bellamy, R., 2007,Political Constitutionalism: A Republican Defence of the Constitutionality of Democracy, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Berman, Mitchell, 2009, “Originalism is Bunk”,New York University Law Review, 84: 1–
  • –––, 2010, “Constitutional Constructions and Constitutional Decision Rules: Thoughts on the Carving of Implementation”,Constitutional Commentary, 16: 39–
  • Berman, Mitchell & Toh, Kevin, 2014, “On What Distinguishes New Originalism From Old: A Jurisprudential Take,” Fordham Law Review, 82: 545–
  • Bentham, Jeremy, 1838–1843, “Constitutional Code”, inWorks of Jeremy Bentham (Volume 9), pp. 119–124, Bowring (ed.), Ediburgh: William Tait.
  • Bickel, Alexander, 1962,The Least Dangerous Branch: The Supreme Court at the Bar of Politics, New Haven: Yale University Press.
  • Blackstone, Sir William, 1765–69,Commentaries on the Laws of England, 4 volumes, Oxford: Clarendon Press.
  • Blaustein, Albert P. & Gisbert H. Flanz (ed.), 1994,Constitutions of the Countries of the World, Dobbs Ferry, NY: Oceana Publications.
  • Bobbit, Philip, 1991,Constitutional Interpretation, Oxford: Blackwell.
  • Bork, Robert, 1971, “Neutral Principles and Some First Amendment Problems”,Indiana Law Journal, 47(1): 17.
  • –––, 1990,The Tempting of America: The Political Seduction of the Law, New York: Macmillan.
  • Brest, Paul, 1980, “The Misconceived Quest for the Original Understanding”,Boston University Law Review, 60(2): 204–238;.
  • Brink, David, 2016, “Originalism and Constructive Interpretation”, in W. Waluchow & S. Sciaraffa (eds.),The Legacy of Ronald Dworkin, New York: Oxford University Press.
  • Christiano, Thomas, 2008,The Constitution of Equality: Democratic Authority and Its Limits, Oxford: Oxford University Press.
  • de Tocqueville, Alexis, 1835,Democracy in America, Henry Reeve (trans.), New York: Dearborn.
  • Den Otter, Ronald, 2009,Judicial Review in the Age of Moral Pluralism, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Dicey, A.V., 1948,Introduction to the Study of the Law of the Constitution, 9th edition, London: Macmillan.
  • Dworkin, Ronald, 1996,Freedoms Law: The Moral Reading of the American Constitution, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • –––, 1979, “The Arduous Virtue of Fidelity: Originalism, Scalia, Tribe and Nerve”,Fordham Law Review, 65: 1249.
  • Eisgruber, Christopher, 2001,Constitutional Self-Government, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Elster, John & Rune Slagstad (eds.), 1988,Constitutionalism and Democracy, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Ely, John, 1980,Democracy and Distrust, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Fallon, Richard H. Jr., 2001,Constitutional Implementation, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Freeman, Samuel, 1990, “Constitutional Democracy and the Legitimacy of Judicial Review”,Law and Philosophy, 9(4): 327–
  • –––, 1992, “Original Meaning: Democratic Interpretation and the Constitution”,Philosophy and Public Affairs, 21: 3.
  • Gardbaum, Stephen 2013,The New Commonwealth Model of Constitutionalism: Theory and Practice, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Goldsworthy, Jeffrey, 2009, “Constitutional Interpretation: Originalism”,Philosophy Compass, 4(4): 682– [Available online].
  • Gray, John Chipman, 1986, “A Realist Conception of Law”, inPhilosophy of Law, Feinberg & Gross (eds.), 3rd edition, Belmont, CA: Wadsworth.
  • Grey, Thomas, 1975, “Do We Have An Unwritten Constitution?”,Stanford Law Review, 27(3): 703–
  • –––, 1979, “Constitutionalism: An Analytic Framework”,Nomos, XX (Constitutionalism, R. Pennock & J. Chapman, eds.), 189–
  • Harel, Alon, 2014, “The Case for Robust Constitutionalism ”, inWhy Law Matters, Oxford: Oxford University Press, 147–
  • Hart, H.L.A., 1994,The Concept of Law, 2nd edition, Oxford: Oxford University Press.
  • Hobbes, Thomas, 1642,De Cive (The Philosophical Rudiments Concerning Government and Society), various editions.
  • –––, 1651,Leviathan, various editions.
  • Hogg, Peter, 1999,Constitutional Law of Canada, Toronto: Carswell.
  • Hohfeld, Wesley, 1919,Fundamental Legal Conceptions as Applied in Legal Reasoning: And Other Legal Essays, New Haven, Yale University Press.
  • Huscroft, Grant and I. Brodie (eds.), 2004,Constitutionalism in the Charter Era, Markham, Ontario: Butterworth’
  • Huscroft, G. & Bradley Miller (eds.), 2008,Expounding the Constitution: Essays in Constitutional Theory, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 2011,The Challenge of Originalism: Theories of Constitutional Interpretation, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Kavanagh, Aileen, 2003, “The Idea of a Living Constitution”,Canadian Journal of Law and Jurisprudence, 16: 55.
  • –––, 2009,Constitutional Review Under the Human Rights Act, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 2015, “A Hard Look at the Last Word”,Oxford Journal of Legal Studies, 45: 825–
  • Kramer, Larry, 2004,The People Themselves: Popular Constitutionalism and Judicial Review, New York: Oxford University Press.
  • Leiter, Brian, 2015, “Constitutional Law, Moral Judgment, and the Supreme Court as Super Legislature”,Hastings Law Journal, 66: 1601.
  • Locke, John, 1690,Two Treatises of Government, various editions, especially Book II, Chapters XI–
  • Lyons, David, 1993a, “Constitutional Interpretation and Original Meaning”, inMoral Aspects of Legal Theory: Essays on Law, Justice and Political Responsibility, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 1993b, “A Preface to Constitutional Theory”, inMoral Aspects of Legal Theory: Essays on Law, Justice and Political Responsibility, Cambridge: Cambridge University Press.
  • MacCallum, Gerald, 1970, “Legislative Intent”, in Robert Summers (ed.)Essays in Legal Philosophy, Oxford: Basil Blackwell, 237.
  • MacKinnon, Catherine, 1987,Feminism Unmodified: Discourses on Life and Law, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • –––, 1989,Toward a Feminist Theory of the State, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • –––, 1993,Only Words, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Marmor, Andrei, 2007,Law in the Age of Pluralism, Oxford: Oxford University Press, Chapter 4 (“Are Constitutions Legitimate”) and Chapter 8 (“The Immorality of Textualism”,).
  • Marshall, Geoffrey, 1971,Constitutional Theory, Oxford: Oxford University Press.
  • –––, 1984,Constitutional Conventions: The Rules and Forms of Political Accountability, Oxford: Oxford University Press.
  • McIlwain, Charles, 1947,Constitutionalism: Ancient and Modern, Ithaca, NY: Cornell University Press.
  • Michelman, Frank, 1998, “Constitutional Authorship”, in ed. L. Alexander,Constitutionalism, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Mill, John Stuart, 1859,On Liberty, various editions.
  • Montesquieu, Baron de, 1748/1949,The Spirit of the Laws, Thomas Nugent (trans.), F. Neumann (ed.), New York: Hafner Publishing.
  • Paine, Tom, 1791/1969, “The Rights of Man”, inThe Essential Thomas Paine, New York: New American Library, 1969.
  • Pennock, R. & J. Chapman (ed.), 1979,Constitutionalism: (Nomos XX), New York: New York University Press.
  • Rakove, Jack (ed.), 1990,Interpreting the Constitution: The Debate Over Original Intent, Boston: Northeastern University Press.
  • Raz, Joseph, 1996, “Intention in Interpretation”, in R. George, (ed.)The Autonomy of Law, Oxford: Oxford University Press.
  • –––, 1998, “On the Authority and Interpretation of Constitutions: Some Preliminaries”, in ed. L. Alexander,Constitutionalism, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Rehnquist, William, 1976, “The Notion of a Living Constitution”,Texas Law Review, 54: 693.
  • Richards, David, 1986,Toleration and the Constitution, New York: Oxford University Press.
  • Rosati, Connie 2016, “The Moral Reading of Constitutions ”, in W. Waluchow & S. Sciaraffa (eds.),The Legacy of Ronald Dworkin, New York: Oxford University Press.
  • Rubenfeld, Jed, 1998, “Legitimacy and Interpretation”, in ed. L. Alexander,Constitutionalism, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Sager, Lawrence, 2004,Justice in Plainclothes: A Theory of American Constitutional Justice, New Haven: Yale University Press.
  • Scalia, Antonin, 1989, “Originalism: The Lesser Evil”,University of Cincinnati Law Review, 57: 849.
  • –––, 1997,A Matter of Interpretation: Federal Courts and the Law, Princeton: Princeton University Press.
  • Shklar, Judith, 1987,Montesquieu, Oxford: Oxford University Press.
  • Smith, Patricia (ed.), 1992,Feminist Jurisprudence, New York: Oxford University Press.
  • Solum, Lawrence B., 2008, “Semantic Originalism”,.Illinois Public Research Paper, No. 07– [available online] .
  • –––, 2010, “The Interpretation-Construction Distinction”,Constitutional Commentary, 27: 95–
  • –––, 2011, “What is Originalism? The Evolution of Contemporary Originalist Theory”,Social Science Research Network, April 28, 2011, [Available online].
  • –––, 2015, “The Fixation Thesis: The Role of Historical Fact in Original Meaning”,Notre Dame Law Review, 91: 1–
  • –––, 2017, “Originalist Methodology”,University of Chicago Law Review, 84: 269–
  • Stevens, Katharina, 2017, “Why Constitutional Meaning is Not Necessarily Fixed”,Problema, 11: 177–
  • Strauss, David, 2010,The Living Constitution, New York: Oxford University Press.
  • Strossen, Nadine, 1995,Defending Pornography, New York: Scribner.
  • Sunstein, Cass, 1996,Legal Reasoning and Political Conflict, New York: Oxford University Press.
  • Thayer, J.B., 1893, “The Origin and Scope of the American Doctrine of Constitutional Law”,Harvard Law Review, 7(3): 129–
  • Tribe, Laurence, 1978,American Constitutional Law, New York: Foundation Press.
  • –––, 1995, “Taking Text and Structure Seriously: Reflections on Free-Form Method in Constitutional Interpretation”,Harvard Law Review, 108(6): 1221–
  • Tushnet, Mark, 1988,Red, White and Blue: A Critical Analysis of Constitutional Law, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • –––, 1992, “Constitutional Interpretation, Character and Experience”,Boston University Law Review, 72(4): 747.
  • –––, 1999,Taking the Constitution Away From the Courts, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Unger, Roberto, 1986,The Critical Legal Studies Movement, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Vermeule, Adrian, 2009,Law and The Limits of Reason, New York: Oxford University Press.
  • Waldron, Jeremy, 1993, “A Rights-Based Critique of Constitutional Rights”,Oxford Journal of Legal Studies, 13(1): 18–
  • –––, 1998, “Precommitment and Disagreement”, in Alexander (ed.),Constitutionalism, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 1999a,The Dignity of Legislation, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 1999b,Law and Disagreement, Oxford: Oxford University Press.
  • –––, 2006, “The Core of the Case Against Judicial Review”,Yale Law Journal, 115: 1346–
  • Waluchow, W.J., 2005, “Constitutions as Living Trees: An Idiot Defends”,Canadian Journal of Law and Jurisprudence, 18(2): 207–
  • –––, 2007a,A Common Law Theory of Judicial Review: The Living Tree, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 2007b, “Judicial Review”,Philosophy Compass, 2(2): 258– [available online].
  • –––, 2011, “Democracy and the Living Tree Constitution”,Drake University Law Review, 59: 1001–
  • –––, 2012, “Constitutional Interpretation”, in ed. Marmor AndreiThe Routledge Companion to Philosophy of Law, New York: Routledge, Chapter 3.9.2.
  • –––, 2017, “The Living Tree”, in eds. Peter Oliver, Patrick Macklem & Nathalie Des Rosiers (eds.),The Oxford Handbook of the Canadian Constitution, New York: Oxford University Press, 891–
  • Webber, Grégoire, 2009,The Negotiable Constitution: On the Limitations of Rights, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Whittington, Keith, 1999a,Constitutional Construction, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • –––, 1999b,Constitutional Interpretation: Textual Meaning, Original Intent, and Judicial Review, Lawrence: Kansas University Press.
  • –––, 2013, “Originalism: A Critical Introduction”,Fordham Law Review, 82(2): 375–
  • –––, 2015,The Powers of Judicial Review, New York: Oxford University Press.

أدوات أكاديمية

 How to cite this entry.
 Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
 Look up this entry topic at the Indiana Philosophy Ontology Project (InPhO).
 Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى علىى الإنترنت

مقالات ذات صلة

Austin, John | authority | democracy | Hobbes, Thomas | Locke, John | rights | sovereignty

Acknowledgements

A special word of thanks to Scott Shapiro for his very helpful comments on an earlier draft of this revised entry.

[1] [1] Waluchow, Wil, “Constitutionalism”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2018 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/spr2018/entries/constitutionalism/>.

[2] ما لم يكن هناك إشارة لأي معنى آخر، سيكون معنى كلمة«السلطة» بأنها السلطة المعيارية normative power المرتبطة بالنظرية التي طورها القانوني Wesley Hohfeld. السلطة المعيارية، بهذا المعنى، هي الأهلية والقدرة على تغيير المعايير ذات الصلة بحقل الحقوق والواجبات والمميزات وما إلى ذلك. عندما يسن المشرعُ قانوناً جديداً فهو يمارس سلطته المعيارية لتغيير ما هو موجود من حقوق قانونية وواجبات…إلى آخره، أو يُنشئ واحدة أخرى جديدة لم تكن موجودة قبل ممارسة هذه السلطة.

[3] معنى كلمة Rex هي الملك، وهي كلمة لاتينية تُستخدم قديماً في الامبراطورية البريطانية المَلكية، وعبارة Rex’s case  في الأدبيات القانونية تُشير إلى نوعٍ من القضايا تكون فيها الدولة، ممثلة عن الملك، طرفاً في القضية. فيكون أحد الأفراد طرفاً فيها والطرف الآخر هي الدولة/الملك، مثال : Rex v. Jones. وإذا كانت الملكة هي صاحبة السلطة فتستخدم كلمة ) .Reginaالمترجم)

[4] ما لم يكن هناك إشارة لأي معنى آخر، يجب أن تُفهم كلمة «دستوري constitutional» من الآن وصاعداً(والكلمات المرادفة لها «دستورانية constitutionalism»، «دستور constitution» وما إلى ذلك) بأنها تحمل كل هذه المعاني.

[5] عمَّا إذا كان كلٌ من لوك Locke وهوبز Hobbes قد دعا إلى ذلك بالفعل فهذا محل شك. هناك دلائل تؤكد أن حُجَّة لوك Locke تُدافع عن وجود قيود سياسية على صاحب السيادة، في مقابل أخرى قانونية جامدة. وقد يكون محل جدل القول بأن فعالية القيود السياسية تشترط أيضاً قيوداً قانونية، لكن يبدو أن ذلك ليس ضرورياً.

[6] «أن تخضع للقانون هو أن تخضع للصالح العام commonwealth—أي لصاحب السيادة—والذي هو، بنفسه، غير خاضع للقوانين بل متحرر منها» (اللفياثان Leviathan, Ch. 29, 255 ).

(اللفياثان كائنٌ بحري، خُرافي، له رأس تنين وجسد أفعى. وهو اسم كتاب ألّفه هوبز Hobbes مؤسساً نظريته في فلسفة الدولة، ويستعمله هوبز كرمز لسلطة الحاكم/الدولة المطلقة. – المترجم).

[7]  وما يفعله البرلمان «لا يمكن لأي سلطة على الأرض أن تُغيره» (Sir William Blackstone). ثلاث نقاط من المهم التأكيد عليها هنا. أولاً، ليس من الواضح تماماً أن البرلمان البريطاني قد حاز سيادةً مطلقةً كما وصفها Blackstone. وعلى الرغم من أن المملكة المتحدة لا تملك دستوراً مكتوباً كما هو الحال في الولايات المتحدة، إلا أن الخُبراء القانونين، بشكل عام، متفقون على أن بريطانيا تملك لعدة قرون دستوراً غير مكتوب تَوَلَّدَ من عدة مصادر، من ضمنها المبادئ الراسخة للقانون العام common law والأحكام القضائية المتعلقة بتحديد القيود الملائمة على السلطة التشريعية للبرلمان (أنظر الفصل الرابع). ثانياً، يحتوي الدستور البريطاني على عدة وثائق مكتوبة تم تبنيها في عدة مناسبات في تاريخها السياسي، المثال البارز لذلك هو العهد الأعظم Magna Carta (1215 C.E.). ثالثاً، من المشكوك فيه القول أن شعب المملكة المتحدة، بناء على عضويته في الاتحاد الأوربي واستناداً على أن المحاكم البريطانية تُطبق حالياً القوانين الإتحادية، بصفة ملزمة، قد قلَّص من سيادته المطلقة. إذا كان يجب على القانون في الدول الأعضاء أن يتوافق مع القانون الإتحادي، والأخير مُحَصَّن من التغيير والإلغاء التشريعي عبر قوانين تشريعية صادرة من جانب الحكومات الأعضاء، عندئذ فمن الممكن القول أن سيادة الدول الأعضاء من منظور الإتحاد الأوربي قد تم استبدالها بسيادة «الشعب الأوربي».

[8] اللفياثان، الجزء ١، الفصل ١٣. وعلى الرغم من أن الحاكم لدى هوبز Hobbs دستورياً غير مُقيَّد، يؤكد هوبز على بقاء حق الحفاظ على النفس لدى الأفراد. يعتقد هوبز، أنه ليس من المنطقي تنازل الأفراد عن حقهم في الحماية، بينما هو السبب الذي من أجله أنشؤوا سلطة الحاكم. ومع أنه من حق الأفراد الحفاظ على أنفسهم إلا أنه كذلك من حق الحاكم المطلق لدى هوبز أن يُعدِم أياً منهم، بموجب أحكام الحاكم القضائية، متى كان ذلك ضرورياً للحفاظ على مصلحة الصالح العام commonwealth .

[9] سيتم تناول الأعراف الدستورية constitutional convention في الفصل ٦. وعلى الرغم من أن التحصين entrenchment يعتير صفة عالمية مميزة للدساتير المعاصرة، وبالرغم من أن المرء قد يُحاجج بمعقولية من أنها تعتبر مرغوب فيها عملياً، إلا أنها ليست ضرورية بصورة مطلقة. فبعض القواعد الدستورية عبارة عن قوانين عادية قابلة للتأسيس والتعديل عن طريق إجراءات تشريعية عادية. في الحقيقة، بعض الدساتير تتشكل غالبيتها من قوانين، على سبيل المثال دستور نيوزيلاندا New Zealand.

[10] ثَمَّة إجراءان مختلفان لتعديل دستور الولايات المتحدة منصوصٌ عليهما في المادة ٥ . الأول، من الممكن أن يتم التعديل عن طريق تصويت ثلثا مجلسي النواب والشيوخ، متبوعاً بتصديق ثلاث أرباع السلطات التشريعية لمختلف الولايات. هذه الطريقة الأولى في التعديل هي الوحيدة التي تم استخدامها. الثاني، من الممكن تعديل الدستور عن طريق عقد مؤتمر مخصص لهذا الغرض يُدعى له من قبل ثلثي السلطات التشريعية لمختلف الولايات. يجب على التعديلات المقترحة في المؤتمر لاحقاً أن يتم التصديق عليها من قبل ثلاث أرباع السلطات التشريعية لمختلف الولايات. في كندا، آلية التعديل منصوص عليها في الجزء ٥ (الفصول ٣٨- ٤٩) من قانون الدستور ١٩٨٢م. إجراء التعديل الشائع يُشار إليه بشكل عام بصيغة ٧ /٥٠ (الفصل ٣٨«١»). هذا الإجراء يشترط موافقة مجلس الشيوخ، ومجلس العموم، والمجالس التشريعية لثلثي المحافظات كحد أدنى (٧) والتي تملك ٥٠٪ كحد أدنى من مجموع سكان كندا. وذلك يشمل، كمثال، التعديلات التي لها علاقة بسلطة مجلس الشيوخ وطريقة انتخاب أعضاءه. أما التعديلات التي لها علاقة، كمثال، بمنصب الحاكم العام أو تشكيل المحكمة العليا، فتتطلب موافقة جماعية من مجلس الشيوخ، ومجلس العموم والمجالس التشريعية لكل محافظة.

[11] المسألة ليست واضحة تماماً. فثَمَّة تقليد راسخ منذ القدم في النظام البرلماني البريطاني للحكم، فوفقاً له يملك البرلمان وحده سُلطة إنشاء قيوده الدستورية وتفسيرها وتنفيذها. وبغض النظر عن أخطائه، فيبدو أن هناك القليل من الشك من أن البرلمانات التي على غرار النظام البريطاني تماماً ستتصرف بمسؤولية بإلتزامها بقيودها الدستورية.

[12] بالمناسبة، ليس هذا تسبيب Rubenfeld’s.

[13] هنا R تشير إلى القاعدة القانونية المُحصَّنة من التغيير، ومن ثم فهي عكس x القاعدة المتغيرة. (bound by an entrenched rule, R,) . (المترجم)

[14] كمثال على ذلك، عندما يكون التفريق بين القانون الدستوري والأعراف بمثابة أساس لحكم المحكمة، انظر Canadian Patriation Reference, [1981] 1 S.C.R. at 870. للمزيد حول النقاش في هذه المسألة، وللمزيد من التوضيح عن الاختلاف بين القانون الدستوري والأعراف، انظر Waluchow 2011.

[15] من الآن فصاعداً، وما لم يتم الإشارة لأي معنى آخر، كل استخدام لكلمة «دستور» (ومرادفاتها) يجب أن تُفهم أنها تُشير للقانون الدستوري.

[16] لا يعني ذلك إنكار إمكانية وجود نقاشات عميقة حول معنى ومضمون النصوص الدستورية الأقل تجريداً. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة ينشأ نقاش أحياناً حول معنى ما يُعرف بـ «البند التجاري Commerce Clause»، فالمادة ١، الفقرة ٨، البند ٣ من دستور الولايات المتحدة يمنح الكونغرس سلطة «تنظيم التجارة مع الدول الأجنبية، وبين مختلف الولايات، ومع قبائل الهنود». غالباً ما يستخدم الكونغرس الأمريكي البند التجاري لتبرير ممارسات السلطة التشريعية فيما يتعلق بأفعال الولايات ومواطنيها. هذا الأمر، في المقابل، أدى إلى طرح نقاش مهم حول التوازن الملائم للسلطة بين الحكومة الفيدرالية والولايات. وبغض النظر عن أهمية هذه النقاشات، وما لم يكن السياق يُشير لأمر آخر، سينصب إهتمامنا فيما يتعلق بمناقشة التفسير الدستوري على نصوص الحقوق المدنية المُجرَّدة تحديداً. ومن هذا المنطلق نتلمس الاختلافات العميقة للآراء والتي تبرز بأشد أشكالها، وتظهر على السطح معها بوضوح الآراء المختلفة حول طبيعة الدساتير وسلطتها.

[17] مرة أخرى، هذا الأمر لا ينكر وجود خلافات حول النصوص الدستورية الأقل تجريداً وأخلاقيةً، مثل بند التجارة الأمريكي the US Commerce Clause. ولا ينكر أيضاً أن نفس الانقسامات العميقة تكمن وراء هذه الخلافات.

[18] لنكون معاً واضحين ومنصفين، فواقعياً يعتقد جميع الأصلانيين originalists بأن الفهم الأصلي أحياناً غير قابل للتحديد. هم يفشلون في تحديد نتائج وقرارات مادية تتعلق بمسائل وقضايا واقعية. وعندما تظهر مثل هذه الصعوبات في قضية دستورية ما، يُحاجج العديد من الأصلانيين بأن القاضي عليه أن يلجأ في بعض الأوقات لنوع معين من التفكير يختلف عن التفسير الدستوري. يُحاجج Keith Whittington (1999a) بأن الدستور الأمريكي ذو طبيعة ثنائية. الجانب الأول منه هو المستوى الذي يكون فيه الدستور عبارة عن مجموعة من القواعد الملزمة التي يمكن للمحاكم أن تطبقها وتفسرها بشكل محايد في مواجهة الجهات الحكومية government actors. هذه العملية من التفسير الدستوري والرغبة في الحياد يكون تحقيقها من خلال وجود قضاة يُمعنون النظر في الفهم العام والأصلي لنصوص الدستور. لكن وفقاً لـ Whittington، فالدستور الأمريكي كذلك يُستخدم لإلزام وقيادة الفاعلين السياسيين political actors أثناء عملية تكوين السياسة العامة. في هذه الحالة، سيعتمد الدستور على الفاعليين السياسيين، ومعاً سيُصيغان الشروط والقواعد الدستورية المادية والمعتمدة ولتطبيقها على القضايا في المستقبل. يصف Whittington هذه العملية بالبناء الدستوري constitutional construction كمقابل للتفسير الدستوري.

[19] الفصلان ٨ و ٩ مأخوذان بشكل واسع من Waluchow 2012.

[20] Brown v. Board of Education ((1954) 347 U.S. 483. وفقاً للمحكمة العليا للولايات المتحدة، أن مبدأ «مُنْفَصِلٌ ولكن متساو separate but equal» الذي تم تبنيه في قضية Plessy v. Ferguson (1896) 163 U.S. 537) لا يمكن تطبيقه في حقل التعليم العام. أكدت قضية Plessy، المحكوم فيها عام 1896، بشكل أساسي أن الفهم الأصلي لـ «الحماية المتساوية» يتوافق بشكل كامل مع هذا المبدأ.

[21]Roe v. Wade ((1973) 410 U.S. 113).

[22] يبدو أن سكاليا Scalia نفسه يُقر بهذه النقطة. «سرعان ما سأعترف بأنه على مضض سأتمكن من إثبات أصلانيٌ مُتردد. لا أستطيع تصور نفسي، علاوةً على أي قاضٍ فيدرالي آخر، داعماً لقانون ينص على عقوبة الجلد flogging» (Scalia 1989, 864). الافتراض الكامن خلف تعليق سكاليا Scalia هو أن الفهم الأصلي للتعديل الثامن يدعم الجلد كشكل مقبول للعقوبة. ينص التعديل الثامن على «لا يجوز طلب دفع كفالات باهظة، ولا فرض غرامات باهظة، ولا إنزال عقوبات قاسية وغير مألوفة».

[23] تنص مقدمة دستور الولايات المتحدة على الآتي: «نحن شعب الولايات المتحدة، رغبة منا في إنشاء اتحاد أكثر كمالاً، وإقامة العدالة، وضمان الاستقرار الداخلي، وتوفير سبل الدفاع المشترك، وتعزيز الصالح العام وتأمين نِعَم الحرية لنا ولأجيالنا القادمة، نرسم ونضع هذا الدستور للولايات المتحدة الأميركية».

ومقدمة القانون الأساسي لجمهورية ألمانيا الإتحادية مجردة أيضاً: «إن الشعب الألماني، من خلال ممارسته لسلطته التأسيسية، إذ يدرك مسؤوليته أمام الله والبشر، وإذ يستلهم العزم على تعزيز السلام كشريك متساو في أوروبا الموحدة، قد أقر هذا القانون الأساسي».

[24] عن وجهة النظر التي تهدم بشكل أساسي الفرق بين الأصلانية والحيوية الدستورانية ، انظر Balkin 2011.

[25] عند هذه النقطة، قد يدَّعي الأصلانيون أن على القضاة اللجوء لعملية «بناء الدستور constitutional construction».

[26] مرة أخرى، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن تركيزنا في هذه الفصول عن التفسير ينصب على تفسير نصوص الحقوق المدنية المُجرَّدة. لن تُنكر نظرية دستورية بأن العديد من النصوص الدستورية المادية والتفصيلية هي مُقيدة بالمعنى البسيط للنص، وبفهم النص الذي بقى ثابتاً طوال عدة عقود وربما قرون. خذ على سبيل المثال، المادة ٥٤(٢) من القانون الأساسي الألماني German Basic Law والذي ينص على «تكون مدة ولاية الرئيس الاتحادي خمس سنوات. ولا يجوز إعادة انتخابه لفترة رئاسة تالية إلاّ مرة واحدة». فعبارة «خمس سنوات» تعني خمس سنوات في ١٩٤٩م. وما يزال معناها خمس سنوات في ٢٠١٧م.

[27] حريٌ بنا التذكير هنا أن الباء دخلت على المتروك. (المُترجم)

[28] بعض النُّقاد المتشددين، على سبيل المثال أولئك المنتمون لما يُسمى بحركة الدراسات القانونية النقدية critical legal studies movement، على استعداد لمد نطاق نقدهم ليشمل مجالات قانونية خارج الممارسات الدستورية، مثال قانون العقود والمسؤولية التقصيرية tort. انظر كمثال Unger (1986).

[29] «لم أعد أعتقد بعد الآن أن النظرية الدستورية تُقيد، أو من المفترض أنها تُقيد القضاة. بدلاً من ذلك…هي تعمل بشكل أساسي لتقديم مجموعة من الأدوات البلاغية rhetorical devices التي يستطيع القضاة توظيفها كما لو أنها فعَّالة» (Tushnet 1992, 759).

[30] Lochner v. New York, 198 U.S. 45 (1905).

[31] لا تحتاج الرقابة القضائية أن تُركز على التوافق مع الأسس الدستورية. على سبيل المثال، قد تستند على أسس العقلانية أو الإنصاف، المتطورة من قبل القضاة في قانوني العقود والإداري. تركيزنا سينصب على الرقابة القضائية باعتبارها ميزة في العملية الدستورية، والتي هي، كما دعوناها «الرقابة الدستورية».

[32] أول من قَدَّم الفرق بين الرقابة قوية الشكل strong-form review و الرقابة ضعيفة الشكل weak-form review هو Mark Tushnet. انظر «Forms of Judicial Review as Expressions of Constitutional Patriatism” 2003 Law and Philosophy 22: 381–392».

[33] أول من صاغ مصطلح «استبداد الأغلبية the tyranny of the majority» هو المفكر الفرنسي ألكيس دي توكفيل Alexis de Tocqueville في «الديمقراطية في أمريكا Democracy in America» وانشهر لاحقاً على يد جون ستيورات مل John Stuart Mill في «في الحرية On Liberty».

[34] من ضمن الأمثلة السيئة الحديثة المشهورة هو Bush v. Gore 531 U.S. 98 (2000)  عندما قامت المحكمةُ العليا للولايات المتحدة، بقرارها ٥ مقابل ٤،  بإيقاف إعادة فرز أصوات فلوريدا Florida في الانتخابات الرئاسية عام ٢٠٠٠. فلو تمت عملية إعادة الفرز فمن المحتمل جداً أن مرشح الحزب الديمقراطي Al Gore سينتصر على مرشح الحزب الجمهوري George W. Bush.

[35] قلت: شكلاً «فَعَّال effective» عن الفصل ٣٣ لأنه فقط محافظتين وإقليم واحد من يُطَبِّق الفصل لتجاوز تشريعات المحافظات، والتي آخرها عام ١٩٨٦م. خشيةً من تصور أن الجهاز التشريعي هو الذي يرغب بمخالفة الحقوق الأساسية، فإنَّ كُلاًّ من البرلمان ومشرعي المحافظات يترددان من استدعاء الفصل ٣٣، مما جعل البعض يعتبره قانوناً مُفرَّغاً من محتواه في الأساس dead-letter law.