مجلة حكمة
جميعنا ديمقراطيون جميعنا ديمقراطيون

حالياً جميعنا ديمقراطيون

الكاتبويندي براون
ترجمةوحيد الهنودي

أهلا بعودتك أيتها الديمقراطية!

 هو عنوان مقال حول انتخابات أوباما صدر في ذو بيافير The Beaver صحيفة مدرسة لندن للاقتصاد 6 نوفمبر 2008.

 يُسْتَنتَجُ مما سبق أن الإرادة العامة دوما مستقيمة وتتجه إلى المصلحة العامة، لكن لا يُسْتَنْتَجُ مع ذلك أن تكون لمداولات الشعب نفس الاستقامة.

ج ج روسو العقد الاجتماعي

  الديمقراطية دال خاو

  تتمتع الديمقراطية اليوم بشعبية غير مسبوقة في التاريخ، ومع ذلك فإنها لم تكن أشد لبسا من الناحية المفاهيمية وبشكل جوهري أشد تجوّفا من أي وقت مضى. من الممكن أن شعبيتها الحالية تعود إلى لبسها بل وحتى إلى خواء معناها وفاعليتها: مثل باراك أوباما، إنه دال خاوي حيث يمكن أن يعلّق عليه كل واحد أحلامه وآماله. أو ربما تكون الرأسمالية توأما للديمقراطية الحديثة، فهي أشد صلابة ودهاء من الاثنتين، هل اخْتُزِلَتْ الديمقراطية في مجرّد علامة، هذه النسخة الأخيرة لعبادة السلع، والتي تفصل كليا صورة المنتوج المعد للبيع عن محتواه الحقيقي.[1] أو ربما أيضا، وبتحويل ساخر لتقدميّة الأنوار والتي ترى أن القرن السادس عشر قد وضع على الركح آلهة منخرطة في معركة عنيفة كان يقتضي أن الحداثة منعت حدوثها، فالديمقراطية قد انبثقت كديانة عالمية جديدة – ليس كشكل مخصوص للسلطة بل كمذبح يسجد أمامه الغرب والمعجبين به، وقَدَر إلهي شرّع الحروب الصليبية الامبريالية.

  لا تتم الإشادة بالديمقراطية فقط عبر العالم، بل كذلك عبر الطيف السياسي. مثلما هو الأمر بالنسبة لأنظمة ما بعد الحرب الباردة حيث يزدهر رعايا الاتحاد السوفياتي سابقا في سعادة المشاريع التجارية، فاليسار الأوربي الأطلسي مفتون بالعلامة التجارية.** إننا نعلن الديمقراطية لإصلاح تخلي ماركس عن السياسة ليتجه للمباحث الهيغلية (أو لنقل أن الديمقراطية الجذرية كانت ومنذ البداية ما نفهمه من الشيوعية)، إننا نميل إلى استعادة الديمقراطية من أجل غايات وقيم ليس لها مثيل سابق، فنحن نكتب “الديمقراطية القادمة” و”ديمقراطية لا تعد ولا تحصى” و” دمقرطة السيادة” و”ورشة الديمقراطية” و”ديمقراطية متكثّرة” إلخ… فبيرلسكوني Berlusconi وبوشBush ودريدا Derrida وباليبار Balibar والشيوعيون الطليان وحماس نحن جميعا ديمقراطيون حاليا. لكن ما الذي تبقّى من الديمقراطية؟

سلطة الشعب

  لا يمكننا أن نقول بما فيه الكفاية: بأن الديمقراطية الليبرالية بما هي الشكل المهيمن على الحداثة الأوربية الأطلسية، ليست إلا نمطا من أنماط تقاسم السلطة السياسية بحسب العبارة الإغريقية المبجّلة للديمقراطية: ديموس+ كراسي = سلطة الشعب، في تضاد مع الأرستقراطية والأوليغارشية والاستبداد، وأيضا مع وضع الاحتلال أو الاستعمار. لكن لا وجود لحجة لا تقبل الدّحض، أكانت تاريخية أو دلالية يمكن أن تثبت أن الديمقراطية تعني بطريقة متّسقة وجود التمثيل والدساتير والمداولات والمشاركة وحرية السوق والحقوق والكونية وحتى المساواة. يشمل اللفظ تأكيدا بسيطا وسياسيا خالصا: أن الشعب يحكم نفسه، وأن العام وليس جزء منه أو آخر له هو صاحب السيادة السياسية.

من وجهة النظر هذه فإن الديمقراطية مبدأ غير مكتمل: لا تحدّد السلطات التي يجب أن نتقاسمها بيننا، ولا كيف يمكن تنظيم سلطة الشعب، ولا بأي مؤسسات يجب إنشاؤها وضمانها. منذ البداية كان الفكر الغربي في الديمقراطية نوعا من المساومة. ولنعبّر عن ذلك بطريقة أخرى فإن بعض المنظرين – من أرسطو وروسو وتوكفيل وماركس إلى حدود راولز وولان Wolin- يؤكدون (وبطرق مختلفة) أن الديمقراطية تتطلب شروطا محددة وإغناءات وتوازنات دقيقة، غير أن المصطلح لا ينص على أي منها. وربما هذا سبب آخر، بالنسبة للحماس الراهن للديمقراطية، حتى يكون من اليسير جدا رؤية كيفية إفراغها من كل محتوى.

 نزع الدمقرطة Dé-démocratisation

  إذا كان من الصعب أن نحدد بدقة لماذا تكون الديمقراطية بالغة الشعبية اليوم، فإنه يمكننا تحديد المسارات التي تختزل الديمقراطية الليبرالية ذاتها (برلمانية أو بورجوازية أو دستورية) إلى ضل ما كانت عليه. ففي مناطق من العالم كانت ولوقت طويل تحت راية الديمقراطية، كيف حدث أن سلطة الشعب لم تمارس مرة أخرى بأي شكل من الأشكال؟ ففي الديمقراطية المتقدّمة، أي مجموعة للقوى وأي مسارات أمكن إفراغها من جوهرها إلى حد هذا الشكل المحدود من الديمقراطية؟

  أولا، إذا كانت قوة المجموعات الكبرى منذ زمن قد هتكت بآمال وممارسات السلطات الشعبية، فقد بلغ هذا المسار منذئذ منزلة غير مسبوقة.[2] ليس فقط لكون المجموعات تشتري السياسيين وتحوّر جوهريا السياسات الداخلية والخارجية، ولا لكون وسائل الإعلام تقوم بتتفيه فكرة الإعلام العمومي أو مسؤوليات السلطة. أكثر من تدخّل، ما نشهده في الديمقراطيات الكبرى من انصهار لسلطة المجموعات وسلطة الدولة: هو مناولة كبرى للقطاع الخاص بسبب وظائف الدولة، مدارس في السجون مرورا بالجيش، مصارف أعمال ومديرين تنفيذيين يصبحون وزراء أو مديري دواوين، الدول المالكة متغاضية عن أسهم ضخمة من رأس المال النقدي، وفوق كل شيء استغلوا بوقاحة سلطة الدولة في مشروع تكديس رأس المال بفضل سياستها الجبائية والبيئية والطاقية والاجتماعية والنقدية، ناهيك عن تدفّق المساعدات المباشرة لكل قطاعات رأس المال. ولا يستطيع الشعب أن يرى ما يحدث وراء كل هذه التطورات، بل وأقل من تَحَدِّيها، ومتابعتها لاقتراح أهداف أخرى. فدون سلاح ليقول لا لحاجات رأس المال، فإنه يساعد وبشكل سلبي في التّخلي عن بلده.

  ثانيا، وحتى بالنسبة للانتخابات “الحرة”، الأيقونة الأهم بالنسبة للديمقراطية، فقد أصبحت سركا للتسويق والإدارة، من عروض الجماعة إلى حدود التعبئة الهادفة للناخبين. وتعرّض المواطنون لحملات تسويقية تضع التصويت على قدم المساواة مع خيارات أخرى للاستهلاك، حيث يتم اختزال كل عناصر الحياة السياسية إلى نجاح إعلامي ودعائي. فليس فقط المترشحين الذين يتم تقديمهم في معلّبات مصممة من قبل خبراء العلاقات السياسية أكثر تعوّدا على الترويج لعلامات وعلى تنظيم الحملات الإعلامية أكثر من التعامل مع المبادئ الديمقراطية، فالبرامج السياسية أيضا يتم بيعها مثل السلع الاستهلاكية وليس كخيرات عمومية. ليس من المستغرب أن يرى المديرون التنفيذيون عددهم ينمو في الحكومة وبالتوازي مع ذلك تزايد الأقسام الجامعية للعلوم السياسية التي تنتدب الأساتذة في معاهد التجارة والاقتصاد.

 أطلقت النيوليبرالية بوصفها عقلانية سياسية هجوما ضد أسس الديمقراطية الليبرالية، بتحويل مبادئها -الدستورية والمساواة أمام القانون والحرية السياسية والمدنية والاستقلال السياسي والكونية- نحو معايير السوق، وحساب التكلفة/الربح والنجاعة والمردودية.[3] بهذه المعقولية النيوليبرالية فإن القوانين والنفاذ للمعلومة والوضوح ومسؤولية الحكومة واحترام المسارات قد تم تحويرها أو تهميشها بسهولة،. خاصة وأن الدولة كفّت أن تكون تجسيدا لسيادة الشعب لكي تتحوّل إلى جهاز يتم التعامل فيه مع المشاريع.[4] إن المعقولية النيوليبرالية تشكّل كل كائن بشري وكل مؤسسة بما في ذلك الدولة الدستورية بحسب نموذج المؤسسة وتعوّض المبادئ الديمقراطية بمبادئ توجيه المشاريع في كل الحياة السياسية والاجتماعية. بعد تفتيت الجوهر السياسي للديمقراطية فإن النيوليبرالية احتكرت اللفظ لخدمة أهدافها، وما يترتّب عن ذلك من كون “ديمقراطية السوق” قد استهزأت ذات مرة من سلطة رأس المال غير المنظّم، وأصبحت الطريقة العادية لوصف شكل لا علاقة له مطلقا بسلطة الشعب.

  بيد أن رأس المال والعقلانية النيوليبرالية ليسا الفاعلين الوحيدين المسؤولين عن تراخي المؤسسات ومبادئ وممارسات الديمقراطية الليبرالية. ثمة أيضا –وهي النقطة الرابعة- تمدد سلطة ومجال فعل المحاكم المحلية والعالمية.[5] عوامل وصراعات متنوّعة بما في ذلك تلك التي تنبع من الحركات الاجتماعية والحقول الدولية لحقوق الإنسان، يتم عرضها بشكل مكثّف أمام المحاكم ليتلاعب بها خبراء القانون وتنتهي إلى قرارت سياسية في لغة جد مركّبة وملتبسة والتي لا يمكن فهمها إلا من قبل مشرّعين مختصين. وفي ذات الوقت فقد انحرفت المحاكم ولم تعد تقرر ما هو ممنوع بل ما يجب القيام به –بالمحصّلة فقد مرّت من وظيفة تقييدية إلى وظيفة تشريعية تغتصب المهمة الكلاسيكية للديمقراطية السياسية.[6] إذا كان صحيحا أن سيادة القانون تعتبر ركيزة هامة للحياة الديمقراطية فإن سلطة المحاكم تخريب للديمقراطية، وهو ما يعكس التبعية الأساسية للسلطة القضائية للتشريع الذي تعتمد عليه السيادة الشعبية. والذي يمنح السلطة السياسية لمؤسسة غير تمثيلية.

  النقطة الخامسة حاسمة في نزع الدمقرطة La dé-démocratisationفي الغرب، وتتمثّل في تآكل سيادة الدول الوطنية بفضل العولمة.[7] إذا كان ثمة دوما توهّم في استحواذ هذه الدول على السيادة المطلقة والكمال واستمرارية القانون واحتكار العنف، فقد كانت استمرارية هذا التوهم قوية وحوّرت العلاقات الداخلية والخارجية للأمم منذ تبلورها سنة 1648 في اتفاقية وستفاليا. بيد أنه وفي غضون النصف الأخير للقرن الفارط ، تعرّضت ملامح احتكار الدول الوطنية لخطر شديد بسبب تزايد أدفاق رأس المال العابر للدول الوطنية والسكان والأفكار والموارد والسلع والعنف والولاءات السياسية الدينية. هذه الأدفاق قامت بكسر الحدود التي تَعْبُرُها، وفي الداخل بدأت تتبلور من أجل تكوين قوى: وهكذا فإن الدول الوطنية تتعرّض للخطر من حواشيها ودواخلها.

 وعندما تكون السيادة ممزّقة فإن الدول تحتفظ بقدرة وحشية على الفعل، وعندما تنأى في الاتجاهين عن معنى السيادة في الديمقراطية – الصادرة عن الشعب ومن فوق- فإن ذلك يؤدي إلى نتيجتين. فمن ناحية تفقد الديمقراطية شكلها السياسي ومحتواها، ومن ناحية ثانية فإن الدول تتخلى عن كل إدعاء بتجسيد السيادة الشعبية ولجعل فرادة الشعب مسموعة –وهي وكما رأينا عملية بدأت بالفعل بالعقلانية الليبرالية.

  في النقطة الأولى ليس للديمقراطية أو حكم الشعب من معنى، فلا يمكن أن يُمَارَس إلا ضمن إطار محدد بوضوح –وهذا ما يعلنه لفظ السيادة في المعادلة بين “السيادة الشعبية” و”الديمقراطية”. فالديمقراطية ودون مجال محدد للقضاء (في المعنى الحقيقي أو الحرفي) ليس لها أي معنى سياسي: لكي يستطيع الشعب أن يحكم نفسه، يجب أن يوجد كيان مشترك يقبل التحديد ويمكن من خلاله تقاسم السلطة ويمكن ممارسة هذه السلطة عليه. بالتأكيد فإن الدول الوطنية الشاسعة تَحُدُّ من طرق تقاسم السلطة تلك التي تعطي معنى للديمقراطية، لكن عندما يتم تعويض هذا المجال القانوني نفسه بمجالات فوقوطنية وعبروطنية أين تُمَارَسُ السلطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فإن الديمقراطية تُهَدَّد باللاتجانس.

 أما في النقطة الثانية، فإن الدول منزوعة السيادة أصبحت همجية في الداخل كما في الخارج. فمن أجل ممارسة سلطة الدولة فإن المرجع لم يعد تمثيل الشعب أو حمايته – وهو مبرر سلطة الدولة في الليبرالية الكلاسيكية. ففي الدول المعاصرة يتعلّق الأمر وفي صدى بعيد بمنطق الدولة***، بتعويض هيبة السلطة بدور ثلاثي للفاعلين وللميسرين والداعمين للعولمة الاقتصادية. في هذا السياق يُرَدّ السكان إلى مساهمين سلبيين صغار في دول تعمل في الداخل مثل مؤسسات وكمديرين ضعفاء لرأس المال العالمي في الخارج. هذه الصورة الجديدة للسلطة والفعل ولشرعية الدول قد تجلّت وبوضوح خاص إبان الفوضى المالية في خريف 2008.

  في النهاية فإن ما يتم تقديمه لنا كـ”سياسة حمائية” ساهم في نزع دَمَقْرَطَة الدول الغربية. ففي دول مختلفة جدا كـ”إسرائيل”**** وبريطانيا العظمى والهند أو الولايات المتحدة فإن جميع التدابير التي تهدف لمنع الإرهاب أو قمعه بشكل خاطئ كعودة لسيادة الدولة، في حين يتعلّق الأمر في الواقع بعلامة على فقدان السلطة السيادية.

مع التخلّي النيوليبرالي عن المبادئ الليبرالية (الحرية والمساواة وسيادة القانون) فإن الدولة الأمنية تتفاعل مع إضعاف السيادة والتنازع حولها بسلسلة من إجراءات نزع الديمقراطية –تقييد لحرية التنقل وإمكانية الحصول على المعلومة والتصنيف العرقي وسرية الدولة الآخذة في الاتساع وفي نهاية المطاف تعليق الدساتير واحتلال وحروب مستمرة وغير معلنة. بالمحصلة ولكي يستطيع الأشخاص حكم أنفسهم يجب أن يوجد شعب، وأن الوصول إلى السلطة هو مسألة دمقرطة. إن تآكل سيادة الدولة الوطنية بفعل العولمة يقوّض أول هذه الظروف ويُلْغِي القوة المطلقة لرأس المال النيولبيرالي الثانية. لكن إن كانت “الديمقراطية الحقيقية” هي الأُمْنِية لتغيير شيء ما يجب اختبار ما بقي من المبدأ ومن المثالي في الديمقراطية في عصرنا.         

  المفارقات الديمقراطية

   إن الديمقراطية الإغريقية وكما هو معروف، تُلْغي من مراتبها السواد الأعظم من السكان القدامى –النساء والعبيد والغرباء والذين لا تتوفر فيهم شروط النَّسَب حتى يكونوا مواطنين، هذه الاقصاءات من الديمقراطية في مهدها كانت متطرّفة لكنها لم تكن استثنائية. فالديمقراطية كمفهوم وكممارسة كانت دوما محاطة في الحواشي بمجال غير ديمقراطي، وكان لها دوما جوهر داخلي غير متجسّد والذي يدعمها ماديا ويساعدها على حد نفسها بالضد في آن. تاريخيا كل الديمقراطيات قد حددت مجموعة داخلية مقصاة –والتي يمكن أن تتكون من العبيد والغرباء والنساء والفقراء أو من ينتمون لأعراق أو إثنيات أو ديانات معينة أو (واليوم) تركيب من المهاجرين غير الشرعيين.

ويوجد دوما عالم براني يسمح للديمقراطية أن تحدّد: “البرابرة” وهو اسم أطلق من قبل السّلف ولكن تم تحديثه منذ ذلك الحين بطرق متنوّعة، من الشيوعية إلى المستعمرات الديمقراطية وفي عصرنا فإن صورة “الإسلاميين” تعزز فكرة أن الديمقراطيين جيدون، وحتى (وبخاصة) في سياق نزع الديمقراطية عن الغرب. إذن يوجد دوما معاداة للكونية حتى داخل الديمقراطية عينها. مما يوحي بأنه حتى وإن كان الحلم الامبريالي بوجود ديمقراطية مكوننة يجب أن يتحقق فإن ذلك لن يكون في شكل ديمقراطية.

  إذا كانت الديمقراطية قبل الحديثة، والجمهورية كانت قائمة على ممارسة مشتركة للسلطة، -سلطة الشعب للشعب- لذلك كانت متمركزة حول مبدأ المساواة، فإن وعد الديمقراطية الحديثة كان دوما الحرية. إن الديمقراطية الحديثة لم تَعِد إطلاقا بالمساواة، عدا في الطراز الأشد شكلانية، ذلك الذي للتمثيل (ورقة التصويت) أو في المساواة أمام القانون (والذي لا يشكّل نوعا من تداعيات الديمقراطية والذي قليلا ما تجسّم في الممارسة). في الحقيقة هذا هو الرهان الصعب لروسو -نتخلى عن حريتنا الفردية التي لا قواعد لها من أجل سلطة سياسية مشتركة، بغاية تحقيق حريتنا الفردية- والتي توجد في قلب التفوق المعياري الذي تطالب به الديمقراطية. في الحقيقة تظل الحرية المجاز الأبرز المرتبط بالديمقراطية، في حين أن وعد حكم الشعب يظل منسيّا.[8] إن الديمقراطية فقط هي ما يجعلنا أحرارا، ففي الديمقراطية فقط نكون أصحاب (نحن أصحاب) السلطات التي تحكمنا.

  في الحقبة الحديثة تعتبر الحرية بوصفها تشريعا ذاتيا مثل رغبة كونية للإنسان، فبالنسبة لكانط وروسو وجون ستيوارت ميل تكون كجوهر للكائن البشري. في الحقيقة أسست ولادة الذات الأخلاقية الحرة مع الحداثة للديمقراطية كشكل سياسي شرعي وحيد في الغرب. إن صورة هذه الذات هي التي استمرّت بإعطاء شرعية لا جدال فيها. لكن وفي نفس الوقت فإن الوجه الأبيض والاستعماري لهذه الذات قد سمح بالتراتبية والإقصاءات والعنف وأدامها، تلك التي ميّزت الديمقراطية في وجودها الحديث. توجد إذا لاحرية مباحة وربما ضرورية في قلب الديمقراطية عينها. مما يوحي بأنه إذا كان الحلم الإمبريالي بجعل جميع البشر أحرار متجسّدا فإن ذلك لا يكون بحسب الشكل الديمقراطي.

الحرية المستحيلة

   تفترض الديمقراطية الحديثة التشريع الذاتي كمعيار، والذي نحصل عليه بتقاسم سلطة الحكم: فسيادة الذات ترتبط بسيادة النظام، كل واحد يضمن الآخر. لكن تشريع ماذا وسلطة ماذا؟ في الديمقراطية المتقدّمة، فإن التفكير النظري في سلسلة من السلطات المعيارية (ليست سياسية من جهة الشكل) المرتبط بالنقد المدمّر للذات الكانطية قد جعل معنى الحرية معقّد و بصفة خاصة غير قابل للفهم. ما هي السلطات التي ينبغي علينا ممارستها، وحول ماذا ينبغي علينا أن نشرّع معا، ما هي القوى التي ينبغي أن نُلْزِم بها إرادتنا لنكون قادرين على القول، ولو بصفة محتشمة، أننا نحكم أنفسنا وأننا نشرّع لأنفسنا؟ قسّمت الأجوبة عن هذه الأسئلة الديمقراطيين دوما.

من ناحية يجعل الليبراليون من انتخاب المشرّعين قلب الرحى، مع قيود واضحة على التجاوزات في الأنشطة والأهداف الفردية. ومن ناحية أخرى يؤكد الماركسيون أن الشرط الأول للحرية الإنسانية هو أن تكون وسائل الوجود ملكية جماعية. ويؤكد الديمقراطيون الراديكاليون على المشاركة المباشرة في السياسة، ويبحث الليبارتانيين عن تقليص السلطة والمؤسسات السياسية.

  لتقييم هذا المجال، وإذا تخلينا عن مفهوم الذات الأخلاقية الماقبلية، فبالكاد يمكننا أن نشعر بالحماسة للمعادلة الليبرالية. إن الموافقة الشعبية على القوانين والمشرّعين لا تكفي للوفاء بالوعد الديمقراطي للتشريع الذاتي. يجب فهم القوى المتعددة التي تؤسسنا كذوات ومراقبتها، والتي تنتج المعايير التي من خلالها ندرك الواقع ونحكم على الخير والشر، والتي تضع أمامنا الخيارات المعروضة علينا عندما نقترع وحتى عندما نشرّع. إذا ما فهمنا السلطة كتشكيل للعالم وليس فقط كهيمنة عليه –أو أيضا إذا ما فهمنا الهيمنة كصنع للذات وليس كمجرّد سلطة قمعية- فهذا يفرض على الديمقراطيين الذهاب بعيدا وفي الغور، وفي مجموعة متنوعة من القوى، للبحث عن أسس الحرية.

إن الفكرة البسيطة القائلة أن العالم الاجتماعي، ونحن أنفسنا يتم بناؤنا وبلا هوادة بقوى خارجة عن متناولنا ومراقبتنا تقوّض المعنى الليبرالي للتشريع الذاتي بالتصويت والموافقة العامة. ورغم ذلك فإن فكرة توجيه السلطات التي تؤسسنا ديمقراطيا غامضة: هو أن نحاول الخروج من الثقب بجرّنا من الشعر، أو محاولة فهم العناصر الفيزيائية التي تشكّل مفهومنا عن العالم ومن الخارج. ولكي يكون لها معنى على الديمقراطية أن تغوص عميقا في ما تصنعه السلطة، ولكي نقول الحقيقة، يجب أن نتخلى عن الحرية كجائزة. بالنظر من خلال هذه الزاوية، فإن الديمقراطية لا يمكن تحققها: إنها هدف (لا يمكن إدراكه)، مشروع سياسي في تطوّر مستمر. إن الدمقرطة تفرض على مناصريها أن يقاوموا في سبيل تقاسم السلطات التي تشكّلهم وتحكمهم، غير أنه مسار بلا نهاية.[9]      

  ليس ثمة تصورات مقلقة للتصور الليبرالي قدر تلك المستوحاة من فوكو ودريدا حول طرائق السلطة بخلاف القانون والنظام، فثمة قوة رأس المال والذي يصنع وينظّم الذوات الديمقراطية. ما الذي تعنيه “سلطة ديمقراطية” إذا كان لا يتم التحكم في الاقتصاد من قبل السياسي والاجتماعي، وإذا كان على العكس من ذلك يمارس عليهما هيمنته؟ ما الذي يمكن أن يكون أشد روعة من فكرة إخضاع اقتصاد معولم –وتشكيله للحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والايكولوجية- للقاعدة الديمقراطية، مثلما هو الحال لكل قاعدة سياسية؟

  باختصار، بالنسبة لنزع الدمقرطة، وفضلا عن سلطة الدولة يجب أن نأخذ في الاعتبار رأس المال وسلسلة من القوى المعيارية الاقتصادية الأقل مباشرتية. لكن في التاريخ لا نعثر على تجارب ناجحة في الدمقرطة. فمن أجل أن نواصل الاعتقاد في الديمقراطية السياسية كتجسيد للحرية الإنسانية، يجب أن ندير حرفيا أبصارنا عن هذه السلطات المحصنة ضد الدمقرطة والتي تنكر الاستقلال الذاتي وأولوية السياسي الذي عليه يقوم أهم ما في النظرية الديمقراطية، في التاريخ واليوم.[10] البديل هو طريقة في التفكير وممارسة الديمقراطية بعين يقظة وواقعية على قوى لم تحاول الديمقراطية إلى الآن التنظير لها أو مواجهتها أو تجاوزها.[11] لا نستطيع أن نتخيّل قطيعة أشد فجاجة مع احتكار الليبرالية لمصطلح الديمقراطية.

  هل البشر يرغبون في الحرية؟

   وهل نحن نريد أن نكون أحرارا؟

   آخر تحدي، ومن الممكن أن يكون الأخطر بالنسبة للذين يعتقدون في سلطة الشعب: أن نفترض أن الديمقراطية خير، هو أن نفترض أن البشر يرغبون في أن يحيوا وفقا لقوانينهم الخاصة وأن الخطر يكون من سلطة سياسية غير مسؤولة ومركّزة بين أيادي قليلة العدد. لكن واليوم أي دليل تاريخي، وما هو المبدأ الفلسفي الذي يسمح بتأكيد أن البشر يرغبون وكما يقول ديستوفسكي ” في الحرية بدل رغيف الخبز”؟ إن ما حدث في القرن الماضي بين إغراءات السوق ومعايير السلطة الانضباطية واللاأمن المربوطة بجغرافيا بشرية تزداد غموضا وفوضى، جعل أغلب الغربيين يفضلون التخلّق والاستهلاك وممارسة الحب والتصارع في انتظار أن نقول لهم ما يجب أن يكونوه وما يفكروا فيه وما يقومون بفعله من أجل توجيه حياتهم. لقد تم التعبير عن هذا السؤال العسير حول مستقبل التحرر بفجاجة من قبل هاربارت ماركوز في أواسط القرن العشرين.[12]

وإذا ما رفض البشر مسؤولية الحرية ولم تكن لهم لا التربية ولا الشجاعة الكافية لمشروع الحرية السياسية فما الذي يمكن أن تعنيه الأجهزة السياسية والتي تأخذ هذه الرغبة كأمر مسلّم به في هذا الاتجاه؟ وما هو هذا الضعف الشديد أمام التلاعب من قبل الأقوياء وهيمنة القوى الاجتماعية والاقتصادية التي ينطوي عليها شرط كهذا؟ كان أفلاطون يخشى من أن تؤدي العقول السيئة والمسؤولة عن وجودها السياسي إلى الانحطاط والترخيص الجامح، غير أن الخطر اليوم أشد وأكثر إزعاجا: الفاشية الآتية من الشعب (التي يشرّعها الشعب). فعندما يقيم اللاديمقراطيون في صدفات الديمقراطيين، وينقلون الخوف والقلق أمام أفق معولم يزداد انسدادا، ويجهلون فعل القوى التي تتقاذفهم وتنظم رغباتهم، فكيف يمكن أن ننتظر منهم أن يصوتوا أو يدافعوا عن حريتهم وتساويهم دون الحديث عن حرية الآخرين وتساويهم.

  ثمة إذن من ناحية شعوب لا تطمح للحرية الديمقراطية، ومن ناحية أخرى ديمقراطيات لا نرغب فيها –شعوب “حرة” تجلب للسلطات ثيوقراطيات وإمبراطوريات وأنظمة بغيضة وتصفية عرقية وجماعات مغلقة ومجتمعات متراتبة بحسب العرق وشكل الهجرة ومجموعات مابعد قومية لنيوليبرالية عنيفة أو تكنوقراط يَعِدُون بمعالجة الآلام الاجتماعية بتجاوز المسارات والمؤسسات الديمقراطية. للإمكانيتين شكلهما الخاص، – إنها مشكلة الشعوب التي تضع أولا وحرفيّا رغباتها بدل المحافظة على الكوكب، ومظاهر الأمن الخادعة وليس السلام، والذين ليست رغبة في التضحية بملذاتهم أو آلامهم من جل المصلحة العامة.

   لقد قيّم روسو جيّدا صعوبة توجيه شعب فاسد نحو الحياة العامة: فموقفه المؤيد للديمقراطية ما يزال يعتبر فاشلا في مشروع تحويل شعب فاسد إلى شعب ديمقراطي. ثمة طرق عديدة لفهم ما عناه بـ”إرغام شخص ما لكي يكون حرا” غير أن كل ذلك ينتهي بتعليق الالتزام بجعل الذات حرة، من أجل تحقيق هذا الالتزام. من الصعب أن نتخيّل اليوم ما قد يجبر الكائنات البشرية على المهمة العويصة المتمثلة في حكم أنفسهم، أو حتى التنافس على القوى التي تهيمن عليهم.

 ما هي الإمكانات؟  

  إذا كانت سلطة الشعب تمر بأوقات عصيبة في العصر الحالي فهل أن ذلك يأتي لينضاف إلى ملف تخلّي اليسار عن المقاومة من أجل الديمقراطية، وجهود خلاّقة لتطوير أشكال سياسية جديدة؟ أو، وعلى العكس من ذلك، هل يتطلّب ذلك تقديرا رزينا للديمقراطية كمثال يبقى دائما في منأى عن التناول؟ هل علينا أن نؤكّد بأن الديمقراطية ومثل الحرية والسلام والسعادة لم تكن يوما متحققة غير أنها ساعدت كدرع ضد تصوّر شرير آخر للاجتماع الإنساني؟ أو أن الديمقراطية ومثل التحرر لا يمكن أن تتجسّد إلا كاحتجاج – ربما، واليوم بخاصة، يجب أن لا تكون صراحة وصوريا طريقة حكم بل سياسة مقاومة؟

   لدي شكوك حول هذه النقاط. لكن ما أنا واثقة منه على كل حال هو أنه ليس وقت إطلاق الشعارات والتي تصرف أنظار قوى نزع الديمقراطية المنتشرة. إن حماسة الفلاسفة ونشطاء اليسار قد “عمّقت الديمقراطية” و”دمقرطة الديمقراطية و”أعادت الديمقراطية” و”كثّرت الديمقراطية” أو استثمرت في “الديمقراطية القادمة” فإن ذلك لا يكون مفيدا إلا بالقدر الذي يأخذ في الحسبان هذه القوى، وهذا نادرا ما يحدث. فوسط هذه القوى المتعددة التي تنزع الديمقراطية اليوم عن الدولة وعن الفكر في آن، فإن اهتمام الديمقراطية يقتضي المواجهة معها مع تعميق النقاط التي تشكّل الحد الأدنى لتقاسم السلطة ديمقراطيا، ولتحدد هل مازلنا نعتقد في الديمقراطية ولماذا، ، وهل هي شكل قابل للحياة في القرن الحادي والعشرين، وهل توجد بدائل غير مروّعة يمكن أن تكون أكثر جدوى من أجل مناهضة الظلام؟ هل ثمة طريق للوصول إلى السلطة التي ينبغي على الشعب مراقبتها لكي يتم اعتبارنا ولو بصفة محتشمة، كحاكمين لأنفسنا؟

الحرية التي تعد بها الديمقراطية هل هي ما ترغب فيه الكائنات البشرية –أم ينبغي أن نعلمهم ذلك من جديد؟ أي نوع من المناطق أو من الحدود تكون ملائمة للديمقراطية، وإذا كانت ليست في متناول اليد فهل الديمقراطية مازالت ممكنة؟ وهل أن هذه الحدود تتلاءم مع العولمة النامية ومع فكرة عدالة شاملة ومواطنة كوكبية؟ إذا ما تمكنّا من الإجابة عن هذه الأسئلة يبقى ما هو أشد عواصة: كيف يمكن للشعب أن يحدد السلطات ويكسبها والتي عليه أن يمارسها بصفة مشتركة، لكي تصبح الديمقراطية شيئا آخر عدا قناع يشرّع نقيضه؟

الهوامش

*نص مقتطف من كتاب “الديمقراطية بأي حال؟” « Démocratie, dans quel état ? صدر عن Les Editions Écosociété, 2009 ترجمه إلى الفرنسية إيريك هازان Éric Hazan..

** التشديد من الكاتب حيث وردة العبارات بخط مائل.

*** وردت بالفرنسية في النص الأصلي La raison d’état

**** مترجم المقال لا يؤمن بوجود دولة اسمها إسرائيل بل بكيان غاصب لا يجب الاعتراف به.

 [1] كما يذكر باتريك روفيني Patrick Ruffini بأن العلامات التجارية الكبرى “تثير المشاعر التي ليس لها علاقة حقيقية بنوعية مخصوصة.” وهذا يصدق على نايك Nike وبي أم دابليو BMW، مثلما يصدق على أوباما في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. http://www.patrickruffini.com , 13 février 2008.

2 حول هذا الموضوع النص الجيد هو لـشالون وولانShaldon Wolin ; Democracy Inc, Princeton, Princeton University Press, 2008.

3  من أجل دراسة أكثر عمقا حول آثار نزع الدمقرطة للعقلانية النيوليبرالية أحيل إلى كتابي: Les Habits neufs de la politique : Néolibiralisme et néoconservatisme, Pais, Les Prairies ordinaires. 2007.

4 أنظر نصوص ميشال فوكو حول الحوكمة في : « Il faut défendre la societé », Cours au collége de France, 1976, Paris, Hautes Etudes, Gallimard, Seuil 1997.

5 هذا الانتشار يعود في جزء منه لفعل النشطاء المهتمين والذين يبحثون عن حالات من أجل “أن يكسبوا” القضايا أمام المحاكم حتى وإن كانت الديمقراطية معرّضة لمخاطر جانبية بنجاحهم.

6 أنظر: Gordon Silverstien, Law’s Allure : How Law Shapes, Consstrains, Save and Kills Politics,New York, Cambridge University Press, 2009, and « Law as Politics /Politics as Law. »  وهو عمل قيد الانجاز لجاك جاكسون Jack Jackson Brekeley, University of Califonia.

7 أنظر محاولتي: « Porous Sovereignty, Walled Democracy » in La Revue internationals des livres et des idées.

8 إن هذا الوعد هو ما حاول هوبز البحث عنه بحيله الدلالية عن المؤلّفين والتأليف qualité d’auteur (autorship) والسلطة autorité، وهو ما سمح لنا بأن نكون مؤلفي استبداد الدولة المهيمنة علينا.

9 يصوغ شيلدون وولان هذا السؤال بطريقة مختلفة قليلا، لنؤكد أن “الديمقراطية الهاربة” – تعبيرة الشعب عن حقوقه الشرعية- هي الممكنة. أنظر الفصل الأخير من Politics and vision :Expanded Edition, Princeton,N,J, Princeton University Press, 2004and Democracy Inc, op, cit.          

10 من أجل مزيد من التحليل حول هذه النقطة أنظر: « sovereign, Hesitations » in Derrida and the Time of the Politic,eds, Pheng Cheah, and Suzanne Guerlac, Durham, NC, Duke University Press, 2008, and « The Return of the Repressed : Sovereignty, Capital, Theology » in The New Pluralism : William Conolly and The Contemporary Global Condition, ed, David Campbell and Morton Schoolman, Durham,Nc, Duke University Press. 2008

11 من أجل حوار مابعد ماركسي حول إمكانية إعادة هيكلة الاقتصاد للمجال السياسي الديمقراطي أنظر « Sovereignty and the Return of the Repressed ».

12 Herbert Marcuse, One Dimensional Man, 1964.