مجلة حكمة
جوردن بيترسون

جوردن بيترسون ليس بالبطل ولا هتلر: تفاهة فكر بيترسون

الكاتبتيم بلاك
ترجمةسارة المديفر

إن الحروب الثقافية هي من كونت جوردن بيترسون، وسيبقى جوردن بيترسون بدونها مجرد أستاذ علم النفس في جامعة تورنتو، وسيحظى بشعبية كبيرة بين طلابه وبتقدير كبير، لا سيما في مجال تخصصه -علم نفس الشخصية- ولن يعرفه الكثير بعيدًا عن هذه الأوساط الأكاديمية.

لابد أن البعض قد سمع عن كتابه الذي نشر عام ١٩٩٩ -خرائط المعنى- وهو محاولة نموذجية راقية تكشف عن البنية السردية الشائعة والنماذج الدرامية التي توجد في القصص والأساطير العالمية، على غرار كارل يونغ وملهم سلسلة حرب النجوم جوزيف كامبل. ولكنها محاولة معقدة حتى بالنسبة للمتخصصين.

أما بالنسبة لميول جوردن بيترسون السياسي فلن يهم الكثير، وبصرف النظر عن ميوله الشبابي للاشتراكية عندما كان طالبًا في جامعة ألبرتا، دائما ما اعتبرت وجهات نظره ليبرالية في الأساس ومحافظة قليلا.

الحرب الثقافية وجوردن بيترسون

لكن تصاعد الحروب الثقافية خلال العقد الماضي غير كل شيء بالنسبة لشخصية مثل جوردن بيترسون. هذا الهجوم الرتيب الحاد الذي أطلقته النخب الثقافية والتعليمية الغربية ضد ما يزعمون أنه عادات رجعية وقيم دنيا، حوّل نزعته المحافظة إلى معارضة متطرفة، فلم يعد محاضرًا في الخمسينات من عمره ومفسرًا غريب الأطوار. لقد أصبح الآن رجلًا ذو شعبية، حيث يقف مع الأغلبية الصامتة ضد النخب المتنورة. مما يعني أنه في أعين من يتحداهم فاشيا.

بدا الأمر وكأنه قد حدث بين عشية وضحاها. ففي عام ٢٠١٦، وكجزء من قانون سي-١٦، قامت الحكومة الفيدرالية الكندية باستعراض إضافة الهوية الجنسية والتوجه الجنسي إلى قانون حقوق الإنسان الكندي، فاعترض جوردن بيترسون علنًا وادّعى أن هذا القانون سيجبره على استخدام ضمائر محايدة بين الجنسين وسينتهك حقه في حرية التعبير. لقد كان تدخله هذا مثيرًا للجدل ولكنه كان في الوقت المناسب تمامًا. وبسبب التضييق الذي شعر به الكثيرون عندما بدا أن تغيير العادات اليومية واللغة قد أتى من المؤسسات العليا، فقد تفاجأوا بهذا الصوت الواثق والداعم لهم. وكما قال جوردن بيترسون في كتابه الجديد (ما وراء النظام  Beyond Order): “إن ما أقوله وأكتبه يعطي الناس الكلمات التي احتاجوها للتعبير عن ما عجزوا عن التعبير عنه”.

ومنذ تلك اللحظة فصاعدا، لمعت صورة جوردن بيترسون. فالملايين يشاهدون محاضراته على يوتيوب والتي جمعت بين تطوير الذات والنقد المناهض للماركسية أو ورثتها وما بعد الحداثة والنسوية. كان أداءه الواثق والحازم في المناظرات التلفزيونية والإذاعية مقنع جدا. والمذهل أن مبيعات كتابه الثاني (١٢ قاعدة للحياة) الذي نُشر في يناير ٢٠١٨ قد وصلت إلى خمسة ملايين نسخة. وهو ما يزيد بنحو ٤,٩٩٩,٥٠٠ نسخة عن كتابه الأول الذي نشر قبل عقدين.

12 قاعدة للحياة

الغريب في الأمر عندما ننظر للخلف، هو مدى الابتذال في كتابه (١٢ قاعدة للحياة). كان الهدف الشامل والمسلم به في الكتاب هو أن الناس يجب أن يتحملوا مسؤولية حياتهم. لقد لمع مع تلك الفكرة لمعانًا وجوديًا، وملأ جمله النثرية بـ “العمق” و “الرهبة”، وحث الإنسان المثالي على مواجهة طبيعته والاعتداد بأقصى حدوده الإنسانية. لكن جوردن بيترسون عالم نفس إكلينيكي ويتبع مدرسة العالم النفسي يونغ. نظرته للعالم علاجية في الأساس. فحديثه عن أهمية تحمل الناس مسؤولية حياتهم ومواجهة “الفوضى”، ما هو إلا توجيه نفسي نحو فن الشعور بالرضا عن النفس. وقد تضمنت توجيهاته لرفع الثقة بالنفس بعض الدرر مثل “قف مستقيمًا رافعا كتفيك” و “قل الحقيقة أو على الأقل لا تكذب” و “داعب قطة عندما تصادف واحدة في الشارع”.

لكن أولئك الذين اشتروا كتابه لم يهتموا. بعد فترة طويلة من الشيطنة الناتجة عن التصنيفات “المذهبية” المتنوعة، وسواء كانوا من العرق الأبيض أو ذكورًا أو ذي ميول جنسي مغاير، لم يكن هدفهم الثورة بل أرادوا التأييد. وهذا ما قدمه جوردن بيترسون بوفره، بطريقته الواثقة ذات الطابع الرسمي، فقد أكد سلامة أفكارهم وأنه بقليل من التطوير يمكن أن يكونوا أفضل.

تفاهة بيترسون

ولكن بقدر ما تلقى من الإشادة، على الرغم من تفاهة ما يقدمه، فقد تعرض أيضًا للهجوم. كما في “مقابلته” الشهيرة في عام ٢٠١٨ على القناة ٤ الإخبارية مع المذيعة كاثي نيومان. في رأيها، كان الرجل المقابل لها رجعيًا مسعورًا، وعلم النفس التطوري الممل هذا ما هو إلا غطاء للعنصرية التقليدية ضد النساء. لقد فاز بالمناظرة ببساطة لأنه لم يكن كما اعتقدت نيومان. ولم تكن هي الوحيدة التي تجادلت بمغالطة “رجل القش” وخسرت الجدال. استمع لمناظرة ٢٠١٨ هذه على راديو بي بي سي محطة ٤ للبرنامج الأسبوعي “ابدأ اسبوعك”… حيث تعامل توم ساتكليف مع جوردن بيترسون وكأنه عدو معه نسخته من كتاب هتلر “كفاحي Mein Kampf”  ليروج لها، وليس كضيف في البرنامج.

إن هذا التشويه العدواني المتعمد لجوردن بيترسون لا يعني بالضرورة أنه قد ضره. بل على العكس تماما حيث ارتفعت مكانته أكثر. فقد أغضب ذلك التشويه معجبيه على الإنترنت وحركهم، وصقل صورته باعتباره عدو المتنورين. لقد كان هو النور بالنسبة لأتباعه و الظلام لخصومه، ولكليهما كان مهمًا للغاية. لقد دفعته ديناميكية الحروب الثقافية إلى قيامه بجولة ضخمة لإلقاء المحاضرات في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك بث مباشر متزامن والذي سمي بـ “نقاش القرن” مع المفكر اليساري سلافوي جيجك. حيث بدا صعود جوردن بيترسون في تلك المرحلة ثابت لا يتغير.

خريف 2019

ثم في خريف عام ٢٠١٩ توقف كل شيء واختفى عن الأنظار. وكما يوثق هو نفسه الآن في كتابه (ما وراء النظام Beyond Order) بدأت حياته بالانهيار. حيث أصيبت زوجته بسرطان الكلى، ونتيجة لذلك ازداد اعتماده على دواء البنزوديازيبين المضاد للقلق. بدأ جوردن بيترسون منذ تلك اللحظة بسلسلة علاجية وادخل المستشفى عدة مرات قبل أن ينتهي به المطاف في غيبوبة مستحثة طبيا في منشأة رعاية صحية روسية. أضف إلى ذلك إصابته بمرض تعذر الجلوس النفسي (akathisia) والتهاب رئوي ونوبة كوفيد في صربيا، فمن المفاجئ أن نرى جوردن بيترسون يعود مرة أخرى، ناهيك عن أن يروج أيضا لكتابه (ما وراء النظام Beyond Order).

يرجع ذلك جزئيًا إلى أن جوردن بيترسون نفسه لم يتطور، حيث يبدو أن أفكاره كما هي وكأنه عالق في دوامة. إن كتابه (ما وراء النظام Beyond Order) يتبع نفس منهج كتابه السابق الأكثر مبيعًا. وكأنه ينشر ١٢ إملاءات أخرى لتطوير الذات مصدرها موقع كورا… بما في ذلك: “لا تفعل ما تكرهه” و “لا تسمح لنفسك بأن تصبح ممتعضًا أو مخادعًا أو متعجرفًا” وأفضلها بالإجماع “لا تخفي الأشياء غير المرغوب فيها في الضباب”. كما أنه مشحون بنفس الأخلاقيات الوجودية الغامضة، حيث يحث القراء فيه على مواجهة “قيود الحياة بشجاعة ” والاستعداد “لتخطي الهاوية” وأخيرا عن تحمل مسؤولية حياتك الخاصة. . كما أنه يتميز بخطاب مألوف للغاية ضد “المفكرين المتأثرين بشدة بماركس والمؤثرين بشكل كبير أكاديميا الآن (مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا)… وهي وجهة نظر تتجاهل حقيقة أن فوكو ودريدا قد تأثروا بنيتشه وهايدغر، وهما قدوتي جوردن بيترسون، أكثر من تأثرهم بكارل المسكين.

خاتمة

ما وراء النظام Beyond Order هو إعادة كتابية ضعيفة. ومزيج علاجي من علم النفس التطوري والتدين المستمد من يونغ والظواهر الوجودية مع تحليلات طويلة سخيفة لروايات هاري بوتر لتمييزها عن سابقتها (ياه كم يحب جوردن بيترسون هاري بوتر حيث كتب بهول “إن المسيح يعلوا على القانون” ويضيف بين قوسين صريحين “كما يفعل هاري بوتر”). 

ويبدو أن هذه الإعادة قد ولدت قدرًا معينًا من فهمه. فإن الصحف التي كانت في الماضي تتعامل مع جوردن بيترسون على أنه هيوستن ستيوارت تشامبرلين المتطرف اليميني، تقوم الآن باستعراض (ما وراء النظام Beyond Order) بمزيج من الملل والاستهتار والتعاطف وبلا أي جدية.

هذا لأنهم يرون الآن جوردن بيترسون كما هو وليس كما يخشون أن يكون. لكن البعض لا زالوا متمسكين بفكرة أنه ببساطة هتلر… مثل بعض موظفي دار النشر بينغوين راندوم هاوس كندا (Penguin Random House Canada) الذين طالبوا في نوفمبر الماضي بإيقاف نشر كتاب ما وراء النظام Beyond Order. لكن بالنسبة للذين قرأوا هذا الكتاب الأخير، فهو مجرد معالج نفسي و ليس “فاشيًا”.

يبدو أن الحروب الثقافية بعد أن كونت جوردن بيترسون قد أدارت ظهرها له الآن.

المصدر