مجلة حكمة
النيوليبرالية النيوليبرالية

عصر الليبرالية الجديدة “النيوليبرالية” انتهى!  ما ملامح العصر القادم؟

الكاتبراتقر برقمان
ترجمةعمر العبدالجادر

عند الكوارث، يصبح ما كان يُعتقد أنه مستحيلاً في السابق قابلاً للتحقق، بل حتمي الحدوث أحياناً. نحن نعيش-اليوم- أكبر اضطراب اجتماعي منذ الحرب العالمية الثانية، النيوليبرالية تلفظ أنفاسها الأخيرة. المطالبة بالضريبة التصاعدية على أصحاب الدخول المرتفعة والمناداة بدور حكومي أكبر في الاقتصاد تلك الأفكار التي كان من المستحيل الحديث عنها قبل أشهر معدودة، قد حان أوانها الآن.

الأمور تنقلب رأساً على عقب

في ٤ إبريل ٢٠٢٠ نشرت الفاينانشال تايمز The Financial Times  – الصحيفة البريطانية- افتتاحية تاريخية ستظل راسخة في ذاكرة المؤرخين لسنين طويلة حيث كتبت الآتي: “يجب أن يتم النقاش الجدي بشأن إصلاحات جذرية للسياسات الاقتصادية التي أنتجت الوضع القائم والذي تم تبنيه منذ أربعة عقود. يجب أن تتقبل الحكومات بأن عليها أن تلعب دوراً أكثر فاعلية في الاقتصاد. عليها أن تدرك بأن تقديم الخدمات العامة هو شكل من أشكال الاستثمار وليس عبئاً على ميزانية الدولة، عليها أن تبحث عن وسائل لجعل سوق العمل آمن وظيفياً للمشتغلين فيه. موضوع إعادة توزيع الثروة سيعود لأجندة النقاش وكذا ضمانات كبار السن ومميزات الأغنياء. كثير من السياسات لم تكن ذات حيز في النقاش السياسي والاقتصادي، مثل الحد الأدنى للدخل والضريبة على الأملاك، يجب أن نبدأ بالحديث عنها الآن

ماذا حدث للفاينانشل تايمز التي تعتبر منبر الرأسماليين! كيف تحوّلت إلى مدافع شرس لإعادة توزيع الثروة لدرجة أنها تطلب من الحكومات التدخل في الاقتصاد وفرض حد أدنى لدخل الفرد؟

لعقود طويلة هذه المؤسسة الاعلامية وقفت بقوة خلف النموذج الرأسمالي الذي يطالب الحكومة بلعب دور محدود في الاقتصاد وبتخفيض الضريبة على أصحاب الدخول المرتفعة وبالحد من برامج الضمان الاجتماعي. إن الافتتاحية السابق بيانها فيها رسالة واضحة بأن الصحيفة قد غيّرت مسارها.

إن الأفكار الذي ذكرت في افتتاحية الصحيفة يمكن أن تغيّر مسار العالم لا سيما ونحن نعيش أكبر كارثة منذ الحرب العالمية الثانية ([1]).

لنفهم واقعنا الاقتصادي علينا أن نرجع إلى التاريخ القريب، فمنذ ٧٠ عاماً فقط كان المنادون بحرية السوق على النمط الرأسمالي هم من المتطرفين فكرياً.

في ١٩٤٧ أنشأ مركز دراسات في قرية سويسرية تسمى مونت بيليرين ضم الفيلسوف فريدريك حايك والاقتصادي الشهير ميلتون فريدمان وقد أطلق هؤلاء على أنفسهم اسم الليبراليون الجدد أو “النيوليبراليين”.

في تلك الأيام وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية تبنى معظم ساسة العالم أفكار الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز  التي تجنح لتشجيع دور الدول في الاقتصاد وفرض ضرائب تصاعدية مصحوبة بنظام ضمان اجتماعي صلب. بالمقابل احتج النيوليبراليين على هذه الأفكار على سند أن تعاظم دور الدولة بالاقتصاد سيؤدي إلى قيام دولة متسلطة واستبدادية. لذا أعلنوا الثورة على أفكار كينز.

إن أعضاء مونت بليرين كانوا يعلمون أن الطريق طويل أمامهم فقد اعترف حايك بأن “تغير الأفكار يتطلب جيلاً أو أكثر وهذا هو سبب أن أفكارنا ليس لها أي قوة أو تأثير في الوقت الراهن“.

ميلتون فريدمان أدرك ذات المشكلة حيث قال “أن من يقود الدول اليوم هم أشخاص نشأوا بمناخ فكري ذو أفكار مضى عليها عقدين من الزمن، أي حين كانوا في الجامعة فمعظم الناس تتشكل أفكارهم في تلك المرحلة، ولهذا السبب نرى أن الأفكار القديمة تسود واقع اليوم“.

بالمناسبة فإن فريدمان كان يرى بأن الحكومة عليها أن تدفع -ولو بالقوة- لتحويل كافة القطاعات لقواعد السوق الخاضعة للعرض والطلب. وأن هذه القطاعات يجب أن تدار وتتملك من الشركات الخاصة سواء كانت خدمات صحية أو تعليم عام. حتى عند الكوارث فإن الشركات هي الأقدر -برأيه- لتقديم المعونة للمتضررين.

كان فريدمان يعلم أنه يطرح أفكاراً متطرفة لا تنتمي إلى الأفكار السائدة في الستينيات. ولكن هذا الأمر لم يزده ولم يثبطه بل دأب لنشر أفكاره بحماس أكثر. فقد وصفته مجلة التايمز بأنه ” يشبه مصمم أزياء فرنسي لا يبتاع ملابسه سوى الأغنياء ولكنه يؤثر على الموضة بشكل عام“.

كان فريدمان يدرك أهمية الكوارث في نسج الأفكار ففي مقدمة كتابه “الرأسمالية والحرية” كتب الآتي: “فقط عند حلول الكارثة يحدث التغيير الحقيقي. عند الكارثة يتم تبني الأفكار المُهملة التي كانت تصنّف بأنها غير واقعية أو مستحيلة التطبيق. وفجأة قد تصبح واقعاً لا مناص منه”.

وهذا بالضبط ما حصل في أزمة السبعينيات (زيادة نسب التضخم، وقف منظمة أوبك تصدير النفط للغرب). حينها كان النيوليبراليين جاهزون للتدخل وطرح أفكارهم كبديل. فقادوا جهداً لفرض سياسة عالمية. وقد تبنى أفكارهم الرئيس الأمريكي رونالد ريقن ورئيسة وزراء بريطانيا مارقرت تاتشر. فأفكار فريدمان وحايك المتطرفة تم تبنيها من الرئيسين تاتشر وريقن ومن ثم من كلينتون وتوني بلير.

وبدأت حينها خصخصة المؤسسات المملوكة للدولة. وتم إضعاف النقابات العمالية بشكل ممنهج وخفض تمويل أنظمة الضمان الاجتماعي. وقد قال ريقن مرة أن أسوأ جملة في اللغة الإنجليزية هي: “أنا من الحكومة وقد جئت لمساعدتك“. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي فقد الناس الثقة بالحكومات حتى الاشتراكيين الديمقراطيين تضعضعت ثقتهم بها. فقد قال كلنتون في خطابه السنوي أمام الكونقرس ١٩٩٦ أن عصر “الحكومة المهيمنة” قد انتهى.

سرت النيوبليبرالية وانتشرت من مراكز الدراسات إلى الصحافيين ومنهم للسياسيين، تماماً كما ينتشر الفايروس. عندما سئلت مارقرت تاتشر في ٢٠٠٢ عما تعتبره أضخم انجاز لحكوماتها المتعاقبة أجابت: توني بلير وحزب العمال الجديد فقد أجبرنا خصومنا أن يعتنقوا أفكارنا.

ثم جاءت الأزمة المالية العالمية في ٢٠٠٨ واضطرت المؤسسات المالية لطلب المساعدات الحكومية لإنقاذها من الانهيار وقد اُعتبرت الأزمة بداية لانهيار النيوليبرالية إلا أن ذلك لم يحدث واستمرت الحكومات بخفض الانفاق على الصحة والتعليم وأنظمة الضمان الاجتماعي ولم يحصل المطالبون بتغيير النهج الاقتصادي من اليساريين على الأغلبية التي تؤهلهم للحكم.

والآن بعد ١٢ عاماً من الأزمة المالية، تضربنا أزمة أكثر عنفاً. فحسب تقييم البنك المركزي البريطاني، فإن المملكة مقبلة على أكبر ركود اقتصادي في تاريخها منذ أزمة عام ١٧٠٩. ففي ظرف ٣ أسابيع اتجه ١٧ مليون أمريكي لأنظمة المساعدات المالية الحكومية. بالمقابل فإنه في أزمة ٢٠٠٨ تطلب الوصول لنصف هذا الرقم عامين كاملين.

ولكن هنالك فرق مهم بين أزمة كورونا وأزمة ٢٠٠٨ ألا وهي الأرضية الفكرية التي نشأت خلال الأزمتين. الأفكار المُهملة بتعبير فريدمان مختلفة، فاليوم سيأخذ التاريخ مسار آخر بعد هذه الأزمة التي قد تصنع واقعاً جديداً.

أخطر الاقتصاديين الفرنسيين.

ثلاث اقتصاديين يساريين يؤثرون على نظرة الشباب للاقتصاد و الرأسمالية “. عنوان لمقال في موقع يميني قد أصاب كبد الحقيقة بشأن الثلاثي الفرنسي.

أتذكر أني في عام ٢٠١٣ قرأت عن توماس بيكيتي Thomas Piketty حيث كتب عنه الاقتصادي برانكو ميلونوفيتش ممتدحاً إياه بعد قراءة كتابه إذ قال “بأن ما كتبه توماس يعتبر نقلة نوعية في الفكر الاقتصادي“.

بيكيتي بدأ كتاباته عام ٢٠٠١ عندما نشر كتابه الذي بين فيه استحواذ ١٪ من المجتمع على معظم الثروة. كتب هذا الكتاب بالاشتراك مع إيمانويل ساز Emmanuel Saez ثاني الثلاثي الفرنسي الذين أشار لهم المقال. أكدا في الكتاب أن انعدام المساواة في الدخل في أمريكا اليوم يتشابه مع واقعها في العشرينات قبل الكساد العظيم. هذا العمل الأكاديمي هو الذي أشعل حركة occupy wall street التي رفعت شعار نحن ال٩٩٪.

في ٢٠١٤ بيكيتي طاف العالم لنشر وصفته الاقتصادية بين الصحافيين والسياسيين. مؤسساً أفكاره على “الضريبة”.

أما ثالث الثلاثة فهو الاقتصادي الشاب  جابريال زاكمان Gabriel Zucman. ففي ذات يوم انهيار المؤسسات المالية عام ٢٠٠٨ بدأ طالب الاقتصاد جابريال تدريبه في شركة وساطة مالية في فرنسا مما أتاح له رؤية الانهيار المالي عن كثب. وقد شاهد بأم عينيه الأثرياء يحولون مبالغ فلكية لمناطق “الملاذ الضريبي” مثل لوكسمبورق أو جزر برمودا حتى يخفوا أموالهم هناك.

في غضون سنوات صار زاكمان من كبار المختصين في مجال الضريبة على مستوى العالم. ففي ٢٠١٥ نشر كتابه “ثروة الأمم المخفية” The Hidden Wealth of Nations الذي بين فيه أن ٧,٦ تريليون من ثروات العالم تقع في بلاد الملاذ الضريبي tax havens وفي كتاب كتبه مع إيمانويل ساز، بين زاكمان أن أغنى ٤٠٠ شخص في العالم يعتبرون أقل فئة تدفع الضرائب بل إن معدل ما يدفع السباكين والمتقاعدين وبقية الفئات الدنيا يتجاوز ما يدفع هؤلاء.

يجب أن يعي الرئيس الأمريكي كتاب زاكمان وساز المعنون “كيف يتملص الغني من الضرائب وكيف نجعلم يدفعون؟” How the Rich Dodge Taxes and How to Make Them Pay  وأن يكون دليله لرسم السياسة الضريبية.

أهم نقطة في الكتاب هي ضرورة فرض ضرائب سنوية تصاعدية على أصحاب الملايين. فالضرائب المرتفعة لا تضر الاقتصاد كما هو شائع، حيث أنه في عام ١٩٥٢ كانت تصل الضرائب في أمريكا إلى ٩٢٪ وفي ذات الوقت سجلت تلك السنة أعلى نسبة نمو في الاقتصاد الأمريكي.

ربما هذه الأفكار تعتبر متطرفة فمستشاري أوباما أكدوا له أن هذا النوع من الضرائب لا طائل منه حيث أن الأغنياء يملكون جيشاً من المحاسبين والمحامين يعينوهم على إخفاء أموالهم من الضريبة. حتى حملة بيرني ساندرز عام ٢٠١٦ رفضت عرض الثلاثي الفرنسي لرسم سياسات الحملة الرئاسية.

ولكن الفرق شاسع بين عامي ٢٠١٦ و٢٠٢٠ فقد تغيرت أمزجة  المعتدلين في الحزب الديموقراطي مثل جو بايدن الذي عرض خطة لزيادة الضرائب بنسبة تعتبر ضعف ما عرضته هيلاري كلينتون عام ٢٠١٦. في هذه الأيام غالبية الناخبين الأمريكيين (حتى الجمهوريين) يؤيدون زيادة الضريبة على فاحشي الثراء. وقد رأينا أعلاه أن حتى الفايناشال تايمز بدأت تتقبل الفكرة وتنادي بها.

 

ما وراء الدعوات الاشتراكية

 إن السياسيين اليساريين يتحدثون عن الضرائب وعدم المساواة، ولكن السؤال الذي يتجاهلوه من أين تأتي الأموال، ما هو مصدر الثروة؟ هنالك إجماع أن الثروة يتم تحصيلها من قبل مبادرين ذوي رؤية، مثل جيف بيزوز مؤسس أمازون و إيلون ماسك مؤسس تسلا. وهذا يجرنا لسؤال أخلاقي، أليس على هؤلاء واجب أخلاقي بأن يشاركوا ثروتهم مع الآخرين؟

لهذا أريدك أن تتعرف على ماريانا مازوكاتو Mariana Mazzucato إحدى أكثر الاقتصاديين التقدميين هذه الأيام.

مازوكاتو تنتمي إلى جيل من الاقتصاديين معظمه من النساء يؤمن بأن الحل ليس في زيادة أو إنقاص الضريبة، فتقول “بأننا نخسر معظم معاركنا-الفكرية- لأننا نركز على إعادة توزيع الثروة دون أو نولي اهتماماً لطريقة صنعها“.

أثناء جائحة كورونا كان أصحاب الأعمال الضرورية فقط يسمح لهم بالذهاب لمقار عملهم ويا للمفاجأة! لم يسمح لمدراء المحافظ الاستثمارية ولا لمكاتب الاستشارات الضريبية. فجأة بات واضحاً من هم أصحاب الأعمال المهمة. هم الذين يقومون بالرعاية الطبية والتعليم والعاملين في المواصلات العامة أو في محلات بيع الأغذية.

في ٢٠١٨ اقتصاديان هولنديان قاما بدراسة أوصلتهم إلى نتيجة فحواها بأن رُبع القوى العاملة يعملون بوظائف لا تشكل قيمة مضافة للمجتمع. والمدهش أن أعلى نسبة من الذين أفادوا بهذا الجواب يعملون في قطاعات التمويل والتسويق.

وبناءً على ذلك يثار السؤال، أين تُصنع الثروة؟ يعتقد النيوليبراليين أمثال فريدمان وحايك أن المبادرين لا الدولة هم صانعو الثروة. يمكن للحكومات -في أحسن الأحوال- أن تكون محفزاً للمبادر. دورها ينحصر في تهيئة البنية التحتية والحوافز الضريبية ثم ترفع يدها وتترك المبادر يعمل.

ولكن في ٢٠١١ بعد أن سمعت الاقتصادية مازوكاتو تهجّم السياسيين على موظفي القطاع العام ووصفهم بأنهم أعداء الصناعة، انقدحت في ذهنها فكرة. قررت أن تقوم ببحث معمق أخذ منها عامين ضمنته في كتاب “الدولة المبادرة” The Entrepreneurial State. أحدث هذا الكتاب ضجة مدوية في الأوساط الاقتصادية.

في كتابها بينت بأن التعليم والرعاية الصحية وجمع النفايات والبريد كلها صناعات بدأتها الحكومات فضلاً عن البنوك والاختراعات المصرفية.

وتضرب مثالاً بجهاز الآيفون: نجد أن كل قطعة داخل هذا الجهاز تم اختراعه من قبل باحثين يتلقون رواتبهم من الحكومة!

وما ينطبق على الآيفون ينطبق على المنتجات التكنولوجية الأخرى. قوقل مثلاً تلقت استثماراً حكومياً لإنشاء محرك البحث، تسلا كانت تائهة وتبحث عن مستثمرين حتى تلقت مبلغ ٤٦٥ مليون دولار من وزارة الطاقة الأمريكية (وقد حصلت شركات إلون ماسك ما مجموعه ٥ مليار دولار من أموال دافعي الضرائب).

وقد صرحت مازوكاتو بأنها كلما تعمقت في دراسة شركات التكنولوجيا كلما وجدت استثماراً حكومياً في ميزانياتها.

لا شك أن استثمارات الحكومة تفشل أحياناً ولكنه ليس بالأمر المستغرب فكل استثمار تصاحبه مخاطر الفشل.

المشكلة أن أغلب المبادرين ذوي الجرأة أو أصحاب الرأس مال الجريء لا يميلون للمخاطرة. فبعد تفشي فايروس سارس عام ٢٠٠٣ سحب المستثمرون أموالهم من الأبحاث التي كانت تتناول دراسة الفايروس الذي يعتبر من عائلة كورونا، لم يكن ذا جدوى اقتصادية بالنسبة لهم الاستثمار في البحث العلمي. أما الأبحاث الممولة حكومياً فقد استمرت-في دراسة المرض- حيث أنفقت الحكومة الأمريكية ٧٠٠ مليون دولار لدعمها، لذا فإن أبحاث الكورونا التي تجرى حالياً لاكتشاف لقاح لهذا الفايروس ستبنى على تلك التي كانت ممولة حكومياً فعلينا شكر التمويل الحكومي إذا ما أنتج اللقاح.

ما يحدث في قطاع الأدوية يعتبر أفضل مثال لإثبات وجهة نظر مازوكاتو. حيث أن الغالبية العظمى من الاكتشافات الدوائية تبدأ من مختبرات ممولة حكومياً. حيث يقتصر دور كبرى شركات الأدوية أمثال روش وفايزر على شراء براءات الاختراع وتسويق أدوية قديمة تحت علامات تجارية تحمل شعاراً جديداً. ومن بعد ذلك تقوم تلك الشركات بتوزيع الأرباح على مساهميها وإعادة شراء أسهمها لخلق طلب على السهم بهدف رفع قيمة السهم في البورصة.

ترى مازوكاتو أن هذا الوضع يجب أن يتغير. عندما تدعم الحكومة اكتشافاً معيناً، لا بأس من أن يستفيد منه القطاع الخاص ولكن حين يدفع القطاع الخاص للحكومة ما أنفقته وملحقاً بالأرباح. مما يستدعي الجنون أن الوضع الراهن يسمح لكبرى الشركات أن تستفيد من العطايا الحكومية بينما يفسح المجال لذات الشركات بأن تمارس التهرب الضريبي. شركات مثل أبل وقوقل وفايزر يهربون أموالهم بالمليارات في بلدان الملاذ الضريبي دون حساب!

لابد لتلك الشركات أن تدفع نصيبها من الضريبة. ولكن الأهم أن تحصل الحكومات  على مقابل على إنجازاتها العلمية.

في هذه الأيام نواجه تحديات تستدعي تدخل الحكومة في مجالات الاستكشاف والاختراع. أول تحد سنواجهه هو الاحتباس الحراري. نحتاج إلى عقليات لتحقيق إصلاحات ضرورية لمواجهة هذا التحدي. مازوكاتو وبرفقة الاقتصادية البريطانية كارلوتا بيريز ابتكروا ما يطلق عليه اصطلاحاً اتفاق التخضير الجديد Green New Deal والذي يعتبر أكثر الخطط جسارة لمواجهة أزمة الاحتباس الحراري.

ترى الاقتصادية الأمريكية ستيفيني كيلتون Stephanie Kelton أن الحكومات تملك القدرة لطباعة الأموال لتلبية طموحاتها من غير أن تقلق بشأن الدين الداخلي أو العجز في الموازنة (هذه الاقتصادية تعارض الرأي السائد والذي يساوي في النظرة بين ميزانية الحكومة وميزانية الأشخاص العاديين فللحكومة ميزة ليست عند غيرها فهي تستطيع جباية الضريبة والاستدانة بعملتها الوطنية).

ما نتحدث عنه هنا يعتبر ثورة في الفكر الاقتصادي. فإذا كانت الأزمة المالية العالمية ٢٠٠٨ قد أُتبعت بإجراءات تقشف شديدة، فإننا نعيش اليوم أياماً نرى الفاينانشال تايمز تمجّد بالاقتصادية ستيفيني كيلتون مؤلفة كتاب “خرافة العجز” وتصفها ب ميلتون فريدمان هذا العصر! وعندما تكتب الصحيفة ذاتها في إبريل الماضي أن على الحكومات أن تنظر للانفاق في الخدمات العامة على أنه استثمار وليس عبء مالي، فهي تردد ذات الأفكار اللاتي طرحنها كيلتون ومازوكاتو منذ سنوات.

لم يكتف هؤلاء النسوة من الاقتصاديين بالكلام المنمق فقد عملوا ليترجموا أفكارهن لواقع ملموس. فنجد مازوكاتو ضيفة دائمة في ملتقى دافوس كما تعمل مستشارة اقتصادية لعضوتي الكونجرس إليزابيث وارن والكساندريا كورتيز وللوزير الأول في اسكوتلندا. كما أنها صاغت برنامج الابتكار الذي تبناه البرلمان الأوربي العام الماضي.

كيف تغزو العالم بالأفكار؟

كيف نغير العالم؟

اسأل مجموعة من التقدميين هذا السؤال وسيجيبوك باسم جوزيف أوفرتون Joseph Overton. أوفرتون اعتنق أفكار ميلتون فريدمان. عمل في مركز دراسات يروج للأفكار النيوليبرالية وشارك في حملات ترويج فكرة خفض الضرائب وتقليص دور الحكومة في الاقتصاد. وقد كان شغوفاً بفكرة كيفية تحول الأفكار المهمشة -مع الوقت- إلى أفكار مطبقة على الواقع وجزء من المنظومة الطبيعية للأفكار عند المجتمع.

يقول أوفرتون أن السياسيين عادة يروجون للأفكار السائدة والمقبولة شعبياً. أما الذين يطمحون لتغيير العالم فإنهم يجنحون نحو التطرف الذي يصمهم بعدم الواقعية أحياناً.

في السنوات القليلة الماضية تغيرت أفكار أوفرتون، فما كان مستغرباً في السابق أصبح سائداً اليوم. فالرسم البياني الذي روج له هذا الاقتصادي الفرنسي أصبح شعار حملة احتلوا وول ستريت (نحن ال ٩٩٪). هذه الحملة مهدت الطريق لثورة انتخابية قادها المرشح الرئاسي بيرني ساندرز. وقد أثر ساندرز على مرشحين آخرين مثل جو بايدن.

في هذه الأيام أصبح الشباب الأمريكي يفضل الاشتراكية على الرأسمالية . هذا الأمر لم يكن متصور الحدوث في عهد ريقن قبل ٣٠ عام.

وقد يتساءل البعض ويقول: ألم يخسر أصحاب هذه الدعوات أمثال ساندرز وكوربن الانتخابات في بلادهم؟

بالطبع، ولكن نتائج الانتخابات ليست العامل الوحيد لقياس مدى تأثير الفكرة. قد يكون كوربن خسر في انتخابات ٢٠١٧ و٢٠١٩، ولكن سياسات المحافظين أخذت منحى أكثر قربا بكثير إلى سياسات حزب العمال المالية وخططه من بيان حزبهم الرسمي!

وفي سياق متصل، فإن خطة ساندرز لمواجهة الاحتباس الحراري كانت تعتبر متطرفة عام ٢٠١٦ ولكن خطة بايدن لانتخابات هذا العام تعتبر أكثر تطرفاً من تلك التي قدمها ساندرز قبل ٤ سنوات.

تغيير العالم جهد لن يجني صاحبه ثماره. لا توجد لحظة في التاريخ يعترف فيها أعداءك بانكسارهم أمامك. في السياسة، أفضل نصر ممكن أن تحصل عليه هو استنساخ أفكارك من قبل الخصوم دون أن ينسبوها لك. كان ميلتون فريدمان مستوعباً لهذا الدرس فعندما سئل من إحدى الصحفيين، كيف غزت أفكارك العالم؟ أجابه أن الأمر يمر بأربعة مراحل:

  • يتم تجاهل وجهة نظري ووصفي بالحمق.

  • المدافعين عن الوضع القائم يشعرون بالضيق لأن ما أطرحه فيه جانب من الصحة.

  • يقول الناس: نحن مدركون أنها أفكار غير عملية ونظرياً صعبة التطبيق، ولكن علينا أن نبحث عن أساليب مقبولة يمكن من خلالها تطبيق هذه الأفكار.

  • يحاول خصومي السخرية مني لكي يستحوذوا على مكانتي في نشر هذه الأفكار.

الكثير من المتطرفين الساعين لتغيير الواقع لديهم خطط منقوصة لاكتساب القوة وبعضهم لا يملك أي خطة. والحقيقة أن اليساريين لديهم تاريخ طويل في إلقاء اللوم على الآخرين حينما يفشلون. فأحياناً يلومون الصحافة أو الدولة أو أصحابهم الذين يشككون بأفكارهم. ومن النادر أن يلوموا أنفسهم على الفشل.

من الصعب تغيير العالم، وقد تأكدت لدي صعوبة هذا الأمر حين قرأت كتاب “النساء الصعبات” Difficult Women للكاتبة البريطانية هيلين لويس Helen Lewis. يتناول الكتاب تاريخ الحركة النسوية في بريطانيا ولكني أنصح كل من يرغب في تغيير العالم بأن يقرأه. فهي تعبر عن تلك الصعوبة بالنقاط التالية.

  • لابد من تقديم تضحيات.

  • الأشخاص الثوريين غالباً ما يكونون عنيدي الطباع ذوي مراس صعب يتعمدون إفشال الثورة.

  • أصحاب الأعمال الخيرة ليسوا كاملين وليسوا أبطال تاريخيين إنما لديهم أخطاء عديدة.

تقول لويس أن الكثير من الناشطين يتجاهل تلك التعقيدات التي تصاحب عملية الإصلاح وبالتالي يفقد فاعليته. انظر إلى تويتر على سبيل المثال فإنه مليء بالشخصيات التي كانت محبوبة لدى الناس ثم سقطوا من هذه المكانة لمجرد تغريدة عابرة أو رأي أثار جدلاً عند الجمهور.

بينت لويس أن ثمة أدوار عدة يجب لعبها عند أي تحرك شعبي، سيصحبها تحالفات قد لا تكون مقبولة سابقاً وتنازلات لتحقيق الغاية. في بريطانيا وأثناء حركة المطالبة بحقوق المرأة السياسية فإن الحركة جمعت النساء من كافة الطبقات الاقتصادية والاجتماعية فضمت الحركة نساء القصر وعاملات المصانع حتى تحقق النصر ومنح لهن حق التصويت عام ١٩١٨.

أحياناً ننسى نحن الناشطون أننا نحتاج إلى أشخاص يمارسون أدوارًا مختلفة. نميل إلى مدح الأسلوب السلمي في التظاهر وننتقد عمليات اغلاق الطرق. ونمتدح حركة “احتلوا وول ستريت” ثم نسخر من المؤثرين الذين ذهبوا لمؤتمر دافوس.

إذا أردتم التغيير فعليكم أن تستوعبوا أن لكل  منا دور يلعبه في هذه العملية. أستاذ الجامعة والمتظاهر البسيط في الشارع. الكتابة في الدوريات الأكاديمية وأولئك الذين يبسطون المعلومة للعامة، السياسي الذي يمارس الضغوط خلف الكواليس والشاب الذي يقبض عليه نتيجة شغبه في المظاهرات.

شيء واحد مؤكد. أن الوقت قد حان لنقل الأفكار  الموصومة بالمتطرفة إلى الاعتدال وتمكينها من قوة التغيير.

لقد حان الوقت.

إن الأيدلوجية التي سادت لأربعة عقود مضت، تحتضر هذه الأيام. ما هي الأفكار التي ستحل محلها؟ من المتصور أن هذه الأزمة ستجرنا إلى واقع أكثر قتامة مما سبق. سيعمد حكام الدول إلى زيادة قوتهم في التحكم في المجتمع وسيقلصون حريات الأفراد وسيشعلون فتيل العنصرية وكراهية الآخر.

ولكن يمكن تغيير كل ذلك، فالفضل يعود إلى مفكرين كثر، فهنالك طريق آخر يمكن أن يأخذنا إليه هذا الوباء.

إن الركيزة التي ينطلق منها الفكر النيوليبرالي هي أن الإنسان أناني بطبعه. ومن هذه الفكرة انبثقت سياسات الخصخصة وعدم المساواة في دخل الفرد ونتج عنه ذوبان المجال العام للدولة.

الآن فتح المجال لفكرة جديدة عن طبيعة الإنسان وأراها أكثر واقعية وهي أن الإنسان متعاون بطبعه. من هذه الفكرة المركزية، يمكن أن نبني حكومات قائمة على الثقة ونظام ضريبي مبني على التضامن الاجتماعي، واستثمارات مستدامة تؤمّن مستقبل البشرية. وكل هذا ضروري للاستعداد لأكبر تحد سنواجهه هذا القرن: الاحتباس الحراري.

لا يعلم أحد إلى أين ستقودنا هذه الأزمة المالية ولكننا اليوم -بعكس الأزمة السابقة- جاهزون فكرياً.

 

المصدر


[1]. انتشار جائحة كورونا في أنحاء العالم.