مجلة حكمة
ضد الفلسفة!

ضد الفلسفة!

الكاتبصلاح عثمان

تمهيد

    أي نوعٍ من الحياة هذا الذي يسوقه إلينا الفكر الفلسفي؟ هل هو النوع الأفضل كما أعلن «سقراط» قبل أكثر من ألفي عام تقريبًا؟ وهل الحياة الفلسفية يمكن أن تكون حقًا حياةً ذات معنى حقيقي؟ وبأي معنى يُمكن أن نفهم عبارة «معنى الحياة» ذاتها؟ الإجابة التي يحملها هذا المقال قد تكون صادمة للمشتغلين بالبحث الفلسفي، أو لأولئك الذين يعتقدون أن الفلسفة يمكن أن تُقدم لنا أية إجابات نهائية وقاطعة حول تساؤلاتنا عن معنى الحياة، لاسيما وأن هذه الإجابة تصدر عن متخصصٍ في الفلسفة، ودارسٍ لها ومشتغلٍ بها لما يقرب من أربعين عامًا. ومؤدى هذه الإجابة باختصار أن ثمة إخفاقات متتالية للمشروع الفلسفي في إضفاء معنى على الحياة يتسم بالثبات والشمولية، حتى بالنسبة لأولئك الذين مارسوا التفكير والبحث الفلسفي كتخصص وما زالوا يُمارسونه!

    تندرج التساؤلات المطروحة أعلاه في إطار ما يمكن أن نُسميه «ما وراء الفلسفة» أو «الفلسفة الشارحة للفلسفة» Metaphilosophy، وهو مصطلح صكه سنة 1940 الفيلسوف الأمريكي – البولندي المولد – «موريس لازرويتز» Morris Lazerowitz (1907 – 1987)، واستخدمه كعنوان لكتابٍ له نُشر سنة 1964 (Lazerowitz, 1964)، وكان يعني به الدراسة الفلسفية للفلسفة، على غرار الدراسة الرياضية للرياضيات (ما وراء الرياضيات Meta-Mathematics)، أو الدراسة اللغوية للغة (اللغة الشارحة للغة Meta-Language)، ما يعني طرح تساؤلات من قبيل: ما هي الفلسفة؟ وما الهدف منها؟ وأي نوعٍ من المعرفة يُمكن أن تُقدمه لنا؟ وكيف يجب أن نفهم الخلاف الفلسفي؟ وهل يجب أن تجعلنا الفلسفة أفضل مما نحن عليه؟ وهل ثمة ما يُمكن أن نسميه علاجًا بالفلسفة؟ وهل يُمكننا أن نتحدث عن نهاية الفلسفة حين تُخفق في تقديم الدعم الإدراكي الكافي لمواجهة مشكلاتنا؟ … إلخ. وعلى هذا النحو لا ينبغي أن نفهم عنوان هذا المقال على أنه دعوة لمناهضة الفلسفة أو الرفض الشامل لها، لأن أي موقف كهذا لن يكون في النهاية سوى موقف فلسفي، ينطلق من الفلسفة ويعود إليها!

أولاً: معنيان لمعنى الحياة

    لا شك أن الحياة بلا معنى لن تكون حياةً جيدة. سأفترض أنه يمكننا الاتفاق على هذا كنقطة انطلاق، إذ لا مفر لأي منا من أن يُواجه في لحظة ما من لحظات حياته ذلك السؤال الصعب والمُلح عن مغزى وجوده، ولا مفر للفلاسفة من تحمل مسؤولياتهم وتقديم إجابات نظرية وعملية متنوعة لأنفسهم وللآخرين، حتى وإن قلنا مع الفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه» Friedrich Nietzsche (1844 – 1900) إن سؤال المعنى ذاته لا معنى له، لأننا في خضم الحياة لسنا في وضعٍ يسمح لنا بتمييز ما إذا كانت حياتنا ذات مغزى أم لا، والخروج من عملية الوجود للإجابة بوضوح أمرٌ مستحيل (Livni, 2018)! ومع ذلك، يمكن أن تكون أفكارنا حول «معنى الحياة» غامضة وغير مُشبعة لسببٍ واحدٍ على الأقل، هو أن عبارة «معنى الحياة» يمكن أن يكون لها معنيان رئيسان؛ فمن جهة، عندما نقول إن «للحياة معنى»، يمكننا أن نتحدث عن الطريقة التي نعيش بها حياتنا؛ فالشخص الذي يُركز طاقاته وقدراته بشكلٍ مفيد على مهمة يسعى إلى القيام بها، ويعمل على تحقيق هدف يهتم به بصدق، من المحتمل أن يشعر بأن ثمة معنىً لحياته، حتى ولو كان يُكابد المشقة ويصطدم بالعوائق في حياته اليومية. وعلى العكس من ذلك، فإن الشخص الذي يفتقر إلى الحافز، ولا تحركه مهامه اليومية نحو أي هدف يبدو مهمًا بالنسبة له، من المرجح أن يشعر عاجلاً أم آجلاً بإحساس عميقٍ بانتفاء المعنى، بغض النظر عن مدى سهولة تجربته اليومية وإحساسه الزائف بالسعادة! من جهة أخرى، وبصرف النظر عن هذه التجربة المحسوسة للمعنى، يمكن أن يشير «معنى الحياة» إلى وصفٍ للعالم الذي نأخذه على أنه الحقيقة Truth؛ فالكلمة الأخيرة حول ماهية العالم ومغزاه الحقيقي تعطينا إطارًا أوسع يمكننا من خلاله رؤية العالم وفهمه، بل وتُوفر لنا أيضًا إطارًا لحياتنا الأخلاقية؛ أعني ما يجب وما لا يجب علينا أن نختاره، ولماذا نختاره، وكيف نُمارسه. وبهذا المعنى يمكننا القول إن أصحاب العقائد الدينية يتمركزون حول الله، ويُعدون العقيدة هي معنى الحياة، كلٌ وفق عقيدته؛ وأصحاب المذهب الروحي تتمحور رؤاهم حول الروح، معتقدين أن شيئًا منا يجب أن يستمر إلى ما بعد حياتنا الدنيا؛ وهو جوهرٌ مفارق للوجود المادي يعطي لحياتنا معنى؛ والماديون يستمدون معنى الحياة من العالم المادي كما يعرفه ويصفه العلم، وهكذا.

    بعبارة أخرى، نستطيع القول إن الشكل الأول لمعنى الحياة هو شيء تجريبي: شيء نشعر به، في حين أن الشكل الثاني هو شيء عقلي نفهمه. ولعل الشكل الثاني أكثر طموحًا وشمولية، نظرًا لكونه يهتم بالنهائيات والمطلقات، وليس بنشاطنا اليومي. هيا ننظر إذن في العلاقة بين المعنيين في حياة الفيلسوف من منظور «ما وراء الفلسفة».

ثانيًا: رحلة البحث عن المعنى (الفيلسوف ذو الألف وجه)

    في مقاله «الفيلسوف ذو الألف وجه» The Philosopher with a Thousand Faces، المنشور بمجلة «الفلسفة الآن» Philosophy Now (العدد 147، ديسمبر – يناير 2021/ 2022، ص ص 22 – 25)، يُقدم «ألكس جوتش» Alex Gooch (أستاذ الفلسفة بمركز دورهام للتطوير الأكاديمي بجامعة دورهام البريطانية Durham Centre for Academic Development) توصيفًا لهذه العلاقة بين المعنى التجريبي والمعنى العقلي لعبارة «معنى الحياة» (Gooch, 2022)، مستعيرًا رؤية عالم الأساطير الأمريكي «جوزيف كامبل» Joseph Campbell (1904 – 1987) في كتابه «البطل ذو الألف وجه» The Hero With A Thousand Faces (1949). ومجمل رؤية «كامبل» (Campbell, 1968) أن جميع الأبطال في كافة القصص والروايات، مهما اختلفت هوية البطل أو ثقافة شعبه أو مكانه أو تاريخه أو لغته، هم في النهاية نُسخٌ متكررة لبطلٍ واحد، يمر عبر القصة، وفي مسعاه لأن يكون بطلاً، بالأحداث والمصاعب والتحديات ذاتها، مع اختلاف التفاصيل وتنوع الأسماء وتباين الخلفيات، ليحصل في النهاية على الجائزة أو البطولة بحسب ما تقتضي قصته. وهكذا نلتقي بالبطل في حياته اليومية العادية: إنسان فقيرٌ مُعدم، أو غني مُرفَّه، لا يصلح لدور البطل بالمرة، تتلخص حياته في كلمةٍ واحدة هي «المعاناة» أو «الفراغ»، ثم تأتي بعد ذلك الفرصة التي تنتشله من عالمه المأساوي كدعوة للمغامرة، وهذه الدعوة قد تأخذ شكل مشكلة ينبغي حلها، أو شيء مرغوب فيه يسعى للحصول عليه، أو حتى كليهما، لكنه يعبر بها عتبة العالم العادي إلى عالمه الخاص. وفي خضم المغامرة يُواجه البطل سلسلة من التحديات التي يتجاوزها غالبًا بمساعدة عددٍ من الحلفاء أو المرشدين، ليُحقق في النهاية هدفه ويُحرز غنيمته التي يعود بها إلى العالم العادي مُبشرًا بإمكانية تعزيزها للحياة، له ولمجتمعه.

    يمكننا أن نرى هذا السيناريو بعينه، ليس فقط في قصص الأطفال، ولكن أيضًا في كافة السرديات الروائية: الأساطير المتداولة، وأفلام هوليوود، والكتب الورقية الأكثر مبيعًا، وألعاب الفيديو، بل وفي الطريقة التي نحكي بها سيرتنا الذاتية للآخرين. وكلما وجدنا أنفسنا في «مهمة بحث»، ولو بشكلٍ مُبسط، شعرنا بأن حياتنا ذات معنى. وعلى العكس، غالبًا ما يرتبط الشعور بانعدام المعنى بإحساسنا بأن الحياة تتدحرج من بين أيدينا دون أي هدف مهم نسعى إلى تحقيقه.

    من جهة أخرى، وكما أن مهمة العثور على شريك رومانسي هي مهمة بطولية تعطي بنية ذات مغزى لحياة شخصٍ يُكابد الوحدة أو الفراغ العاطفي، أو أن الترقي الوظيفي هو مهمة بطولية تعطي بنية ذات مغزى لحياة شخصٍ طموح، أو حتى متسلق، فإن مهمة الفلسفة بدورها هي بحث بطولي يعطي بنية ذات معنى لحياة الفيلسوف. ولكن، لسوء الحظ، تبدو مهمة الفلسفة مستحيلة وغير قابلة للتحقق بحال من الأحوال، وهو ما سنعود إليه لاحقًا. الآن دعنا نُوضح الفارق بين مسعى البطل في التجارب اليومية، ومسعى الفيلسوف نحو الإمساك بمغزى الحياة؛ فالأول يشعر بمعنى الحياة في إطارٍ تجريبي مشمولٍ بالضرورة في المعنى العقلي العام، أي في إطار رؤية كلية لحقيقة العالم قد يظل متمسكًا بها حتى النهاية، سواء أكانت رؤيةً دينية أو فلسفية؛ لكن الفيلسوف ينطلق في مهمته من رؤية للعالم ونسقٍ من المعتقدات بالمعنى المجرد الواسع، ثم يضعه هذا الاهتمام في مسارٍ سردي معين يختبر من خلاله معنى الحياة بالطرائق التجريبية.

    وعلى نحوٍ أكثر تفصيلاً، ينطلق الفيلسوف في بداية مسعاه من أية رؤية كُلية للعالم تكون سائدة في مجتمعه، أو من إحدى وجهات النظر العالمية التي قرأ عنها واقتنع بها، ثم تأتي دعوة المغامرة في اللحظة التي يدرك فيها أن هذه النظرة للعالم لا تُمثل بالضرورة الحقيقة المطلقة، بل هي بطبيعتها مفتوحة للتساؤل، وقد تكون مخطئة. يفهم الفيلسوف المبتدئ أن أحد الجوانب الرئيسة لما كان يؤمن به حتى هذه اللحظة كان مجرد رأي؛ والرأي شكلٌ من أشكال الفكر يقبل النقد والشك والمراجعة. ومع ذلك، يُدرك الفيلسوف أن مجرد النقد أو الشك غير مُرضٍ بطبيعته، ويشعر بالحاجة الماسة للتوصل إلى المعرفة التي تتسم بـ اليقين، وبقدرتها على مقاومة كل الاعتراضات أو التفنيدات المتوقعة. لذا يشرع الفيلسوف في البحث عن «الشيء الوحيد المطلوب» وهو المعرفة الصادقة بما هو عليه العالم حقًا، وفي هذه المرحلة يتجاوز الفيلسوف عتبة العالم العادي إلى عالمه الفلسفي الخاص بكل أخطاره.   

    لكي يواصل الفيلسوف رحلته في عالم الفلسفة، قد يكون عليه أن يتخلى عن النظرة الكلية التي اعتنقها في البداية، لكن هذه النظرة الموجودة مسبقًا للعالم لم تكن – بالنسبة له – سوى المعنى في صورته الكلية المجردة، ومن ثم فإن التخلي عنها يعني تعريض المرء لخطرٍ جسيم يتمثل في انعدام المعنى والتفكك الشخصي. وحتى إن تمسَّك بنظرته الأولى يجد لزامًا عليه أن يدعمها بمزيدٍ من الحُجج، ومن ثم ينخرط في مهمة البحث التي يراها مُلحة وعاجلة، ما يجعل الصورة الأخرى للمعنى سارية المفعول إلى حد كبير. إنه الشعور بالمعنى الذي يأتي في معية الاستخدام الشامل لملكات الفرد في السعي لتحقيق هدف مهم، وهو ما يدفعه إلى مواصلة مسعاه بمساعدة واحدٍ أو أكثر من المرشدين (الفلاسفة السابقين عليه أو المعاصرين له)؛ يُسافر معهم فكريًا، ويخوض معاركهم، ويُكابد ظُلمة الشك ومشقة السعي وراء السراب، ثم يزعم في النهاية – كما زعم عديدٌ من الفلاسفة عبر التاريخ – أنه قد حقق النصر الحاسم، وعاد إلى عالم النهار بالجائزة التي تسعى إليها الفلسفة: «نظرية إنهاء كل النظريات» التي ستُرضي أخيرًا شوقه الفلسفي، غير مُدركٍ أنه قد عاد مُلوحًا بما هو أقل من معرفة الواقع!

    نعم، يزعم أغلب الفلاسفة أنهم عادوا من مغامراتهم الفكرية أبطالاً يحملون إلينا المعرفة النهائية، ومع ذلك، فإن أبسط نظرة إلى تاريخ الفكر الفلسفي توضح أن كل ادعاءٍ من هذا القبيل يبدو أجوفًا. تفشل مهمة الفيلسوف لأن الهدف الذي يسعى إليه مستحيل، أو لأنه يتجاوز ببساطة أسوجة العقل التي من المُفترض أن يكون الفيلسوف أول عارفٍ بها، فمثله في ذلك كمثل مُتسلق الجبال الذي يصل إلى قمة ثانوية وبظن أنها القمة الحقيقة؛ أو كالملاح الصيني القديم الذي خاض غمار الإبحار وسط الأمواج العالية المتلاطمة بحثًا عن جزيرةٍ مقدسة تنمو عليها عُشبة الخلود!

    نعم، يسعى الفيلسوف إلى اليقين، أو يريد أن يعرف على وجه اليقين أن العالم الذي يكتشفه هو العالم الذي لن يتم دحضه أو الإطاحة به إلى الأبد. لكننا لا يمكن أن نستبعد أبدًا احتمال مواجهة ما عبَّر عنه الفيلسوف الإسكتلندي «أليستر ماكنتاير» Alastair MacIntyre (1929 – 1977) بمصطلح «الأزمة المعرفية» Epistemological crisis؛ وهي اللحظة التي تظهر فيها معلومة كارثية جديدة، أو التي يدرك فيها المرء وجود تناقض يعصف بمعتقداته، وبالتالي يتعين عليه العودة إلى نقطة البداية (Macintyre, 2006). يبذل الفلاسفة جهودًا ضخمة لتجنب هذه الأزمة، لكنهم يصطدمون بها قطعًا، وعندها يدركون أن البحث الفلسفي لا يمكن أبدًا أن يكتمل بنجاح، حتى الاعتقاد الذي ظل ثابتًا منذ آلاف السنين يمكن أن ينهار غدًا في مواجهة مجهول غير معروف حاليًا: دليلٌ غير متوقع أو تناقض داخلي خفي. لا يمكن أبدًا أن تكون الحقيقة النهائية معرضة للخطر أمام اختبار الزمن باستثناء حقائق الرياضيات والمنطق، وحتى هذه الأخيرة لا تسلم من تناقضات تعصف بيقينها واتساقها. وعندما يدرك المرء أن هدف بحثه لا يعدو أن يكون مجرد سراب، فإن بنية المرء الأعلى للمعنى لن تصبح قادرةً على الصمود، فيواجه اليأس والإحباط. لقد اختفت احتمالية وجود معنى لمعنى الحياة يمكن أن يكون مرضيًا بالفعل، وبما أن شعور المرء بمغزى الحياة يتوقف عليه، فإن شعوره بالمعنى يتلاشى في اللحظة ذاتها، ليغدو – إن صح التعبير – روحًا ضائعة!

ثالثًا: نهاية الفلسفة!

    منذ عقودٍ عديدة وحتى يومنا هذا، يُناقش الفلاسفة والعلماء مسألة نهاية الفلسفة بقدر ما يُناقشون مسألة نهاية العالم وتوقف الحياة! حدثنا «هيجل» Hegel (1770 – 1831) في رصفه لتاريخ الفلسفة عن نهايتها (Gérard, 2010)، وذهب «مارتن هايدجر» Martin Heidegger (1889 – 1976) إلى أن الفلسفة كبناءٍ ميتافيزيقي قد انتهت (اكتملت) مع «فريدريك نيتشه» Friedrich Nietzsche (1844 – 1900) (Heidegger, 1973). وفي كتابه «التصميم العظيم» The Grand Design (2010)، أعلن الفيزيائي الإنجليزي «ستيفن هوكينج» Stephen Hawking (1942 – 2018) أن الفلسفة قد ماتت، لأنها «لم تواكب التطورات الحديثة في العلوم، وخاصة الفيزياء، ومن ثم أصبح العلماء هم حاملي مشعل الاكتشاف في سعينا وراء المعرفة» (Hawking & Mlodinow, 2010)!  

    السؤال الآن: هل يمكن حقًا أن نتحدث عن نهاية الفلسفة، على غرار الحديث عن نهاية الأيديولوجيا؟ وهل يمكن للفيلسوف أن يتقاعد مُعترفًا بفشل مهمته؟ من المؤكد أن البحث عن الحقيقة بحثٌ أبدي، وأن الجوع إلى الحكمة جزءٌ من الطبيعة البشرية، وأن تساؤلاتنا عن الحق والخير والجمال لن تتوقف. من المؤكد أيضًا أننا لن نتخلى ببساطة عن تلك الأسئلة الكبيرة التي تطرحها الفلسفة، وسوف نفكر دومًا في «كيفية ترابط الأشياء»، بالمعنى الواسع لهذه العبارة على حد تعبير الفيلسوف الأمريكي «ويلفرد سيلارز» Wilfrid Sellars (1912 – 1989) (Sellars, 1962)، إنما نزعم بالأحرى أن الفلسفة بمذاهبها الضخمة المتضاربة، قد أدت وتؤدي بنا دومًا إلى طرقٍ مسدودة: تساؤلات تتلوها تساؤلات بلا إجابات مُشبعة، ومشكلات مُعقدة تعقبها مشكلات أكثر تعقيدًا بلا حلول وافية وكافية! وهنا تنبغي التفرقة بين الفلسفة التقليدية كمذاهب، والتفكير الفلسفي كمنهج يفتح أمامنا آفاقًا غير محدودة لفهم الواقع والتعاطي معه والتسليم بديناميكيته؛ بين أن ازعم امتلاك الحقيقة أو القدرة على الإمساك بها في عالمها المُفارق وبناء العالم في ضوئها، وأن أطرح نهجًا لاستكشاف بعض ملامحها مُدركًا حدود هذا النهج وأبعاده! خذ مثلاً تصور «الحقيقة»؛ قد نقول مع الفلاسفة منذ «أفلاطون» إنه يعني معرفة النماذج الخالد، أو الجوهر الثابت، أو التماثل بين الكلمات والجُمل وما تُعبر عنه. كذلك الحال بالنسبة لتصور «الخير»؛ قد نقول إنه تحقيق الغاية الشخصية، أو الغاية الطبيعية، أو المشاركة في الجوهر الإلهي، أو المنفعة، أو تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، … إلخ. كل هذه التعريفات لها أنصارها، لكنها تتكرر في تاريخ الفلسفة بشكلٍ ثابت، وبألف وجهٍ للفيلسوف، مثلما تتكرر سرديات البطل في الروايات التي نشغل بها أوقات فراغنا، دون أن تُحرز أي تقدم، أو أية حلول ناجعة لمشكلاتنا، ودون أن تُحقق لحياتنا أي مغزى!

    يُحاول الفيلسوف في رحلته أن يُمسك بأية لحظة وجودية ذات معنى من لحظات الحياة؛ ذلك المعنى الذي قد يتجلى في ابتسامة طفلٍ بريء لم تُلوثه بعد نوازع الكبار وأطماعهم ومصالحهم؛ حضنٍ دافئ لمُحب نقي القلب صادق المشاعر؛ عُشبة خضراء تنمو على حافة بركان يوشك أن ينفجر، … إلخ، لكن يبدو أن قطار الحياة أسرع مما كان يأمل أو يظن، لأن كل هذه اللحظات تُفلت من بين أصابعه كحفنة ماء ليعود خاوي الوفاض، لا يدري: أهي نهايته أم نهاية الفلسفة؟!

    المشكلة الأعمق تتجلى في الهوة الواسعة بين ما تُنادي به الفلسفة من مثاليات حياتية وقواعد لتعقيل علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقته بأخيه الإنسان من جهة، وإمكانات التطبيق الفعلي لهذه المثاليات والقواعد في عالم الواقع من جهة أخرى. ولنا في هذا الصدد أن نتساءل: هل ساهمت الفلسفة عبر تاريخها في الحد من اندلاع الحروب وسفك الدماء؟ هل وضعت حدًا لهيمنة رأس المال واتساع الفجوة بين الأثرياء والفقراء تحقيقًا للعدالة الاجتماعية؟ هل أدت إلى إيقاظ وعي العامة والدهماء ووقف التزييف الإعلامي بأشكاله المختلفة؟ هل حالت دون هيمنة ودكتاتورية النُظم السياسية ذات القوى الخشنة والناعمة؟ هل تمكنت من تحقيق المساواة بين الجنسين أو القضاء على التفرقة العنصرية؟ هل أوقفت استنزاف البرامج الاقتصادية للبيئة الطبيعية وعبثها المتصاعد بالمُناخ؟ هل حجَّمت من ضخامة الغرور العلمي وألزمت العلماء بأخلاقيات البيولوجيا والتكنولوجيا وغيرها؟ وأخيرًا وليس آخرًا: هل حققت السعادة لمُمارسيها عبر العصور المختلفة المُمتدة من الماضي إلى الحاضر؟

    الحق أن الإجابة عن هذه التساؤلات بالعودة إلى سجلات التاريخ واستقراء الأوضاع الراهنة هي بالضرورة النفي، صحيح أن الفلسفة كان لها دورها البارز في إثارة كل ما يتعلق بهذه التساؤلات من قضايا، لكن تأثيرها للأسف لم يتجاوز ذلك الحد، ربما لأنها لا تملك حلولاً واقعية، وربما لأن كثرة من الفلاسفة قد جعلوا من الفلسفة امتيازًا حصريًا لهم، وربما لأنهم فشلوا في ترجمة أفكارهم إلى لغة البسطاء وصانعي القرار، وربما لأنهم يفتقرون إلى أدوات الانتقال من التنظير إلى التطبيق، … إلخ، وقد انعكس هذا كله على التجربة المُعاشة لأغلب الفلاسفة الذين كابدوا بؤس الحياة وضراوة الاضطهاد، فمنهم من مات مُعوزًا، ومنهم من مات مُنتحرًا، ومنهم من حُوكم وقتل بدماءٍ باردة؟!      

    لعل هذا ما دفع بالوضعيين المناطقة، و«وليم جيمس» William James، و«فتجنشتين» Wittgenstein، و«جون ديوي» John Dewey، وغيرهم، إلى نبذ أغلب مشكلات الفلسفة التقليدية، بغض النظر عن مدى نجاح أو عُمق وتأثير أفكارهم وتوجهاتهم. ولعله أيضًا ما دفع بالفيلسوف الأمريكي «ريتشارد رورتي» Richard Rorty إلى تبني مقولة «القتل الرحيم للفلسفة» The euthanasia of philosophy (Rorty, 1979)، مؤكدًا أن الفلسفة التقليدية لم ترق أبدًا إلى مستوى ادعاءاتها، ولم تحل الألغاز التي أثارتها وظنت أنها قد توصلت إلى حلولٍ لها! لقد أصيب بخيبة أمل من كونه فيلسوفًا في منتصف حياته المهنية، وترك عمله كأستاذٍ للفلسفة بجامعة برينستون Princeton سنة 1981 عن قناعةٍ بأن أيام الفلسفة محدودة، ليتحول إلى نشاط آخر: ناقد ثقافي، مُفكرٍ عام غير مُقيد، باحث في الأديان، قارئ للشعر، … إلخ، وقضى النصف الثاني من حياته، وشطرًا من الجزء الأول، مُحاولاً شرح السبب!  

    قبل وفاته بشهور، كتب «رورتي» مقالاً تحت عنوان «نار الحياة» The Fire of Life (نُشر بمجلة الشعر Poetry Magazine في عدد نوفمبر لسنة 2007)، تأمل فيه ملابسات تشخيص مرضه والراحة التي وجدها في قراءة الشعر. وبعد أن كتب في بدايته [إننا الآن أكثر قدرة مما كان عليه «أفلاطون» على الاعتراف بمحدوديتنا – على الاعتراف بأننا لن نكون على اتصالٍ أبدًا بشيء أكبر من أنفسنا، نأمل بدلاً من ذلك أن تصبح الحياة البشرية هنا على الأرض أكثر ثراءً مع مرور القرون]، اختتم مقاله قائلًا: [أتمنى الآن لو أنني قضيت المزيد من حياتي في صُحبة البيت الشعري. هذا ليس لأنني أخشى تفويت الحقائق التي لا يمكن تبيانها في النثر. لا توجد مثل هذه الحقائق؛ لا يوجد شيء يعرفه «سوينبورن» و«لاندور» عن الموت (في إشارة إلى الشاعرين الإنجليزيين «ألجيرنون تشارلز سوينبورن» Algernon Charles Swinburne، و«والتر سافاج لاندور» Walter Savage Landor)، كما فشل «إبيقور» و«هايدجر» في فهمه (أي الموت)؛ وإنما لأنني لو تمكنت من تجاوز المزيد من الموضوعات الرتيبة لربما كنت قد عشت حياتي بشكل أعمق – تمامًا كما كان ليحدث لو أنني كنت قد صنعت المزيد من الأصدقاء المقربين. الثقافات الغنية بالمفردات أكثر إنسانية – أبعد عن الوحوش – من الثقافات ذات المفردات الأقل؛ والأفراد من الرجال والنساء يكونون أكثر إنسانية عندما تكون ذكرياتهم ممتلئة بالأبيات الشعرية] (Rorty, 2007).

رابعًا: الفلسفة في العالم العربي الحديث والمعاصر

    أما عن الفلسفة في عالمنا العربي الحديث والمعاصر فحدث ولا حرج، فبغض النظر عن انتفاء وجود فلسفات عربية مؤثرة، سواء في صورة مذاهب متكاملة أو نظريات نوعية (بخلاف الموضوعات المُعتادة ذات البُعد الأيديولوجي في الغالب، كإشكالية التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، أو قضية النزاع بين الإيمان والإلحاد، أو مُعضلة الحفاظ على الهوية في خضم الغزو الثقافي الهادر، وهي قضايا تندرج في إطار نظرية التحدي والاستجابة بين شرقٍ وغرب)، لن أبالغ فأقول إن الفلسفة الآن في عالمنا العربي تبدو كالسياسة: مهنة من لا مهنة له، رغم أن هذا هو شأن كثرة من التخصصات التي تموج بها جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية والثقافية، ولكن أقول إنها لا تتجاوز كونها مجرد وظيفة لكسب العيش، سواء في الجامعات، أو من خلال النشاطات الفردية الحرة، وانظر عزيزي القارئ إلى كثرة من المشتغلين بالفلسفة اليوم (إلا ما رحم ربي)، في معية تدني المستويات الأكاديمية والثقافية؛ ألا تراهم تُعساء، يُكابدون سطحية الرؤى وعُمق الرغبة في الشهرة والمجد الزائف على حساب وطنٍ يترنح وعقولٍ تنتحر جهلاً؟ ألا تراهم يصطرعون على الوهم، وينشدون الزائل، ويبتغون المنصب والمال أيًا كانت سُبل الوصول إليه، بل ويتخلون عن أخلاقيات يتشدقون بها؟ ألا تراهم تُمزقهم خلافاتهم الشخصية الآنية فينافقون ويزّيفون ويتجملون كذبًا؟ ألا تراهم في مجالسهم الأكاديمية يتنازعون ويصطرخون ويتخاصمون ويتهمون بعضهم البعض من أجل التوافه؛ كالمشاركة المظهرية في لجان الإشراف على – أو مناقشة – الرسائل العلمية الجوفاء؛ أو تدريس المقررات لأكبر عدد من الطلاب بُغية التربح من كتبٍ دراسية منتحلة؟ ألا تراهم يقولون ما لا يفعلون؟ بل ألا تعلم أن فاقد الشيء لا يُعطيه؟! صحيح أنهم بهذه الممارسات ليسوا إلا جزءًا من كلٍ يسود مجتمعنا وتمتلئ به جامعاتنا، لكن أليس من المُفترض أنهم حاملو مشعل الحكمة وراية التنوير للمجتمع بأسره؟!

خامسًا: في إمكانية وجدوى الاستشارة الفلسفية والعلاج بالفلسفة!

    في مقالٍ له تحت عنوان «سقراط يموت مرتين: هل هي نهاية الفلسفة؟»، يتساءل الناقد والمترجم المغربي «فريد الزاهي» عما إذا كانت الفلسفة تُكابد اندحارًا في عالمنا المعاصر، ثم يؤكد أن هذا هو الإحساس اليقيني الذي صار لدينا اليوم؛ ففي عصر الصورة والتواصل الإعلامي، تحولت الفلسفة إلى شذرات وحكم ومواعظ يتم تداولها في غير سياقها. لقد صار الخلط واضحًا بين الحكمة الشعبية والأقوال المأثورة والفلسفة. وصار الذكاء الفلسفي يستهدف (التطهير) النفسي في الحياة الاجتماعية. وأضحى الدرس الفلسفي في الجامعات أشبه بالتلاخيص والحواشي والتذييلات التي مارسها الشُراح المسلمون على المصادر الفقهية الكبرى. بل إن بعض الفلاسفة الشباب، ولعل أبرزهم اليوم في فرنسا «فنسنت سيسبيديس» Vincent Cespedes (من مواليد سنة 1973)، حوَّلوا الفكر الفلسفي إلى مقاولةٍ للإرشاد و(كوتشينج Coaching). وليس أدل على ذلك من كتاباته عن السعادة وغيرها، تلك التي تشبه رواية موجهة إلى المكتئبين والباحثين عن إكسير الحياة. وهذا ما لاحظه بشكل كبير «فنسنت ديكومب» Vincent Descombes (من مواليد سنة 1943) بقوله: «إن المعالجة الفلسفية لأنماط الوجود يتكفل بها اليوم كَتَبَةٌ للسعادة الجاهلة للوجود، والتي ليست (الفلسفة) فيها سوى اسم خاطئ، وقطاع من النشاط والاتجار، وهي فسحة زمنية يتم اغتصابها تحت (عنوان زائف) يكون على الفلسفة القاصرة بالمقابل فضحها» (الزاهي 2018)!

    تلك هي الفكرة: «الاستشارة الفلسفية والعلاج بالفلسفة»؛ عنوانٌ ضخم وزائف لمقاولةٍ تختصر الفلسفة في بُعد دعائي تجاري مثير للدهشة، يجعل منها مجرد عربة إسعاف تسير في مؤخرة المعركة القائمة من أجل البقاء، تلتقط الصرعى من الضعفاء والجرحى في خضم صراعات الحياة الدامية للعقل، ربما كما فعلت الفلسفة الرواقية حين عمدت إلى مواساة الإنسان في معترك نضاله اليومي، بدلاً من تعقيل وتشكيل رؤيتنا الكلية للعالم، وجوديًا ومعرفيًا وقيميًا!

    من منظور أفقي، نستطيع القول إن الإرشاد الفلسفي Philosophical Counseling (ويُعرف أيضًا باسم الاستشارة الفلسفية Philosophical Consultancy، أو الممارسة الفلسفية Philosophical Practice، أو الفلسفة السريرية Clinical Philosophy) ليس بالشيء الجديد، لكنه بمثابة إحياء تجاري لتقليد قديم يهدف إلى تفعيل الجانب التطبيقي للفلسفة على مستوى الحياة اليومية، وهو تقليد يعود إلى «سقراط» في القرن الخامس قبل الميلاد. وفي هذا الصدد يشير المؤرخ الفرنسي «بيير هادو» Pierre Hadot (1922 – 2010) في كتاب له تحت عنوان «الفلسفة كأسلوب حياة: التدريبات الروحية من سقراط إلى فوكوه» Philosophy as a Way of Life: Spiritual Exercises from Socrates to Foucault (1995) إلى أن أغلب المدارس الفلسفية في العصور القديمة كانت تُعد الفلسفة «فنًا للحياة»، وليس مجرد تنظيرات متعالية مشوبة بالغموض والتعقيد (Hadot, 1995). كذلك تشير الفيلسوفة الأمريكية «مارثا كرافن نوسباوم» Martha Craven Nussbaum (من مواليد 1947) في كتابها «علاج الرغبة: النظرية والتطبيق في الأخلاق الهلنستية» TheTherapy of Desire: Theory and Practice in Hellenistic Ethics (1994) إلى أن المدارس الفلسفية الهلنستية في اليونان وروما، كالأبيقورية والشكية والرواقية، لم تمارس الفلسفة بوصفها تكنيكًا فكريًا مجردًا يهدف إلى إظهار البراعة الذهنية، وإنما كفنٍ دنيوي يتصدى للبؤس الإنساني. لقد جعل فلاسفة تلك المدارس من أنفسهم «أطباء للحياة البشرية»، ما يعني أن الفلسفة تسبق العلاج النفسي كطريقة لمعالجة بعض أكثر مشاكل الحياة البشرية إزعاجًا وإيلامًا. وبالتالي، فإن حركة الإرشاد الفلسفي ليست ثمرة للعلاج النفسي، ولكنها محاولة من قبل الفلاسفة لإعادة الفلسفة إلى جذورها العملية القديمة (Nussbaum, 1994).

    على المسرح الفلسفي الحياتي عمل «أفلاطون» مستشارًا لحاكم سيراكيوز «ديونيسيوس الثاني» Dionysius II of Syracuse (397 – 343 ق. م)؛ وعمل «ديكارت» مستشارًا للملكة «كريستينا» Drottning Kristina (1626 – 1689) ملكة السويد؛ وعمل «جون لوك» John Locke مستشارًا في منزل السياسي الإنجليزي البارز «إيرل شافتسبري الأول» (أنتوني أشلي كوبر) Anthony Ashley-Cooper, 1st Earl of Shaftesbury (1621 – 1683)؛ وهذه مجرد أمثلة قليلة لفلاسفة قدموا المشورة للحكام والسياسيين ورجال الدين وغيرهم (بغض النظر عن فشلهم وكارثية النتائج). ومع أن الفلسفة أصبحت مهنة أكاديمية بحتة في القرون القليلة الماضية، إلا أن ثمة من أراد التخارج بها إلى عالم الحياة اليومية ككبسولات علاجية سريعة (أقرب إلى ممارسات التنمية البشرية) تلائم سرعة العصر وقيمه التسويقية. وهكذا، ففي سنة 1967 أسس الأمريكي «بيير جرايمز» Pierre Grimes (من مواليد سنة 1925) الحمعية النويطيقية Noetic Society لدراسة وتطبيق الحوار الجدلي أو الحجاجي، ثم أصبح سنة 1978 رئيسًا لما عُرف باسم «برنامج التوليد الفلسفي» Philosophical Midwifery Program، مُدشنًا نموذجًا سقراطيًا جديدة لفهم المشكلات وتوليد المعرفة، لينشر سنة 1990 كتابه «التوليد الفلسفي: نموذج إرشادي جديد لفهم المشكلات الإنسانية والتحقق من صحتها» Philosophical Midwifery: A New Paradigm for Understanding Human Problems With its Validation (بمشاركة الباحثة في علم النفس السريري «ريجينا أوليانا» Regina Uliana) (Grimes, 2013).

    كذلك كان الألماني – الأمريكي «بيتر كويستينباوم» Peter Koestenbaum (من مواليد سنة 1928) من أوائل ممارسي الإرشاد الفلسفي، لاسيما فيما يختص بمشكلات القيادة والعقبات التي تواجه رجال الأعمال على المستوى الدولي، حيث نشر سنة 1978 كتابه «الصورة الجديدة للشخص: نظرية وممارسة الفلسفة السريرية» The New Image of the Person: Theory and Practice of Clinical Philosophy، وناقش فيه المساهمات الأساسية للفلسفة في تقديم المشورة وتبديد المخاوف (Koestenbaum, 1978). وفي سنة 1980 نشر الأمريكي «سيمون هيرش» Seymon Hersh مقالاً بمجلة «ذا هيومانيست (الإنساني)» The Humanist تحت عنوان «الفيلسوف الاستشاري» The Counseling Philosopher، قارن فيه الفيلسوف بالمدرب والمهندس الميداني، ووصف زبائنه بأنهم لا ينظرون إلى أنفسهم كأفرادٍ مصابين بمرض معين أو يبحثون عن علاجٍ للعُصاب، وإنما كمستثمرين أذكياء يرغبون في الحصول على عوائد أكبر وبشكل متزايد من استثماراتهم في الحياة (Hersh, 1980)!

    أما الميلاد الرسمي للإرشاد الفلسفي كحركة، وكمهنة متميزة عن العلاج النفسي، فيرجع إلى سنة 1981، حين افتتح الفيلسوف الألماني «جيرد آخنباخ» Gerd Achenbach (من مواليد سنة 1947) أول عيادة للإرشاد الفلسفي في مدينة «بيرجيش جلادباخ» Bergisch-Gladbach، بالقرب من كولونيا Cologne بألمانيا (Gerd B. Achenbach -Wikipedia, 2022). وفي سنة 1982، قام «آخنباخ» بتأسيس الجمعية الألمانية للممارسة الفلسفية German Association for Philosophical Practice بعضوية أولية من عشرة أعضاء. وبحلول سنة 1987، أصبح عدد الأعضاء مائة وخمسة وعشرين عضوًا من عدة دول، ونشرت الجمعية الطبعة الأولى من مجلتها «أجورا» Agora، والتي تم تغيير اسمها فيما بعد إلى «مجلة الممارسة الفلسفية» Zeitschrift für Philosophische Praxis. وفي أول كتاب نُشر باللغة الإنجليزية حول الإرشاد الفلسفي كفرع من فروع الفلسفة التطبيقية، ويضم مجموعة من أربعة عشر مقالاً لمتخصصين من عدة دول، تحت عنوان «مقالات في الإرشاد الفلسفي» Essays on Philosophical Counseling (1995)، أشار المحرران «ران لاهاف» Ran Lahav، «ماريا دا فينزا تيلمانس» Maria da Venza Tillmanns إلى أن مفهوم الإرشاد الفلسفي قد امتد من ألمانيا إلى هولندا سنة 1984، حيث عكف مجموعة من الطلاب على دراسة كتابات «آخنباخ» ومناقشة مختلف المنهجيات والقضايا النظرية التي انطوت عليها، وهو ما أثمر قيام «أدريان هوجينديك» Adriaan Hoogendijk بأول ممارسة فلسفية في هولندا سنة 1987، كما بدأت مجموعته في إصدار مجلة «الإرشاد الفلسفي» Filosofische Praktijk في العام ذاته، ليتم تأسيس الجمعية الهولندية للممارسة الفلسفية Dutch Association for Philosophical Practice سنة 1989 (Raabe, 2003).

    في المملكة المتحدة تم تأسيس «جمعية التحليل الوجودي» Society for Existential Analysis (SEA) سنة 1988، استنادًا إلى عمل الهولندية «إيمي فان ديورزين» Emmy van Deurzen (من مواليد سنة 1951)، في تطوير العلاج الفلسفي القائم على الظواهر الوجودية، وإعادة التفكير في القيم والمعتقدات كوسيلة لحل النزاعات بشكل منطقي. وفي الولايات المتحدة تم تأسيس «الجمعية الأمريكية للفلسفة والإرشاد والعلاج النفسي» American Society for Philosophy, Counseling, and Psychotherapy سنة 1992، على أيدي ثلاثة فلاسفة أمريكيين، وهم «إليوت كوهين» Elliot D. Cohen، «بول شاركي» Paul Sharkey، و«توماس ماجنيل» Thomas Magnell، وهي الجمعية التي تحول اسمها فيما بعد إلى «جمعية الإرشاد الفلسفي الوطنية» National Philosophical Counseling Association (NPCA). كما تأسست «جمعية الممارسين الفلسفيين الأمريكيين» The American Philosophical Practitioners Association (APPA) في عام 1998 في مدينة نيويورك على يد «لو مارينوف» Lou Marinoff (Philosophical counseling -Wikipedia, 2022). وفي سنة 1994، عُقد المؤتمر الدولي الأول للإرشاد الفلسفي في جامعة كولومبيا البريطانية في فانكوفر بكندا University of British Columbia in Vancouver، وحضره أكثر من مائة باحث ومهتم من ثمانية بلدان مختلفة، لتتوالى بعد ذلك المؤتمرات الدولية في هولندا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وإنجلترا، بالتزامن مع تأسيس المزيد من الجمعيات في جميع أنحاء العالم (Raabe, 2003).

     من جهة أخرى، تُذكرنا دعوات الإرشاد الفلسفي والعلاج بالفلسفة بتلك المهمة الجديدة للفيلسوف التي أعلن عنها «فتجنشتين» في مرحلة فكره المتأخرة (مرحلة التخلي عن اللغة المثالية)، حيث رأي أن مهمة الفيلسوف الأساسية ليست تحليل القضايا المركبة إلى أبسط مكوناتها، وصولاً إلى القضية الذرية التي تُناظر الواقعة الذرية، وإنما ممارسة العلاج الفلسفي لهؤلاء المرضى الذين تُسيطر على أذهانهم نماذج لغوية معينة تُلقي بهم في غيابات الغموض الميتافيزيقي، وذلك بإعادتهم إلى اللغة العادية التي تتجلى فيها المعاني بالاستخدام، وصياغة المشكلات المُلحة في إطارها حتى يتبين أنها مشكلات وهمية لا وجود لها إلا في عقول الفلاسفة. الفارق المُهم بين رؤية «فتجنشتين» تلك ورؤية ممارسي الإرشاد الفلسفي والعلاج بالفلسفة في عالمنا المعاصر أن رؤية «فتجنشتين» تجعل الفلاسفة هم المرضى وهو المعالج النفسي؛ مرضهم هو القلق والحيرة والمآزق الميتافيزيقية التي يكابدونها؛ هم واقعون في هذا القلق وهم أيضًا صانعوه لأن ما يثيرونه من مشكلات ميتافيزيقية إنما نشأت نتيجة سوء استخدامهم للغة العادية أو تجاهلها. أما رؤية المعالجين الجُدد فترتكز على تنصيب أنفسهم كأطباءٍ معرفيين لعقول الآخرين، بالعمل على تحريرهم من عاداتٍ نمطية للتفكير أدت بهم إلى القلق والحيرة والمآزق الحياتية التي حالت بينهم وبين السعادة (Jacquette, 2014)!

    لا شك أن الهدف قد يكون نبيلاً، ولا شك أن ثمة نجاحًا ظاهريًا قد تحقق بالدعاية التجارية حول العنوان الأنيق والجاذب (الاستشارة الفلسفية والعلاج بالفلسفة)، وبمحاولات المشتغلين بالفلسفة إيجاد موضع قدم لهم في عالمٍ سريع التغير، ليس لديه الوقت الكافي للوقوف ولو دقائق معدودة أمام تأملاتهم ومشكلاتهم وتنظيراتهم المتعالية، أو حتى المقتربة من الواقع والكابحة لطموحات الهيمنة والرفاهية. لكن النظرة المُدققة من شأنها أن تُطلعنا على جوانب أعمق للفشل، وعلى محاولة لتجاوز الإخفاق بتسويق الوهم، وهو ما يُمكن أن نوجزه في النفاط التالية:

  1. ماذا يعرف الفلاسفة ودارسوا الفلسفة والمشتغلون بها عن العلاج؟ ومَنْ منهم يصلح لأن يكون مُرشدًا للآخرين أو مُعالجًا لهم؛ أهو المُتبحر في الفلسفة وإن لم يكن دارسًا أكاديميًا لها، أم من حصل على الشهادة الجامعة الأولى على الأقل، أم من حصل على درجة أعلى كالماجستير أو الدكتوراه؟ ومَنْ الذي يُخول له ممارسة العلاج الفلسفي؛ هل يفعل ذلك من تلقاء نفسه، أم أن ثمة من يُرخص له بمزاولة مهنة الإرشاد والعلاج وتقديم المشورة للأفراد والمؤسسات وفقًا لكفاءةٍ نوعية أو قُدراتٍ خاصة؟ ألا يحدث أن يكون أحدهم ألحن في الحجة من غيره أو ذا منصبٍ أو أكثر جذبًا بالدعاية رغم كونه أقل كفاءةً؟ ولئن كانت ثمة علاجات لأمراض الفكر أو الروح أو الحياة، فهل هي أمراضٌ متواترة ذات أعراضٍ معروفة كالأمراض الجسدية والنفسية؟ وما دلائل نجاح علاج هذه الأمراض؛ هل هو الاستقرار الحياتي أم السعادة أم الرضا الوظيفي أم غير ذلك؟ أليست هذه أمورٌ نسبية؟ بل ألا يستلزم تكوين العقل الفلسفي الصحي التزامًا طويل الأمد مع نسبة فشل محتملة قد تزداد وقد تنقص؟
  2. ما منهج أو مناهج العلاج التي يجب أن يتبعها الفيلسوف المُعالج؟ لقد ذهب «فتجنشتين» في فلسفته العلاجية لأمراض الميتافيزيقا إلى أنه لا يوجد منهج فلسفي واحد للعلاج، بل إن ثمة مناهج متنوعة أشبه بطرق العلاج المختلفة، ولابد أن يتناسب العلاج مع حالات الأشخاص المتورطين في المشكلات أو الواهمين بها والمكابدين لها، وهذا بعينه ما كرره «جيرد آخنباخ» حين دعا بوضوح إلى تجنب أية محاولة لتوضيح منهجية محددة للممارسين لاتباعها، وأطلق على طريقته في العلاج اسم «منهج ما بعد المنهج» Beyond-Method  Method (Zinaich, Jr., 2004)، لكن الأخطر من ذلك هو تعدد الرؤى والتوجهات والأمزجة الفلسفية؛ فهذا مادي، وذلك مثالي؛ وهذا وجودي، وذاك ماركسي؛ وهذا مؤمن، وذاك مُلحد؛ وهذا متدين، وذاك علماني؛ وهذا ليبرالي، وذاك اشتراكي، … إلخ، فوفقًا لأي مذهب أو توجه أو مزاج فلسفي يمكن ممارسة العلاج؟ وهل من حق الفيلسوف أو المشتغل بالاستشارة الفلسفية والعلاج الفلسفي أن ينصح ويُعالج وفقًا لمذهبه ومعتقده دون أن يكون المريض على بينة من أمره؟ ألا يعني ذلك إفساد العقول أو العبث بها أو التوجيه الخاطئ لها؟ وهل يُصبح الفيلسوف كرجل الدين يجلس أمامه المذنب للحصول على صك الغفران الموثق من الفلسفة الماركسية أو الليبرالية أو الإلحادية أو غيرها؟ ولئن كان العلاج بالفلسفة إيقاظًا للوعي، فهل تسمح السلطة السياسية والاقتصادية بهذا النوع من العلاج إن وُجد، لاسيما في الدول الدكتاتورية، وما أكثرها؟!
  3. ألا يُفترض فيمن يُعالج بالفلسفة، سواء أكان فيلسوفًا أو باحثًا أن ينجح في علاج نفسه أولاً من كثرة من المشكلات الحياتية التي لا يجد سبيلاً إلى الخلاص منها؟ وهل يُمكن لفاقد الشيء أن يُعطيه؟ وما نسبة التطابق بين أفكار الفيلسوف المُثبتة في أعماله، وبين ممارسته لحياته الشخصية؟ وبعبارة أخرى، ألا يجب أن يكون الفيلسوف متصالحًا مع أفكاره؟

في كتابيهما «الفلاسفة يتصرفون بشكلٍ سيء» Philosophers Behaving Badly (2004)، يُنبهنا كل من «نايجل رودجرز» Nigel Rodgers و«ميل ثومبسون» Mel Thompson لحقيقة أن الفلاسفة ليسوا في حياتهم العادية حُكماء ولا قديسين يعيشون حياة الفضيلة التي لا تشوبها شائبة، وهم أنفسهم لا يدعون ذلك. صحيح أن ثمة من تمسكوا بالنبل مثل «سقراط» و«زينون الإيلي» Zeno of Elea و«أبيقور» Epicurus و«سبينوزا» Spinoza و«كانط» Kant (وإن كانوا قد تحاشوا إغواء الدخول في الحياة العامة كمستشارين أو معالجين، ورفضوا تملق ما يمكن أن نسميه بمصطلحاتنا الآن «وسائل الإعلام»)، لكن آخرين استسلموا لحب السُلطة أو الشهرة أو المال أو الجنس بشكلٍ مؤسف! نعم، قد يكون الفلاسفة أقرب إلى القديسين في تنظيراتهم، لكنهم يمكن أن يكونوا أطفالاً يدعون إلى الأسف في عالم الشهوات! لقد صرَّح «سقراط» (مُعلم أفلاطون Plato)، الذي يُعد تقليديًا أعظم فيلسوف غربي، أن الحياة غير المُختبرة لا تستحق أن تُعاش، وأمضى حياته تائهًا في طُرقات أثينا محاولاً حث الأثينيين على اختبار حياتهم وتغييرها؛ لقد حاول علاجهم من أمراضٍ فكرية تنخر في عقولهم، لكن مثاله في الحقيقة لم يكن مُشجعًا. لقد سئم الأثينيون في النهاية من استفساراته المستمرة، وصوتوا على قتله سنة 399 قبل الميلاد، وبعده تراجع الفلاسفة إلى الأكاديمية خوفًا من مصير«سقراط». هذا مثالٌ جيد – وإن كان غير مُشجع –لمن أخلص لفكره، لكن كيف يُواجه المرء، سواء أكان مريضًا أو طالبًا للمشورة، فكرة وجود مُفكر أو فيلسوف (مُعالج) يعمل على تطوير الفكر وانتشال المرء من أمراضه الفكرية والمنهجية، وهو ذاته لا يتورع عن ممارسات التملق والنفاق والعلاقات المشبوهة؟! لقد كان الفيلسوف الفرنسي «جان جاك روسو» Jean-Jacques Rousseau (1712 – 1778) من أهم فلاسفة وكتاب عصر التنوير، لكنه مع ذلك ترك أطفاله الخمسة في مستشفى مُخصصة للقطاء، دون أن يفكر فيهم أو يسأل عنهم أو ينفق عليهم، وبرَّر تصرفه هذا بعدم القدرة على منحهم الرعاية الأبوية التي يستحقونها! وترك الفيلسوف الألماني الكبير «مارتن هايدجر» Martin Heidegger (1889 – 1976) صومعته الفكرية التي أبدع فيها أفكاره حول الوجود والحرية والحقيقة والتقنية وغيرها، ليصبح داعيةً سيء السُمعة للنظام النازي سنة 1933! وبعد أن استكمل الفيلسوف الإنجليزي «برتراند رسل» Bertrand Russell (1872 – 1970) كتابه الضخم «برنكيبيا ماثيماتيكا» Principia Mathematica (بمشاركة «ألفرد نورث وايتهد» Alfred North Whitehead)، استغرق في الكتابة بغزارة عن أهم مشكلاتنا الحياتية كالزواج وإنجاب الأطفال والعلاقات الجنسية، ومع ذلك لم تكن حياته الزوجية الخاصة مثالية بقدر كتاباته، بل لقد كابد ثلاث حالات طلاق قاسية، خلَّفت قلوبًا مُنكسرة وأسرًا مُفككة، وأثرت على بعض أحفاده بشكلٍ كارثي لدرجة جعلت حياتهم مُدمرة. ليس ذلك فحسب، بل لقد أكسبته مغازلاته المُبالغ فيها للنساء لقب «الخليع الفلسفي Philosophical Rake»، أو «بيرتي القذر Dirty Bertie»)! ورغم هيمنة «فتجنشتين» على الحياة الفلسفية في كمبردج في الثلاثينات والأربعينات، وتخليه عن الثروة الهائلة التي ورثها، مؤثرًا حياة الزُهد والتقشف، إلا أنه عُرف بالمثلية الجنسية، والتعصب والعنف الجسدي والتنمر تجاه تلاميذه (Rogers and Thompson, 2004)!

هذه مجرد نماذج، والتعميم بالطبع مُمتنع، لكن علينا أن نضع نُصب أعيننا أننا لا نعرف عن حياة كثير من الفلاسفة إلا النذر اليسير، وأنهم كغيرهم ليسوا معصومين من الخطأ، ولا هم مثلٌ أعلى لغيرهم، ولا هم أطباء للفكر أو مستشارون قادرون على قيادتنا لعبور مشكلات الحياة، وإلا لبدأوا بأنفسهم!    

  • قد يعترض أحدهم فيقول: أنت تُغالط بالطعن في ذوات الفلاسفة، ولا شأن لنا بتجاربهم الحياتية الشخصية؛ أتُراك تسأل عن أخلاق الطبيب وسلوكياته قبل أن تذهب إليه طلبًا للعلاج، أم تكفيك كفاءته وبراعته؟ ألا تعلم أن الرجال يُعرفون بالحق ولا يُعرف الحق بالرجال؟ ومع أن هذا الاعتراض مردودٌ عليه بأن كفاءة الطبيب وبراعته تخضع لموضوعية المعلومات والبيانات والمعطيات الطبية، على العكس من الفيلسوف الذي تخضع كفاءته وبراعته للمزاج الفلسفي، أقول لمن يعترض: دعك من الفلاسفة، ماذا عن الفلسفة ذاتها؟

لا شك أننا (كفلاسفة أو كمشتغلين بها) نُسلم بأن كثرة من الناس لديهم كثرة من المعتقدات غير العقلانية، وأن هذه المعتقدات يمكن أن تؤدي إلى التعاسة بشتى أسبابها ومظاهرها: القلق، والخوف، والاكتئاب، وغيرها من الأمراض الحياتية التي تستلزم علاجًا، ولئن تمكنت الفلسفة من تقويض تلك المعتقدات غير العقلانية، وبالتالي إزالة القلق والخوف والاكتئاب، فستغدو حقًا وسيلة ناجعة من وسائل العلاج. ليس ذلك فحسب، بل ستغدو أيضًا وسيلة لاختبار الحياة والتحرر من الأوهام بمعرفة الحقيقة. لكن مهلاً؛ هل ثمة تجارب وحُجج جيدة تدعم هذا الفرض؟ ألا يعيش كثرة من الناس حياة هانئة دون أن تخضع حياتهم للاختبار؟ ألا تمنحك معرفة الحقيقة الحرية أحيانًا في أن تكون بائسًا؟ ومن ذا الذي يمكن أن يزعم – في ضوء التجارب البومية – أن الأوهام لا يُمكنها أن تفعل ما هو أفضل من الحقائق عندما يتعلق الأمر بتخليصنا من الخوف والقلق والاكتئاب؟!

من جهة أخرى، يبدو أن الفلسفة – على العكس مما نظن – تؤدي دورًا سببيًا في الإصابة بالمرض العقلي وليس علاجه؛ سواء أكان ذلك بخلق مشكلات لم تكن موجودة، أو بتشكيل الميول والأمزجة بما يؤثر على النموذج المستقر لحياة المرء وزعزعته بُغية التغيير، ربما لأن الفلسفة تفرض على المرء استخدامًا مُوسعًا وصارمًا لقدرات العقل وأنماط التفكير، وتطويرًا مستمرًا لها، وهو ما تتفوق به على كافة مجالات اكتساب المعرفة الأخرى، لكن التفكير بعُمق وبشكلٍ مستمر في قضايا شديدة الصعوبة والتعقيد ليس فقط مُرهقًا للجسد، بل يؤدي أيضًا إلى الإجهاد الذهني ومشكلات الصحة العقلية. كذلك تتسم الفلسفة بالقدرة على تغيير معتقدات المرء وتبديد عوامل الجهل، لكن الجهل نعمة في أحيانٍ كثيرة، ومن العلم ما قتل، على حد تعبير الشاعر اللبناني «الأخطل الصغير: بشارة الخوري» (1890 – 1964)! ولو نظرنا إلى «تأثير دانينج – كروجر» Dunning-Kruger Effect لعلمنا أن الشخص الأقل معرفة غالبًا ما يكون الأكفأ في عمله، والأسعد في حياته، وربما الأكثر ثراءً من الآخرين! وبعبارة أخرى، ثمة علاقة مثيرة للدهشة بين الجهل والثقة بالنفس؛ فكلما ازداد المرء جهلاً كلما ازدادت ثقته بنفسه، فإذا اتسعت مداركه واكتشف حدود معرفته قلت ثقته بنفسه وداهمته التعاسة (Cherry, 2021)!

    الخلاصة، أيًا كانت محاولات التسويق الآن للفلسفة كإرشادات حياتية أو مساعدات ذاتية على شاكلة نصائح الحمية أو الكبسولات العلاجية، علينا أن نُدرك ونعترف صراحةً وبوضوح أن حياة المنطق لا تؤدي بالضرورة إلى حياةٍ منطقية، وأن الفلسفة مجالٌ معرفي يموج بالغموض وتحفه المخاطر من كل جانب … الفلسفة ليست حساء دجاج يُمكن وصفه للغافلين والحمقى والمُعذبين لكي يمنحهم الطاقة، أو يُغذي فيهم الروح والعقل!

تعقيب

    لا يُدرك الفلاسفة عمومًا إخفاقات الفلسفة، أو بالأحرى إخفاقاتهم الضرورية في مهماتهم البطولية للإمساك ببنيةٍ ذات مغزى للحياة، ولأنهم هم الذين يكتبون تاريخ الفلسفة، فإن هذا التاريخ يبدو دومًا كتاريخ لإنجازاتها. وما تلك الإنجازات؟ حين سُئل الفيلسوف البريطاني «جون لانجشو أوستن» John Langshaw Austin (1911 – 1960) عن ماهية الفلسفة أجاب قائلاً: الفلسفة هي بالضبط ما يفعله الفلاسفة! وما الذي يفعله الفلاسفة؟ إنهم ببساطة يطرحون تساؤلات ويقترحون إجابات متباينة فيما يتعلق بالقضايا الإنسانية الكبرى: وجود الله، أصل الحياة، طبيعة الأخلاق، الحتمية والإرادة الحرة، طبيعة ومصادر ونطاق المعرفة البشرية، … إلخ. وكان الفيلسوف البريطاني «جون لوك» John Locke (1632 – 1704) يعتقد أن دور الفلسفة الأساسي هو إزالة بعض القمامة التي قد تعوق المرء على طريق اكتساب المعرفة، لكن ماذا لو كانت الفلسفة ذاتها تنثر أحيانًا بعض القمامة (كالغموض والدوجماطيقية) على طريق المعرفة؟! ولماذا لا يزال فلاسفة اليوم يصارعون مع كثرة من القضايا ذاتها التي كانت تشغل وتؤرق الإغريق القدماء؟!

تلك هي المشكلة التي تناقشها نزعتا «ضد الفلسفة» و«ما وراء الفلسفة»؛ أن نُحدد: ما الفلسفة؟ وما الذي نريده منها؟ وأن نعيد قراءة تاريخها في ضوء التعقيد وعدم اليقين الذي يميز عصرنا لنعرف كيف ولماذا أخفقت أو أصابت في مسيرتها؟ (Grojs, 2012).

    ما الذي نعنيه عندما ننطق (أو نكتب) كلمة فيلسوف؟ مَنْ الفيلسوف حقًا؟ الفيلسوف لا يُشبه المهندس أو الطبيب؛ المهندسون والأطباء يؤدون عملاً مقابل أجرٍ يقدرونه أو يقدره المجتمع، ولكي تصبح مهندسًا أو طبيبًا فأنت فقط في حاجة إلى دراسة أسس وقواعد ونظريات الهندسة أو الطب ثم التدريب بالممارسة؛ لكن ماذا لو أردت أن تكون فيلسوفًا، هل تكفيك دراسة الفلسفة فقط؟ قراءة الفلسفة؟ كتابة أعمال في الفلسفة؟ هل الفلسفة كيانٌ معرفي؟ هل هي مجموعة من النصوص؟ يمكنك بالدراسة والقراءة أن تكون مؤرخًا للفلسفة، لكن ليس فيلسوفًا! يمكنك أن تدرس الفلسفة وتاريخها على أيدي أناسٍ ليسوا فلاسفة! لذا دعنا نسترجع الماهية الثابتة للفلسفة؛ الفلسفة هي حب الحكمة وطلبها وتطبيقها. ما الحكمة إذن؟ وكيف تختلف عن غيرها؟ الفلسفة ليست حب المعرفة، ولا هي حب المنطق أو البلاغة أو حتى الحقيقة؛ إنها حب الحكمة، والحكمة فكرة وموقف يسمح لنا بإصدار أحكامٍ أخلاقية وتفضيل موقف ميتافيزيقي على آخر في ضوء قواعد المنطق ونتائج العلم؛ الحكمة علاقة جدلية كلية بين الإنسان والعالم؛ ونحن في حاجة إلى اتباع أفقية الحكمة بدلاً من عمودية الشعارات التي نتغنى بها كفلسفات!

    ولئن سألتني في النهاية: كيف، وما الحل؟ فسأقول لك إن الفلسفة تبدأ حيث تنتهي، وتنتهي حيث تبدأ، وبالتالي لن يتوقف فعل التفلسف الحقيقي، على الأقل لدى كل ذي عقل، ولعلي أستطيع أن أردد لك باختصار ما قاله سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه قبل من يقرب من أربعة عشر قرنًا: «قل آمنت بالله ثم استقم».


المراجع

Alzahi, F. (الزاهي، ف) (2018, December 10). Socrates Dies Twice: Is This the End of Philosophy? (سقراط يموت مرتين: هل هي نهاية الفلسفة؟). Retrieved August 5, 2022, from https://www.yemenmonitor.com/Details/ArtMID/908/ArticleID/29712

Campbell, J., 1949. The Hero with a Thousand Faces. Third ed. (1968). California: New World Library, Novato.

Cherry, K., 2021. The Dunning-Kruger Effect: Why Incompetent People Think They Are Superior. [Online] Verywell Mind. Available at:

       https://www.verywellmind.com/an-overview-of-the-dunning-kruger-effect-4160740  [Accessed 6 August 2022].

Gérard, G. (2010). Hegel and the End of Philosophy. Archives de Philosophie, 73, 249-266. https://www.cairn-int.info/journal–2010-2-page-249.htm

Gooch, A. (2022). The Philosopher with a Thousand Faces | Issue 147 | Philosophy Now. Retrieved 4 August 2022, from

https://philosophynow.org/issues/147/The_Philosopher_with_a_Thousand_Faces

Grimes, P., 2013. The Noetic Society, Inc. — Pierre Grimes & Philosophical Midwifery. [Online] Noeticsociety.org. Available at: https://www.noeticsociety.org/pierre-grimes  [Accessed 6 August 2022].

Hadot, P., 1995. Philosophy as a Way of Life: Spiritual Exercises from Socrates to Foucault. Edited with an Introduction by Arnold I. Davidson. Translated by Michael Chase. New Jersey: Wiley-Blackwell.

Hawking, S., & Mlodinow, L. (2010). The Grand Design (p. 10). New York: Bantam Books.

Heidegger, M. (1973). The End of Philosophy (first Ed.). New York: Harper & Row.

Hersh, S., 1980. The Counseling Philosopher. The Humanist, [Online] 40(3), pp.32-33. Available at: https://eric.ed.gov/?id=EJ222555  [Accessed 6 August 2022].

Jacquette, D., 2014. Later Wittgenstein’s Anti-Philosophical Therapy. Philosophy, 89 (2), pp. 251-272.

Koestenbaum, P., 1978. The New Image of the Person: Theory and Practice of Clinical Philosophy. Santa Barbara, California: Greenwood Pub Group.

Lazerowitz, M. (1964). Studies in Metaphilosophy. Routledge & Kegan Paul Ltd, London.

Livni, E. (2018). The Secret to a Meaningful Life is Simpler than You Think. Retrieved 4 August 2022, from https://qz.com/1310792/the-secret-to-a-meaningful-life-is-simpler-than-you-think/

 Macintyre, A. (2006). The Tasks of Philosophy: Volume 1: Selected Essays (pp. 3 – 23). Cambridge: Cambridge University Press.

Nussbaum, M., 1994. The Therapy of Desire: Theory and Practice in Hellenistic Ethics. Princeton, N. J.: Princeton University Press.

Raabe, P., 2003. A Philosophical Counselling Website. [Online] Peterraabe.ca. Available at: https://www.peterraabe.ca/history.html  [Accessed 6 August 2022].

Rogers, N. and Thompson, M., 2004. Philosophers Behaving Badly. London: Peter Owen Publishers.

Rorty, R. (1979). Philosophy and the mirror of nature. Princeton, New Jersey: Princeton University Press.

Rorty, R (2007). The Fire of Life by Richard Rorty | Poetry Magazine. Retrieved 5 August 2022, from

https://www.poetryfoundation.org/poetrymagazine/articles/68949/the-fire-of-life

Sellars, W. (1962). Philosophy and the Scientific Image of Man. In R. Colodny, Science, Perception, and Reality (pp. 35-78). New York: Humanities Press/ Ridgeview.

Zinaich, Jr., S., 2004. Gerd B. Achenbach’s ‘Beyond-Method’ Method. International Journal of Philosophical Practice, 2(2), pp. 52-62.

Wikipedia Contributors. (2021, July 31). Gerd B. Achenbach. In Wikipedia, The Free Encyclopedia. Retrieved 01:26, August 6, 2022, from

https://en.wikipedia.org/w/index.php?title=Gerd_B._Achenbach&oldid=1036453694

Wikipedia contributors. (2021, September 14). Philosophical Counseling. In Wikipedia, The Free Encyclopedia. Retrieved 14:09, August 7, 2022, from

https://en.wikipedia.org/w/index.php?title=Philosophical_counseling&oldid=1044185709

Grojs, B., 2012. Introduction to Antiphilosophy. London [etc.]: Verso.

***