مجلة حكمة
بادي

برتراند بادي: حوار حول لحظة ترامب الراهنة، وعلم المعاناة، والعلاقات الدولية بين القوة والضعف / ترجمة : ريم العامري


تحتفظ العلاقات الدوليّة بتركيز تقليدي على لعبة القوة بين الدول باعتبارها السمة المميزة، ولكن ماذا إذا كان هذا يعني أن حقلنا المعرفي يقوم على إنكار إنسانيتنا؟ عملاق العلاقات الدوليّة الفرانكوفونيّة برتراند بادي عمل جاهدًا على وضع المعاناة الإنسانيّة في مركز التحليل الدولي بدلاً من ذلك من خلال السماح برؤى اجتماعيّة واسعة على واقع تجريبي عالمي حقيقي، في هذا الحديث ، يتحدى بادي – ضمن آخرين– عن مركزيّة فكرة قوة الدولة، التي لا معنى لها في عالم حيث يتم تحديد معظم أجندة العلاقات الدوليّة من القضايا الناجمة عن ضعف الدولة ؛ ويدعو إلى مركزيّة المعاناة لعلاقات دوليّة أكثر ملاءمة؛ ويستخدم هذا لتأطير لحظة ترامب الراهنة.


  1. ما هو أو يجب أن يكونالتحدي الأكبر أو الحوار الرئيسي في العلاقات الدوليّة الحاليّة بالنسبة لك؟ ما هو موقفك من هذا التحدي أو تجاوبك مع هذا الحوار؟

بادي: من دون شك، سيكون مسألة التغيّر، أنه قت وضع تصوّر، بل أبعد من ذلك، أنه وقت التنظير حول التغيّر الذي يحدث في حقل العلاقات الدولية، لطالما كان لدى البشر شعور أنهم يعيشون في فترة من الاضطرابات، لكن العلاقات الدولية المعاصرة تمتاز فعلاً بالعديد من المعالم التي تظهر مدى التغيّر الشديد، وأنا أرى على الأقل ثلاثة تغيّرات.

أ. التغير الأول متعلق بالطبيعة الإقصائيّة للنظام الدولي، لأول مرة في تاريخ البشريّة يغطي النظام الدولي تقريباً كل الإنسانيّة، بينما النظام الويستفالي كان عبارة عن ديناميّة أوروبيّة إقصائيّة والتي دخلت فيها الولايات المتحدة الأمريكية لتحولها إلى نظام والذي سأسميه أوروبي-شمال-أمريكي.

ب. التغيّر الأخر، والذي تزخر حوله المنشورات هو التحول العميق في طبيعة الصراع، كانت الحرب في النموذج الويستفالي مسألة تنافس بين القوى، لكن اليوم لدينا هذا الشعور بأن الوهن يحل محل القوة، ولا يمكن للقوة بعد الآن أن تعمل كمفهوم تفسيري مركزي في الحالات الصرائعيَة، التي هي بالأحرى تمظهرات لوهن الدولة، تأمل في الدول “الفاشلة” أو الدول “المنهارة” التي تشير إلى دول تتداعى أسست بشكل سيء بالأساس إلى جانب ميوعة الروابط الإجتماعيّة، هذا الشكل الجديد من الصرائعيّة يقلب البيئة الدوليّة رأساً على عقب بشكل كامل ويشكل دليل ثاني للتحول.

ج. التغيّر الثالث متعلق بقابليّة الحركة، نظامنا الدولي مؤسس بالكليّة على فكرة الأقاليم الجغرافيّة والحدود، على فكرة أن الثبات يحدد صلاحيات الدولة بشكل دقيق، من وجهة النظر هذه، الدولة تشير إلى الإقليم – كالتعريف الذي يقدمه ماكس فيبر بشكل واضح- لكن اليوم فكرة إقليمية السياسة يتم تحديها من قبل مجموعة واسعة من المتحركات، تتكون من التدفقات الدوليّة والتي يمكن أن تكون تدفق مادي ، معلوماتي ، أو بشري. هذه ثلاثة مؤشرات تبين التحول العميق في الطبيعة الداخليّة للعلاقات الدوليّة والتي تتشجعني للحديث حول “علاقات بين-اجتماعية” بدلاَ من العلاقة الدوليَة، فكرة العلاقات بين الدول لم تعد تعكس مجمل اللعبة العالميّة، نظرية العلاقات الدوليّة بالكامل كانت مبنية على النموذج الويستفالي المنبثق عن صلح ويستفاليا كما لو كان تأكيد على إنجاز عملية بناء الدولة-الأمة وكما هيمنت على المسار التاريخي للأحداث الدوليّة حتى سقوط جدار برلين.

حتى سقوط جدار برلين، كل ما لم يمكن مرتبط بأوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكيّة، أو على وجه الدقة أمريكا الشماليّة ، كان ببساطة يسمى “بالهامش”، وهذا فيه من المغزى ما يكفي، اليوم على العكس، الهامش أصبح مركزي على الأقل فيما يتعلق بالصراعات، ولذلك علينا إسقاط النموذج الويستفالي وبناء أدوات تحليل جديدة للعلاقات الدوليّة من شأنها أخذ هذه التحولات كنقطة إنطلاق، كما أن التخلص من مقاربتنا الويستفاليّة للعلاقات الدولية سيعني مسائلة كل من نظريات العلاقات الدوليّة الكلاسيكيّة ومسائلة نماذج العمل العمليّة في السياسة الدولية مما يعني استخدامات الدبلوماسيّة والحرب.

  1. كيف توصلت إلى ما تفكر فيه حاليًا بشأن العلاقات الدوليّة؟

  أنت تعلم أنه عندما نكتب، وحتى عندما نعمل فنحن متأثرون قبل كل شيء بإستيائنا، إن المقاربة الويستفاليّة الكلاسيكة للعلاقات الدولية كما قلت سابقاً لم ترضني، كما كان لدي شعور أنها تركز على أحداث لم تعد بتلك الاهميّة التي لطالما أعطياناها إيها،على سبيل المثال سباق التسلح، سياسات القوى العظمى أو المفاوضات الدبلوماسية التقليديّة، بينما أنا كنت أرى، وربما كان ذلك هو المحفز، أن المعاناة الأعظم في العالم تأتي من أماكن نظرية العلاقات الدوليّة لا تغطيها حقاً.

لطالما أخبرت طلابي أن العلاقات الدولية هو “علم المعاناة البشريّة”، هذه المعاناة موجودة بالطبع حيثما نكون، في أوروبا، في أمريكا الشماليّة، أنها تتواجد في كل مكان في العالم، لكن الجزء الأكبر منها يتواجد خارج المنطقة الويسفاليّة، لذلك فإن المقاربة الكلاسيكيّة للعلاقات الدوليّة تعطي صورة هامشيّة ومشوهة، أفريقيا والشرق الأوسط تبدو مناطق باهتة من خلال المنظور الويسفالي، مناطق مختلفة تماماّ عن الثراء الذي تتمع به هذه المناطق، وأنا لطالما أعتبرت أن في عالم يموت فيه ستة إلى تسعة ملايين إنسان جوعاً سنوياً  تبدو فيه الأولويات الرئيسيّة للعلاقات الدولية التقليدية مثيرة للسخرية، حتى “الإرهاب” الذي كلنا نعزو إليه أهمية قصوى بالكاد يصل مدى أهمية تحدي الأمن الغذائي.

تتخذ كتبي الثلاث الأخيرة موقفاّ ضد نظريات العلاقات الدولية التقليديّة، في كتاب دبلوماسية التواطؤ (2012) حاولت أن أوضح أن “لعبة القوة العظمى”  هي فعلاً طريقة لعبة أكثر تكاملاً مما نقول عادةً وأن هذه اللعبة تُلعب في جميع المحافل متعددة الأطراف، ويوجد بالفعل نادٍ، وهذا بالضبط ما أردتُ أن أصفه ، نادي للقوى يؤدي إلى الإضرار بالأعضاء الأقل نفوذاً في النظام الدولي.

في كتاب زمن المذلولين (2012) لقد حاولت أن أبلور ما عجزت التعبير عنه النظرية الكلاسيكيّة ، وهو الهيمنة التي تُرى من خلال عدسات المهيمن عليهم، الذل كما يشعر به المذلولين ، والعنف الذي يتعرض له اليائسون، على سبيل المثال، حتى لو نظرنا إلى القوى المنجزة مثل الصين اليوم – تتشارك المركز الأول مع الولايات المتحدة الأمريكيّة من حيث الناتج المحلي الإجمالي – علينا أن نعترف بأن تجربتهم التاريخية في الإذلال تشكل مصدراً هائلاً للإلهام عندما يتعلق الأمر في وضع سياستها الخارجية.

وثم في آخر كتبي “لم نعد وحدنا في العالم” (2016) كان النقد أكثر وضوحاً، إننا نكتب علاقات دوليّة تشمل فقط حوالي مليار نسمة بينما ننسى كل الآخرين، اليوم لم يعد صحيحاً أن هذه القوى القديمة هي من تضع أجندة الأعمال الدوليّة، السياسية العالميّة اليوم تُكتب بواسطة الأقل والأضعف والمهيّمن عليهم وغالباً مع ما يتم ذلك مع اللجوء إلى أشكال متطرفة من العنف، ولكن هذا يتطلب منا تحليل وفهم، ما يعني تغيير كامل لنظرية العلاقات الدولية.

علينا أن لا ننسى أن نظرية العلاقت الدوليّة إلى حد كبير كانت معطى مع إنتصار الولايات المتحدة الأمريكيّة عام 1945، “سياسات القوى العظمى” المعروفة جيداً والتي تهيمن على نظرية العلاقات الدولية التقليديّة، دشنها مورجنثاو ودعمها أخرين كثر، وصفت ما كان صحيحاً وقتها: “قدرة القوة الأمريكية على تحريرنا من الوحش النازي”، اليوم التحدي مختلف تماماً، وهو بالمناسبة أمر ذو مغزى أن أثنين من أعظم علماء السياسة الدوليين الأمريكان وهما روبرت كوهين و ريتشارد نيد ليبو قد كتبا كلاهما كتب تلمح بنهاية هذا النظام العالمي – كتاب بعد الهيمنة وكتاب وداعاً الهيمنة–  حسنا، ما يهمني هو بالضبط البحث أكثر فيما يأتي بعد الهيمنة.


  1. ما الذي سيحتاجه الطالب ليصبح متخصص في العلاقات الدولية أو ليفهم العالم بشكل عالميّ؟

بادي: أولاً وقبل كل شيء، سأنصحهم بإعادة تسمية علمهم، كما قلت سابقاً، وتسميته بالعلاقات البين-إجتماعية، إن مستقبل ما نسميه بالعلاقات الدولية يمكن تلخيصه إلى القدرة على فهم تفاعلات شديدة الثراء والتعدد والتنوع والتي تحدث بين وعبر مجتمعات العالم، وذلك لا يعني أن علينا إهمال منطلق مركزية الدولة لكن بدلاَ من ذلك لابد من إزاحة الدول من مركز هذا النظام متعدد الفاعلين لفهم كيف أن هذه الدول في الغالب مغلوب على أمرها عندما تواجه هؤلاء الفاعلون المختلفون، هذه ستكون نصيحتي الأولى.

نصيحتي الثانية ستكون النظر إلى الأمام وليس للخلف، لا تسمح لنفسك أن تكون خاضعًا للنموذج الويسفالي، وحاول أن تبني ما نحن بحاجة له، طالما أن لا شيء تقريباً قد تم حتى اليوم لتأسيس هذا النموذج المابعد-ويستفالي/ماوراء النموذج الويستفالي، غير القوة هناك أمور لازلنا نسيء تعريفها أو نغفلها بينما هي القوة المحركة للعلاقات الدوليّة اليوم وفي المستقبل كذلك، من وجهة النظر هذه قد يثبت علم الإجتماع أنه مفيد بوجه خاص، أنا أعتبر،على سبيل المثال إميل دوركايم مصدر إلهام مهم للغاية لفهم العالم اليوم، وهو مفكر يمكن دراسته وتطبيق أفكاره على العلاقات الدوليّة.

نصيحتي الثالثة التي سأقدمها لهم هي أن لا ينسوا أن العلاقات الدولية أو العلاقات بين-اجتماعيّة هي في حقيقة الأمر علوم “المعاناة البشريّة”، لابد من أن نكون قادرين على وضع المعاناة في قلب الفكر، لقد أضعنا الكثير من الوقت نحدق بالقوة، الآن هو وقت التحرك لوضع المعاناة البشريّة في المركز، قد يسال سائل  لماذا؟ أولاً وقبل كل شي لأن ذلك أفضل من الناحيّة الأخلاقيّة، ولكن أيضاَ لأنه في السياسة العالميّة الفعليّة اليوم المعاناة أكثر إستباقيّة من القوة، والتي ليست بالضرورة إجابيّة لكن إذا ما تم الإعتراف بها ستتيح لنا مسائلة أفضل لأشكال الصراع الحديثة، وربما لسوء الحظ، جدول الأعمال الدوليّة لم يعد مثبت بالقانون بل بالدموع، قد تكون هذه هي النقطة الرئيسية التي يجب أن نركز تفكيرنا عليها.

  1.  يبدو إن إصرارك على وضع المعاناة في مركز علم العلاقات الدوليّة يضعك بقوة إلى جانب أولئك الذين يعترفون “بالتظلم” بدلاً من “الجشع” كمنطق مركزي للسياسة الدوليّة. ما رأيك في هذه المقارنة؟

بادي: أنت محق، فكرة التظلم، فكرة الإتهام، هي منطق هيكلي للعبة الدوليّة اليوم، ونحن لم نتوقع حدوث ذلك لسببين، أولاَ بسبب تحليلنا التقليدي للسياسات الدوليّة والذي يفترض وحدة الزمن، كما لو أن العصر الأفريقي، العصر الصيني، العصر الهندي، والعصر الأوروبي كلها متطابقة، إلا أن ذلك تماماً غير صحيح، لأننا في ثقافتنا الأوروبية لم نستوعب أن قبل ويستفاليا كان هناك نماذج سياسيّة، تواريخ سياسيّة، والتي خلّفت أثراً عميقاً على البشر الذين سيشكلون السياسة المعاصرة، تذكر أن الصين هي إمبراطورية أمتدت لأربعة آلاف عام، وأن أفريقيا قبل الاستعمار كنت مكونة من مملكات، وامبراطوريات، وحضارات، وفلسفات ، وفنون، تذكر أن الهند أيضاً عمرها آلاف السنين، عصر ويستفاليا أتى ليرفض تماماً ويسحق هذه الزمانيّة والتاريخانيّة، بطريقة تكاد تكون إنكاريّة ، مما يعني أنه هذا النموذج فقط كان مرتبطًا بعصر النهضة؛ وأنه كان لعصر التنوير والعقل مهمة إعادة صياغة العالم كما لو كان قرص صلب، كان ذلك رهان عقيم، رهان كان لأسلافنا الأوروبيين ما يعذره، في ذلك الوقت لم نكن نعلم كل هذه التواريخ، وحينها لم نكن نملك كل هذه المعرفة التي نملكها اليوم عن الآخر، وبالتالي سوينا الأمر ببساطة من خلال رفض الغيريّة، ومع ذلك، العلاقات الدولية على العكس، تتطلع إلى تحقيق الغيريّة، حتماّ إن كل أولئك الذين رأوا أنفسهن ينكرون تاريخهم على مدة عدة قرون بل وعدة ألفيّات، راكموا شعور بالتجريم، وخصوصاً شعور عميق بالضيّم.

السبب الثاني هو أن كل هذا حدث كان في سياق اختلال مصادر القوة، ومرتبط بعوامل مختلفة عكست بالفعل حقيقة أنه في لحظة زمنية معينة كانت القوى الغربية حرفياً ومجازياً مسلحة بشكل أفضل من باقي المجتمعات الأخرى، نفي الغيّريّة المذكور آنفًا تم وضعه وتضخيمه من خلال فرض قسري لنظام متعدد الأطراف والذي تحول إلى أسوأ وضع،تحول إلى هرمية ثقافيّة معلنة، ونتيجة لذلك وقد كان موجود مسبقاً، كما وصفها جول فيري في فرنسا في القرن التاسع عشر “أعراق” كما في عبارة ” علينا واجب تعليم الأعراق المنحطة”، إنها ليست بداية التاريخ، بل بداية تاريخ الإذلال، ومن خلال موجات العولمة المتعاقبة تحول هذا الإذلال إلى عصب مركزي يجري في الحياة الدوليّة، عصب تم استخدامه من قبل كل من الأقوياء الذي جعلوا من الإذلال أداة للسيطرة على الأخرين – فكر هنا في حروب الأفيون والإستعمار- وفي نفس الوقت عصب غذى ردة فعل التعبئة في العالم خارج ويستفاليا من قبل أولئك الذين كان عليهم أن يقفوا ضد الذين يهينونهم، لذلك ترى كيف أنه الإذلال يكمن حقاً في أسس العلاقات الدوليّة، وفي رأيي أنه أصبح نموذج قوي، يفسر كل شيء، على الرغم من أن العوامل الأخرى لا تزال تؤثر على الديناميكيات الفعلية.

من أجل إدراك كل هذا، نحن بحاجة إلى مقاربة اجتماعيّة لها بالنسبة لي جانبان، ويجب النظر في كلا الجانبين معًا حتى يتم فهم المقاربة جيدًا، الجانب الأول هو الأبديّة، وهو اعتبار أن السياسة في كل مكان وفي كل العصور هي منتج اجتماعي، لا يمكن فهم السياسة على أنها بطريقة ما خارج المجتمع، وما أقوله يتناقض مع غالبية علماء العلاقات الدوليّة الذين يؤمنون للغاية بإستقلالية السياسة والدولة – حتى لو كان ذلك لأغراض تحليلية فقط-، الجانب الثاني لهذه المقاربة الاجتماعية هو المكون التاريخي أو الزمني، وهذا ما كنت أتحدث عنه سابقًا: مع العولمة تقدم بقوة النسيج الاجتماعي مقارنة بالنسيج السياسي، ونظرًا لنمو العلاقات بين المجتمعات فإننا بحاجة إلى مقاربة اجتماعيّة لفهمها.


 

5. هل تعتقد أن فترة ترامب تشكل قطيعة جذريّة مع سيّر العلاقات الدوليّة؟

بادي: ربما لا يكون ترامب نفسه، ولكن ما يمثله بالتأكيد، إذا نظرنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية اليوم نرى، منذ الألفية الجديدة ، ثلاثة نماذج تعقب بعضها، بعد 11 سبتمبر كان زمن المحافظين الجدد حيث اعتبر القادة الأمريكيون أن العولمة وسيلة أو ربما فرصة لتعميم النموذج الأمريكي، سواء كان ذلك عن طيب خاطر أو وبالقوة كما كان الحال في العراق عام 2003، وهذا النموذج فشل.

أدى هذا إلى نموذج ثانٍ سأصفه بالنموذج الليبرالي/ النيوليبراليّة، ولقد تجسّدت بأوباما الذي تعلم الدرس من فشل المحافظين الجدد، وكانت لديه الشجاعة للتشكيك في الفرضية التي أعتُبرت حتى ذلك الحين غير قابلة للجدل بالنسبة للقيادة الأمريكية في العالم، و أعتبر أن الولايات المتحدة لا يمكنها الإنتصار إلا من خلال القوة الناعمة أو القوة الذكية أو التجارة الحرة، هذا هو السبب في أن أوباما كان مجرد تدخّلي قليلاً وكان يعتمد على شراكة التجارة والاستثمار عبر الاطلسي وعلى جميع تلك الإتفاقيات عبر إقليمية.

مع انتخاب ترامب نصل إلى نموذجٍ ثالث، نموذج أسميه القوميّة الجديدة، والتي تنظر إلى العولمة بطريقة مغايرة، في رأيه تشكل العولمة فرصة لتبيّة المصالح الأمريكيّة الوطنيّة، وتعود فكرة الوطنيّة بعد فاصل طويل من العولمة، هذا لا يعني أننا لم نعد تدخليين، ما حدث في سوريا يثبت ذلك، بل يعني أننا لن نتدخل وفقًا لإحتياجات العولمة بل وفقًا للمصالح الأمريكيّة، حيث يتعلق الأمر بمشاركة صورة قويّة للولايات المتحدة من جهة ، ومن جهة أخرى خدمة المصالح الفعليّة للشعب والأمة الأمريكيّة.

نموذج القوميّة الجديدة هذا لا يدافع عنه ترامب فقط ، وهذا هو السبب في أنني كنت أقول أنه لا ينبغي لنا أن ننظر إلى ترامب بشكل فردي، نجدها بنفس الطريقة تمامًا مع بوتين، نجدها من قبل العديد من قادة العالم الآخرين ، مثل أردوغان أو دوتيرتي أو فيكتور أوربان – شخصيات مختلفة حقًا – أو الفريق سيسي في مصر.

نجدها أيضًا في المواقف، على سبيل المثال بريكست في بريطانيا العظمى، وفي الشعبويّة اليمينيّة الجديدة في أوروبا: السيدة ماري لوبان، السيد فيلدرز، أو في بعض الشعبويّة اليساريّة الجديدة مثل جان لوك ميلونشون في فرنسا، أنها في تدور الأجواء تبدو وكأنها صرعة عابرة، إلا أن ذلك قد يشكل صدع مضاعف داخل العلاقات الدوليّة، أولاً وقبل كل شيء لأنه منذ ظهور العولمة، دعنا نقول خلال فترة السبعينيات، تم استبدال المصلحة الوطنيّة كفئة فكريّة شيئًا فشيئًا بمقاربات تتعلق بالسلع العامة، اليوم على النقيض من ذلك، نشهد تخلي عن هذه الصورة للسلع العامة لصالح العودة إلى المصلحة الوطنيّة، يبدو ذلك جليًا في تخلي ترامب عن مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي في باريس 2015، في نفس الوقت يشكل هذا مظهر من أشكال إعادة تأهيل فكرة القوة والتي تتسرب مرة أخرى إلى لغة العلاقات الدوليّة.

أنت تعلم أن مفكر العلاقات الدوليّة ليس شخصًا محايدًا، وعلينا استخدام علمنا هذا في العمل الإيجابي وتعريف السياسات العامة السليمة، إن مناهضة فكرة السلع العامة، وإثارة الشكوك حول أفكار كالأمن الإنساني، والأمن البيئي ، والأمن الغذائي ، والأمن الصحي أمر خطير للغاية لأن تركيبة المصالح الوطنيّة والأنانيّة لن تتلاقى أبدًا في سياسة متماسكة عالميًا، إن الضعفاء من سيعانون أولاً.

وفي نفس الوقت الذي يتم فيه استعادة القوة كمبدأ دافع لممارسة العلاقات الدوليّة، فإن المفارقة هي أن القوى العظمى اليوم تصبح أقل قوة شيئًا فشيئًا، إذا نظرنا فقط منذ عام 1989وسألنا متى انتصرت قوة الدولة في العلاقات الدوليّة؟ أين قد وجدت  الدولة الأقوى بارجة عسكريّة تمكنها من حل مشكلة لصالحه ووفقًا لأهدافها؟ ليس في الصومال، ولا في أفغانستان، ولا في العراق، ولا في سوريا، ولا في فلسطين، ولا أي مكان، ليس في الساحل، وليس في جمهورية الكونغو الديمقراطية، لا مكان، لذا فأنا في الواقع قلق قليلاً من إعادة التأهيل الساذج والقديم لقوة الدولة.

 

  1. هل يمكننا القول بأن العولمة، أو بالأحرى طموح التكامل على المستوى الأوروبي أو العالمي قد فشل؟ هل يمكن اعتبار اليوم لحظة جيدة لدفن فكرة التكامل؟

بادي: لا أحب مراسم الدفن، فهذا ليس تعبيرًا سأستخدامه ، لكن سؤالك وثيق الصلة جدًا بالموضوع، فمنذ حوالي عشرين عامًا وأنا أقول وأدرّس أن التكامل الإقليمي يشكل وسيط ومستوى واقعيّ للتكيّف بين عصر الدولة القوميّة والعولمة، مما يعني أنني اعتقدت لفترة طويلة أن التكامل الإقليمي كان الخطوة الأخيرة نحو حوكمة عالميّة للعالم.

ظننت لفترة طويلة أن ما لم يكن ممكناً على المستوى العالمي، حكومة عالميّة ، كان ممكناً على المستوى الإقليمي، وهذا كان بالفعل سيبسّط بشدة خريطة العالم وبالتالي السيّر في إتجاه هذا الإلتحام بالبعد الجماعي الذي تتطلبه العولمة، ومع ذلك ، لا تعاني أوروبا فقط من انتكاسة ، بل وجميع البنى الإقليميّة في العالم في وضع مماثل، السيد ترامب دفع صراحةً اتفاقية نافتا، والسوق المشتركة الجنوبيّة سقطت لأن كل دولة ضمن المجموعة لديها اتهامات ضد هذه السوق المشتركة، والقائمة تطول، وجميع أشكال التكامل التي وضعها تشافيز حول مثاله البوليفي لم تعد موجودة؛ أفريقيا تتقدم ببطء شديد من حيث التكامل الإقليمي؛ واتحاد المغرب العربي، وهو أداة أساسية، فشل فشلاً ذريعاً، وبالتالي فإن الوضع في الواقع لا يبدو جيدًا.

في حالة أوروبا هناك ظاهرة مزدوجة: من ناحية، هناك هذا الفشل الفادح حقًا الناجم عن انفصال بريطانيا العظمى عن أوروبا ، ثم أن هناك ضيق عام من النموذج الأوروبي، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حدث نادر حقًا، إذا نظرت إلى التاريخ المعاصر، ببساطة من غير المسبوق أن تغلق دولة الباب في وجه منظمة إقليميّة أو دوليّة، على ما أتذكر، حدث ذلك سابقًا عدة مرات فقط، مع إندونيسيا في الأمم المتحدة في عام 1964  والذي استمر 19 شهرًا فقط، وحدث ذلك مع المغرب مع الاتحاد الأفريقي إلا أنها حاليًا تعيد الاندماج ضمن الاتحاد، هذا الوضع البريطاني جاء كالصاعقة ، وتفاقم بسبب حقيقة أنه ومن المفارقة ليس التكامل الإقليمي الذي جعل البريطانيين يصوتون ضد الاتحاد الأوروبي، بل كان بشكل أكبر من منظور مناهض للهجرة وكراهية الأجانب والقوميّة (في إشارة إلى التوجه القومي الذي كنت أتحدث عنه سابقًا) والأمر المأساوي هو أنه يمكننا أن نرى بوضوح أن المشاعر القوميّة تهاجم بالفعل المبادئ الداخليّة للتكامل الإقليمي.

كنت أقول أنه في الحالة الأوروبيّة مشاكل داخليّة أعمق من الانشقاق البريطاني، سأركز على اثنتين منها على الأقل، أولاً، هناك عجز ديمقراطي في أوروبا ، بمعنى  أن أوروبا لم تكن قادرة على مطابقة المساحات الانتخابيّة مع تلك التي يتم فيها اتخاذ القرارات ؛ لا يزال الناس يصوتون على المستوى الوطني بينما يتم اتخاذ القرارات في بروكسل، ونتيجة لذلك، فإن السيطرة الديمقراطيّة على هذه القرارات ضعيفة للغاية، كيف يمكن حل هذه المعادلة؟ هنا يكون التفصيل كليًا نظرًا لأن عددًا قليلًا جدًا من الأشخاص يقدمون مقترحات بهذا الشأن، العامل الآخر لهذه الأزمة ، حسب رأيي ، هو حقيقة أن أوروبا بُنيت بنجاح بعد الحرب العالمية الثانية بطريقة تدريجيّة نحو التكامل، وفي الواقع ، أثبت دوركهايم أن المنطق التكاملي يبدو معقولاً، فالوحدة تصنع القوة وقد منعت هذه القوة مرة الحرب في أوروبا، الحرب العالمية الثالثة ، وثانيًا شجعت لإعادة بناء الدول الأوروبية عندما كان الاقتصاد منهار تمامًا، هذه الوقت أنتهى الآن وهو خطأ أوروبا أنها لم تعرف كيف تعيد صياغة نفسها، وأن تتفاعل مع السياقات الجديدة.

 

 

وقال دوركهايم – الإشادة مرة أخرى بدوركهايم الذي أعتقد ذلك بشكل صحيح- أن هناك طريقتان لبناء الروابط الاجتماعيّة: الارتباط والتضامن، أعتقد أن وقت الارتباط قد انتهى الآن، ويجب أن ندخل في زمن التضامن، والذي لا يتشكل من عبارة “نحن الألمان مرتبطون مع اليونان” بل” نحن الألمان متحدون مع اليونان لأننا نعلم أنه إذا انهارت اليونان فسوف نعاني من العواقب على المدى طويل “، وبالتالي ، فإن فكرة الوحدة الأساسيّة هذه هي فكرة تم تجاهلها قليلاً وتخلى عنا الأوروبيّون ، وها هم الآن يجدون أنفسهم في حالة شلل كامل.

 

  1. هل ما زال لفترة إنهاء الاستعمار أثر على العلاقات الدولية المعاصرة؟

بادي: أوه ، للغاية للغاية، أود أولاً أن أقول لأنه حدث كبير في حقل العلاقات الدوليّة، الذي جعل العالم يتحول من 51 دولة ذات سيادة في الأمم المتحدة في عام 1945 إلى 193 اليوم، ولكن قبل كل شيء إنهاء الاستعمار كان فشلًا ذريعًا وهذا الفشل يثقل كاهل السياسات الدوليّة

 

لقد كان فشل لأن أولاً إنهاء الاستعمار افترض أن استنساخ نموذج الدولة الغربيّة في البلدان التي كانت تحصل على الاستقلال، في حين أن هذا النموذج لم يتم تكييفه بالضرورة ، ما زاد عدد الدول الفاشلة ، وكان لهذه الدول المنهارة تأثير رهيب على العلاقات الدوليّة، ثانيا ، لأنه كان ينبغي أن يؤدي إنهاء الاستعمار إلى إثراء وتعديل التعدديّة بشكل كبير، عن طريق إنشاء مؤسسات جديدة قادرة على تحمل التحديات الجديدة الناتجة عن إنهاء الاستعمار، ومع ذلك ، باستثناء إنشاء الأونكتاد في عام 1964 وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عام 1965 ، كانت هناك ابداعات قليلة جدًا فيما يتعلق بالحوكمة العالميّة، وبالتالي، لا يزال الحكم العالمي يهيمن عليه ما أسميته سابقًا “النادي” ، وهو ما يعني القوى العظمى من الشمال، وهذا خلل كبير في إدارة الأزمات المعاصرة، ثم أيضًا لأن القوى الاستعماريّة  القديمة عثرت على أشكال جديدة للهيمنة التي أدت إلى تعقيد اللعبة الدوليّة بطريقة أو بأخرى، وبالتالي فإن إنهاء الاستعمار هو جانب يومي للأزمة التي يواجهها النظام الدولي اليوم.

 

  1. في الختام، ما السؤال الذي مان يجب أن نطرحه؟ بمعنى آخر، ما السؤال الذي نيسناه؟

بادي: لقد وجدت أسئلتكم وجيهة جدًا حيث أنها سمحت بمناقشة المواضيع التي أعتبرها ضروريّة، الآن، المشكلة الكبيرة التي تقلقني هي الفجوة الكبيرة بين المحللين والجهات الفاعلة في العلاقات الدوليّة، أنا لا أقول أن المحللين فهموا كل شيء، أبعد ما يكون عن ذلك، لكنني أعتقد أن منظري العلاقات الدوليّة واعون تمامًا ببعض هذه التحولات التي ذكرتها، إذا نظرت إلى بعض المؤلفين العظماء على سبيل المثال لا الحصر جيمس إن روزيناو، و ريتشارد نيد ليبو وروبيرت كوهين وغيرهم ساهموا جميعًا في إعادة بناء العلاقات الدوليّة.

 

ما يذهلني حقًا هو إنطواء الفاعلين السياسيين على ذواتهم، فهم يعتقدون أنهم ما زالوا في عصر مؤتمر فيينا، وهذا مصدر هائل للتوتر، لذلك طالما أن روح التغيير هذه لا تصل إلى الفاعلين السياسيين ، ربما كان باراك أوباما هو أول من دخل هذه اللعبة ثم تم إغلاق القوس، طالما أنه لن يكون هناك هذا التحرك نحو اكتشاف عالم جديد ، ربما أيضًا من خلال تضمين تفكيرنا في النسيج الدولي مثل الشركاء مثل الصين ، فليس من الطبيعي أن الصين القوية جدًا ليس لديها أي خيار سوى مشاركة البراديام ونموذج العمل المناسب للدبلوماسيّة الغربية ، طالما أننا لم نكن لنفعل هذا الجهد الدقيق ، حسنًا ، سنظل في نفي الإنسان ، وهذه هي المشكلة الأساسية اليوم ، لا يمكننا أن نفهم أنه في نهاية المطاف هناك وحدة واحدة فقط ، هي الإنسان.

 

لقد أتيحت لي لفرصة زيارة 105 دولة وفي كل مكان التقيت بنفس بالرجال ونفس النساء ، بألمهم وسعادتهم ومصاعبهم وفرحهم وحزنهم وحسرتهم واحتياجاتهم التي كانت متطابقة في كل مكان، طالما أننا لن نفهم ذلك سنعيش في عالم يتناقض تمامًا مع ما هو حقًا وأساسيًا، سوف نعيش في عالم المكيدة وبالتالي عالم العنف.

المصدر