مجلة حكمة
رسائل حنة آرنت ومارتين هيدغر

رسائل حنة آرنت ومارتين هيدغر (مقدمة المترجم)

الكاتبحنة آرنت، مارتين هيدغر
ترجمةحميد لشهب

في البداية لا بد من كلمة شكر أخص بها الدكتور يوسف الصمعان و«الجنود» الذين يقفون جنبه في هذا الخندق المثالي، العاملين في «حكمة»، والساهرين معه لإنارة ساحتنا الثقافية بمؤلفات قيّمة في الكثير من الميادين.

وقد كان من الممكن أن يستمرّ «تبادل الرسائل بين حنّة آرندت ومارتين هيدغر» في سباته في الأرشيف الأدبي الألماني بمدينة مارباخ، لو لم تذكر إيلزابيث يونغ بروهل Elisabeth Young-Bruehl عام 1982 في كتابها For Love of the World هذه العلاقة الغرامية التي كانت معروفة للعموم، وذكرت بأن تبادل الرسائل بينهما مُوَثّق وموجود، لكنه محتفظ به بسرية في هذا الأرشيف. بعد ذلك نجحت إلزبييتا إتينغر Elzbietta Ettinger، عام 1995، وكانت تكتب كتابًا عن حياة آرندت في معاينة هذه الرسائل، وقرّرت أن تنشر في نفس السنة في سلسلة «بايبر Piper» كتابًا بالألمانية يحمل عنوان: «حنّة آرندت – مارتين هيدغر: قصة». وبما أن الصورة التي رسمتها في هذا الكتاب عن هيدغر  كانت سيئة للغاية، فإن ابنه هيرمان Hermann، الوارث الشرعي لحق التصرّف في الإرث الفكري لوالده، قرّر أن يضع هذه الرسائل، كما تقول أورسولا لودتس Ursula Ludz، في متناول الجمهور.

يتعلّق الأمر إذن بـ 119 رسالة؛ بطاقات بريدية أو أخبار قصيرة منه لها، وبـ 33 منها له. إضافة إلى بعض الرسائل الأخرى، ليست لها قيمة كبيرة، بما في ذلك بعض أشعار هيدغر .

ربما لم يُكتب لأي كتاب لآرندت وهيدغر أن يعرِف هذا الاهتمام الواسع الانتشار، بل الكاسح، مثل الكتاب الذي نشر عن تبادل الرسائل بينهما على الصعيد العالمي، وفي مدة قصيرة جدًا اهتمّت به السينما، والمسرح، والندوات، وحلقات الدراسة، والصحافة المتخصصة، وموجهة لجمهور عريض من القرّاءإلخ[1].

أ – عاصفة اللقاء

ما دفع بحنّة آرندت للذهاب إلى كونيكسبريغ في خريف 1924 هو عطشها الفلسفي، والإشاعات التي كانت رائجة حول «إمكانية تعلّم التفكير» في جامعة هذه المدينة على يد فيلسوف شاب. لم تكن تعرف في ذلك الوقت أن الحب والفلسفة سيجمعهما إلى أن يفرقهما الموت، على الرغم من سنوات النازية التي أبعدتهما عن بعضهما البعض فكريًا وفيزيقيًا. وفي هذا الإطار يُطرح سؤال جوهري بحجم العلاقة التي جمعتهما: ما هي القوة الخارقة التي سمحت لهما بإعادة ربط العلاقة – وهي الصهيونية الملتزمة – مع مفكّر كان يؤمن بأن دور النازية في التربية من شأنه أن يحقق إنسانًا جديدًا؟ أكان هو الحب؟ الفكر؟ الفلسفة؟ أم شيء أعمق وأثقل من هذا؟ وما عسى أن يكون هذا الشيء؟ أيمكن أن نكتفي بالجواب الذي تقدّمه أنطونيا غرونينبيرغ Antonia Grunenberg؟: «إنه الحب في كل نطاق تنوّعاته: الإيروتيك، والاندهاش، والوفاء والخيانة، والشغف، والروتين، والتصالح، والنسيان والتذكُّر، وحبّ العالم …».

قد يلمس هذا النص بعض الحقائق، لكن ما يختفي أيضًا وراء «رجوع المياه إلى مجاريها» بين فيلسوفة مقتنعة بالنموذج الأميركي في السياسة، والتي كانت ترى بضرورة تطبيقه في أوروبا، وفيلسوف اختار العزلة والتأمّل، بعدما خسر، لا حبيبته فقط، بل مريديه وزملاءه في العمل وبالخصوص ياسبرس  مع من ربط علاقة صداقة إنسانية وفكرية، كانت ركيزة الاتجاه الوجودي في الفلسفة، كان هو وعيهما بأن ما حصل في أوروبا  حربان عالميتان مدمرتان  لم يكن إلا نتيجةً لمناخ فكري وسياسي، حيث كانت تتضارب المواقف الفكرية والمصالح السياسية، وإيمانهما العميق بإمكانية تحقيق بداية جديدة.

ما جمعهما فكريًا هو وعيهما بضرورة القطع مع التراث الموروث، كل بطريقته: آرندت بدفاعها عن فكرة ضرورة وصول أو نزول الفكر إلى العالم والاهتمام بالإنسان كإنسان في ضعفه وتجاربه ومِحنه؛ أي فلسفة سياسة جديدة. بينما اختار هيدغر الخطاب الفلسفي Gelassenheit، في اجتهاد منقطع النظير من أجل إنقاذ الفلسفة من براثن تقليد ميتافيزيقي، أضرّ بها أكثر مما خدمها، وتجديد عمل الجامعات.

ب – الهروب من وفي حبه، وكارثة النازية

هربت حنّة منه بعد سنتين تقريبًا (من ماربورغ إلى هايدلبرغ)، لكي تثير رغبته أكثر، لكنها كانت ترجع إلى ماربورغ كلّما طلب منها ذلك وناداها بالاسم المستعار الذي كان يطلقه عليها (حورية الغابة)، وكأنها كانت مجرورة مغناطيسيًا إليه، وهي التي كانت تلقّبه بـ (قرصان البحر). بعد ذلك أرادت أن تثير غيرته، عندما أخبرته بأنها تنوي الزواج من أحد تلامذته (غونتر شتيرن Günter Stern)، لكنه لم يحرّك ساكناً، بل تمنّى لها السعادة. وتمّ الزواج، ومع ذلك استمرت العلاقة بينهما، إلى أن انقطعت لمدة سبع عشرة سنة تقريبًا، بعد انضمام هيدغر إلى الحزب النازي، قبل أن يغادره من جديد.

ج – الرجوع إلى مصيدة الثعلب

في خريف 1949 رجعت حنّة إلى ألمانيا ولم تكن ترغب في مقابلة هيدغر على المستوى الواعي. قالت لزوجها شارحة: «لا أعرف ماذا أفعل، إلا أنني لا أعتقد بأنني سأذهب لأراهلا يعرف أنني هنا، وعلى كل حال، يتهيّأ لي بأنه لا يهتم بلقائي في هذه اللحظة». كانت إذن مشغولة به على المستوى اللاوعي، بحيث حصلت على عنوانه من هوجو فريدريك Hugo Friedrich، وفي يوم 7 شباط/فبراير 1950 كانت في فرايبورغ. التجأت إلى صديقتها ميري ميك كارثي التي كانت في باريس لتطلب منها أن تخبر هيدغر بأنها في فرايبورغ. لكن صديقتها أبتْ ذلك، وهذا ما دفعها إلى تكليف عامل في الفندق الذي كانت نازلة فيه، مقابل خمسة دولارات بأن يوصل رسالة لهيدغر، مؤكّدةً له أن يسلّمها له شخصيًا لا لزوجته أو لأي أحد كان، واعدة إيّاه بخمسة دولارات إضافية إذا نجح في المهمة.

ونجح عامل الفندق في المهمة وحضر هيدغر إلى غرفتها في الفندق، بعدما فقدت الأمل في حضوره، ووقف أمامها  والعبارة لها  مثل «كلب من فصيلة البودل». وهكذا بدأ كل شيء من جديد، إلّا أن زوجته كانت تعلم هذه المرة، إذ سبق له أن اعترف لها بالأمر.

ووقع ما لم يكن في الحسبان عندما اجتمعت ألفريدا وحنّة بحضور هيدغر، وكانت رغبة هيدغر هي أن تترسم علاقته مع آرندت بموافقة زوجته. لم يكن اللقاء سهلًا ولا رومانسيًا، بل متشنّجًا للغاية، ويمكن للمرء أن يتصوّر حالة هيدغر أمام «الإلاهتين المتصارعتين» على «الإيروس؛ أقدم الآلهة الإغريق». وتفيدنا الرسالة التي بعثتها آرندت إلى زوجها عن هذا اللقاء، بأنه لم يكن لقاء وديًا ولا حبيًّا: «لقد كان هناك هذا الصباح نقاش مع زوجته من جديد  وهي تعرف منذ 25 سنة بهذه القصة  وتجعل من حياته جحيمًا. وقد أنكر  وهو أكبر الكذّابين العنيدين  طيلة الخمس والعشرين سنة هذه  على الأقل هذا ما يتضح من مناقشة شاقة بيننا نحن الثلاثة  بأن هذا كان أكبر شغفٍ في حياته. أعتقد بأنني ما دمت على قيد الحياة، فإن زوجته مصمّمة على إغراق كل اليهود. لا يمكن للمرء فعل أي شيء، إنها سخيفة سوداء. لكن سأحاول أن أرتّب الأمور في حدود الممكن» (رسالة من حنّة آرندت إلى زوجها هانريك بلوخر بتاريخ 1950/2/8).

د – الفتوحات الإروتيكية الهيدغرية

كانت زوجة هيدغر متسلّطة كأخت نيتشه مع هذا الأخير. ومع ذلك وعلى الرغم من مغامراته الغرامية المتعددة، وعلى الرغم من أنها وهي متزوجة به حملت بابنها الثاني هيرمان من صديق شبابها الطبيب فريدل سيزار Friedel Ceasar عام 1919، وعلى الرغم من علمه بهذا: «لقد وصلت رسالتك في الصباح الباكر وكنت أعرف مسبقاً مضمونها. لا يفيد الحديث عن الأمر بإطالة واستفاضة وتحليل كل شيء بتدقيق في أي شيء. يكفي أنك قلتها لي بطريقتك البسيطة والأكيدة. لا أفهم بالفعل لماذا تقولين «ممزّقة» وأرفض أن أتوصّل بأي شرح شبه نفسيّ، لا لأن الأمر لا يهمني، لكن لأنني أريد ما أمكن أن تكوني لي بطريقة مباشرة. كون فريدل يحبّك، هذا أمر أعرفه منذ زمان طويل (…) لي ثقة فيك وفي حبك وبكل تأكيد في حبي لك  لكن لا أفهم مطلقًا  ولا أفهم من أية عين يرتوي حبك المتعدّد»، فإن حباً عميقاً كان يجمعها[2]؛ فإنها بقيت معه، قابلة على مضض أن تكون «رئيسة حبيبات زوجها». ولعل ما كان يشفع له هو أنه اعترف لها بخياناته المتعدّدة، وإرجاع ذلك إلى الإيروس Eros الذي يضربه بجناحيه كل مرة: «هناك شيئان لم أستطع أن أقولهما لك حتى الساعة بصراحة: من جهة، لا أعتبر حبّنا وزواجنا  بغضّ النظر عن الانطباع الذي قد يعطيانه  في بعدهما العملي فقط، أو في ما يحتويانه من راحة، لكنني على النقيض أعرف إلى أي حدّ يعتبر نشاطك وعملك، حتى في بعديهما الصغيرين وغير المرئيين، جزءًا من حياتنا معاً ومن فكري كشيء أساسي (…). من الصعب الحديث عن الشيء الآخر، الذي، بطريقة من الطرق، لا يمكن عزله عن حبّي لك وعن فكري. إنني أسمّيه الإيروس، أقدَم إله بحسب كلمات بارمنيد. لا أقول لك هنا شيئاً لا تعرفينه، لكنني لا أجد في الحقيقة البعد الذي يُمَكّنني من التعبير عنه بطريقة ملائمة (…) إن رفرفة هذا الإله تضربني كل مرة عملت فيها خطوة مهمة في تفكيري، ويقودني إلى المسارب غير الآهلة»[3].

عند تصفُّح كتاب «روحي الحبيبة»، الذي يتضمّن الرسائل التي كان يبعثها هيدغر  لزوجته، والتي نشرت مؤخّراً من طرف حفيدته (ابنة ابنه يورغ)، غيرترود، فإن المرء يكتشف بأنه كان مغامرًا إيروتيكيًا، فلم تكن له علاقة مع آرندت فقط، بل سبقتها طالبة شابة أخرى، إليزابيت بلوخمان Elisabeth Blochmann. وحتى وإن كان متزوجًا بألفريدا وله علاقة غرامية مع آرندت فقد كانت له علاقات غرامية مع أخريات، منها صوفي دوروتي فون بودفيلس Sophie Dorotheevon Podewils والأميرة مارغوت فون ساكسنماينينغن Margot von Sachsen-Meiningen، وأندريا فون هاربو Andrea von Harbou، وماريلينا بوتشر Marielene Putscher. ودخلت حياته دوروتي فييتا، زوجة صديقه إيغون فييتا Egon Vietta، والتي كانت تصغره بأربعة وعشرين عامًا، إلى أن انتهى زواجها بـالطلاق عام 1958.

أدّت هذه العلاقات إلى أزمة حادة بين ألفريدا وهيدغر، قرّرا على إثرها أن يعالج نفسه؛ وكأن الإيروس مرض نفسي عضال، وكان الطبيب النفساني هو فيكتور إيميل فرايهير فون غيبساتل Viktor Emil Freiherr von Gebsattel. لكن «الإيروس، أقدم إله يوناني» كان أقوى من الطبيب ومن الرغبة الجامحة لإلفريد، ليكون لها وحدها. فقد كانت مضطرة في شهر نيسان/أبريل من عام 1970 إلى الذهاب لإحضاره من ميونخ، بعد وعكة قلبية مع حبيبة من حبيباته، لتسهر على شفائه. ولربما كانت هذه آخر فتوحاته في مملكة «الإيروتيك».

لا يمكن تصوّر ما قاسته ألفريدا من جرّاء هذا النشاط الليبيدي المتدفّق لزوجها، وهذه الحيوية الغريزية العمياء له. لكن لماذا  وعلى الرغم من خياناته المتعددة في المكان والزمان  أصرّت على البقاء معه والاكتفاء بالتذمُّر والغضب؟ تقول في رسالة من رسائلها له عام 1956، لم ترسلها له أبدًا: «توجد في رسالتك الأولى كلمات من مجال سطحي جدًا من «الضعف» و«الاعتذار»، آه! لا! لن يستمر الأمر هكذا، إنني أعرف أفعالك، والشعلة التي أنت بحاجة إليها، لقد حاولت أن أسعدكلكن كون أنه من الضروري أن يكون كل هذا متّصل بـ «الكذب»، بل بالمعاملة السيئة غير الإنسانية لثقتي فيك، فإنني مليئة بالشكتقول دائمًا بأنك متعلّق بي، أين هو التعلّق؟ إنه ليس الحب، إنها ليست الثقة، تبحث في النساء الأخريات عن «الوطن»  آه يا مارتين  كيف هو حالي في هذه العزلة الجليدية. أفكّرت مرّة ما هي الكلمات الفارغة، الكلمات الجوفاء؟ ماذا ينقص لمثل هذه الكلمات؟»

هـ – «ترسيم» العلاقة بين الزوجة وحبيبة العمر

أصبحت العلاقة إذن بين «المتنافستين» على «الإيروس الهيدغري» رسميةً. وأصبحت اللقاءات بين آرندت وهيدغر تتم رسميًا، مرة بحضور زوجته ومرة من دونها، لكن كانت هناك لقاءات سرية بينهما. ولم يخل هذا الترسيم من غِيرة الجانبين، فها هي آرندت ساخطة على ألفريدا، التي كانت تعتـبرها غيـر مثقّـفة وغيـر مبـاليـة بمـهنة زوجـها: «من الضروري أن تتدخّل السيدة هيدغر في كل شيء، لقد نجحت في إركاب العالم كله على ظهره. ولا يعرف هو كيف يجب عليه أن يكون، ولا يكف عن التموّج، ويتظاهر بالمرض، على الأقل غضبًا». وتضيف: «لا أدري إذا ما كان باستطاعتي مساعدته على الاستقرار في السنوات القادمة. على كل حال، لقد حاولت. إنه محتاج للهدوء قبل كل شيء، ولا تتركه لحاله ما دمتُ موجودة»[4]. لكن هيدغر كان ملحّاً على ترسيم العلاقة، ولم يكن مستعدّاً للتضحية بزوجته. يقول في رسالة لآرندت بتاريخ 1950/3: «إنني محتاج إلى حبها، فقد تَحَمَّلَت في صمت لسنوات طويلة وبقيت مستعدة للتطور. إنني محتاج إلى حبك، الذي احتفظت به في نبتته الأولى كَسِرّ، وهذا ما جعله عميقًا». إذا أضفنا ما قاله له في رسالة يوم 24 نيسان/أبريل 1925، فإننا نفهم بأنه كان يحبهما معًا  لربما بنفس القوة -: «عندما سلّمتُ لكِ المخطوط اليوم، غمرتني فرحة عارمة، إلى درجة أنني أصبحت دون حيلة وعون. لقد سلّمت لك جزءًا من روحي، شيئًا قليلًا لحبك، وقد أتى شُكرك اللطيف على الأخضر واليابس داخلي».

قبلت آرندت إذن واقع الأمر ممن كانت تعتبره «الملك السري في مملكة الأفكار» وممن تضرّعت كي لا ينساها، وأكّدت له عام 1929: «سأفقد حقّي في الحياة لو فقدت حبي لك».

بعد الستينيات من القرن الماضي نكتشف وجهًا آخر لآرندت في علاقتها مع هيدغر. فقد أصبحت المنسّقة لترجمات كتبه إلى الإنكليزية في الولايات المتحدة الأميركية، بل ممثلة غير رسمية له في كل هذه الأمور، والحبيبة المقدّمة للنصيحة في أمور بيع مخطوطاته، والمتلهّفة للقائه في كل مرّة زارت فيها أوروبا، والمناقشة لأفكاره وأطروحاته. أما هيدغر، فيظهر وكأنه استفاق من سبات عميق، وبدأ يهتم بكتابات آرندت وبرامج عطلها وصحتها وينصحها بالعمل في هدوء، وينتظر كل مرة رجوعها من أميركا ليشربا نخب شكرٍ على رجوعها سالمة إليه.

ويبقى السؤال المحيّر هو: أي سرّ إذن يختبئ وراء استمرار العلاقة بين الاثنين على الرغم من كل هذه الاضطرابات والانقطاعات وخيبات الأمل. أساهمَ تصوّر آرندت للحب واهتمامها به في أطروحتها[5] في تعلّقها به بعماء نفسي وروحي؟ أي شيء أحبّت فيه وهو الذي يعتبر عند البعض كومةً من خيبة الأمل والرسوب والعناد وعدم الثقة، كما زعم المحلّل النفساني فيشر[6]. كان يريد في نظر هذا المحلّل أن يكون شخصية أخرى غير ما كان عليه في الواقع، لكنه لم يحقّق ذلك. حاول فيشر أن يجيب على سؤال: «أية نفسية يمتلك شخص كان يسلك هكذا؟ كيف كانت بنية أناه وبنية أناه الأعلى؟». قد تسجّل هذه الجلسة للتحليل النفسي الماراتونية لفيشر (أكثر من 800 صفحة) على حائط تاريخ الصراع بين التخصصات العلمإنسانية، وتُحضر إلى الذهن محاولة تخليص هيدغر الفلسفة من هيمنة السيكولوجيا العلمية/الوضعية، حتى وإن كان التحليل النفسي لا يدخل مباشرة في ميدان هذه السيكولوجيا.

ما هو أكيد هو أنه لا يمكن بحال من الأحوال إعارة أية أهمية تُذكر لمثل هذا النوع من «العلاج النفسي»، وذلك لاعتبارات كثيرة، أهمّها كون «المعالِج» خرج نهائياً من أحد أهم شروط العلاج، المتمثّل في سرية الجلسات، وثانيها كون «المعالَج/المريض» غائب فعلياً. ليس لأي تحليل نفسي بَعْدي في غياب المعنيّ بالأمر والمؤسّس على التوثيق أية قيمة طبية/علاجية، بقدر ما هو شطحات بهلوانية لـ «نصف» علماء. ينطبق نفس الشيء على من حاول ذلك في ثقافات أخرى، ومنها الثقافة العربية[7].

و – مفهوم الحب عند هيدغر وآرندت

إن تبادل الرسائل بين حنّة آرندت ومارتين هيدغر يشبه إلى حدّ ما طريقًا سيارًا يدور حول مدينة كبيرة، ولهذه المدينة مداخل عدة آهلة بالأفكار والعواطف، حاولت تخصّصات فكرية وإبداعية كثيرة أخذ المخرج الذي يلائمها لسبر أغوار هذه المدينة، وظلّت الفلسفة غريبة نوعًا ما عنها، لم يتجرّأ على دخولها حتى الآن، أي فيلسوف، إلا إذا استثنينا بعض الشذرات من هنا وهناك. لم يحاول أي فيلسوف بناء نسق فلسفي على الرمال المتموّجة والسراب الحارق الوهّاج والأهوج للحب كمطلب حياتي وجودي، وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل المفكرين والفلاسفة يتحدثون عن الحب بحذر كبير، حتى وإن كان بعضهم قد عاش قصص حب كادت أن تذهب بعقولهم. إذا كان باسكال قد قال ما معناه أن للقلب عقلًا لا يعرفه العقل؛ فقد نقول بأنه لربما للحب عقل لا يعرفه القلب. ونقترب هنا كثيرًا مما قاله أفلاطون في كون منبع الإيروس والفلسفة واحد.

ما قد يهم الفيلسوف في اهتمامه بأفكار هذه الرسائل لن يكون شيئًا آخر غير «مفهوم الحب» نفسه في بعده الفلسفي المحض. باستثناء رسالة أطروحتها، لم يخصص لا هيدغر ولا آرندت أية دراسة قائمة بذاتها للحب كنشاط فلسفي. لا يتعلق الأمر إذن بنسق فلسفي قائم بذاته في أعمالهما، بل بما يمكن للمرء أن يستشفّه على ضوء هذه الرسائل، ومن خلال الشذرات الكثيرة في ما نشراه في كتابات أخرى. إن الحب ليس دافعًا غريزيًا، وإيروتيكيًا عندهما فقط، لكنّه ذو تأثير بنيوي في تفكيرهما.

عندما يتمعّن المرء بأناة أسلوب هيدغر في رسائله إلى آرندت، فإنه يكتشف بأنه يعطي لمفهوم الحب معاني كثيرة، لها علاقة قوية بموقفه الفلسفي الأساسي: حب الآخرين Liebe zum Anderen، والحب كإرادة عارفة Liebe als wissender Wille، والحب كحدث Liebe als Ereignis، وحب الكينونة Liebe zum Sein وأخيراً الحب كسماح بالكينونة Liebe als Seinlassen .

بما أن هيدغر كان يطمح إلى هدم الميتافيزيقا التقليدية، فإن هذه المعاني  لنقل ميادين الحب  كانت هي سلاحه ليزعزع تصوّر أغسطين للحب في مضمونه المسيحي المعتّق. لكنه يسقط في كل هذا في تحديدات متناقضة للحب كرغبة وكإرادة للوجود/الكينونة. عندما يفهم هيدغر الحب كإرادة، فإنه يعتقد بأن من يفكّر في هذه الإرادة قد يتفاجأ بأنها قد تصبح واقعاً وتدخل في حقيقة وجوده. لكن الإرادة المفهومة بهذا الشكل لا تعني أنها آلة تصعيد، ولا يجب أن تقود إلى الخضوع الأعمى. ومن المعروف أن التعبير القوي للإرادة العارفة عنده، يجد جذورها في مقولة أغسطين: «Voloutsis»، والتي يعطيها دائمًا ترجمات معدّلة: إنني أريد أن تكون، أن تصبح، ما هو أنت. ويقود هذا إلى «الإخلاص Hingabe» و«السماح Seinlassen»؛ وهما مفهومان متناقضان في العمق. يصبح «الإخلاص» هدية للآخرين. ولعل الأمر يتعلّق هنا بصياغة معادة لـ «إنني أريد أن تكون، من أنت وكيف أنت»، طالما أن الهدية للآخرين تتمثّل في: «الإجابة بالإيجاب عن وجوده هكذا Sosein وعن Daβsein». وقد سمّى هيدغر هذا بـ «اللامبالاة الميتافيزيقية» للحب الذي لا يمكن أن يكون ممكنًا إلا: «على الأساس الداخلي، والعمق الجوهري، لوجود الحرية». إننا نحرر أنفسنا بأنفسنا بـ «عتق ما له كرامة في ذاته». وهنا نلمس إلى حدّ ما مفهوم الباتوس الأرسطي. والنتيجة هي أن الحب لا يبرهن على نفسه كشكل من أشكال الوجود مع Mitsein، الذي لا يتصارع داخليًا مع الفعلي الخاص، لكنه يتيح هذا الأخير.

إذا كان حدثُ الحب هو دخول الجديد في الكينونة، وإذا قُدّم الحب كـ «حالة طوارئ»، فإن الذي يفاجئ هو كون الجانب المهدّد لهذا الدخول  أي أن التصعيد الذاتي للذات يهدد  لا يدخل مجال الرؤية/المراقبة، أو كما عبّر هيدغر  نفسه على ذلك في إحدى رسائله لآرندت: «لا توجد هناك نفس يمكنها أن تتحكّم في دخول حضور الآخر في حياتنا»، ولهذا السبب، فإنه ينصح بالاحتفاظ بهذا الحدث في الذاكرة. إلى هذا الحدّ، يمكن اعتبار تفكير هيدغر في الحب، من خلال رسائله لآرندت، بمنزلة مقدّمة طليعية لفلسفته بعد الانعطاف die Kehre. ويعني هذا بأن تجربة الحب تعبّر عن نفسها عنده من خلال رسائله تلك، وهي تجربة لا توجد في كتاباته المتقدّمة، وهي التي تعبّد له الطريق في ما يخصّ مواقفه الفلسفية المتأخرة.

يتأسس مفهوم الحب عند هيدغر بحسب كريستيان سومر Christian Sommer في الكينونة والزمن على تعاليم أرسطو، ولوثر وعلى مصادر العهد الجديد[8]. ونلمس هذا في دراسة هيدغر حول أرسطو وأغسطين بين 1920 و1926، وهي دراسة تسمح بفهم جيّد بأن الأمر يتعلّق في الكينونة والزمن بمفهوم الحب. وحتى إن كان هيدغر لا يستعمل كلمة «حب» مباشرة وصراحة، فإنه يشير إليها ضمنياً بمصطلحات مثل «الاهتمام» والعناية، والوجود مع الآخر والممتاز والجيّد. ويعتبر الاهتمام حبًا بالأساس. أن يحب المرء، معناه الرجوع إلى الكينونة الأصيلة في ذاتها. لا يعفي الحب المحبوب من الهموم، بل يحمل هذه الهموم له، ذلك أن قرار حب شخص ما هو قرار يفتح الطريق للمرور من الاهتمام إلى الهمّ، وهذا الأخير هو بالنسبة لكل وجود هنا Dasein كينونتُه ذاتها. إن الهمّ ليس همًّا للذات، بل إنه هو بالضبط ما يحرّر الذات.

في محاضرته المخصّصة لأغسطين والأفلاطونية المُحدثة، يقول هيدغر معلقًا على أغسطين: «للحب الحقيقي ميل أساسي للتوجّه نحو الـ «dilectumutsit» ويضيف في «فلسفة الحياة الدينية، ص 333»: أن هدف الحب الذي نتقاسمه في العالم المعتاد هو مساعدة الآخر الذي نحبّ للوصول إلى الوجود، بطريقة يجد فيها نفسه بنفسه». وهنا نلمس من جديد محاولة هيدغر «هدم» المفهوم الأغسطيني وتحريره من الدين، بذهابه مباشرة إلى مفهوم dilectio لأغسطين، لأن حبّ الآخر عند هذا الأخير لا يمكن أن يتمّ كحب حقيقي إلا على أساس الـ dilectioDei. وهذا الحب الذي يحرّر ويعتق المحبوب من استبداد «الْمَانْ man (أحد ما)» ويرجعه إلى قوة وجوده، هو في نفس الوقت هدم للفيليا[9] philia الأرسطية.

من خلال ما قيل، يمكن التأكيد أن محور تصور هيدغر للحب ليس هو الآخر في اختلافه Anderssein الفعلي، لكن اختلافه هو (أي هيدغر). ما هو أكيد هو أن «الحب الراعي» عند هيدغر متطابق مع تذكار الكينونة An-Denken des Seins. وبهذا يصبح التفكير والحب أشكالًا مختلفة لكون: «الإنسان هو راعي الكينونة». إضافة إلى هذا، فإن حب هيدغر لا يعني إنسانًا محدّدًا، بل الالتقاء عند الحقيقة.

إذا كان تفكير هيدغر في الحب يعكس إجاباته المختلفة حول إشكالية معنى الكينونة، فإن آرندت تنطلق من الإشكالية الخاصة لمكان الحب، الذي لا يعتبر عندها السياسة فقط. إن «الحب كوجود بين البشر» هو البديهية التي تؤسّس عليها آرندت مفهوم الحب، وذلك يعني أنها ترفض تقليص الحب إلى سعادة فردية ذاتية. إن الحب بالنسبة إليها ليس إحساسًا إراديًا، بل «حدثًا Ereignis» يمكن أن يقع لشخص ما. إلى هنا نلمس التوافق بين آرندت وهيدغر، لكنه توافق ظاهري فقط، ذلك أنها اهتمت نقديًا في أطروحتها عن أغسطين بمفهوم «حب الآخر» في معناه المسيحي. وقد قادها اهتمامها بأغسطين إلى اكتشافٍ بقي في الظل يتمثّل في تأكيدها بأن أفكار الكينونة والزمن متأثّرة إلى حدّ بعيد بالأغسطية. والنتيجة هي أن ما يجمع هيدغر  وأغسطين هو «التركيز على الذات في ثوب ميتافيزيقي»، وإذا فهم المرء الأمر هكذا، فليس هناك عندهما حبّ للآخر، بل حب للنفس. وبهذا ترى آرندت بأن ما يجمع هيدغر وأغسطين هو «الأنانية في ثوب ميتافيزيقي»؛ يعني أن المحبوب ليس هو الشخص الآخر، بل الحب ذاته. تقول في هذا الإطار: «لا أحبه هو، لكن شيئًا فيه، ليس موجودًا فيَّ».

اهتمت آرندت في تعرّضها لمفهوم الحب[10]، بما اهتم به هيدغر أيضًا، ويتعلّق الأمر بـ «volo, utsis»، وأعطته معنيين احتمالين: قد يعني هذا: أريد أن تكون كما هو أنت بالفعل/في الواقع/حقيقة، بحيث إذا كنت أنت في جوهرك، فإن هذا ليس حباً، لكنه إدمان على الرغبة في التسلّط. لكن يمكن أن يعني هذا كذلك: أريد أن تكون كما كنت، يعني عارفاً، لك ثقةإلخ.

بالفعل، فقد كان لحنّة آرندت تصوّر خاص عن الحب: «إن الحب من طبيعة غريبة عن العالم، ولهذا السبب، لا بسبب قِلَّتِهِ، فإنه ليس غير مُسَيَّس فقط، بل ضد السياسة، وقد يكون أقوى من كل القوى الضد سياسية»[11]. وتضيف: «إن الحب لا يهتم بما قد يكونه الشخص المحبوب، بمزاياه ومساوئه كما بنجاحاته»[12].

هذا التصوّر الذي قد يسمّى «الحب من أجل الحب»، بكلّ تجلياته الروحية والوجدانية والنفسية والغريزية إلخ في أسمى معانيها الإنسانية هو ما جعل آرندت تهيم حبًا وعذابًا في هيدغر، وهو حب خدوم، وفاهم وشكور: «علّمني هيدغر أن أرى العالم وأفهمهلقد قادني إلى ذاتي نفسها. وينطبق هذا على التفكير وعلى الإحساسلقد أيقظني هيدغر في كل المعاني للحياة». وتضيف: «إنني مدينة لهيدغر بكيف أنا وكما أنا، إنني مدينة له بكل شيء»[13]. هذا ما قالته لصديقتها الحميمة الكاتبة ميري ميكِ كارثي Mary McCarthy.

ز – تبادل الرسائل كتتمّة لفهم فكر هيدغر

قد يدخل مفهوم الحب في إطار محاولة تصدّي هيدغر للعدمية المحقّقة، التي اختزلت الحب في ممارسة جنسية مفتوحة، وتستغلّه كسلاح الدمار الشامل. ونلمس هذا في رسالة لزوجته يخبرها فيها عن الحياة في برلين: «لقد قُمنا أمس بشيء خاص، ذهبنا إلى برلين ولاحظنا حيوية شارع فريديرك  وقد خانتنا الشجاعة في الذهاب إلى مقهى ما  رجعنا في الساعة الحادية عشرة والنصف، مستائين معاً  أعتقد بأننا لم نر إلا الواجهة  لكن ما رأيناه كان حمقًا لم أر له مثيلًا. لم أكن أعتقد بأن هذا المناخ الجنسي الاصطناعي المدفوع إلى أعلى درجة من عدم الاحتشام والاستحسان ممكنًالقد فقدَ الناس هنا أرواحهم  ليس للوجوه أي تعبير مطلقًا  على الأكثر لها تعبير عدم الاحتشام  ولا يعرف هذا الانحلال أي جموح»[14]. إذا سلّمنا بذلك، فإننا نكون في عمق ما يمكن أن نتعلّمه من تبادل الرسائل بين آرندت وهيدغر عن فكر كل واحد منهما، وبالخصوص إكمال معرفتنا بهيدغر. ما نستشفّه في هذا الفكر، هو أنه لا يمكن قبول أي شيء في ومن الزمن الذي نعيشه من دون تأمّل الخطّ الذي يفرّق بين العالم القديم والعالم الجديد. طبقاً لهيدغر، يجب تركيز التفكير على خطّ التماس هذا، لا على ما ورائه أو ما تحته. وهذا التركيز هو الذي يضمن لنا عدم تخطّي هذا الخط الفاصل. لا يتعلق الأمر إذن بفاصل زمكاني، بل بتعيين الحدود. فالكينونة لم تغب وتُضمر في تاريخ التفكير على مرّ العصور، كما غابت في عصرنا. وهذا الخطّ الفاصل هو العدمية، كما يقول هيدغر: «إن ميدان العدمية المكتملة، يرسم الحدود بين عصرين للعالم». لم تكن القوة في العالم القديم، في نظره، تقود إلى الهدم والمراقبة، ففيه تطوّرت أعمال الجمال والحقيقة. أما العالم الجديد، حيث تطوّرت الأخلاق النفعية وخضعت لعقلنة حمقاء، فإنه تحقّق في الهدم.

تحذّر طريقة التفكير الأنطوثيولوجية من مغبّة السقوط، ونحن نفكر على الخط نفسه، في تمجيد/الحنين إلى الماضي أو الاعتقاد اللامحدود في مستقبل زاهر، أو حتى أخذ مكان يانوس Janus الأسطوري، الذي كان له وجهان، يمكِّنانه من رؤية الماضي والمستقبل. ذلك أننا لا نتخلّص بهذه الطريقة من براثن العدمية، بحيث إن الهروب إلى الوراء أو إلى الأمام، يحرمنا من التفكير في هذا الخط الفاصل بينهما. لذا، على كل فيلسوف  شاعر أن يقف على نقطة الصفر، لكي يُسائل جوهر العدمية عوضَ محاولة الهروب، لأن هذا الأخير هو في نظر هيدغر خطأ لا يُغتفر.

كيف يمكن إذن المحافظة على وجهي اليانوس Janus، من دون هدم واحد على حساب الآخر؟ يجيب هيدغر في كتاباته المتعدّدة، بأنه لا حرج في الرجوع إلى العقل، لكن شريطة أن يتساءل المرء من جديد عن عقل العقل. وأول ما يجب القيام به هو ليس التعرف في هذا التجلي أو ذاك للعالم على جوهر العدمية فقط، لأن ذلك يقودنا مباشرة إلى الدائرة المغلقة للعدمية، وبالتالي إلى التهلكة. إن العقل الأداتي النفعي، السائد في العالم المعاصر، لا يقبل بأية طريقة من الطرق الاستغناء عن التعاريف وعن التمييز. إن هذا العقل يحتفظ في ذاته بهذا السلاح، لكنه ليس سيد هذا السلاح، وبهذا فإنه محروم من حقّ امتلاكه، وهذا ما يعبّر عنه هيدغر بحرمان العقل المعاصر من الدقة الأنطوثيولوجية.

إذن، إن التركيز على الخط في حدّ ذاته هو التعرّف على مواطن إخفاق العقل. ولا يعني هذا الإخفاق السقوط في اللاعقل، بل اعتبار العقل واللاعقل شكلين للخرافة، التي تعني العلامة التي تعيش بعد اختفاء المعنى. وكالخرافة الدينية التي تسجن الثيولوجيا في جهل فضيلة الشفاعة لرموزها الخاصة، فإن الخرافة العقلانية تسجن العقل في جهل أصله/مصدره ومصيره وتقوقعه في جنونه الخاص في التنطيم. وما ينبِّه له هيدغر بوضوح هو الانتباه إلى أن المرء في أغلب الأحيان لم يعد قادراً على التمييز العقلي واللاعقلي بطريقة دقيقة، ولهذا يُتّهم التفكير بتهمة عدم تمكّنه من البقاء خارج منطق الاختيار بين إما وإما، أي بين العقل أو اللاعقل.

على من يركّز على الخط الفاصل بين الماضي والمستقبل، بين العقل واللاعقل أن يهتم بجمع ما بين الرموز intersignes، التي لا تخضع لسيطرة لا العقل التنظيمي ولا اللاعقل. وتظهر أكبر صعوبة عندما يرفض التفكير اقتراحَ بديل ويرفض الحل الوسط. إذن، لا يجب التركيز على منطق إشفائي يهتم بالأعراض والأسباب، بل من اللازم أن يُنصب التركيز على نية المعافى، الذي لم يجد له هيدغر أية تسمية غير التأمّل والصلاة، وملء هاتين الكلمتين بمعنيين جديدين.

إن التركيز على الخط الفاصل الهيدغري يفتح للعقل الذي يتساءل عن إمكانيته الذاتية آفاقاً ليست لها أية علاقة بالماضوي، بل إنه نوع من عدم رفض الرؤية. ومن بين ما رآه هيدغر أن الإنسان المعاصر، الذي لا يؤمن إلا بفردانيته وجسده، لا يهمّه شيء آخر غير أمن جسده، ولم يعد يميّز بين الأحياء والأموات. ويتجلى هذا في عدم تأثّره في عصر «العقل والديمقراطية والتقدّم» بقتل الملايين من البشر، بقدر ما تؤثّر فيه حرب قديمة. فروح العدمية بهذا المنطق لا تعمل على هدم نفسها، بل على هدم الآخرين، لأن النزعة الفردانية، التي تحوّلت إلى أنانية عدوانية للعدمية المجرّدة  حتى في العقل الوضعي التنظيمي الذي يعتبر ابنها الشرعي  هي النتيجة المنطقية التي أوصلت إليها العدمية. وهذا مغاير تمامًا لمنطق أباطرة الصين القدماء، الذين كانوا واعين بأن أسلحتهم هي أكبر عدو لهم.

طبقاً لهيدغر، فإن المُرَكِّز على الخط الفاصل لن يجد مأمنًا له إلا في المكان الذي يكون فيه أكبر خطر. وهذا الخطر بالذات هو الذي يقود ويحفّز على طرح سلطان الأسئلة، المتمثّل في إشكالية الطريقة التي قد تمكّن من الخروج من المأزق الذي أوصلتنا إليه العدمية.

قد يكون تجاوز الميتافيزيقا من بين الحلول لهذه الإشكالية، على الرغم من أن هذا المطلب المُلحّ لهيدغر فُهم خطأً، وبالخصوص من طرف بعض الفرنسيين، وبالأخصّ الماركسيين منهم، لأن تجاوز الميتافيزيقا عند هيدغر، يعني في آخر التحليل تتويجاً لها، لأن ما كان يهمه لم يكن التحرّر من الميتافيزيقا، بل تحرير الميتافيزيقا، بوضع الكينونة تاجاً على رأسها. لا يعيب هيدغر على الميتافيزيقا كونها تتساءل عن الجوهر، لكنه يفرض عليها أن تتساءل عن جوهر استعمالها الخاص للعقل. في مقابل الميتافيزيقا الثيولوجية والعلمإنسانية والدياليكتيكية والتقنية والمادية الماشية للاندثار، يتساءل هيدغر أساساً عن هذا الاندثار نفسه. هناك إذن بحسب هيدغر طريقان لتجاوز الميتافيزيقا في معنى تتويجها: الأول من التحت (المادية) والثاني من الفوق، وهو الذي يهتم بالتتويج.

ن – عن الترجمة

استغنينا في هذه الترجمة عن الصور المرفوقة لصعوبة الحصول على الإذن باستعمالها من مالكيها الأصليين واكتفينا ببعض الصور لحنّة آرندت ومارتين هيدغر المأخوذة من الإنترنت والمسموح باستعمالها. كما استغنينا عن ملحق أورسولا لودتس Ursula Ludz التي جمعت هذه الرسائل لدار النشر فيتيريو كلوسترمان بفرانكفورت أم ماين، لعدم ضرورته. لم نترجم كذلك بعض الوثائق الإضافية لهيدغر وبعض أشعار آرندت، التي أضافتها لودتس في نهاية الكتاب بعد ملحقها، لكي لا نثقل على القارئ العربي.

تقنيًا، تمّت الترجمة على مرحلتين، التصقنا في الأولى منها بالنص حرفيًا تقريبًا، لأن ذلك يضمن بقاءنا أوفياء لمضمونه، أو كما قالت حنّة آرندت في رسالتها بتاريخ 29 نيسان/أبريل 1954 لهيدغر: «إن السيد روبنسون يحاول باستمرار البقاء أكثر ما يمكن وفياً للنص. إنني متأكدة بأن الترجمة لا يمكن أن تنجح إلا بهذه الطريقة، ويغبطني بأن السيد روبنسون قد اختار الطريق الصعب على الطريق السهل». أما في المرحلة الثانية، وهي ما يمكن أن نصطلح عليها مرحلة الغربلة، فقد عملنا على تطويع بعض العبارات بالألمانية لكي تؤدّي المعنى المطلوب بالعربية، وخاصة في ما يتعلّق بلغة هيدغر المعقّدة، بالمقارنة مع طريقة وأسلوب حنّة آرندت. ما أغبطنا في غِمار هذه الترجمة هو أننا نعيش في نفس المناخ الجغرافي واللغوي، حيث عاش هيدغر، بل في المدينة النمساوية (فيلدكرخ)، حيث بدأ دراسته الجامعية في اللاهوت، قبل أن يغادره.

على الرغم من أننا لا ندّعي الكمال، فإننا نتمنّى أن تقدّم هذه الترجمة خدمةً لكل المهتمين في العالم العربي والإسلامي بآرندت وبهيدغر، لأن لتبادل الرسائل بينهما  وكما سبقت الإشارة إلى ذلك  قيمة إضافية لفهم، لا علاقتهما الغرامية فقط، بل وقبل كل شيء فكرهما.

حميد لشهب

النمسا

في أيّار/مايو 2014


[1]  في ميدان السينما قامت مارغريتا فون طروطا Margarethe Von Trotta بإخراج فيلم عن حياة حنّة آرندت، متطرّقة إلى علاقتها بهيدغر.

     في ميدان الأدب العديد من الروايات التي قاربت هذا الموضوع منها بالولايات المتحدة الأميركية، ورواية لكاترين كليمون: «مارتين وحنّة» Martin et Hannah, par Catherine Clément. Roman, Éditions Calmann-Lévy.

       في ميدان المسرح: مسرحية من إخراج كاتا فودور Kate Fodor في أميركا عام 2004. مسرحية تفاهة الحب Banalität der Liebe من إخراج سافيون لبريخت Savyon Liebrecht. «غول حنّة» LE DÉMON DE HANNAH, de Antoine RAUL, mise en scène Michel FAGADAU, assisté de Nathalie HANCQ. هناك أيضًا مسرحية: Un rapport sur la banalité de lamour. Hannah Arendt et Martin Heidegger, histoire dune passion de Mario DIAMENT au THEATRE DE LA HUCHETTE 23 RUE DE LA HUCHETTE 75005 PARIS Du lundi au vendredi à 21h15 et le samedi à 16h30 à partir du mercredi 24 avril 2013.

[2]  Gertrud Heidegger (Hg.): «Meine liebes Seelchen».«Briefe Martin Heidegger an seine Frau Elfriede 1915-1970». Deutsche Verlagsanstalt, München.

[3]   نفس المرجع السابق.

[4]  رسالة من حنّة آرندت إلى زوجها هانريك بلوخر بتاريخ 13/6/1952

[5]    كان موضوع رسالة دكتوراه آردنت، تحت إشراف كارل ياسبرس بجامعة هايدلبيرغ، هو «مفهوم الحب عند القديس أغسطين».

[6]  هيدغر على سرير التحليل النفسي.

[7]  مثلًا العفيف الأخضر في كتابه: من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ.

[8]  أدخلت المسيحية في مفاهيمها مفهومًا إغريقيًا قحًا هو «الأغابا» Agape (griech. αγάπη; lat. caritas)، وهو يعني الحب الموحى من الله، لا لحب الذات. وهو نقيض الحب الإنساني الذي كان يعبر عنه بالإيروس Eros أو Storge أو Philia، وتعبّر هذه الأخيرة عن الحب الموجود في الصداقة. أما أغابا فتعني حب الرفاهية للآخر ولا تتأسس في المقام الأول على الشهوة وهدفها ليس افتراض علاقة صداقة. قد يقول المرء: يتعلّق الأمر فيه بالحب من أجل الحب. على النقيض من هذا، فإن الإيروس يتميّز بالبحث عن جذب موضوع الحب أو الشخص المحبوب إليه. ليس من الضروري أن يكون موضوع الإيروس شخصًا معينًا، بل قد يكون بالنسبة للفيلسوف شيئًا روحيًا مثل فكرة ما أو فضيلة معينة إلخ. كان للإيروس عند الإغريق القدامى علاقة بالسياسة، فلم يكن شيئًا خاصًا بين محبين، بل كان يعني حبَّ الوطن.

        ونجد في اللغة العربية كلمات كثيرة في هذا الميدان: كلمة الحب والهوى والغرام والولَه إلخ. وتبقى كلمة «حب» قريبة من مفهوم أغابا؛ لأن الحب بين شخصين في الإسلام، والذي تكون نتيجته الزواج أو التزاوج بينهما، لا بد أن يقود إلى حب الله. فالزواج ليس شرطًا للحب، بل نتيجة له، إذا تحرّر من الغرام والهوى اللذين يقتربان من مفهوم الإيروس الإغريقي.

[9]  فيليا (Philia (griechischφιλíα philía، وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، هي عند الإغريق القدامى الحب الذي يجمع بالصداقة. وقد تعرض إلى هذا النوع من الحب فلاسفة كثيرون من بينهم ليسيس Lysis و أفلاطون وأرسطو، الذي خصص لها مكانًا خاصًا في الكتاب الثامن والتاسع لـ Nikomachischen Ethik وأكّد بأن لها أشكالًا ثلاثة.

        – الفيليا المؤسسة على تبادل المصالح: أعطيني، أعطيك أو آذيني أوذيك. وهناك جمل في الحياة العادية تعبّر عن هذا النوع من الحب المشروط: أحبك، إذا كنت تريد أن تتزوجني. أو أحبك، إذا كان بإمكانك أن تصرف علي. أحبك إذا لم تخن.

        – الفيليا المؤسسة على الإشباع الغريزي المتبادل.

        – الفيليا التي تتخذ جذورها من الاعتراف المتبادل بالآخر، ويعتبر أرسطو هذا النوع من الحب حبًا حقيقيًا ويتضمن النوعين السابقين للفيليا. إذن، إنه أسمى أنواع الحب في أخلاقه.

[10]   في رسالة أطروحتها، التي اشتغلت عليها تحت إشراف كارل ياسبرس، تُميّز آردنت في مفهوم الحب عند أغسطين بين:

   – أمور (amor (ἔρως؛ الذي يتأسّس على الرغبة أو الاشتهاء (appetitus)، وهو الحب الدنيوي الذي يبحث باستمرار على الإشباع، لكنه لا يحققه أبدًا، ولا يتحقق إلا سلبيًا على الرغم من حبه للعالم.

    – حب الله (caritas (ἀγάπη؛ التواق إلى الوصول إلى الخير الأسمى summumbonum، ومن طريقه أو من خلاله إلى السلم والراحة الفردوسيين، لكنه حب تربطه بالعالم علاقة متشنجة.

     – حب الآخر (dilectio (στοργή؛ أو حب القريب (dilectioproximi).

       وعلى الرغم من كل هذا، فإن مفهوم الحب هنا لا يدور حول الله وعلاقة البشر به، بقدر ما يركز على:

     – العالم وحقيقة العالم.

     – العلاقة المتوترة للفرد مع العالم.

     – إشكالية العيش سويًا أو معًا Mitsein ومع الآخرين في العالم.

       وبهذا، فإن آردنت تدور في فضاء الفلسفة الوجودية كما نجدها عند ياسبرس وهيدغر، وفي فضاء فلسفة الدين كما نجدها عند بولتمان.

[11]   Hannah Arendt Condition de lhomme moderne.

[12]   نفس المرجع.

[13]  انظر: الفتاة الغريبة، Joachim Fest, Der Spiegel, 38/2004

[14]  رسالة من هيدجر إلى زوجته، بتاريخ 21 تموز/يوليو 1918.