مجلة حكمة
بول فيريليو حوار

الحرب، السرعة والصورة: حوار مع بول فيريليو / ترجمة: محمد علي الحنشي


هل نصنف بول فيريليو في خانة منظمي المجال الحضري؟ دون شك، لكنه، ليس ذلك فقط. هل نمنحه لقب مهندس معماري؟ أيضا إنه ليس ذلك فقط، بل فيلسوفا منهمكا في قراءة الحاضر الذي يتجسد في المجال، أكثر مما يقال أو يكتب. وينضوي بول فيريليو ضمن صنف نادر من فلاسفة التقنية. قال عنه صديقه كلودبارون: إنه “أركيولوجي المستقبل”. لأن فيريليو لم يتوان عن دراسة الواقع الافتراضي (REALITE VIRTUELLE)، الناتج عن التكنولوجيات الحديثة، والذي أصبح يخترق أجسادنا وينظم علاقاتنا بالآخرين وبالعالم وفي كتابه الأخير، “تحرر السرعة”، يقترح علينا وصفا جذابا لعالم، أصبح، منذ الآن، مرتبطا بتقنيات الاتصال عن بعد، بحيث يحل الزمان محل المكان. كما يصف فيه خطر الحادث الخصوصي المرتبط بتطور التقنية. ومن أجل التحرر من ذلك كله، فهو يدعو إلى تشكيل إيكولوجيا رمادية.


بول فيريليو، كيف تقدم نفسك؟

بول فيريليو: أنا طفل حرب، ضحية للحرب. ولدت عام 1932 بباريس من أب إيطالي، لاجئ وشيوعي، ومن أم بروطونية (منطقة بغرب فرنسا). وفي لحظة الإعلان عن الحرب، لجأنا إلى عائلة أمي في مدينة نونط (فرنسا)، وهناك عشت التجربة الحاسمة للحرب: في مناسبتين كبيرتين.

في يوم من عام 1940، ونحن نتناول وجبة الغذاء، أعلن الراديو عن وصول الألمان إلى مدينة أورليون (فرنسا). وبعد ذلك بوقت قصير، سمعنا ضجيجا غير عادي في الشارع. فسارعت كجميع الأطفال إلى الخارج. كان الألمان يعبرون الجسر، ويندفعون نحو الساحل. كان المشهد يضاهي البث المباشر إبان حرب الخليج، إلا أنه مباشر بمحركات. كانت هذه تجربتي الأساسية مع السرعة. إن السرعة، أولا وقبل كل شيء، هي المفاجأة المطلقة، بحيث لا يتطابق الخبر مع الواقع، لأن الواقع أسرع من الخبر.

وكانت التجربة الأخرى مرعبة. وتتعلق بالقصف الذي دمر مدينة نونط عامي 1942 و1943. ذهبت مع أمي لشراء البسكويه في محل لبيعه. قالت لي أمي: “أنا أقف في الصف، انتظارا لدوري. وقم أنت بنزهة في شارع “كالفير..”. كانت هناك محلات تجارية كبرى للعب الأطفال. التحقت فيما بعد بأمي، ووقفت إلى جوارها في الصف. رجعنا بعدما اشترينا البسكويه. بعد الظهر، تواصل القصف. في اليوم الموالي، لم يبق أي شيء بشارع كالفير، دك كل شيء، فظهر أمامنا الأفق. انتابني، آنذاك، شعور غير عادي، فبالنسبة لطفل في سني، وجدت المدينة لتكون خالدة، إلا أنها، وفي لحظة خاطفة، هوت كديكور. لم أشعر برهبة الموت والمأساة، حتى ولو كنت خائفا، بقدرما أحسست الاضمحلال، وهذا ما أسميته فيما بعد “جمالية الاختفاء”، بمعنى لعبة المراوغة التي نلعبها مع الأطفال، حينما نخفي عنهم شيئا ما، ونقول لهم لا يوجد شيء الآن. كانت هذه هي طبيعة الحرب، الحرب الخاطفة: الهيمنة وإضفاء طابع البطولة على التقنية، التي تعمل على إخفاء الواقع، واقع الحياة، واقع حي سكني.

لقد شكلني، بشكل شامل، مشهد الحرب، المستندة على تكنولوجيا جد قوية، وكلية الحضور. ويستمد اهتمامي بالمدينة والحرب والتقنية، مكوناتي الثلاثة، جذوره من هذه المدينة المدمرة في بضع لحظات. كانت تجربة طفولتي مرتبطة بالطابع الشمولي للحرب، حرب ليست كمثيلاتها: كانت حربا مباغثة، حربا خاطفة، وحربا مفاجئة. كما كانت بداية الحرب الإعلامية بواسطة الراديو السينما، وغزو الأجواء، وكذلك حرب الدمار الشامل.

أعتبر الحرب أصلي. الحرب هي، في نفس الآن، أبي وأمي. إن الحرب تنفرد بتذكير الشخص بمأساته، وبمعنى من المعاني لم أعش منذ 1947-1950. فكل ما شكلني، وقع قبل ذلك. كانت الحرب ظاهرة غير عادية، بجميع معاني الكلمة إلى درجة تبدو لي فيها سنوات ما بعد الحرب مملة. هكذا، إذن، أصبحت رجلا مسنا في العاشرة من عمري. طفل حرب، مثل بيريك (1936-1982) وآخرين.

ماذا فعلت بعد الحرب؟

بول فيريليو: إبان التحرير، سارعت إلى سان-نزير (شاطئ مدينة نونط) لرؤية البحر، والسباحة، الشيء الذي كان ممنوعا في فترة الاحتلال. واكتشفت امتداد الأفق، وصفاء زرقة مياه المحيط الأطلسي، وفي نفس الوقت، أشياء غريبة، مشابهة لتماثيل جزيرة الباك (ILLE DE PAQUES )، تطفو على سطح مياه البحر، تم التخلي عنها. وهي لا زالت في حالة جيدة، ولم تستعمل بعد، تضم منظارا يستخدم في الغواصات، وقنابل يدوية، وخوذات عسكرية، فارغة وفي متناول الجميع. لم أكن لأدرس الهندسة المعمارية، لولا تأثيري لما شاهدته آنذاك على سطح البحر.

وقضيت حوالي اثنتي عشرة سنة من البحث الفوتوغرافي، مبحرا على طول الساحل الأوروبي، لالتقاط صور لجميع هذه الأشياء. ودرست مجال الحرب العالمية الثانية، محاولا فهم الحرب التي نفذها النازيون بغزوهم للقلعة أوروبا. وشيئا فشيئا، أصبحوا أساتذتي في مدرسة الحرب، وتعلمت منهم الحرب الشاملة، التي عشتها دون أن أحللها. وانصب اهتمامي على المجال الترابي للحرب، ومشهد الحرب، ومنطق اشتغالها، والقضايا المرتبطة بالصواريخ من خلال مشاكل الإدراك، وإخفاء حقل القذف، والزاوية الميتة التي تتحكم في بناء الخندق. وفي تلك الفترة، أقيمت بنايات عسكرية مهمة للدفاع عن المجال الترابي.

زاولت العديد من المهن، وفي البداية اشتغلت بالرسم، رسمت اللافتات على جدران دور السينما. وكنت مسؤولا عن عمال الزجاج، وساهمت في صنع الزجاج الملون المخصص لكنيسة مدينة “فارونجفيل”. وعام 1950، عملت إلى جانب الرسام المشهور ماتيس (1889-1954) لرسم زجاج كنيسة القديس “بول دوفانس” ورويدا رويدا، اتجهت إلى الاهتمام بالهندسة المعمارية وتنظيم المدن. وعملت مع صديقي: كلود بارون. وأسسنا معا مجلة نظرية: “مبادئ الهندسة المعمارية”، وهي تعنى بقضايا المجال والمدينة، والمدينة الكبرى، التي بدأت تنبثق آنذاك.

بدأت الكتابة في سن متأخرة نسبيا، فمؤلفك الأول صدر عام 1975.

بول فيريليو: كتبت الكثير قبل ذلك، لكن فقط مقالات تعنى بقضايا الهندسة المعمارية وكيفية تنظيم المدينة، وإعادة الإعمار، ونظريات حول المعمار الحضري. واشتغلت مع مهندسين معماريين كبار مثل اليابانيين: “طانجي” و”إيسوزاكي” ومجموعة “أرشيكرام” (ARCHIGRAMM)، البريطانية المكونة من سبعة أفراد، والتي تأسست عام 1963، وباولو سوليري، وجميع معماريي اليوتوبيا المعمارية، أولئك الذين أنجزوا مركز جورج بومبيدو. وانصب اهتمامي أيضا على مستقبل المدينة في علاقتها بالتقنية، وما ينتج عنها من أزمة وقطيعة بين مركز المدينة وضاحيتها بسبب توسع الضاحية بشكل لا منتهي، واستحواذ مركز المدينة على سلطة التحكم فيها. وكتبت عن أول انتفاضة في مدينتي ديترويرت ولوس أنجلس الأمريكيتين في الستينات. وكان لدي انطباع بأن شيئا ما حدث في المدينة، وأعلن عن تمرد 1968. كما كنت من السباقين إلى التنبيه لتأثير التكنولوجيات عن بعد، وتكنولوجيات السرعة، والسرعة المطلقة أو السرعة النسبية التي تخترق حاجز الصوت.

وعام 1968، التزمت بعمق. وأنا واحد من أولئك، الذين ضجروا من سوربون ذي توجه جد ماركسي، فماستولوا على الأديون (ODEON) لجعله مجالا للنقاش العمومي، وإطلاق العنان لمكبوت الكلام، وكنت أحمل أفكارا حضرية، أفكارا تعتقد في تفوق وتسلط المدينة.

بعد عام 1968، التحقت بالمدرسة الخاصة للهندسة المعمارية حيث شغلت منصب أستاذ بها تلبية لرغبة الطلبة. وأدرتها لمدة ثلاث سنوات، ما بين 1972 و1975 وبعد ذلك، مارست مهنة الإداري، ونائب الرئيس، ثم الرئيس، الوظيفة التي غادرتها مؤخرا. وأثناء الربع قرن، التي قضيتها في هذه المدرسة، كتبت جل مؤلفاتي وكان الكتاب حول الخندق بمثابة شهادتي الخاصة، لما مثله بالنسبة لي المجال العسكري، كمجال لاختبار إنجازات التقنية في حالتها الخالصة، من خلال الحرب الشاملة. ثم حاول كتاب “اللاأمان في المجال الترابي” البرهنة على أن الوسائل التقنية المستنفرة في الحرب تساهم إلى حد كبير في تحديد وتشكيل المجالات الترابية والجيو-سياسية، وبذلك تتجاوز قوة التقنية رغبات الجنود. إن المجال الترابي تعمل تقنيات النقل، والاتصال، والتبادل على بنائه، وليس له وجود إلا بواسطة هذه التكنولوجيا، ولا ينبغي الخلط بين المجال الترابي والأراضي الزراعية.

إن “أركيولوجيا الخندق” و”اللاأمان في المجال الترابي” هما أصلي. ويبرهن هذا المؤلف الأخير على الطابع المريب للمجال الترابي، لأن التقنية تجعل منه مكانا غير آمن، إنها تهدده في استمراريته كامتداد ومدة. كما تختزل التقنية المجال الترابي، سواء تعلق الأمر بتقنية الدبابات، التي غزت نونط في بضع ثوان، أو الهجوم المباغث للطائرات التي أطلقت علينا القنابل في اللحظة التي لم ننتظر فيها ذلك. إن التقنية تختزل المجال الترابي إلى أبسط تعابيره، بحيث يصبح غير آمن. ولا تعبث التقنية العصرية، التقنية فائقة السرعة، والحرب الخاطفة، الحرب المستقبلية بالأراضي الزراعية فقط، بل تجعل المجال الترابي غير آمن. وكلما تطورت التقنية، تغير المجال الترابي وتقلص. وتعتبر مسألة السرعة مركزية، لأنه يوجد، في الحرب، عنصران حاسمان وهما: المفاجأة والسرعة. ولا تعد الحرب مواجهة بين السكان أو الرجال فحسب، بل هجوما تستعمل فيه التقنية. إن التقنية تلغي مجالا ترابيا من أجل صنع آخر والمجالات الترابية تتصف باللاأمان الدائم.

بالنسبة لك، توجد ضرورة للحرب؟

بول فيريليو: قال هراقليطس: “الحرب أم كل الأشياء”، وهذا ما عشته، إنها صدمة لا أريد فرضها على أحد، لكن، للأسف، القرن العشرون، قرن تنعدم فيه الشفقة، إنه قرن الحرب الشاملة. إن الحرب دائمة. فهي ليست مولدة للتاريخ كما يقال، بل إنها دائمة، ليست دائمة في وقوعها من خلال المعارك، بل في الاستعداد لها. إنها كانت دائما في الاشتغال، منذ اختراع البواخر الأولى: المراكب الرومانية القديمة ذات الثلاثة صفوف من المقاديف أو السفن الشراعية، التي لم تكن بواخر تجارية، بل بواخر حربية – كما برهن على ذلك بروديل (1902-1985)- كانت تستعمل، أحيانا، لأغراض تجارية. ولا يمكن أن نتكلم عن العلم أو الصناعة التقليدية أو الاختراعات الصناعية أو أنماط الإنتاج دون الحديث عن أنماط الدمار والتحضير للحرب المقبلة. وما يهمني، هو ما أسميه بالحرب الخالصة، أي الاستعداد للحرب أكثر من الإعلان عليها. ما يهمني، هو ميل الحرب إلى التطور عبر المعرفة، وبالتأكيد، عبر أشكال المجال الترابي. إني ألتقي مع فوكو، في هذه النقطة بالذات والمتعلقة بمشكلة الحجز أو القلعة، ومشكل الدولة-المدينة، التي هي دولة قلعة. في البداية، لم توجد مدينة بدون قلعة، لأن أسلحة الإعاقة، أي الأسوار والدروع والخودات، كانت أقوى من السهام والرماح، السيوف والخناجر، ثم انهارت القلعة مع حلول الدولة الوطنية، لأن أسلحة الدمار، ولا سيما أسلحة المدفعية دكت أسوار الحصون القوية، وتفوقت على أسلحة الإعاقة.

يوجد صفنان من المعماريين يرى بعضهم بأن التجارة هي أصل التمركز العمراني، بينما يعتقد البعض الآخر بأنها الحرب وضرورة تجميع القوى. إن المدينة تتشكل كميدان للمناورة وهي قبل أن تكون مكانا للسياسة أو المسرح أو التجارة أو الأفكار، فإنها، أولا وقبل كل شيء، ساحة للمعركة عن طريق تنظيم مجالها الترابي، وتخصيص مكان للأسلحة، سمي فيما بعد أغورا لدى اليونان أو فوروم لدى الرومان، حيث كان يجتمع كل المواطنين، قبل أن ينتشروا من أجل الدفاع عن أسوار المدينة وأبوابها.

سيقال لك بأن ظاهرة الحرب قد تقلصت منذ خمسين عاما.

بول فيريليو: صحيح أننا لم نشهد حربا عالمية منذ خمسين عاما. لأننا اخترعنا السلاح المطلق، السلاح النووي ومعه الردع. فأوروبا وأمريكا وروسيا قد شل أحدها الآخر. لقد تغير الوضع تماما الآن. وهذه إحدى أهم القضايا المطروحة على التاريخ المقبل: هل سنعيد اختراع الردع على الصعيد العالمي بعد انهيار سياسة القطبين؟ هل يمكن أن نتصور ردعا على كل المستويات، رغم التعدد اللامتناهي للفاعلين؟

إن سقوط جدار برلين، هو نهاية للردع النووي. نحن نلج نظام الأسلحة الثالث، ليس أسلحة الإعاقة التي انهارت مع أسوار المدينة، وليس أسلحة الدمار، التي اكتملت في سلاح الدمار الشامل، الذي هو القنبلة الذرية، بل أسلحة الاتصال والمراقبة. لقد أصبحت العين هي مصدر الردع، واكتسبت قوة وحضورا من خلال الأقمار الصناعية، ووسائل التنصت، وأنظمة الإنذار، التي تراقب العالم بأكمله. الآن، ينبغي التصويب من أجل القتل. ما يقتل هو الرؤية. وتحديد الشخص أو الإشارة إليه باليد، هو تهديده، وقتله رمزيا.

كان الردع النووي، يعني اللاحرب، أو بالأحرى الحرب، وقد أصبحت في شكلها الخالص، أي أنها تكتفي بإنتاج وسائل لن تستعملها. وتبرز الحرب الخالصة فيما سمي بالمركب الحربي-الصناعي، إذ لم يعد هدف الردع اختراع قنبلة خطيرة وغير مستعملة، بل التحسين المستقر لوسائل المراقبة، وأنظمة الأسلحة والقواعد العسكرية”، ووسائل الإنذار. ونتيجة الردع النووي وتوازن القوى بين القطبين، كانت الحرب قد تحولت إلى مجرد التحضير العلمي لها. لكن انتشار الأسلحة ألغى الردع. لأن الردع هو مجال لقوتين اثنتين فقط. وانطلاقا من اللحظة، التي ينبغي فيها ردع كل الأعداء المحتملين، لا يوجد ردع، ولا نعرف حتى من هم أعداؤنا المقبلون: يمكن أن تكون دولة كازاخستان أوبلد آخر، قد يقرر قصفنا؟ أوإرهابيا سيضع قنبلة نووية أو قنبلة مشعة (لا تنفجر بل تنقل العدوى) في الميترو. إن من بين أكبر المشاكل السياسية المقبلة المطروحة: هل ما زال ممكنا الحديث عما يسمى بالردع؟

دافع البعض عن أطروحة مفادها أن حرب الخليج لم تقع.

بول فيريليو: لا يمكن أن أشاطر صديقي جون بودريار الأطروحة التي دافع عنها. كانت حرب الخليج أول حرب، أعقبت انهيار مرحلة الردع النووي. لذلك فهي أعادت فتح تاريخ المعارك التقليدية. فانطلاقا من اللحظة التي تختفي فيها مظلة الردع، تصبح الحرب ممكنة، سواء أكانت ذات مصدر خارجي أو داخلي على شكل حرب أهلية. إذن فالتاريخ يعاد فتحه.

ما يسمح لنا بالحديث عن وقوع حرب، أولا هو: حجم القوة المستعملة. وفي حرب الخليج، استنفرت جميع أسلحة الدمار والاتصال، التي توصلت إليها التكنولوجيا العسكرية على الصعيد العالمي. بيد أنها كانت حربا ضمن نطاق محلي، خضعت لإدارة وتنسيق عالميين. وأولئك الذين أصروا على القول بأن حرب الخليج لم تقع هم متأخرون بحرب. وأود أن أذكرهم بالتحول، الذي طرأ في المجال العسكري، اليوم، بحيث لم تعد ترتبط شدة وكثافة القوة العسكرية بشساعة ساحة المعركة. فهل ينتظرون حربا عالمية تشمل جميع بقاع المعمور، وتدوم أربع سنوات، كما حدث في الأربعينات؟ لقد كانت حرب الخليج حربا عالمية مصغرة، كانت إدارتها عالمية وتنفيذها محليا وكانت وموجهة عن بعد، حربا كبرى دارت على نطاق محلي. واستعملت فيها جميع وسائل وإمكانيات الحرب النووية.

بالفعل، كانت حرب الخليج حربا عالمية مصغرة. كانت عالمية، لأننا تابعنا أطوارها مباشرة على شاشات التلفزة، وكذلك لأنها وظفت الأقمار الصناعية والصواريخ العابرة للقارات، إلا أن مجال تنفيذها كان محليا. إذن، فهي أول حرب عالمية نتابعها في الزمن الواقعي لحدوثها، وليست حربا عالمية في المكان الواقعي، كما كان عليه الشأن في الحرب العالمية الثانية، التي شملت الكرة الأرضية، إنها همت الزمن الواقعي الذي هو أحد مكونات العولمة الجديدة. إن حرب الخليج لم تقع فحسب، بل سجلت قطيعة تاريخية. وأسفرت عن نوع جديد من الردع، يتمثل في أسلحة المراقبة. إنها أعلنت عن ظهور نظام مراقبة دائمة، لكل ما يتحرك ولكل ما يوجد. إنها حرب النجوم وليست حرب النجوم مجرد أشعة ليزر، تفجر الصواريخ العابرة للقارات، بل تكمن أساسا في مراقبة كل أنشطة العدو. إن حرب النجوم ترتكز على أنظمة الأقمار الصناعية المخصصة لأغراض تجسُّسية. وتعتبر الأقمار الصناعية امتدادا للعين حاسما في المبارزة؟ ليس أن تمتلك سيفا أو مسدسا، بل سرعة التعرف على نوايا الآخر من أجل القدرة على إعاقة فعاليته. وفي فيلم “الرجل ذو المسدس الذهبي”، لا يرجع سبب تفوق الممثل الأمريكي هنري فوندا (1905-1982) إلى المسدس الذي بحوزته بل إلى سرعة رمايته الآخرين، أسرع من ظله. فلا أحد يقوى على مهاجمته حتى لو كان يمتلك نفس سلاحه، لأن تصويبه أسرع من الآخرين. إن أسلحة المراقبة والاتصال تشل حركة الخصم، لأنها تكشف كل تحركاته. إن هذا هو الشكل الجديد للردع: شل فعالية العدو نتيجة مراقبته.

ما هو تفسيرك للاعتداءات الإرهابية؟ لا أتحدث فقط عن حالة فرنسا، بل عن هذا التهديد، الذي رايناه في مركز التجارة العالمي ومدينة أكلاهوما (الولايات المتحدة الأمركية).

بول فيريليو: لقد حطم الردع الشكل السياسي للحرب، الحرب النظامية، كما نظر لها كارل فون كلاوسفيتز (1780-1831) في مؤلفه الشهير “الحرب”. إن الشكل السياسي الكلاوسفيتزي للحرب، قد تحلل في أشكال من بينها الإرهاب، وحرب التحرير، وحرب العصابات، مما تولد عنه عنف فوضوي وإرهابي، يمكن أن ينفذه أفراد أو جماعات محدودة دونما انتماء لأية دولة. كما وقع في حالة تفجير مركز التجارة العالمي. وكان هذا الاعتداء يماثل بالنسبة للمنظمات الإرهابية، التفجير النووي الذي تعرضت له مدينة هيروشيما اليابانية، لقد تجرأت على فعل أقصىما في وسعها، لأنها استهدفت تقويض مركز التجارة العالمي.

إلا أن تفجير مركز التجارة العالمي، لا زال ينتمي إلى إرهاب تقليدي، يشير إلى ما قد يصل إليه الإرهاب من استعمال للأسلحة النووية. وإذا كانت الحرب قد تطورت من حرب محلية إلى حرب دولية، ثم إلى حرب عالمية وأخيرا إلى حرب شاملة بفعل القنبلة النووية، فإن الإرهاب بدوره، بدأ باعتداءات صغيرة من أجل التحذير والتخويف وخلق أجواء التوتر، وتحول إلى أفعال إرهابية، استهدفت تقويض مركز التجارة العالمي ومبنى حكومي بمدينة أكلاهوما. إن تحلل الشكل السياسي للحرب يقود إلى صعود الإرهاب الشامل. الآن، نواجه الإرهاب الشامل، بعدما عشنا فترة الحرب الشاملة.

لماذا هذا الإرهاب اليوم؟

بول فيريليو: لأن الحرب لا تنطفئ، لأن الحرب جزء لا يتجزأ من التاريخ، فأصل التاريخ، هو حكايات المعارك. إن الحرب جزء لا يتجزأ من التاريخ، وهي تعود باستمرار وعندما نضغط عليها في مكان ما، تنبثق في مكان آخر، وتنفلت. وإبان فترة الردع النووي، تم الضغط على الحرب الدولية، الحرب العالمية، “الحرب الكبرى”، كما كان يقال في عام 1914. إلا أنها ظهرت في مكان آخر. إن الأسلحة الجديدة، هي أسلحة مصغرة، سعت الأبحاث العسكرية، إبان فترة الردع النووي، إلى التقليص من حجمها بغية التمكن من نقلها من مكان إلى آخر. إذن، فأسلحة الدمار الشامل والأسلحة النووية تم تصغيرها ليسهل نقلها. وانطلاقا من اللحظة التي أصبحت فيها قابلة للنقل، فيمكن لأي شخص استعمالها.

إن تنبؤك كارثي، فهل في نظرك سنتعرض في يوم من الأيام إلى اعتداء إرهابي نووي؟

بول فيريليو: إنه من المحتوم مستقبلا، أن نتعرض لاعتداء إرهابي في حجم تفجير هيروشيما.

نلاحظ في أعمالك، نوعا من الافتتان بالحادث.

بول فيريليو: إن الحادث موح ونبوئي. فهو ما ينبغي مواجهته من أجل تطوير التقنية. قل لي ما هو الحادث وسأقول لك ما هي التقنية. واختراع شيء تقني، هو تدشين لحادث خصوصي:اختراع الباخرة، هو اختراع لغرقها، واختراع القطار، هو اختراع لخروجه عن السكة. واختراع الطائرة، هو اختراع لسقوطها. واختراع الكهرباء، هو اختراع للصعق به. ما يهمني كمنتقد للتقنية هو تحديد خصوصية الحادث.

إنه بتحليلنا للحادث المرتبط بشيء ما، يمكننا تطوير هذا الشيء، من أجل تحسينه، أنسنته وتمدينه. ولنأخذ مثل القطار: عندما اخترعت السكة الحديدية، كانت الحاجة ماسة لنوعين من المهندسين: منهدسي الجسور والطرقات المكلفين بمد خطوط السكك الحديدية، وحفر الأنفاق، وبناء الجسور (جسور جد خاصة لأنه لا ينبغي أن تكون فيها اهتزازات)، ثم مهندسي الآلة البخارية الذين اخترعوا القاطرات والعربات. كل هذا سيسير على السكة الحديدية، لكن سيخرج عنها. وحوالي عام 1880، كان بإمكاننا تطوير الآلة البخارية والسكك الحديدية بشكل لا متناهي، إلا أن ما يعيق تطور السكك الحديدية، هو انحراف القطار عن مساره. لذلك اخترعت هندسة جديدة، هندسة حركة المرور، لتنظيم السير على السكة الحديدة… توجد السكك الحديدية والقطار ومحطات توقفه، لكن توجد أيضا المسافة وحركة المرور. لذلك تم اختراع مهنة مهندس حركة المرور. وهذا ما مكن، فيما بعد، من ابتكار القطار فائق السرعة (T.G.V).

إن التكنولوجيات الجديدة لشبكة الاتصال، سواء تعلق الأمر، بأنترنيت أو بأخرى غيرها، هي من نفس الطبيعة. إنها تحمل في طياتها الحادث الخصوصي، لكن لا يمكن التعرف على ذلك الحادث لعدم وجود قتلى، ولأننا لا نرى سيارات محطمة أو أجسادا ممزقة، لكن توجد البطالة والتجسس. إن الكشف عن الحادث في أية تكنولوجيا، يمكن من تطوير وتمدين التقنية. إن التقنية هي أولا الحادث.

لماذا تستعمل عبارة الحادث من أجل تحديد هذا الحدث وليس الكارثة؟

بول فيريليو: استعمل عبارة الحادث بسبب دلالتها الفلسفية، التي تتعارض مع مفهوم الجوهر، أما كلمة الكارثة، فيبدو لي أنها مبالغ فيها. إن المسؤول عن ورشة بناء السكة الحديدة، وحتى السائق لا يرغبان في إحداث انحراف القطار عن السكة الحديدية. بل يقع الحادث فجأة. إن الجوهر ضروري، بينما الحادث نسبي وطارئ.

ما هو التحليل الذي تقدمه لحادث السيارة، الذي يتزايد في مجتمعنا؟

بول فيريليو: يندرج حادث السيارة ضمن نوع من الحرب الأهلية للحركة. فمجتمعنا هو مجتمع الحركة الشاملة، بحيث أصبحت فيه السيارة وسيلة للحركية الاجتماعية من خلال العمل والترفيه. إن التاريخ هو تسريع: تسريع لتنقل الأشياء والأشخاص، وتسريع لتبادل الأخبار والمعلومات مع ثورة الاتصالات، وبالنتيجة تسريع للحادث وتعدد أشكاله. والحادث يشمل جميع ما”يتحرك ذاتيا”: الباخرة والقطار والسيارة والطائرة، إنها كلها “تتحرك ذاتيا”. وكذلك يمس الحادث المجال السمعي البصري مع وسائل الاتصال عن بعد، والعمل عن بعد، وإنشاء وحدات إنتاجية خارج الدول الغربية، تمكن من تشغيل الصينيين، مثلا، بثمن حرب أهلية. إنه تقدم الحركة الذي لا ينفصل عن تقدم الحادث، عن حادث يتطور. في البداية كان الناس يتمزقون في حادث القطار، أو اصطدام بين السيارات أو الشاحنات، أو تحطم الطائرات. واليوم، لا يظهر أثر لأي قتلى، بل يوجد فقط الأشباح والمهمشون، لأنه لا يمكننا التحكم باستمرار في الأشغال التي تنفذ في جمييع أرجاء العالم. وليست البطالة الشاملة إلا شكلا من أشكال الحادث الناجم عن تطور تكنولوجيا الاتصال عن بعد.

سيعترض ماركسي على قولك بأن البطالة هي مجرد حادث، لأنه يمكننا أيضا الحديث عن أشخاص مسؤولين عنها.

بول فيريليو: الحادث هو بدون شك جزء من إرادة القوة. إرادة قوة أولئك الذين يتحكمون في القوة والرأسمال والسلطة، لكن هو أيضا قوة التقنية. لا توجد فقط قوة أولئك الذين يستعملون التقنية، بل توجد أيضا القوة الخاصة بالتقنية. إنني عشت هذه القوة الخاصة أثناء سنوات الحرب. في تناقض غير عادي: فمن جهة، الحرب الخاطفة، الغزو والرعب، وإعدام الألمان لسبعة وعشرين شخصا رميا بالرصاص بمنطقة شاطوبريون (يوم 22 أكتوبر من عام 1941). ومن جهة أخرى قاذفات الدول الحليفة التي دمرت مدينة نونط. ففي جانب يوجد الحلفاء، أصدقائي، وفي الجانب الآخر، الأعداء، وتقع قوة التقنية في الوسط.

يتم تطوير فكر وبرامج أمنية لمواجهة الحادث. فهل لنا أن نحلم بمشروع أويوبيا اختفاء الحادث؟

بول فيريليو: الحادث هو الوجه الخفي للتقدم. ولا يوجد تقدم شامل، بل نسبي فقط، سواء في الميدان الاقتصادي أو العلمي أو التقني. ولا يوجد تقدم بدون ظله، والحادث هو ظله.

ليكن، لكن هل يصاحب كل تقدم حادث؟

بول فيريليو: نتيجة تطور السرعة، التي تعتبر أساس قوة التقنية، انتقلنا من حادث خصوصي وخاص، أو حادث على نطاق محلي إلى إمكانية وقوع حادث عام، يشمل عموم المكان والزمان، حادث بدون مثيل، حادث خارق للعادة.

كان بإمكاننا الاحتماء من الحادث المحلي بفضل شركات التأمين، أو إجراءات تقنية، وقائية كإقامة إشارات المرور ومراقبة الشرطة لحركة السير في الشوارع والطرق السيارة. كنا نقبل دفع مبلغ مالي من أجل التأمين على أنفسنا، لما يقع حادث محلي، يحدث خاصة هنا والآن، في حيث لا يمكننا الاحتماء من الحادث العام والكامل. إن السرعة المطلقة للموجات الكهربائية -المعناطيسية تفوق بكثير السرعة النسبية للقطار أو السيارة، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام إمكانية وقوع حادث عام، لا مفر منه، تتجلى أخطر صوره، لكن كيف يمكن وصفه بما أنه خارق للعادة؟ قد تتحقق أخطر صوره في انهيار الأسواق المالية أو تلوث إشعاعي، يذهب ضحيته جميع السكان في نفس الوقت.

يصعب الحديث عن شيء لم يتحقق بعد، ولازال في طور الكون… إن الحادث العام، يكمن في البطالة الشاملة، التي لم تعد مشكلا بل حلا، وفي كون تزامن الفعل ورد الفعل قد يؤدي إلى اضطراب سياسي حقيقي. إن هذه الوضعية تتجاوز مرحلة الأزمة، وتتميز بانبثاق حادث عام، حادث من نفس طبيعة الحادث الأول لانفجار المركبة الفضائية “شالنجر”، بمعنى شيء نعرف بأنه سيقع، لكن ليس في وسعنا أن نحتمي منه، بل ولا نستطيع حتى الاحتماء منه فلسفيا أو أخلاقيا، لأن هذا الحادث بكل بساطة يستحيل تحديد من يتحمل مسؤوليته… ينمو الحادث، إذن، كلما نمت القوة، والمال والتقنية واحتكار السوق.

حاليا، يستبد بالجميع قلق ظاهرة الكارثة.

بول فيريليو: يفسر التخوف من هذا التهديد بالكارثة وجود حماة البيئة، الذين يجسدون الحادث العام. وما يميز الحادث العام، أنه يهم جميع التخصصات وكل واحد يتطرق له من زاويته الخاصة. وعلم البيئة تناول المسألة بطريقته الخاصة. وأنا بدوري أحاول تقديم وجهة نظر مغايرة بالحديث عن إيكولوجيا “رمادية” بالتعارض مع إيكولوجيا “خضراء”. الإيكولوجيا الخضراء هي إيكولوجيا للمسافات والفسح المجالية وللعلاقة بالغير وبالعالم. والحادث العام هو أيضا الحادث الذي يقع عندما نصطدم بجدار الزمن الواقعي، أي لما نحاول تجاوز جدار سرعة 300.000 كيلو متر في الثانية، كما حددتها النظرية النسبية.

فلسفتك هي أساسا فلسفة التقنية.

بول فيريليو: إن السرعة تطورت بفعل التقنية. ففي البداية، كانت توجد فقط سرعة أولية، تتمثل في سرعة الكائن الحي، وسرعة الخلايا الحية وتجددها. ثم سعى الإنسان إلى الرفع من سرعته، فروض الحصان الذي هو بمثابة المحرك الأول، وزواج بين الحصانين العربي والإنجليزي من أجل جعله حيوانا ذا أداء أقوى وأسرع. كما اخترع الإنسان الباخرة الشراعية، وزودها، فيما بعد، بمحرك…الخ، واليوم، تجاوزت التقنية بفضل الموجات الكهربائية-المغناطيسية جدارين: جدار الصوت وجدار الحرارة (توضع بفضله الأقمار الصناعية في مدارها حول الأرض)، لكنها تصطدم بجدار الزمن الواقعي، أي جدار سرعة الضوء، جدار لن نتجاوزه أبدا.

تحدد كل تقنية جديدة شكلا معينا للزمان والمكان.

بول فيريليو: السرعة هي وسط، الوسط. إننا لا نسكن فقط سطح الأرض، بل نسكن أيضا السرعة. والسرعة هي وسط، تعد العربات نظريات لتأويله: تؤول السيارة الوسط-سرعة بشكل يخالف الطائرة، التي تخترق جدار الصوت، وبشكل يخالف المشي على الأقدام أم الدراجة الهوائية. السرعة هي وسط، وكل اختراع لوسيط جديد: دراجة هوائية أو سيارة أو طائرة، هي طريقة جديدة لتأويله.

في مؤلفك الأخير “سرعة التحرر”، حيث تتناول تاريخ السرعة والتقنية والتقدم، تتحدث عن وقوع تحول عميق في مفهومي الزمان والمكان.

بول فيريليو: لا يمكن بالنسبة لي أن يتطابق المكان إلا مع المكان-عالم، بيد أن هذا المكان-عالم، هذا الامتداد الطبيعي، أصبح مملوءا عن آخره بتكنولوجيات الاتصال بسرعة الضوء. لذلك يترك المكان-عالم (المكان الواقعي) المجال للزمن-عالم أي الزمن الواقعي.

وقد أصبحت التكنولوجيات التي تستعمل بالمدينة هي تكنولوجيات العمل عن بعد، والندوات عن بعد، والحضور عن بعد. لذلك ستتوفر المدينة المستقبلية على موقع افتراضي في تكنولوجيا الاتصال عن بعد، ولن تظل مدينة تقع في مكان واقعي- وستكون الموانئ أو المطارات عن بعد (TELEPORT) هي مداخلها الأساسية. وفي الماضي، كانت المدينة تتوفر على باب الحصن، وفيما بعد، على الميناء، ثم على محطة القطار، فالمطار، وهي تجهيزات تندرج في إطار المكان الواقعي، وتستلزم بنيات تحتية ضخمة، من طرق وسكك حديدية ومدرجات المطارات. لكن الميناء أو المطار عن بعد، يدخلنا العصر اللامادي، بحيث لن نحتاج إلى تجهيزات مادية ضخمة، في المدينة عن بعد. وهذا ما ينتج عنه خلق تجمع حضري خصوصي: المدينة-عالم. إنه مركز ضخم بحيث لم يعد الأمر يتعلق بمدينة عالمية، بل بمدينة دائمة الحضور. وفي السابق كانت العاصمتان لندن وروما تختزلان المجال الذي كانتا تراقبانه، ولكن تحكمهما كان نسبيا، لأنه ارتكز أساسا على الاستحواذ على مجال النقل البحري، إذ تحالفت شركات التجارة البحرية بلندن فيما بينها، بينما انتشر الأسطول البحري لروما في البحر الأبيض المتوسط من أجل مراقبته. البوم، لا يرجع سبب هيمنة الدول إلى سيطرتها على المكان الواقعي، وينقسم هندسيا إلى مكونين اثنين: المركز والمحيط. لا زالت توجد مدن، هذا صحيح، لكنها فقدت قوتها التأثيرية. وما يشكل المركز الحقيقي، الآن، هو مركز الزمن الواقعي، وهو عبارة عن مركز ضخم، ومدينة افتراضية، لا توجد في أي مكان وفي كل مكان، في نفس الآن. يجعل هذا المركز الضخم للزمن الواقعي من جميع المدن الواقعية مجرد دوائر ترابية وحتى ضاحية لهذه المدينة الافتراضية، لهذه المدينة الدائمة الحضور، والتي تحل محل المدن العالمية، والتي كانت روما ولندن مثالا لها. وإذا صدقنا ما قاله ساسكيا ساسن في مؤلفه “المدينة الشاملة” سنسير في هذا الاتجاه. إذ ينطبق الآن على سنغافورة اسم مدينة-عالم، لأنها تتوفر على ميناء ومطار دوليين، بالإضافة إلى مطار أو ميناء عن بعد، يستعمل قصرا صناعيا ثابتا فوقها على ارتفاع 36.000 كلم عن سطح الأرض. إن المدينة الافتراضية: عاصمة العواصم والمدينة-عالم، هي هذا المركز، الذي لا يوجد في أي مكان، وفي كل مكان في نفس الآن، والذي ينزع عن جميع المدن الواقعية مصداقيتها، ويحولها إلى مجرد ضواحي لها.

سيقول فيكتور هيغو (1802-1885)، ربما تعلق الأمر هنا بتقدم غير عادي، بما أنه يفتح المجال أمام إمكانية تآخي كوني.

بول فيريليو: أعتقد في هذه الاخوة، لكن تحقيق المواطنة العالمية يحتاج إلى كفاح. إنها ليست هبة بل كفاحا، ونضالا ضد منح الامتياز للبعيد وحرمان القريب منه. ولطالما كان الصديق هو القريب والحليف، بينما كان العدو هو البعيد والغريب. واليوم، لا نشهد خلطا بين القريب والبعيد فحسب، بل قلبا للعلاقة بينهما، إذ أصبح البعيد، الذي يظهر على شاشة التلفزة صديقا، في حين تحول القريب والجار، الذي تنبعث منه رائحة كريهة، ويثير الضوضاء، إلى عدو. وبذلك حصل قلب لقانون القرب، ساهم في الأزمنة التي تعيشها المدن.

إن جاري في المسكن، هو عدوي لأنه نتن مضجر، ويأتي لمضايقتي، بينما من رأى على شاشة التفلزة، أو أسمع على الهاتف، لا يزعجني إذ يمكنني إقفال الخط أنما شئت! إن هذا القلب يحقق عبارة نيتشيه: “احبوا البعيد عنكم، كما تحبون أنفسكم”.

هذا ما يفتح على ما تسميه الفضاء الافتراضي (CYBERESPACE).

بول فيريليو: إننا في حقبة لا مثيل لها. فبينما كانت تنتمي تقنيات الصوت والصورة الموظفة في أجهزة الاستماع عن بعد (الراديو)، أو الرؤية عن بعد (التلفزة) إلى مرحلة القرن الخامس عشر بإيطاليا بداية عصر النهضة. فإننا منذ القرن الحالي ولجنا مرحلة الزمن الواقعي والبصريات التموجية، التي تمكن من نقل المشاعر والأحاسيس عبر وسائط مادية بين شخصين، بحيث تم اختراع طريقة للمس. إن الحدث خارق للعادة، لأنه حتى عهد قريب، لم نكن لنحلم باختراع جهاز يمكن من اللمس عن بعد. واليوم، يمكنني أن ألمس بقفازين للمعطيات (قفازين لتبادل الإشارات بين الشخصين) شخصا آخر على بعد آلاف الكيلومترات. كما اخترعت، حاليا، أجهزة تمكن من شم وردة عن بعد الشيء الوحيد الذي يتمنع عنا هو التذوق عن بعد؟ إذ يستحيل علينا الشرب عن بعد! فالتذوق هو الحاسة الوحيدة التي لا زالت تقاوم النقل الخارجي عن بعد. هذه هي نهاية العالم، ليس بمعنى فناء العالم، بل إنها نهاية العالم الخارجي، بمعنى ما يوجد خارجا عني. وبذلك يتطابق جسدنا مع العالم، فنصبح الإنسان-عالم. وسيكون إنسان الأنترنيت، وإنسان الزمن الواقعي إنسانا بمقدوره الحضور عن بعد، في أية لحظة.

لكن لماذا لا يكون هذا الفضاء الافتراضي هو نفسه مجالا ترابيا؟

بول فيريليو: ليس وسط ما مجالا ترابيا، بل ينبغي الاشتغال على عناصره، ليصبح كذلك، وأخذ الحادث العام بعين الاعتبار، كما أخذ مهندسو السكك الحديدية بعين الاعتبار المشاكل التي تطرحها إمكانية انحراف القطار عن مساره. وهذا دور ينبغي أن تقوم بع الإيكولوجيا الرمادية. لأنه توجد إمكانية لانحراف وسائل الاتصال عن بعد عن مسارها، ووقوع حادث لازال كامنا في الزمن الواقعي. لذلك ينبغي محاربة هذا الحادث. لم أقل أبدا إنه لا ينبغي تطوير عمل التقنية، بل فقط ينبغي محاربة الحادث المرتبط بالتقنية، لأنه إذا لم نحارب ضد التقنية، فلن نكون أبدا أناسا أحرارا.

مجلة الجابري – العدد السادس عشر