مجلة حكمة
رواية 1984

الفناء الداخلي لرواية 1984! – عبدالله البريدي

مقدمة: رواية 1984 

النص المُلهم وجه وقفا، ولا يسعك فهمه بعمق دون أن تنسل بخفة إلى الممرات السرية لـ المكتوب وباحاته الداخلية، فتعاين من ثمَّ سياقات كتابته (المكتوب فيه)، وتتبصر في أحوال الكاتب ودوافعه، بجانب الاستيعاب الذكي لأهم الأبعاد ذات العلاقة بـ المكتوب له (القارئ)، والمكتوب عنه (الموضوع المحوري)، والمكتوب به (اللغة/الأسلوب). هذا يعني أننا بحاجة إلى سيرة ذاتية لـ رواية 1984، وهذا ما فعله باقتدار شديد دوريان لينسكي في نصه الفاخر: وزارة الحقيقة- سيرة رواية 1984 لـ جورج أورويل، بترجمة جيدة من قبل نادر أسامة (كلمات للنشر، 2021، ط1)، في 471 صفحة. 

لكي يؤسس مشروعية نصه، يقرر لينسكي وهو محق أن

"ضريبة الشعبية الهائلة لأي فنان هي ضمان أن يساء فهمه. يعرف الناس ظاهرياً عن رواية ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون أكثر مما يعرفونها بالفعل" (ص 11) 

ومن ذلك مقولة لـ تيري جيليام:

"كان أورويل يطفو على الهواء. لم أقرأ 1984، لكننا جميعاً، نعرف ما هي" (ص 392). 

وهنا، يشير المؤلف إلى أن ثمة تشويهاً وإهمالاً للمقاصد الحقيقية لجورج أورويل، مما يجعلنا بحاجة إلى منصة تحليلية تظفرنا بفهم معمق يتجاوز بنا تخوم الإحالات الساذجة، وذلك أن هذه الرواية هي:

"عمل فني ووسيلة لفهم العالم على حد سواء" (ص 12)

وهذا ما يفسر تأخر أورويل في إعدادها، حيث كان يطور أفكارها خلال سيرته الكتابية برمتها، فجاءت تتويجاً لـ العقلية الراصدة التي يتمتع بها أورويل (ص 25)، لدرجة أن روايته الخالدة مزرعة الحيوان لم تكن سوى تمهيد لها (ص 245).

من هو جورج أورويل؟

معروف أن جورج أورويل كان اسماً مستعاراً لـ أريك بلير المولود في 25 يونيو 1903 من أم نصف فرنسية، متقدة الذكاء، وأب إنجليزي عبوس “لا يكف عن قول: ممنوع” (ص 24)، وكانت ولادته في الهند حيث كان يعمل أبوه موظفاً صغيراً في الحكومة البريطانية هناك، وأسرته تتنمى للشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة العليا، وهي “طبقة مضطربة من المجتمع الطبقي الإنجليزي، تتمتع بطموح وعادات الأغنياء ولكن ليس برؤوس أموالهم، وبالتالي ينفقون معظم أموالهم على الحفاظ على المظاهر”، وكان أورويل ينظر إلى فترة صباه بخزي وازدراء (ص 24)، وكان ينظر إلى نفسه على أنه متغطرس صغير بغيض، مقرراً أن أنه “إن لم تستأصل غطرستك من تربتها/ ستلازمك إلى القبر” (ص 24-25)، على أن منْ يتعرف عليه عن قرب يدرك أنه يمتلك حس الفكاهة مع الكرم، وكان يؤمن بالجدية والمتع الصغيرة ومولعاً بالسفر والاكتشاف ويجيد العديد من اللغات (ص 23).

أرجعته أمُه إلى لندن في عامه الثاني وتعاهدته بالاهتمام والدراسة، غير أنه كان يكره المدرسة وأجواءها (في مقاطعة ساسكس)، وكان يقر داخل نفسه بأن الفشل أمامه وخلفه أيضاً! كان ينظر إليه زملاؤه بأنه معتدُّ بنفسه ويحاول دوماً إثبات أن كل شيء خطأ وبأن مهمته كامنة في تصحيح الأمور. وثمة من وصفه بأنه “كان ساخراً أكثر من كونه متمرداً، ودائماً ما كان يقف بعيداً ليراقب. دائماً يراقب” (ص 25).

مسيرة أورويل الدراسية والفكرية

بعد هذه الدراسة المتوسطة في قرية إيتون، رفض أورويل الانضمام إلى الجامعة، والتحق بالشرطة الإمبراطورية الهندية في بورما (حيث ترعرتْ أمُه) في قرار مفاجئ، لم يسع إلى تفسيره لأحد. حبس أورويل أنفاسه الكتابية، فلم يكتب شيئاً في بورما، بيد أنه عندما عاد منها بعد خمس سنوات، كان في جعبته ما يكفي لكتابة رواية واحدة (أيام بورما) ومقالين جيدين: الشنق، وإطلاق النار على الفيل. ولم يكن أورويل يخفي نفوره من المثقفين، وكان كثيراً ما يضع الكلمة بين مزدوجين ساخرين، حيث يعتمدون وفق تشخيصه لهم على مجرد نظريات وفرضيات غير صلبة. 

كانت الفترة البورمية مُنضجة لفكره السياسي، حيث لعبت “دور العلاج التنفيري، من خلال رؤية كيف فسدتْ وتقوقعتْ الطبقةُ الحاكمة، بسبب إساءة استخدامها للسلطة ومناخ النفاق الذي غلَّفها. طور أورويل اشمئزازاً تجاه كل أنواع القمع ..”، وأخذ يقرر بحسم “كيف تكتب عن الفقراء إن لم تصبح فقيراً أنت نفسك، حتى ولو لفترة مؤقتة”، وهذا ما حدا بأمين مكتبة فطِن قابله مرة واحدة فقط إلى أن يصفه بأنه “كان رجلاً في طور إعادة ترتيب نفسه” (ص 26).

في تلك الفترة، كان أورويل يقرأ كثيراً عن الاشتراكية، لأنه كان يعد نفسه للانغماس أكثر في سياقات الفقر والفقراء وعالمهم السفلي، مما أوصله إلى أن يكون متشرداً في انجلترا وغاسل صحون في باريس في أواخر العشرينيات، وحينها كتب:

"هذا المجتمع أشبه بعالم داخل عالم، حيث الجميع متساوون في ديموقراطية صغيرة بائسة" (ص 27)

ورأى البعض أن هذا المسلك جاء لتطهير نفسه من “رجس الإمبريالية”، وهنا أخرج كتابه الأول عام 1933: مذكرات الفقر والتشرد في لندن وباريس، وعند هذا الكتاب ولد “جورج أورويل“، حيث عمد إلى الاسم المستعار، لكي يجنِّب عائلته أي حرج تجاه مضمون الكتاب، ويشير لينسكي إلى أن السبب الحقيقي قابع في كرهه الشديد لاسمه الحقيقي “أريك”، مما جعله يتعطش لتجديده ويستغل هذه الفرصة.

أصل المسمى

أورويل اسم إنجليزي أصيل، إذ إنه اسم لنهر أورويل المتدفق عبر مقاطعة سوفلوك. لم يكتفِ أورويل بالقراءة حول الاشتراكية، حيث اشترك في العديد من الأعمال الحربية للدفاع عن حقوق الفقراء والدفاع عن الآداب العامة ومناهضة الفاشية، ومن ذلك سفره إلى إسبانيا عن طريق فرنسا ضمن طائفة من اليساريين الذين توافدوا إلى هناك  من 35 دولة وذلك في 22 ديسمبر 1936، حيث جذبتْ القضيةُ اليسارية “المغامرين والحالمين والشعراء والسباكين، الماركسيين المتشددين، والمنبوذين المحبطين” ( ص 35)، وكانت هذه المشاركة متأرجحة بين العمل الحربي والصحافي من جهة، ومتأرجحة أيضاً من جهة العمل مع هذا الحزب اليساري أو ذاك، حيث انضم إلى أكثر من حزب في تلك الفترة، من جراء ما يكتشفه بين الوقت والآخر من كذب وخداع، “فالحرب تولَّد الأكاذيب مثلما تولد الجثث والقمل” كما في تعبيره (ص 49).

في آخر هذه المغامرة، تلقى أورويل رصاصة ساخنة، كادت تودي بحياته، حيث أصيب بحلقه أسفل حنجرته، لدرجة أنه ظن أنه يحتضر، بيد أن الطلقة أخطأت الشريان السباتي، مسببة شللاً مؤقتاً في عصب يؤثر على حباله الصوتية، مما أرقده في المشفى لثلاثة أسابيع ( ص 36—57).

بداية الطريق نحو كتابة رواية 1984

في عمر 33 سنة، أنتج أورويل ثلاث روايات وكتاب آخر، و”بعض القصائد الركيكة، وفيض من الكتابات الصحفية .. لم تتضافر جيمعها بعدُ لتكون مهنة يمكن الاعتماد عليها كمصدر للرزق. كان بالكاد يستطيع العيش من خلال العمل مدرساً وبائع كتب”، وسطَّر حالته البائسة تلك في روايته “دع الدريقة تطير” في شخصية البطل: جوردون كومستوك (ص 28).

وفي يناير 1936 قبل أورويل مهمة أوكلها له ناشره الاشتراكي اليهودي فيكتور جولانش، حيث طلب منه اسكشاف معاناة الطبقة العاملة في مجال الصناعة في شمال إنجلترا. أنجز المهمة  ونشر الكتاب في العام الموالي بعنوان: الطريق إلى رصيف ويجان البحري، وكان قالبه صحافياً دعائياً تحشيدياً، حيث كان يعمد إلى “إثارة تعاطف القارئ عن طريق تضفير البيانات الموثقة مع خليط زاهٍ من المشاهد والأصوات والأطعمة والروائح من قلب حياة الطبقة العاملة.

صدم مشهدُ المرأة الراكعة لتسليك ماسورة صرف صحي أورويلَ، ورأى فيه لوحةً خالدة عن الكدح لا يمكن طمسُها، حتى أنه أعاد تقديمه بعد سنوات” في روايته 1984 ، وكان أورويل يؤمن بأن الوجه هو الكاشف الأكبر للشخصية، وهذا ما جعله يبتكر فكرته الطريفة “جريمة الوجه” المتمثلة في إفشاء المشاعر الحقيقية للمرء (ص 29).

لم يكن الجزء الثاني من العمل الوصفي لهذه الطبقة الكادحة بالعمل الجيد، حيث تورط أورويل بقدر غير مبرر من الاستطراد، مما جعله يقرر هو نفسه بأنه لا يستحق إعادة الطباعة. ومع دعمه للاشتراكية وإيمانه بها، يشدد أورويل على أن الاشتراكية لم تشِع لسببين رئيسيين، فأما الأول فيعود إلى عبادة الاشتراكية للآلة، وأما الثاني فيؤول إلى سوء طباع الطبقة العاملة أنفسِهم، وكان أورويل متحفظاً في التعبير عن دوافعه إزاء هذا التوصيف الصارم للاشتراكية، حيث يدعي بأنه “محام للشيطان”، ليس إلا !

بداية تكون رواية 1984 لـ أورويل

في مقاله “روح الإنسان في ظل الاشتراكية”، كتب أوسكار وايلد قائلاً:

"إن لم تتضمن خريطة العالم يوتوبيا، فلا تستحق النظر إليها .. التقدم هو تحقيق اليوتوبيا على الأرض"، 

وكان أورويل

"معجباً بفكرة اليوتوبيا كترياق ملهم للتشاؤم والحيطة. لكنه وجد أي محاولة لوصفها مملة، وأي مجهود يبذل لتشييدها مشؤوماً" ( ص 58). 

لقد سبقتْ فكرةُ اليوتوبيا شقيقتها الديستوبيا، حيث عكف الناس على “تصميم المجتمع المثالي قبل وقت طويل من تخيل العكس. المخطوطة الأولى المؤسسة في هذا الضرب من الأدب هي جمهورية أفلاطون“، وهي توطئة لكتاب توماس مور “يوتوبيا” الذي نشره عام 1516م، حيث صاغ كلمة يوتوبيا من كلمتين إغريقيتين:  ou بمعنى لا، وtopos بمعنى مكان، لتؤدي في البداية معنى: المكان الذي لا وجود له، وقد أكسبها مور معنى طريفاً: الجنة المشتهاة على الأرض.

لم كتب أورويل رواية 1984؟

وهذا ما دعا أورويل لوصف رواية 1984 بأنها “يوتوبيا متشائمة”، وهنا يشير لينكسي إلى أنه لم يستخدم المصطلح المقابل وهو ديستوبيا، وهو المصطلح الذي استخدمه جون ستيوارت ميل عام 1868 حيث أراد به ميل: المكان غير الجيد، أو لنقل الجحيم المتخيلة في الأرض (ص 59). غذَّى أورويل رأسه بذخائر يوتيوبية عديدة، ومن صور اهتمامه بذلك، نجده يكتب أكثر من مرة عن رواية صامويل باتلر Erewhon  -1872م، وعن فنتازيا وليم موريس “أخبار من لا مكان” – 1890م، وكتب كذلك عن نصوص لـ إتش جي ويلز، وكان يؤمن في قرارة نفسه بأن اليوتوبيات مملة وكئيبة، ويقرر أنه “بشكل عام، يرغب البشر في أن يكونوا بخير، ولكن ليس بمنتهي الخير، وبالتأكيد ليس طوال الوقت” (ص 60).

كتب أورويل عدة مرات عن روايات ديستوبية، ومن ذلك أنه كتب لمجلة تريبيون اليسارية عن أربع روايات نشرت بين عامي 1899 و1932 مختبراً نبوءاتها أمام واقع الفاشية، وهي: عندما يستيقظ النائم لـ إتش جي ويلز، سر العصبة لـ إرنست براما، العقب الحديدية لـ جاك لندن، وعالم جديد شجاع لـ ألدوس هكسلي (ص 105).

لقد ظهر بشكل سافر تأثرُ أورويل بـ ويلز الذي كان يوصف بأنه “الرجل الذي اخترع الغد” (ص 117)، وبأنه “المعادل الإنجليزي لجول فيرن” (ص 122)، إذ كان أورويل “قارئاً مخلصاً  لرواية يوتوبيا حديثة” (ص 116-117). كان ويلز يؤمن بدور الحكومة العالمية التي تدير العالَم عبر “نخبة جديرة بالثقة” (ص 127)، ويقف على النقيض من ذلك، هكسلي حيث يرى بأن مثل هذه الحكومة ستكون وبالاً على العالم، إذ لن تكون “محكومة بالحديد والنار، وإنما بالمخدرات، والتنويم الإيحائي والتسلية، وبنظام ورائي معدل طبقياً” (ص 140)، متنبئاً بتفشي الشمولية في العالَم (ص 255).

جوانب مهمة في حياة جورج أورويل

يستعرض المؤلف جوانب مهمة من حياة أورويل ومن ذلك زواجه الأول(خريجة أكسفور) والثاني (جميلة لعوب) والدور الذي لعبتاه في مراحل مختلفة من حياته (ص 23 ، 300، 320). وفي تنقيبه عن المقروء أثناء الطفولة للكاتب، يعثر لينسكي على أدبيات يوتوبية حيث قرأ سلسلة يوتوبيات جونثان سويفت الساخرة التي نُشرتْ عام 1726م.

وهنا يصطاد لينكسي ملاحظة منهجية، حيث يشير إلى أن كتابات أورويل خلتْ تماماً من أي إشارة إلى الكتاب الذي جعل من اليوتوبيا ظاهرة ثقافية، ويقصد بذلك كتابات إدوارد بلامي، الذي كان صحافياً مغموراً من ماساتشوستش، وهو الشاب الجاد الحساس الراصد لمظاهر الكبت واللاعدالة، مما جعله يؤمن بأن الوضع لن يستمر على حاله “وأن تحولاً عظيماً للأفضل أو للأسوأ- آت لا محالة” ( ص 61)، وكتب رواية انتشرت بشكل مذهل: النظر إلى الماضي: 1887-2000، وكان ذلك في عام 1888، وأضحت الرواية الأكثر انتشاراً في أمريكا بعد رواية: كوخ العم توم، ومن شدة انتشارها خارج أمريكا، أنه صار عدم قراءتها يعد سقطة في السياقات الفكرية، وأطلق عليها مارك توين لقب “أحدث وأفضل الأناجيل” (ص 62)، مستقطبة حواريين يدافعون عنها ويكتبون النصوص حولها، وقرأها جملة من الساسة ومن بينهم الرئيس الأمريكي روزفلت وناقشها، وجعلتها مجلة ذا أتلانتك أهم ثاني كتاب في الخمسين عاماً الماضية.

التشابه بين أورويل وبلامي

ولتقريب الشبه بين عمل بلامي وعمل أورويل، يصف هاري شيرمان – رئيس نادي كتاب الشهر- رواية 1984 بأنها “رواية بلامي مسرودة بالعكس” (ص 64)، وبطل رواية بلامي جوليان وست، أرستقراطي مترف من بوسطن، الذي يدخل في غيبوية في قبو تحت الأرض، ليستيقظ بعد قرن من الزمان، ويستمع لشروحات الدكتور ليتي وكيف يصور له حالة من بلوغ الكمال البشري عبر التضامن العرقي والأخوة بين البشر، ولقد تنبأ بلامي بصورة عابرة ببعض الاختراعات مثل: بطاقات الإئتمان وساعات الراديو. يلعب جوليان دور المتسائل، ويتولى ليتي الإجابة التفصيلية عن أسئلته حيال المستقبل وما يختمره من مخترعات وأحوال متوقعة، في سياق يعزز فيه أهمية المساواة وكونها المفتاح الأساسي للمستقبل.

وقبل أن يستيقظ جوليان يكتشف أن عام 1987 كان كابوساً وأن عام 2000 هو الحقيقي، وتختتم الرواية بمشاهد مأساوية، حيث تسقط الأقنعة المصطنعة أثناء السياقات المختلفة في الرواية، وتحضر الوحشية، ويذهب البطل إلى أن الجميع موتى، “وإن كان ثمة أمل، فهو لا يكمن في العوام” (ص 67)، ويقرر بلامي-مثل أورويل- بأن الاشتراكية هي منتج رائع يبيعه باعة شنيعون (ص 71)، مما جعله ينحاز إلى التطور عوض الثورة. العجيب أن بلامي يشابه أورويل في الوفاة أيضاً، حيث مات بالسل عام 1898 عن عمر يقترب هو الآخر من عمره، حيث قضى وهو ابن 48 عاماً، حيث توفي أورويل في 21 يناير 1950 عن 46 ربيعاً.

جورج أورويل 1984

في ملمح تشخيصي جسور بديع، يخلص لينسكي إلى أن أورويل الروائي “يعاني من محدودية الخيال، ومن اضطراب الاكتناز على حد سواء. كانت رواياته الأربعة الأولى عبارة عن متاجر خردة مكتظة عن آخرها بهموم متنوعة، لم يتمكن من إيجاد منزل آخر أكثر ملاءءمة لها” (ص 86). يعترف أورويل بأنه ليس كاتباً روائياً حقيقياً، وما يجعل روايات أورويل تستحق القراءة “ليست الحبكة أو الشخصيات، بل الأفكار: تدفق الآراء والملاحظات والحكايات والنكات المفعم بالحيوية وتعبيره المقنع عن رؤيته للعالَم، والشعور بأن الكاتب ينفث عن شيء في صدره” (ص 86).

الإشارة إلى أن مرزعة الحيوان هي بمثابة المهاد لرواية 1984، يجعل لينكسي مُطالَباً بالكشف عن القاسم الفكري الأكبر بينهما، وقد فعل ذلك عبر تحليل دقيق للمضمون، حيث خلص إلى أن الفكرة المحورية تتمثل في خطورة “تآكل الذاكرة وفسادها“، حيث تظهر كلمة تذكر 110 في رواية 1984 وكلمات ذاكرة ونسي وطي النسيان 46 مرة، وثمة استخدام مكثف للذاكرة ودلالاتها في مزرعة الحيوان، وقد أجرى  أورويل العديد من الاستراتيجيات الكفيلة بمحو الذاكرة أو تشويهها، ومن ذلك:

  • 1- تزوير الأدلة.
  • 2- تقرير عصمة القائد من الخطأ.
  • 3- التلاعب باللغة.
  • 4- الزمن، فبالزمن “يرحل الثوار القدامى أو يموتون، بينما تولد حيواناتُ جديدة أو تُشترى” (ص 247).

وإزاء الكاتب والمكتوب فيه أي السياق الذي صنع فيه الكاتب نصه، نجد تحليلاً مطولاً للمؤلف حول مدى تأثير المرض على مزاج الكاتب ونصه المتمثل في رواية 1984، ومن ذلك أنه نقل جانباً من الأجواء التي كانت تحف بالكاتب أثناء كتابة هذه الرواية، ومن ذلك قول أورويل نفسه، حيث يقرر بأنه روايته “لم تكن لتكون قاتمة جداً لو لم أكن مريضاً جداً” (ص 255).

تحليل لـ رواية 1984

إلا أن لينسكي يتعقب أورويل ويقرر بأن الأدلة تشير إلى خلاف ذلك، ويأخذ بسرد عدد من الأدلة الناسفة لتأثير المرض على 1984، ومن ذلك أن أورويل كتب العديد من المقالات قبل مرضه، وكانت تعج بالنظرات التشاؤمية ذاتها، ومنها مقاله المعنون بـ تقويم جورج القديم الذي كتبه لصحيقة تريبيون أواخر 1945 (ص 255)، مما يعني أن هذا المسلك متجذر في وجدان أورويل، ولا يطيق فكاكاً منه، وهنا نستعيد فكرة الاكتناز الفكري.

يملأ لينسكي تحليله في تضاعيف كتابه بالإشارات الماتعة إلى العديد من الشخصيات الفلسفية والفكرية والسياسية عاكساً مواقف أورويل حيالها، سواء كانت تحمل تقويمات إيجابية أم سلبية، مما يغذي القارئ بذخائر تحليلية رافدة لاستنتاجات عديدة، وقد يكون بعضها متجاوزا للموضوع المبحوث ذاته، ومن اللافت في هذا أنه كان يرى بأن سارتر مجرد “جعجاع بلا طحن” (ص 302). ويدخل في ذلك شخصيات فكرية مرموقة علقت على نتاج أورويل، ومن بينهم على سبيل المثال تشومسكي الذي يؤكد على أن أورويل قد انحاز إلى الرجل العادي (ص 368).

وفي تأكيد على أهمية تخمير الأفكار في وقت كافٍ، يلفت أنظارنا لينسكي إلى أن أورويل طور العديد من الأفكار في سنوات سبقت رواية 1984، حيث كتب أفكاراً متنوعة بين عامي 1843-1944 ومن بينها: الإنجوسك، اللغة الجديدة، معيار التفكير المزدوج، ودقيقتا الكراهية، حيث وجدتْ في دفاتر ملاحظاته. لقد وجدت الأفكار الخلاقة التي ابتكرها أورويل طريقها إلى القواميس، حيث اعترفت القواميس بالعديد بالكلمات الجديدة التي سكها ومن ذلك: اللغة الجديدة، والأخ الأكبر، والتفكير المزدوج، وجريمة التفكير، والتلاشي (ص 331)، وراجت كثيراً في النصوص الأدبية والفكرية والسياسية وغيرها.

تلخيص رواية 1984

في مايو 1947 أخبر أورويل ناشره بأنه سيشرع في كتابة رواية 1984، واستطاع إنجازها في وقت قياسي؛ في ظروف صعبة مصحوبة بالسل والبرد الشديدين، ونُشرتْ في 8 يونيو 1949 عن دار سيكر آند وأربوج، وخلال ستة أشهر بيع منها قرابة ربع مليون نسخة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، ويستعرض المؤلف عدد النسخ المليوينية للرواية عبر مراحل عديدة،  ومن ذلك أنه في عام 1973 تخطت مبيعاتها مليون نسخة في بريطانيا و10 ملايين في أمريكا (ص 366)، وأنه خلال عامي 1983-1984 بيع ما يقارب 4 ملايين نسخة بـ 62 لغة (ص 396).

وفي خضم هذا التتبع الدقيق، يكشف لنا المؤلف كيف أن بعض الأحداث السياسية تنشّط مبيعات النصوص الأدبية، ومن ذلك هذه الرواية الملهمة، حيث تنطوي تلك الأحداث في تكرار عجيب على أفكار محورية تنبأت بها الرواية وصاغتها بشكل مدهش، ومن ذلك استخدام حكومة ترامب لمصطلح “الحقائق البديلة”، بعد اكتشاف الصحافة لحجم التضليل الذي كانت تمارسه حكومته تجاه نتائج الانتخابات في 22 يناير 2017 ونحو ذلك (ص 442، 452).

لا يدع المؤلف الربط بين الأدب والفن، حيث حلل في صفحات طويلة كيف ألهمت رواية 1984 الفن عبر الغناء والسينما والمسرح، ومن ذلك أغنية أونلي بيبول: لا نريد دولة الأخ الأكبر (ص 368-369). ومن الطريف في هذا، أنه في ليلة 12-12-1954 عُرض فيلمُ يجسد الرواية، مما جعل الموظف في شركة شحن جنوب لندن، وهو البريطاني:جورج أورويل يتلقى اتصالات غاضبة كثيرة، وكان هو البريطاني الوحيد الذي يحمل هذا الاسم، حيث ظفر البريطانيون الناقمون على اسمه من دليل الهاتف، الأمر الذي جعل زوجته تُطالبه بأن يتصل على الجهات المسؤولة لإخبارهم بأنه ليس هو النزِق الذي كتب 1984 (ص 326).

خاتمة

في عبارة مكبسلة، يصل لينسكي إلى خلاصة ذهبية مفادها أن منابع الأدب الديستوبي تنبع من “دور التكنولوجيا في الحفاظ على سيطرة الدولة. ارتداء الجموع المستعبدة زياً أزرق موحداً مثل حزب أورويل الخارجي، ومشيهم على الصراط خوفاً من شرطة العمل. نشأة الأطفال في حضانات الدولة. تحريق الكتب وتفشي المواد الإباحية واختزال اللغة .. إلى درجة فادحة” (ص 124).

النص الخالد يتجاوز مطبات التاريخ، كيف لا وقد تجاوزت هذه الرواية مأزق سقوط الشيوعية كما ينبه إلى ذلك المؤلف (ص 425). ويخلص لينسكي إلى أن “أكثر النقاد ذكاء هم الذين فهموا رسالة أورويل التي تقول إن جرثومة الشمولية موجودة فينا، كما هي موجودة فيهم” (ص 316). وفي مقابلة مذهلة، يضع المؤلف العالَم على كف  احتماليتين اثنتين، الأولى هي احتمالية أورويل الذاهبة إلى أن ما نكرهه هو ما سيفسدنا بالفعل، بخلاف الثانية المحذرة من أن ما سيفسدنا هو ما نحبه ! (ص 428).

وقد ختم لينكسي نصه الرائع بالمراجعة الأصلية لمجلة لايف لـ 1984 وذلك في عام 1449، حيث تقول:

 "إذا استمر البشر في الإيمان بالحقائق التي تخضع للقياس، وتقديس روح الحقيقة المتمثل في السعي وراء معرفة أكبر، لن يستطيع أحد استعبادهم بالكامل" 

ويعقب عليها بالقول:

"بعد سبعين عاماً، تبدو هذه الجملة الشرطية عسيرة جداً" (ص 455). 

عموماً، هذا الاستعراض لا يغني البتة عن مطالعة هذا النص الفاخر، الذي يعد قالباً منهجياً أولياً جيداً لكتابة سير ذاتية للنصوص الملهمة في أدبنا العربي. أخيراً يسعني كبسلة روايتي مزرعة الحيوان و1984 بل عموم فكر أورويل بالقول: إن الذاكرة هي العقار الوحيد الذي يسعى المستبدون لامتلاكه!