مجلة حكمة
الشعر الياباني japanese poetry

المرأة والجسد في الشعر الياباني الحديث

الكاتبتوشيكو إليس
ترجمةصالح الخنيزي
تحريرتركي طوهري

الشعر الياباني

تسلط هذه مقالة (الشعر الياباني) الضوء على ثلاث شاعرات يابانيات معاصرات، يوسانو أكيكو وساغاوا شيكا وإيتو هيرومي، كنماذج في الشعر الياباني على الشاعرات اللواتي انفصلن عن حركة “شعر المرأة”، في الوقت الذي حافظن في أعمالهن على ثِيماتٍ تتعلق بالأنوثة في الشعر الياباني ، فقد عبَّرت الشاعرات الثلاث عن رؤيتهن بتقويض صورة الأنثى التي تم تجسيدها بطريقةٍ تقليدية في القصائد المنظومة من قِبل شاعرات يابانيات؛ بالنظر لجسد الأنثى وطريقة تموضعه كنقطة وصلٍ بالعالم الخارجي. تحلل هذه المقالة كيفية استخدام الشاعرات الثلاث -كلٌّ بطريقتها التقويضية- لغاتٍ تعبيرية مغايرة لاستكشاف جسد الأنثى، إلى جانب تطرقهن لثيمات أخرى مثل الجنسانية لدى الأنثى والحب والأمومة والموت.

*****

مثلما كانت القامات الأدبية البارزة في تشكيل الرواية اليابانية الحديثة من الروائيين الذكور، لعب الشعراء الذكور كذلك دورا محوريا في تاريخ الشعر الياباني الحديث، مما أدى إلى ولادة نوع أدبي جديد بمنأى عن الشعر الياباني التقليدي. إن قصيدة التانكا التي تتألف من واحدٍ وثلاثين مقطعا صوتيا وقصيدة الهايكو التي تتألف من سبعة عشر مقطعا صوتيا ظلتا صامدتين، مع أن كِلا النوعين قد خضع لابتكارات كبرى في الشعر الياباني للتكيف مع مقتضيات التعبير الشعري الحديثة. يجنح رواد الحركات التحديثية لهذين الشكلين التقليديين إلى كونهم من الشعراء أيضا. وعلى الرغم من أنَّ عدد الشاعرات كان ملموسا وبارزا في أوساط شعراء قصيدة التانكا، إلا أنهن لم يحظين سوى بقدر ضئيل من التمثيل في الشعر الياباني الحديث.

 

لقد نوقشت مرارا مسألة قلة المنتج الروائي النسوي إبَّان ستينيات القرن الماضي فيما يتعلق “بالتمايز الجنسي”، وهو أمر لا يمكن فصله عن الكيفية التي تم فيها إضفاء طابع مؤسساتي على الأدب في اليابان الحديثة. بعد بزوغ نجم المذهب الطبيعي (3) على وجه التحديد، وعندما شرع الكُتاب الذكور بتعاطي الأدب كنشاط مهني، كانت النساء بصفة عامة مقيداتٍ اجتماعيا بالشؤون الأسرية، لذا تم إقصاؤهن من الأنشطة الرئيسة في الأدب. وبناء على ذلك ظهر نوع أدبي جديد يعرف “بأدب المرأة”، قامت بالترويج له بعض الروائيات، وكانت وجهة نظرهن أن الكاتبات اللائي لم يحظين بتمثيل يليق بهن من جمهور القراء، كنَّ مما لا شك فيه يقدمن أعمالا مكتوبة برؤية نسوية متفردة. وقد أدى هذا الفصل الحاد لكتابات المرأة عن تلك التي يكتبها الرجال إلى الإقرار المتزايد بالكاتبات، كما أسهم أيضا في تأمين سوق لشريحة كبيرة من القراء لكلا الجنسين على حد سواء، ولكن نتج عن ذلك ما يعزز تلك الفكرة القائلة بأن الكتابات النسوية كانت مختلفة جوهريا بطبيعتها. كانت التوقعات أن النثر النسوي سيتناول ثيمات “أنثوية” تركز بوجه عام على الشؤون الداخلية كالحياة الأسرية والأعمال المنزلية ومسائل الإنجاب وما إلى ذلك، وبطبيعة الحال كانت هنالك عدة استثناءات فثمة مجموعة من الكاتبات تحدَّين مفهوم “أدب المرأة” وحاولن الكتابة خارج ذلك النوع الأدبي، مع أن مصطلح “أدب المرأة ” مازال قائما ومستمرا، ولم يتم حل تلك الرابطة إلا في عام 2006.

 

ثمة حالة مشابهة في الحقل الشعري، فقد تم إقصاء نتاج المرأة خارج “التيار” الشعري السائد الذي ينتمي إليه الكُتاب، وتم تصنيف ذلك النتاج تحت مظلة “شعر المرأة” كفئة تتفرع من “أدب المرأة”.

ومع ذلك فإننا نلحظ بين نتاج الشاعرات في الشعر الياباني تحديات مواربة لتوقعات القارئ، والنتاج الذي يلغي التمايز الجنسي نظرا للأصالة المطلقة وقوة التعبير. في هذه المقالة أود أن أقدم بعضا من ذلك النتاج، مركزة على ثلاث شاعرات من العصر الحديث: يوسانو أكيكو، شيكا ساغاوا، وإيتو هيرومي.* فرغم تناول الشاعرات لثيمات تتعلق بجنسهن كإناث، إلا أن أعمالهن لم تكن متملقة بأي حال من الأحوال. وقد انشقت الشاعرات في الشعر الياباني عن العرف السائد لكونهن نساء بطريقتهن الأنثوية الخاصة، والأهم من ذلك هو القاسم المشترك الذي أراه بين الشاعرات في الطريقة التي ُيمَوضعن بها أجسادهن كنقطة مرجعية تربطهن بالعالم الخارجي.

 

مثلت يوسانو أكيكو (1942-1878) دور “المرأة الحديثة” في اليابان عند مطلع القرن الفائت، وقد أحدثت أول مجموعة شعرية لها في الشعر الياباني عن شعر التانكا “ميداريغامي” (الشَّعر المتشابك، 1901) ضجةً في أوساط معاصريها من الشعراء، وذلك لحداثتها على مستوى الموضوع والأسلوب الكتابي، متسمةً بتعبيرات عاطفية غير مواربة، ومنظومةً في قالب لغوي إباحي.

 

كتبت يوسانو أكيكو قصيدة التانكا بالإضافة إلى الشعر الياباني الحر، ولكننا نستشف من قصائدها التانكا أشدَّ التعابير الشعرية دهشة “للمرأة الحديثة”، التي تؤكد فيها على ذاتها وجنسانيتها وجسدها، تقول في إحدى قصائدها:

“في سنِّ العشرين/ زهو ربيعها/ يتمرأى في شعرها الفاحم/ المتدفقِ كشلالٍ عبر مشطها/ يا لعذوبة ذلك”..

وردَت هذه القصيدة في مجموعتها الشعرية “الشَّعر المتشابك”، وتعتبر هذه المجموعة من أبرز أعمال يوسانو التي حققت شيوعا وشهرة. من الممكن بكل سهولة مقاربة الفتاة التي في ريعان شبابها والمعجبة بلمعان شعرها الأسود الأخاذ بصورة يوسانو نفسها. وبإمكان المرء أن يتخيل امرأة في ريعان شبابها تقف أمام المرآة، مع احتمالية كونها عارية، وهي تمرر المشط في شعرها وتهيم افتتانا بأنوثة جسدها المترعة.

 

في شعر التانكا الياباني التقليدي كان لشَعر المرأة ارتباط قوي بالإثارة الجنسية، كما يتبين في القصيدة التالية لشاعرة من القرن الثامن الميلادي وهي أزومي شيكيبو Izumi Shikib:

“لستُ على درايةٍ حتى بتشابك شعريَ الفاحم/ أضطجِع على بطني/ أتحراه بشوقٍ ذلك الذي يمرر أصابعه فيه”..

 

كما وُظِّف شَعر المرأة المتشابك مجازيا ليعكس الأفكار “المتشابكة” لامرأة تترقب عشيقها على أحرَّ من الجمر، تقول تايكينمون إن هوريكاوا Taikenmon’in Horikawa وهي شاعرة من القرن الثاني عشر:

 “لا أعلمُ إن كانت أفكارك ستبقى طويلاً أم لا/ شعري متشابكٌ هذا الصباح/ وأفكاري كذلكَ وأنا أغمس نفسي في الاشتياق”..

 

 كانت يوسانو تدرك تماما الوظيفة المجازية المحددة التي أوليت لشَعر المرأة في الشعر الياباني التقليدي، لذا أطلقت على مجموعتها الشعرية الأولى “الشَّعر المتشابك”. تتكئ القصيدة التالية على سبيل المثال بشكل مباشر على ذات الصورة المألوفة للشعر الأسود في قصائد التانكا، تقول يوسانو:

“شعريَ الفاحم/ آلافٌ من الخصلات/ شعري متشابكٌ بأكملهِ/ وكذلك قلبي/ قلبي كله متشابك”.

 

لكن يوسانو تتجاوز ما وراء ذلك في التعبير عن مشاعرها ورغبتها الجنسية، فمن أبرز السمات المميزة في شِعرها هو تأملها جسدها وإعجابها واعتزازها فيه، كما رأينا في أول قصيدة استشهدنا بها آنفا. ثمة مثال آخر هنا حيث تقارن يوسانو جسدها الغض “بزنبقة جميلة”:

“في حوضِ الاستحمام/ أنغمر كزنبقةٍ جميلة/ في قاع ينبوعٍ ما/ كم هو فاتنٌ / هذا الجسد ذو العشرين صيفاً”..

يا لها من رؤية نرجسية حقا، ومع ذلك ما هو مقدار الشجاعة بالنسبة لامرأة لتصدح علانية بأنوثتها، وأن “جسدها الفاتن” ليس مجرد أداة يتمعن فيه الذكور، بل من الأحرى عليها هي أن تتمعن وتحدق فيه، جسدٌ متلهفٌ يترقب أن تُفتح أبوابه عنوة. تقول يوسانو في إحدى قصائدها:

“أزمُّ صدري بيديَّ/ برقِّةٍ أزيحُ/ ستارَ الغموضِ /كم هو قرمزيٌّ لون وردتي/ وكم هو قاتم”..

 

وأما في القصائد التالية فتغوي رفيقها “ليتحسس” جسدها “ويسبر غوره”:

 

تحت بشرتي الناعمة

تفور دماءٌ ساخنة

لم يسبق لك جسُّها

ألست بمفردك؟

يا من تفقه الطريقة!

 

ما أقصر الربيعَ

من سيعيش إلى الأبد؟

تركتُ يداهُ

لتستكشفا

نهديَّ المكتنزتين

 

كان نشر مجموعة يوسانو “الشَّعر المتشابك” رياديا في التعبير المباشر عن العاطفة والرغبة، عُبِّر عنه بصوت امرأة واثقة من ذاتها ولديها ما لديها من الفخر والثقة بالنفس لتقدم جسدها كمادة جميلة. من هذا المنطلق فتحت يوسانو الطريق للأجيال التالية من الشاعرات ليتعاملن مع أجسادهن كثيمةٍ شعرية، وليؤكدن على هويتهن الأنثوية، المحور الذي يرتكز عليه جسد المرأة.

 

ومن الشاعرات اللواتي تطرقن لذات الموضوع أوكاموتو كانوكو ( Okamoto Kanoko, 1889-1939)،  فهي كذلك تتأمل جسدها وتفتتن بسحره، كما في القصيدة التالية:

“كأصداف البحرِ الصغيرةِ المنجرفة/ تتلألأ أظافر قدمي/ في قاع الحمام الدافئ/ عند مقتبل الظهيرة”..

 

وفي قصيدة أخرى تتأمل جسدها وتتمنى لو كان أقل سمنة، تقول:

“لماذا، بكل أسفٍ/أزداد وزنا/ مرةً أخرى، أتمنى عبثاً أن أصاب بمرض ما”..

بَيْد أنها تتمتع بصحة جيدة ومفعمةٌ بالحيوية، تقف عارية وهي تستحم تحت أشعة الشمس دون أدنى تحرُّج، مُقدِّرة متعة العيش إلى جانب كونها امرأة، تقول في إحدى القصائد:

“فوق جسدي الشهواني/ العاري بأكمله/ يرشح ضوء الشمسِ، يتقاطر/ ألست ممتنة لذلك؟”..

 

قبل الانتقال إلى دراسة النهج الحداثي لثيمة “الأنوثة”، سأتطرق بإيجاز لشاعرة أخرى من شاعرات قصيدة التانكا وهي ناكاجو فوميكو (Nakajo Fumiko, 1922-1954) التي تناولت ثيمة الحرمان من الجسد الأنثوي. خضعت فوميكو لعملية استئصال صدرها بسبب معاناتها مع مرض السرطان، وتوفيت عن عمر يناهز واحداً وثلاثين عاما، أي بعد شهر واحد من نشر مجموعتها الشعرية الأولى (محرومةٌ من النهدين)، تقول في إحدى قصائدها:

“أرى التلالَ/ تشبه أثدائي التي فقدتها/ في فصل الشتاءِ/ فلتدعيها تتزين بأزهار ذابلةٍ”..

 

لم تكتف ناكاجو بالكتابة عن فقدان أعضاء أنوثتها فحسب، إذ تناولت كذلك جانب الألم والندم من منظور نسائي بحت:

“لدي ماضٍ/ يتعين أن يُفتح بمِبضع جراحة/ فأجِنَّتي/ تركل بعضها البعض في العتمة”..

 

 توضح قصائد التانكا النسوية هذه كيفية سبرها لجسد الشاعرة الأنثوي والرغبة في إبرازه بشكل إيجابي، بالتصريح على أن ذلك الجسد “مِلكها”، لِيُفتَتَحَ بذلك مجالٌ جديدٌ في التعبير الشعري. عند تتبع النمط التقليدي لشعر التانكا سنجد أن هؤلاء الشاعرات لم يطرقن ذلك النسق المتعارف عليه في النظم، الذي يتكئ بشدة على تعالقات ومضامين أثارت بدورها رؤىً وأحاسيس شعرية مألوفة، تم تنشئتها عبر قرون ممتدة متواشجة. ومن المسلم به أيضا أن قصيدة التانكا كانت على مدى قرون واحدة من الأنواع الأدبية التي برز فيها صوت المرأة، إلى جانب الكتابات النثرية واليوميات المكتوبة بلغة شعرية. ولكن كانت التعابير والرؤى مقيدة آنذاك، ويعزى ذلك بقدر كبير إلى ذات أعراف قصيدة التانكا، إذ كان من المتوقع أن تؤدي المرأة فيها الدور السلبي المتمثل في انتظار الحبيب والاشتياق إليه، بالإضافة إلى كتابة الرثاء، عدا استثناءات قليلة مثل أعمال الشاعرة أزومي شيكيبو Izumi Shikibu التي عبرت بفرح وسرور عن خوض غمار العشق والجنس، ومع ذلك كان تعبيرها بلغةٍ مواربة، وكانت إحالتها إلى أعضاء المرأة تكاد تكون شبه معدومة، باستثناء بعض الإحالات الى الشَّعر، وفي بعض الأحيان البشرة الناعمة المعطرة.

لذلك كانت يوسانو حينها أول امرأة تقف قبالة المرآة، تُحدق في جسدها، وتبوح بجرأة أنه ملكها. لقد تغلبت نظرتها الخاصة لجسدها الأنثوي على نظرات الذكور، أو بالأحرى طغت عليها، لتجبر الرجل على تقدير جسدها والإعجاب به كما تفعل المرأة تماما.

 

في الوقت الذي ساهمت فيه يوسانا أكيكو مع آخرين من شعراء قصيدة التانكا الجدد بشكل كبير في إيقاظ جذوة الوعي الذاتي بين الشاعرات اليابانيات الحديثات، إلا أن عدد الشاعرات كان بصفة عامة يعتَوره النقص، ولاسيما من ينظمن قصيدة الشعر الحر. كان ثمة شاعرات في التيار البروليتاري أعربن عن استيائهن من المعاملة القائمة على التمييز العنصري للمرأة في بيئة العمل. وثمة شاعرات أخريات أمثال تاكامور اتيسو Takamure Itsue وفوكاو سوماكو Fukao Sumako اللتين أعربتا عن مأزقِ كونهما امرأتين بأسلوب النظم الحر. وثمة شاعرات كذلك عبَّرن عن أحاسيسهن برؤية نسائية “متفردة”، ترتكز حول الأعمال المنزلية والعناية بالشؤون الأسرية. عوضا عن التطرق للشاعرات اللواتي يتناولن قضايا المرأة بشكل مباشر في السياق الاجتماعي والثقافي الأعم.

ستنتقل هذه المقالة الآن للنظر في بعض أعمال شيكا ساغاوا، وهي شاعرة حداثية مغمورة، كافحت من أجل التصالح مع الحياة، وقد عُبِّرَ عن موتها الوشيك من خلال أحاسيس الجسد المتضائل.

 

لا تقدم شيكا ساغاوا إحالات مباشرة لجسد الأنثى بالطريقة التي قدمتها شاعرات قصيدة التانكا آنفا، فحالها في واقع الأمر أن جسدها على شفير الفناء، وبالتالي بالكاد يكون حاضرا في قصائدها. ومع ذلك من المفارقات بسبب غيابه (أي جسدها) تستدعي أبياتُ ساغاوا صورة امرأة تتشبث مستميتة بجسدها العليل، لأنها مضطرة على مواجهة احتمالية فقدانه، وفيما يلي جزء من أحد أعمالها النموذجية “ألسنة اللهب الخضراء”:

 

في البدءِ أُبصرُ

تلك الأشياءَ التي تدنو بحيويةٍ مني

تنحدرُ من أعتابِ سلالمَ خضراء

تمرُّ من هناك

محدقةً في الجانبِ الآخر

لتتهشم كلها في حيزٍ ضيق

وفي منتصف طريقها، تشكل شيئا فشيئا جبلًا

تستمر في حركتها، أشعة الضوء تصوغُ موجاتٍ متواصلةٍ على امتداد

حقولِ القمح

…..

كلُّ شيءٍ يدورُ، يستحيلُ من خضرةٍ إلى خضرةٍ أشد

إنها الآن في قارورة الحليب فوق طاولة الطعام

وجوهها منسحقة، متقوسةٌ فوق أجسادها، ومنعكسةٌ

على القارورة

….

بسرعةٍ أُغلقُ النافذة

فالخطرُ قادمٌ صوبي

ثمةَ نارٌ في الخارجِ

تستعر ألسنة اللهب الخضراء ببَهاء، متشظيةً في الهواء

مطوقةً الأرض

لتندمج في نهاية المطاف بالأفق حتى تتلاشى

وزني يتحرر مني

ويُرجعني إلى ثُقب النسيان

من ذا الذي عصَب عينيَّ من الخلفِ؟

وألقاني في الرقاد

 

تحيلُ “ألسنة اللهب الخضراء” في النص إلى تبرعم خضرة الربيع التي تنمو وتنتشر بسرعة. تُستهلُّ القصيدة بالصورة الديناميكية للخضرة وهي تتدحرج أسفل التلال، تغطي الحقولَ وتتجه نحو الراوي (الشاعرة) في النص، التي تنظر للخارج عبر النافذة وتشعر بالتهديد بسبب قوة الخضرة الكاسحة والمدمِّرة. من السهل قراءة “الخضرة” في النص كرمز للحياة، ولكنها بالنسبة للشاعرة قوة مدمرة يتعذر أن تتغلب عليها، فالخضرة تمتلك القدرة على اجتياح المكان عبر النافذة، ولا تطيق الشاعرة رؤيتها تنعكس في قارورة الحليب فوق طاولة الطعام، لذا تغلق النافذة بسرعة لتحمي نفسها -وإن كان ذلك من دون جدوى- لأنها تشعر بجسدها “ثقلها” وهو يتحرر منها.

 

تتكرر ذات الثيمة أيضا في قصائد أخرى لساغاوا، ففي قصيدة “الخضرة” على سبيل المثال ينتاب الشاعرة شعور بالاختناق جرَّاء فيضان الخضرة:

“تندفعُ للأمامِ مثل الموجاتِ/ إنها تفيض في كل مكانٍ، وفي كل الأرجاءِ/ على الطريق الجبلي وأنا على وشك الغرق/ إنني أختنق، أساند نفسي وأنا أتهادى في اندفاعي للأمامِ”..

لم تكن أوراق الأشجار الخضراء التي ترمز إلى قوة الحياة “مصدرا للطاقة”، بل هي تهديد لحياة ساغاوا التي كانت تعاني من مشاكل صحية في طفولتها، وكان لديها ضعف شديد في النظر أيضا، ويبدو أن صحتها بالفعل قد تدهورت خلال موسم الربيع. مع أننا لسنا معنيِّين في سياق المناقشة الحالية بمقاربة سيرة حياة الشاعرة؛ ولكن في الطريقة التي تتعالق بها مع بيئتها، وبالكيفية التي تُمَوضِع فيها جسدها بالنسبة للطبيعة.

 

في النصوص المقتبسة أعلاه ثمة حالة من التوتر تنشأ بين جسد الشاعرة والعالم الخارجي، فالشاعرة تنظر للعالم الخارجي على أنه عدواني وشرس. إن النظر للحيز الخارجي بوصفه وعاءً لوجود المرء، ناهيك عن كونه امتدادا لذاته، هو مجرد فكرة غريبة لساغاوا. في قصيدة التانكا التقليدية استُخدمت الصور التي تكتنف الطبيعة لتمثيل الحالة النفسية للشاعر، بمعنى أن المَشاهد المتكشفة على مرأى من الشاعر قد صيغت في القصيدة باعتبارها امتدادا نفسيا لذاته. لقد ملأت مناظر الطبيعة المألوفة الفضاء الأدبي لقصيدة التانكا، التي شكلت المشهد الذهني للشاعر. ويعتبر استكشاف “الذات” تزامنا مع المناظر الطبيعية، ابتكارًا شعريا حديثا لقصيدة التانكا. مع أن الرؤية الشعرية في وضع المناظر الطبيعية في مواجهة الذات ليست خصيصة متعلقة بساغاوا، ولكن ما يعتبر استثنائيا هو رؤية ساغاوا للطبيعة المحيطة بها بوصفها قوة مهدِّدة توشك على اقتحام الذات وتدميرها، وأن جسدها هو ما يقع تحت خطر التهديد بالتدمير.

 

في قصيدة “شريطُ تزيينٍ في مايو” نرى صورة شعرية مجسِّدة للطبيعة:

“خارجَ النافذة، يزأرُ الهواءُ بالضحك/ وخلف لسانهِ المتعددِ الألوان/ تحتشدُ الأوراقُ وتتطايرُ في مهبِّ الريح”..

 

وتظهر مباشرة بعد هذه الأبيات صورة “الأنا” المرتبكة داخل المنزل، تَمدُّ ذراعيها للاستيلاء على ما هو موجود هناك، ولكنها لا تحصد غير “شعر الرياح الطويل”.

 

تجيء الطبيعة في بعض الأحيان بشكل مباشر من أجل التدمير؛ في قصيدة “تتساقطُ الثلوج” يدنو الموت منها ويمضغ إصبعها:

“يكمنُ الموتُ بين أوراق شجرِ الايلكس/ يدبُّ بصمتٍ شديدٍ في العلية/ ليمضغَ أصابعي”..

 

وتقول في قصيدة “بيتُ الأشباح”:

“يتشبث الموتُ ببطءٍ بأصابعي/ ينتزعُ قشرةَ الليلِ/ طبقةً تلو الأخرى”..

 

مع أن تجسيد الطبيعة شائع في الشعر الأوروبي، إلا أن وجوده نادر في تقاليد الشعر الياباني . في نصوص ساغاوا ينصبُّ التركيز على جسد الشاعرة المتجمد من الخوف بسبب قوة الطبيعة المروِّعة وبالأخص الموت. نظمت ساغاوا عدة قصائد لها علاقة بثيمة الموت لأنها شعرت بدنوِّه منها، وقد توفيت بسرطان المعدة وعمرها أربعٌ وعشرون سنةً، وهذا هو آخر مقطع شعري لها أقتبسه من قصيدةٍ بعنوان “لحْيةُ الموت”:

 

من أجلِ أن ألمسَ العالمَ الخارجي، كالجزء الخلفي

من قطعةٍ مطرزةٍ باليد

أصبحتُ عُثَّةً واصطدمتُ بالنافذة

سنتخطى المعجزة

إن توقفت لحية الموت الطويلة المجعدة ولو يوماً واحداً عن التشابك معي

ينفضُ الموت أديمي

 

إن أكثر صورة مثيرة للدهشة هنا هي المنظر الداخلي، ورؤية العالم الخارجي كشيء يشبه “الجزء الخلفي من قطعة تطريز يدوية”، ثم تأتي صورة شعرية لعُثة تحاول الخروج ولكنها تصطدم بالنافذة، إذ نرى مرة أخرى النافذة وقد تموضعت بين الشاعرة والعالم الخارجي. بينما كانت القوة الخارجية في قصيدة “ألسنة اللهب الخضراء” تجتاح الداخل عبر النافذة، مهدِّدة بالاستيلاء على حياة الشاعرة، فإن الصورة المركزية في هذه القصيدة تتمثل في كون الحياة محاصرةٌ في الداخل. لقد تم إبراز الرؤية “الداخلية” في هذه القصيدة من خلال الصورة الاستثنائية “للجزء الخلفي من القطعة المطرزة باليد”، ومما لا شك فيه أن هذه الرؤية أنثوية بامتياز، لأن فن التطريز هو عمل ينتمي لعالم المرأة في تلك الفترة. بَيْد أن الإبداع يكمن في ارتكازه على “الجزء الخلفي”، الجزء الخفي من النسيج حيث يمكن للمرء فقط أن يرى جدائلا وحزما من الخيوط الملونة والعقد، بدلا من الأنماط المنسوجة بجمالية وإبداع على الواجهة الأمامية.

تشبه هذه الصورة الشعرية إلى حد ما الشرنقة؛ فجسد الشاعرة محتجز داخل حيز مغلق، إذ تحاول التحرر منه بطريقة مضنية “لتتواصل” مع العالم الخارجي، فكيف يمكنها ذلك إذا كان الحيز المحتجزة فيه محاطا بأعداد لا حصر لها من الخيوط؟ لم يكن من قبيل المصادفة إذن أن تلي صورةَ التطريز صورةٌ لعثة تحاول الطيران خارجا. كما أنه من الممكن أن تُؤَوَّل الشرنقة بوصفها الحيز الذي تمر من خلاله الخادرة بطور انتقالي يشبه الموت. تشير المحاولة الفاشلة للعُثة لاختراق النافذة إلى أن الخادرة لن تخترق جدران الشرنقة المطرزة كي تهرب للخارج، لأنه لن يكون هنالك سوى الموت بانتظارها؛ لذا جاءت صورة “لحية الموت المجعدة الطويلة”.

إن آخر بيت في هذه القصيدة غريب في طريقة نظمه، فليس “الأنا” في النص من ينفض أديم* الموت، كما في الأسلوب الشعري الشائع، بل الأنا هي “الأديم” الذي يقوم الموت بنفضه ونزعه، ويمكن تأويل “أديمي” في هذا السياق “الأديم/ الأنا”. وهكذا تكون قراءة البيت بهذه الطريقة “أنا” من ينفضه “الموت”، وتنتهي القصيدة بصورة شعرية ساحقة للموت تهيمن على فضاء النص بأكمله.

 

إذا كان الجسد يمثل لِـيوسانو نقطة مرجعية لتأكيد هويتها وإثبات ذاتها الأنثوية، فإنها تقدمه بوصفه جوهرا للاعتراف بالذات، فهو النقطة المركزية التي يرتبط بها الشاعر بالعالم. يمتد الجسد في حالتها نحو الخارج، فالمادة الجسدية التي تشكلها تخوم الجسد عبارة عن وعاء لعاطفتها ورغبتها، تبسطها لعشيقها ليتأملها ويتحسسها. تدرك الشاعرة أهمية الجسد من الخارج، وتقدِّر هيئته وملمسه أيَّما تقدير، وتشعر بتعطشه للوصول إلى الغاية التي يتوق إليها، حيث تتدفق مشاعرها عبر الجسد ومن خلاله. وعلى نقيض ذلك فإن إدراك ساغاوا للجسد ضمني، ففي قصائدها لا يقدَّم الجسد باعتباره شكلا محسوسا ولكننا ندرك وجوده، يستشعر دنو الموت ويصارع من أجل التمسك بنفسه، محاطا بقوى جبارة جدا يتعذر التغلب عليها. في قصائد ساغاوا ثمة إحساس بالأسر والتحرر أيضا، فهي تستخدم بشكل متكرر صورة شعرية لجدار أو نافذة لتعزل جسدها عن العالم الخارجي. في بعض الأوقات ينتابها الذعر من اجتياح خارجي، وأحيانا تمد يدها لتستولي على ما هو موجود هناك، أو تنقضُّ عبثا على الجدار لتهدمه. إنه مشهد الجسد الداخلي إذ نجده في العديد من قصائد ساغاوا. وهو الجسد داخل شرنقة، يرغب، ويرتعش، ويموت.

 

في الختام سأتطرق لبعض أعمال إيتو هيرومي، وهي شاعرة ذات أهمية بالغة لأية بحوث تتعلق “بالجسد” في الشعر الياباني بعد عام 1945. لعبت إيتو دورا رائدا بمعنى الكلمة في تحرير جسد الأنثى من جميع أشكال القيود الاجتماعية والثقافية والنفسية والأدبية والأسلوبية. مع التغلغل التدريجي للخطاب النسوي مع منهج الكتابة النسوي في سبعينيات القرن العشرين، شهدت اليابان ظهور جيل جديد من الشاعرات اللواتي كنَّ صريحات وجريئات بصورة راديكالية إزاء طريقة تعبيرهن حول الجنس. وكان ثمة شاعرات أسهمن في تمهيد الطريق لهنَّ أمثال توميواكا تائيكو Tomioka Taeko المولودة قبل إيتو هيرومي بعشرين عاما بالضبط، والتي تطرقت لثيمة “كونها امرأة” بطريقة ثورية غالبا ما تكون بموقف تقويضي، كما في النص التالي:

 

أمي وأبي

والقابلةُ أيضا

أيُّ مُزايدٍ أو مُسوِّق

 أو أي شخصٍ يراهن

بأن الطفل المرتقب سيكون صبياًّ

لذا فُتقت المشيمة باستماتة

 كفتاة

 

بعد ذلك

أعرب الجميع عن خيبتهم

لذا قررتُ أن أصبح صبيا

عندها

قام الجميع بتبجيلي

لذا أصبحتُ فتاةً

عندئذٍ

أساء الجميع معاملتي

لذلك أصبحت صبيا

 

بلغت سن النضج

ولأن عشيقي كان صبياًّ

أصبحتُ على مضضٍ فتاةً

 

إن هذا المقطع هو استهلال لقصيدة مكونة من أربعةٍ وسبعين بيتا بعنوان “قصةُ حياتي” وردت ضمن مجموعة شعرية صدرت عام 1958. بإمكاننا أن نرى قصدية توميواكا في انشقاقها عن معايير التوقعات الراسخة اجتماعيا وثقافيا، لما يعنيه أن تكون فتاةً أو امرأةً عن طريق تمسكها بحريتها في تحديد هويتها الخاصة وخيانة توقعات العائلة والعشيق والمجتمع. وذلك يعتبر بحد ذاته تهجما لفظيا من لجعل الأمر محايدا والنظر إليه بنسبية، وبالتالي الانقلاب على ما كان يبدو الرأي السائد آنذاك، المؤيد للتمايز الجنسي المطلق بين الجنسين.

 

وعلى نحو مماثل أحدثت شيرايشي كازوكو Shiraishi Kazuko وهي شاعرة من نفس جيل توميواكا Tomioka صدمة لجمهور القراء بقصيدتها التي تحمل عنوان “قضيب ذكري” بمناسبة عيد ميلاد سوميكو، والتي تستهلها بالأبيات التالية:

 

الربُّ موجودٌ حتى وإن لم يكن هناك

وهو فكاهيٌّ، لذا

يبدو وكأنه أحد الرجال

 

هذه المرة

أتى بقضيب ضخم

فوق

أفق أحلامي

ليأخذ نزهةً

أشعر باستياءٍ

فليس لدي ما أقدمه بمناسبة عيد ميلاد سوميكو

أتمنى أقلَّها أن أرسلَ

لصوتها الخفيضِ الرقيقِ الآسر

في الطرف الآخر من خط الهاتف

بذور القضيب الذكري التي جلبها الرب معه

فلْتسامحيني يا سوميكو

ينمو القضيب ويترعرع يوما بعد يوم

والآنَ ينتصبُ وسْط حقولِ أزهارِ القسموس

ويأبى أن يتزحزحَ، مثلَ حافلةٍ معطلة

 

نرى بعد ذلك هذه الصورة الشعرية لـ “عدة أعضاء ذكرية تنمو، وتسير نحوي” والتي هي في الحقيقة “عضو ذكري واحد، قائم بمفرده، بلا هيئة أو مفردات”. عندئذ تحل “الأنا” في النص فوق “وجود سوميكو بأكمله”، بحيث تصبح سوميكو متوارية وتستحيل عندها إلى “إرادة القضيب ذاته”.

 

هل ثمة سطوة أنثوية تتغلب على الروح الذكورية؟ أم أنها مجرد حالة تحول جنسي من أنثى إلى ذكر، وبالتالي إبادة للذات الأنثوية؟  وإنه لمن الواضح على أن الإقرار بقوة الرجل هي في هيئة “انتصاب” و”نمو” القضيب، ولكننا نرى على النقيض من ذلك الأنثى سوميكو بصوتها “الخفيض الرقيق الآسر”. ومع هذا ثمة امرأة تتلاعب هنا بالصورة القضيبية، وتسلي نفسها بفكرة تقديم القضيب الذكري الضخم كهدية لصديقتها، إنها المرأة التي تحدق في القضيب وتقف منتصبة بطريقة كوميدية وسط حقل من الأزهار، وليس القضيب من يؤدي ذلك الفعل. كانت هذه القصيدة مدرجة ضمن مجموعة شيراشي Shiraishi التي صدرت عام 1965. لقد كان الوقت مهيئا لظهور الجيل الجديد من الشاعرات اللواتي سيكُنَّ أكثر جرأة، بل وأكثر مجونا، وعلى أهبة الاستعداد للتعبير عن أجسادهن وجنسانيتهن ورغباتهن.

 

حققت إيتو هيرومي أول ظهور مثير لها في نهاية السبعينيات، وأصبحت بذلك الشخصية الجريئة والشجاعة في الشعرالياباني النسائي الحديث إبان الثمانينيات. في لغة بسيطة عامية وصادقة تميزت إيتو في لعب دورها الأنثوي، وكتبت عن الحب والجنس، والإجهاض والحمل، والأمومة والموت. وقامت بتمثيل فيسيولوجية أعضائها مجرِّدة إياها من كل الخرافات، فهي تقارن تجربة الولادة بالتغوط، وعملية الطلق بالمحاولة المستميتة لتفريغ الأمعاء في المرحاض، وبتشبيه الطفل في أحشائها على أنه “فضلات كبيرة” تريد أن “تتغوط” لتخرجه من داخلها. كما أنها تطرقت لعدة موضوعات كالجماع وممارسة العادة السرية. لم يعد القضيب بالنسبة لها رمزا لقوة الرجل، ولكنه ببساطة مجرد جهاز شأنه شأن جهاز الأنثى التناسلي. وقد قامت بوصف الاتصال الجنسي بلغة تصويرية. في أحد أعمالها المبكرة، تتساءل هيرومي “هل أنا مقعدُ مرحاض؟”:

 

ضممتُه بقوةٍ فاعتصرَني

بأصابعَ عظمية

عندما تستحوذ أصابعُ رَجلٍ على صدري

تنتابني غشاوة

وأرغب في خنقه

….

هل أنا مقعد مرحاض؟

منذ متى وأنا لا أرغبُ أن أعلمَ ولكن

راودتني شكوكٌ فاستفسر فمي

حتى يكون الأمر واضحاً

كان لا بد أن أسأل

 

وتكتب لاحقا في ذات القصيدة:

 

مُبهجةٌ

مبهجةٌ ممارسة الجنس

البشر يتناسلون، يتناسلون

البشر يموتون، يموتون

يتناسلون، يتناسلون

يموتون، يموتون

يتناسلون أو يموتون

مبهجةٌ ممارسة الجنس

ممارسة الجنس ممتعة

 

وفيما يلي جزء من قصيدة أخرى بعنوان “نهودٌ جيدة، ونهودٌ رديئة”، كُتبت تقريبا في نفس الفترة التي كتبت فيها القصيدة السابقة:

 

رياحٌ ساخنةٌ تهبُّ

نباتاتٌ تنمو بكثافة

حشراتٌ تتكاثر

ارتفاعٌ في درجة الحرارةِ والرطوبة

….

كلُّ أعضائي مقيدة

تتحول إلى نهود

حشراتٌ تتكاثر

نهودٌ متورمةٌ في الصباحِ وأنت لا تستطيع شُرب الحليب كلِّهِ

لأنك لا تتوقف عن مصهم

وعند حلول الليلِ يتغضنون ويجفون

………

من نهودٍ جيدةٍ إلى نهودٍ رديئة

ضدَّ أخرى رديئة

يحيك الأطفال خطةً للانتقام

 

إنها تمطر لذلك التِهم نهودك

تنساق السحب لذلك التهم نهودك

تثار الرياح لذلك التهم نهودك

 

ترتبط صورة المناطق المدارية بالأم الخصبة، وليس هنالك أدنى شك أن إيتو كانت من الأساس”في أتم صحتها”. وفي نفس الوقت غالبا ما يقترن هذا التأكيد الصحي والمتدفق بالحياة مع الشعور بالألم والقسوة، ومن الممكن أن يصبح قويا ومدمِّرا. فمن خلال تحويل الأعراف والتقاليد إلى نِكاتٍ، وكسر التابوهات التي استمرت لعدة قرون، بلغة عفوية وأحيانا طفولية، تتحدى إيتو كل مفهوم يمكن تصوره اجتماعيا وثقافيا لما ينبغي أن تكون عليه المرأة، وماذا يجب أن تفعل وتقول، وفي الطريقة التي ينبغي أن تشعر بها، ولاسيما أثناء سبرها لتجارب تنتمي لعالم الأنوثة.

 

على الرغم من أن شِعر إيتو يستند بدرجة كبيرة على معايشاتها الشخصية كامرأة وزوجة وعشيقة وأم، إلا أنه لا ينبغي أن تُقرأ قصائدها في ظل سياق تفاصيل سيرتها الحياتية، لأنها عوضا عن ذلك تقدِّم جسد المرأة وهو يمر في مراحله الخاصة به، وقد أسمت اثنتان من مجاميعها الشعرية بـ إقليم1 وإقليم2. ومفهوم الإقليم له مغزىً مهمٌّ جدا؛ فالجسد بحد ذاته يعتبر إقليما ينبغي على الشاعر استكشافه، كما أن لهذا الجسد حدوده التي من الممكن أن تتوسع وأن تتقلص، وأن توطَأ وتُجتاح، ولكن من الممكن لذلك الإقليم أن يتعافى وينمو من جديد. إنه إقليمٌ بإمكانه الارتباط مع العالم بأسره اجتماعيا وثقافيا وجسديا، ولكن من الممكن أيضا أن يُترك وحيدا ليغرق في ذاته ويندمج مع المجهول. كما من الممكن أن يكون الجسد من أساسه غزير الإنتاج ولكنه في نفس الوقت مهجورا وعقيما. تكتب إيتو كذلك عن الإقليم بوصفه مكانا رحبا بإمكانه أن يخلق مساحات بين الجسد، وأن يدمج الأجساد أو يفصلها عن بعضها البعض. وكذلك تعبر عن الرائحة المنبعثة من الإبط وغيرها من الروائح الجسدية التي تجذب أجسادا أخرى أو تنفرها، وتقارن ذلك بالكلاب والقطط التي تتحكم في أقاليمها عن طريق رش البول.

 

وقد دأبت إيتو على الكتابة بشكل مستمر بوصفها “امرأة”، مع أنها تُسخر أنوثتها وجسدها الفاتن، تكمن المفارقة في أن أعمالها تفترض إلغاءً جذريا بشأن التمايز بين الجنسين، لتدمر الحواجز التي أقصت الشاعرات من الشعر الياباني الحديث الذي هيمن عليه الذكور. يختلف نهجها في الكتابة اختلافا واضحا عن نهج شاعرات الخمسينيات والستينيات، اللواتي تحدين التيار السائد إما عن طريق تحييد حياتهن الجنسية أو من خلال عرض نسخة نمطية للمرأة في المشهد الاجتماعي الثقافي. وكما تلاحظ أراي تويومي Arai Toyomi إلى غاية الثمانينيات لم يكن بوسع أي شاعرة أن تقدم شيئا سوى أن تتصارع مع هويتها كامرأة، وهي الاستراتيجية التي وطَّدت بالفعل مفهوم “الاختلاف”. وكما أشيرَ آنفا بأن ذلك قد أدى إلى تعزيز الفصل الحاد بين الجنسين في الشعر الياباني الحديث. ومن سخرية القدر أن يساهم ذلك في إبقاء الشاعرات ضمن فئة “أدب المرأة”. ولكن ما إن استهلت حقبة الثمانينيات حتى حدث تحول نوعي، وكانت إيتو متمركزة في قلب ذلك التحول كشاعرةٍ تجاوزت “مفهوم كونها امرأة”، من خلال التطرق لجسدها والعزف على أوتاره، وتقديمه لقرائها بأوج طاقته المتأصلة وتأنقها.

 


1-TOSHIKO ELLIS: أستاذة الأدب المقارن في جامعة طوكيو، كتبت عدة دراسات عن الحداثة الشعرية اليابانية و الشعر الياباني ، مركزة على الشعراء اليابانيين في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.