مجلة حكمة
النزعة القومية

العقل مع النزعة القومية: علم أحياء الـ”نحن” و “الآخر” – روبرت سابولسكي / ترجمة: نورة العمرو

د. روبرت سابولسكي

العقل و النزعة القومية (نسخة PDF)

لم يحض بأي فرصة، خطؤه الأول أنه كان يبحث عن الطعام وحيدا ؛ ربما الأمور كانت ستأخذ مجرى آخر لو كان برفقة شخص آخر . خطؤه الثاني والأكبر كونه يتجول بعيداً جداً في منطقة خطرة أقصى الوادي. ويقع المكان الذي يخاطر فيه بالجري إلى الآخرين بين التلال في أعلى الوادي. وفي بادئ الأمر كان هناك اثنان منهم ، وقد حاول القتال معهم ولكن أربعة تسللوا وحاصروه فأصبح محاطا ، وتركوه بعدها ينزف حتى الموت، ثم عادوا في وقت لاحق لتشويه جثته، وفي نهاية المطاف وقع حوالي عشرين عملية قتل ولم يتبقى بعدها أحد ، وسيطر الآخرون على الوادي بأكمله .

          إن أبطال الرواية في ملحمة الغزو الدم هذه الذين قصهم عالِم الحيوانات جون ميتاني ليسوا أشخاصًا ، بل هم الشمبانزي في حديقة أوغندا الوطنية . فعلى مدار عقد من الزمان ، كان الشمبانزي الذكور في المجموعة الواحدة يقومون بشكل منهجي بقتل كل ذكر مجاور لهم وخطف الإناث الباقية على قيد الحياة والعمل على توسيع نطاق أراضيهم. كما تحدث هناك هجمات مماثلة في مجتمعات الشمبانزي في أماكن مختلفة . وفي عام 2014 أشارت دراسة إلى أنه من المرجح أن يقتل  الشمبانزي فردا من جماعة أخرى أكثر بثلاثين مرة على أن يقتل فردا من جماعته. وفي المتوسط , يتحد ثمانية ذكور على ضحية واحدة.

          إذا كان هذا هو الواقع العنيف للحياة باعتبارهم قرود , فهل من المفاجئ أن البشر الذين يشاركون أكثر من 98 في المائة من الحمض النووي الخاص بهم مع الشمبانزي. أن يقسمون العالم أيضًا إلى “نحن” و “هم” ويذهبون إلى الحرب على هذه الفئات ؟ المقارنات الاختزالية خطيرة بالطبع . يتشارك البشر نفس القدر من الحمض النووي الخاص بهم مع البابون، ومن هذه الموروثات السلوك الوحشي الذي لم يسمع به أحد.

          وعلى الرغم من أن البشر لا يقتلون فقط من أجل الوصول إلى الوادي ولكن أيضًا بسبب التجريديات مثل الإيديولوجيات والميتافيزيقيات والقوة الاقتصادية ، فهم لا نظير لهم في قدرتهم على تغيير سلوكهم . (قضى السويديون القرن السابع عشر يعثون في أرجاء أوروبا ؛ أما اليوم فهم كما هم).

          ومع ذلك ، تنشأ أفضل وأسوأ لحظات الجنس البشري من نظام يشمل كل شيء بدءا من الثانية التي تسبق النشاط العصبي إلى اخر مليون عام من التطور  (إلى جانب مجموعة معقدة من العوامل الاجتماعية).

          ولفهم ديناميكية هوية المجموعة البشرية ، بما في ذلك عودة النزعة القوميةهذا الشكل الأكثر تدميراً للانحياز داخل المجموعة– يتطلب فهم الأسس البيولوجية والمعرفية التي تشكلها. يقدم مثل هذا التحليل أسبابًا قليلة للتفاؤل. تميز أدمغتنا بين أعضاء المجموعة والأجانب في جزء صغير من الثانية ، فتشجعنا على أن نكون لطفاء مع الأول ولكن معادين للآخر . هذه التحيزات تلقائية وغير واعية وتظهر في سن مبكر بشكل مذهل وهي بطبيعة الحال تعسفية وسلسة غالباً.قد نصبح غدا مثل ما هم عليه اليوم ولكن هذا ليس سوى عزاء الفقراء

النزعة القومية
ليس بعيدا عن الاشجار: شمبانزي في حديقة الحيوان ، كراسنويارسك، روسيا، اكتوبر 2017

          يمكن للبشر كبح غرائزهم وبناء مجتمعات تحول مسار التنافس الجماعي إلى ساحات أقل تدميرا من الحروب، مع ذلك لا تزال القواعد النفسية للقبلية قائمة ، حتى عندما يدرك الناس أن ولائهم لأمتهم أو لون بشرتهم أو إلههم أو فريقهم الرياضي عشوائي مثل رمي العملة المعدنية، على مستوى العقل البشري، يمنع القليل زملائه الجدد من أن يصبحوا أعداء الغد مرة أخرى.

 

النزعة القومية والعقل القبلي

نزعة العقل البشري بالنسبة لنا مقابل تفكيرهم عميقة جدا. أظهرت العديد من الدراسات الدقيقة أن الدماغ يقوم بعمل مثل هذه الفروق تلقائيًا وبسرعة محيرة للعقل.

          أجريت تجربة حيث تم إبقاء متطوع تحت الماسح الضوئي للدماغ وتم عمل وميض تصوير الوجوه السريع حيث تظهر الصورة باللون الأبيض في الماسح الضوئي ويتضح الوجه باللون الأسود وبهذا تظهر لوزة المخيخ وهي المنطقة المسئولة عن مشاعر الخوف والعدوانية خلال العُشر الأول من الثانية.

          في معظم الحالات  تظهر قشرة الفص الجبهي وهي منطقة حيوية للتحكم في الدافع والتنظيم العاطفي في العمل بعد ثانية أو ثانيتين وتُحاول إصمات اللوزة : “لا تفكر بهذه الطريقة , هذا ليس أنا”،  إلا أن ردة الفعل الأولية هي عادةً ردة فعل خائفة ، حتى بين أولئك الذين يعرفون أفضل وهذه النتيجة ليست غريبة.

وعند النظر إلى وجه شخص من نفس العرق ينشط جزء متخصص من الدماغ الرئيس يسمى القشرة المغزلية، التي تتعرف على الوجوه، لكنها تكون أقل نشاط عندما يكون الوجه المعني لشخص ما من جنس آخر، وعند مشاهدة يد شخص من نفس العِرق وهو مطعون بإبرة فإن القشرة الحزامية الأمامية تُظهر نشاط عالي، وهي منطقة متورطة في مشاعر التعاطف، ولذلك عندما يظهر الشيء نفسه بيد شخص من جنس آخر ينتج عنها نشاط أقل، فليس أوجه الجميع وآلامهم متساوية .

في كل منعطف يتخذ البشر أحكاما ذاتية ومثقلة بالقيم عن الفئات المجتمعية، ولنفترض أنك متحامل ضد الغولان وهو شيء تخفيه عادة، ستكشف بعض الأدوات مثل اختبار المصادقة الضمني عن تحيزك رغم ذلك، حيث تتبدل شاشة الكمبيوتر بين الوجوه والمصطلحات شديدة الانفعال مثل الضخم أو الجاهل استجابة لذلك، ويُطلب منك الضغط بسرعة على أحد الأزرة، فإذا كانت أزواج الأزرة تتوافق مع تحيزاتك فاضغط على الزر أ لوجه الغول أو أي مصطلح سلبي، والزر ب للوجه البشري أو للإيجابي، المهمة ستصبح سهلة وسترد بسرعة وبدقة.

ولكن إذا ما تم عكس الاقتران وطلب منك الضغط على الزر أ للوجه الإنساني أو المصطلح السلبي والزر ب لوجه الغول أو المصطلح الإيجابي فستتباطأ ردودك، وهناك تأخير بسيط في كل مرة، حيث إن تنافر ربط الغول بالجمال أو البشر بالرائحة الكريهة سيصيبكم ببعض التردد.

ومع وجود عدد كاف من التجارب تكون هذه التأخيرات قابلة للكشف، بالتالي تكشف عن تحيزك ضد الغول أو في حالة الموضوعات الفعلية مثل التحيز ضد بعض الأعراق الإثنية أو الأديان الميتافيزيقية أو الفئات عمرية أو أشخاص معينين.

وغني عن القول، بأن يتم الحصول على العديد من هذه التحيزات مع مرور الوقت. ومع ذلك فإن البنية المعرفية التي يحتاجون إليها غالبا ما تكون موجودة منذ البداية حتى الرضع يفضلون أولئك الذين يتحدثون لغة آبائهم، كما أنهم يستجيبون بشكل أكثر إيجابية لوجوه الأشخاص الذين ينتمون إلى عرق آبائهم. وبالمثل يميل الأطفال في عمر الثلاث سنوات إلى تفضيل الأشخاص الذين من عرقهم أو جنسهم. لا يرجع السبب في ذلك إلى أن الأطفال يولدون بمعتقدات عنصرية فطرية  ولا يتطلب الأمر أن يقوم الآباء بتعليم أطفالهم بشكل فعلي أو ضمني أي تحيزات عنصرية أو جنسية، على الرغم من أن الأطفال يمكنهم التقاط هذه التأثيرات البيئية في سن مبكرة جد ا، وبدلا من  ذلك يحب الأطفال ما هو مألوف وهذا يؤدي بهم غالبا إلى نسخ التصنيفات العرقية واللغوية الخاصة بوالديهم .

في بعض الأحيان تكون أسس العواطف ومبادئ التعاون هي في أصل الجنس البشري الأكثر دافعية، وعلى سبيل المثال هرمون الأوكسيتوسين وهو المركب الذي اكتسبت سمعته مؤخرا بعض النجاح باعتباره “هرمون الاحتضان” الغامض .

في الثدييات يعد الأوكسيتوسين عنصرا أساسيا في الترابط بين الأم والرضيع ويساعد على تكوين روابط وثيقة بين الأزواج الأحاديين . وفي البشر يروج لمجموعة كاملة من السلوكيات المؤيدة للمجتمع.

فالمواضيع المعطاة للأوكسيتوسين تصبح أكثر سخاء وثقة وتعاطفا وتعبيرية إلا أنه ومع ذلك تشير النتائج الحديثة إلى أن الأوكسيتوسين يدفع الناس إلى التصرف بهذه الطريقة فقط تجاه أعضاء المجموعة على سبيل المثال : زملاء الفريق في لعبة بالمقابل يجعلهم أكثر عدوانية وأكثر كره للأجانب.

نادرا ما تؤثر الهرمونات على السلوك بهذه الطريقة فالمبدأ هو التأثير الذي تختلف قوته في بيئات مختلفة إلا أنه ومع ذلك يعمق الأوكسيتوسين خط الصدع في أدمغتنا بين ثنائية “نحن” و “هم”. ببساطة ، إن البيولوجيا العصبية والغدد الصماء وعلم النفس التنموي كلها ترسم صورة قاتمة لحياتنا ككائنات اجتماعية، وعندما يتعلق الأمر بالانتماء الجماعي ، فلا يبدو البشر بعيدون عن عائلات الشمبانزي التي تقتل بعضها البعض في غابات أوغندا، فولاء الناس الأساسي لما هو مألوف.

فأي شيء أو أي شخص آخر من المرجح أن يُقابل في البداية بالشك أو الخوف أو العداء، ولكن مع الممارسة العملية يمكن للبشر أن يروضوا ميولهم العدوانية اتجاه الآخرين وما يحدث بعد هذا عادة خطوة إصلاحية ثانوية .

 

من العمامة إلى موضات اللحى (النزعة القومية)

لكن وبعد هذا التشاؤم، هناك فرق حاسم بين البشر وتلك الشمبانزي المتحاربة  تميل النزعة الإنسانية نحو التحيز داخل المجموعة لكن بقيمة محايدة نسبيا، على الرغم من أن البيولوجيا البشرية تجعل التكوين السريع والضمني لثنائياتنا أمرا حتميا ،فإن من يعتبر شخصا غريبا عن المجموعة حكمه غير ثابت لكن من الممكن أن يتغير حكمه في أي لحظة.

ينتمي البشر إلى مجموعات متعددة ومتداخلة في آن واحد، ولكل منها قائمة خاصة بالغرباء فإما أن يكونوا من ذوي الديانات أو الأعراق المختلفة أو من أولئك الذين يتحيزون لفريق رياضي مختلف أو من أولئك الذين يعملون لصالح شركة منافسة أو ببساطة من أولئك الذين لديهم تفضيل مختلف على سبيل المثال بيسي أو كولا. وبشكل حاسم يتغير ظهور هذه الهويات الجماعية المختلفة طوال الوقت.

فعندما تقوم بالسير في شارع مظلم ليلاً وتشاهد أحدهم يقترب فإن اللوزة الخاصة برأسك ستصرخ، ولكن لو تجلس بجوار نفس الشخص في إستاد رياضي وتردد بانسجام مع الفريق نفسه فإن اللوزة ستظل نائمة .

وبالمثل أظهر الباحثون في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا أن الموضوعات تميل إلى تصنيف صور الأشخاص بسرعة حسب العرق، ومع ذلك أظهر الباحثون صورا لأشخاص من ذوي اللون الأسود والأبيض يرتدون زيين ملونين مختلفين فبدأ الأشخاص تلقائيا في تصنيف الناس حسب الزي الرسمي  بدلاً من لون البشرة .

تتجه معظم ميول البشر نحو التفكير داخل أو خارج المجموعة، وبعبارة أخرى لا يرتبط توجههم بشكل دائم لِسمات إنسانية محددة مثل العرق .بدلاً من ذلك تطورت هذه البنية المعرفية للكشف عن أي إشارات محتملة حول الاندماجات الاجتماعية والتحالفات لزيادة فرصة الفرد في البقاء على قيد الحياة من خلال إخباره عن صديقه من عدوه.

تختلف المميزات المحددة التي يركز عليها البشر لجعل هذا التصميم يعتمد اعتمادا كبيرا على السياق الاجتماعي ويمكن معالجته بسهولة، حتى عندما تظل حدود المجموعة ثابتة يمكن أن تتغير السمات التي يربطها الأشخاص ضمنيا بـ “هؤلاء” فعلى سبيل المثال كيفية تحول تصورات الولايات المتحدة لمختلف مجموعات المهاجرين، وتغيرت مفاهيم مجموعات المهاجرين المختلفة بمرور الوقت، حتى تم رسم خط فاصل بين كل الاختلافات والتفاوتات من مكان إلى مكان آخر.

          لقد نشأت في أحد أحياء نيويورك مع توترات عرقية عميقة ولكني اكتشفت لاحقا أن أمريكا الوسطى بالكاد تميز بين أحياؤنا القديمة وأحياؤهم، وفي الواقع يقضي بعض الممثلين حياتهم المهنية بأكملها بالتناوب بين تصوير شخصيات من مجموعة وأخرى، وهذه السلاسة والاعتماد الظرفي إنساني فريد، وفي أصناف أخرى تعكس الفروق في داخل أو خارج المجموعة درجة الترابط البيولوجي أو ما يسميه علماء الأحياء ب “اختيار الأقارب”.

تميز القوارض بين الأشقاء وأبناء العم والغرباء من خلال الرائحة – التواقيع الفيرومونية الثابتة والمحددة وراثيا – وتكيف تعاونها وفقا لذلك ,وفي حالة الشمبانزي تتكون تلك المجموعات القاتلة من إخوة أو أبناء عمومة نشئوا معا وألحقوا الأذى بالغرباء.

 إن البشر قادرون على ممارسة العنف الحركي بأنفسهم ، لكن عقلية المجموعة البشرية غالبا ما تكون مستقلة تماما عن هذه الروابط العائلية الغريزية، إذ تعتمد معظم المجتمعات البشرية الحديثة بدلا من ذلك على اختيار الأقارب المحدث وهي عملية تسمح للناس أن يشعروا بالارتباط الوثيق بما هم غرباء كليا بالمعنى البيولوجي، وفي كثير من الأحيان يتطلب ذلك عملية نشطة للغاية من الغرس في الذهن مع ما يصاحب ذلك .

          لنأخذ بعين الاعتبار التدريبات العسكرية التي تُنتج “مجموعة من الإخوة” أو الطلاب الجدد الذين لا علاقة لهم بالكلية ليصبحوا فيما بعد إخوة، أو القيمة القديمة لاستقبال المهاجرين في “الأسرة الأمريكية”، هذا المسار المرن بدلا من أن يكون ثابتا ووراثيا يدفع الناس أيضا إلى تبني علامات تعسفية تمكنهم من اكتشاف ثقافة أقاربهم في محيط من الغرباء ومن هنا تأتي الأهمية التي تعلقها المجتمعات المختلفة على الأعلام أو الملابس أو شعر الوجه.

تؤدي قصة اللحية والعمامة وقبعة “اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” هذا الدور عن طريق إرسال إشارات قوية بالانتماء القبلي، وعلاوة على ذلك فإن هذه المجتمعات الثقافية تعسفية عند مقارنتها بالمنطق الثابت نسبيا لاختيار الأقرباء البيولوجي، فبعض الأشياء تظهر هذا التعسف أفضل من تجربة أسر المهاجرين حيث يمكن لعشوائية اليانصيب أن تقوم بإجراء تغيير جذري في تعليم الطفل وفرصته المهنية وميوله الثقافية.

لو كان أجدادي وأبي قد غابوا عن القطار الذي خرج من موسكو والذي بالكاد صنعوه لربما أكون أكاديمياً روسياً  ُمدخناً بدلا من أكون مرتديا حذاء من النوع الأمريكي، وقد تأثرت بالبكاء خلال معركة ستالينغراد بدلاً بيرل هاربور.

          وبتوسيع نطاق تاريخ الأسرة الفردية فإن هويات مجموعة صورنا الكبيرة – الهويات الوطنية والمبادئ الثقافية التي تبني حياتنا – هي تعسفية بنفس القدر وتخضع لتقلبات التاريخ .

النزعة القومية: ثورة أم إصلاح؟

إن هويات مجموعتنا – الوطنية وغيرها – عشوائية حيث لا تجعلهم أقل تبعية في الأفعال سواء للأفضل أو للأسوأ، وفي أفضل الحالات يمكن للقومية الوطنية أن تدفع الناس إلى دفع ضرائبهم ورعايتهم لممتلكات أمتهم بما في ذلك أشخاص لا صلة لهم بهم ولم يلتقوا بهم قط ولن يلتقوا بهم  أبدا , ونظرا لأن هذا التضامن كان تاريخيا مبنيا على أسس ثقافية قوية من القرابة الزائفة فإنه من السهل زعزعة استقراره، لاسيما بسبب قوى العولمة التي يمكن أن تجعل الناس الذين كانوا في وقت ما هم النموذج الأصلي لثقافتهم يشعرون بأنهم غير مهمين وجعلهم على اتصال بأنواع مختلفة جد ا من الجيران أكثر مما كان عليه أجدادهم.

في مواجهة مثل هذا الاضطراب، يمكن أن تتحول النزعة القومية المدنية التي تدفع الضرائب سريعا إلى شيء أشد كراهية ولا إنسانية حيث تصف اليهود “بالحشرات”، والتوتسيين “بالصراصير” و المسلمين “بالإرهابيين”.

واليوم يعود هذا الطبع السام من النزعة القومية إلى العالم بأسره مدعوما من قبل الزعماء السياسيين الذين يتوقون إلى استغلاله لتحقيق الفائدة الانتخابية، وفي مواجهة هذا الانبعاث فإن الإغراء قوي لجذب شعور الناس بالعقلانية.

بالتأكيد إذا كان الناس يجب أن يفهموا كيف تكون النزعة القومية التعسفية فإن هذا المفهوم يبدو مثير للسخرية، فالقومية هي نتاج إدراك بشري لذلك يجب أن يكون هذا الإدراك قادرا على تفكيكها أيضا، لكن لا تزال هذه الأفكار مجرد أمنيات. في الواقع عند معرفة أن روابطنا الاجتماعية المختلفة عشوائية من الأساس فلن تؤدي إلى إضعافها .

أثناء العمل في سبعينيات القرن العشرين ، أطلق عالم النفس هنري تاجفيل على هذا “نموذج المجموعة الأدنى” فقام بأخذ مجموعة من الغرباء وقسمهم بشكل عشوائي إلى مجموعتين من خلال رمي عملة معدنية وكان المشاركون يعرفون معنى التقسيم ومع ذلك وجد أنهم في غضون دقائق يصبحون أكثر ثقة و كر ما اتجاه أعضاء مجموعتهم.

الذيول لا تفضل أن تصبح مع مجموعة الرؤوس والعكس صحيح . إن تأثير التفكير بـ”نحن” مقابل “الآخرين” قوي حتى عندما يكون استبداد الحدود الاجتماعية ً جليا تماما ، كي لا نقول شيئا عن ماهية دمجها في قصة معقدة حول الولاء للوطن . ولا يمكنك استبعاد الناس من موقف لم يكونوا مسببين له في المقام الأول .

          قد يكون المجتمع الحديث عالقا  في القومية والعديد من الانقسامات البشرية الأخرى، وقد يكون من المفيد استغلال هذه الديناميكيات بدلا من محاربتها أو إدانتها، بدلاً من الترويج للحروب وكراهية الأجانب، كما ينبغي على القادة أن يلتمسوا الميول الجماعية الفطرية لدى الناس بطرق تحفز التعاون والمسؤولية ورعاية الإنسان.

          تخيل أن الفخر القومي لا ينبع من القوة العسكرية للبلد أو من التجانس الإثني ولكن في القدرة على العناية بالمسنين و تربية الأطفال الذين أحرزوا درجات عالية في اختبارات تعاطف أو لضمان درجة عالية من الحراك الاجتماعي.

          إن مثل هذه النزعة القومية التقدمية ستكون بالتأكيد أفضل من تلك التي بنيت على أساطير الضحية وأحلام الانتقام. ولكن مع فتنة الخلط بين ما هو مألوف ومتفوق فإنه ما يزال عالقا في العقل أنه ليس ببعيد عن الجنس البشري خوض حرب عشوائية على شعب بلد يقوم بأنبل أفعال الإحسان وبهذا فإنه من غير المرجح أن يتم التغلب على أسوأ ما في النزعة القومية في أي وقت قريب.

فعندما تقوم بالسير في شارع مظلم ليلاً وتشاهد أحدهم يقترب فإن اللوزة الخاصة برأسك ستصرخ، ولكن لو تجلس بجوار نفس الشخص في إستاد رياضي وتردد بانسجام مع الفريق نفسه فإن اللوزة ستظل نائمة.

وبالمثل أظهر الباحثون في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا أن الموضوعات تميل إلى تصنيف صور الأشخاص بسرعة حسب العرق، ومع ذلك أظهر الباحثون صورا لأشخاص من ذوي اللون الأسود والأبيض يرتدون زيين ملونين مختلفين فبدأ الأشخاص تلقائيا في تصنيف الناس حسب الزي الرسمي  بدلاً من لون البشرة .

تتجه معظم ميول البشر نحو التفكير داخل أو خارج المجموعة، وبعبارة أخرى لا يرتبط توجههم بشكل دائم لِسمات إنسانية محددة مثل العرق .بدلاً من ذلك تطورت هذه البنية المعرفية للكشف عن أي إشارات محتملة حول الاندماجات الاجتماعية والتحالفات لزيادة فرصة الفرد في البقاء على قيد الحياة من خلال إخباره عن صديقه من عدوه.

تختلف المميزات المحددة التي يركز عليها البشر لجعل هذا التصميم يعتمد اعتمادا كبيرا على السياق الاجتماعي ويمكن معالجته بسهولة، حتى عندما تظل حدود المجموعة ثابتة يمكن أن تتغير السمات التي يربطها الأشخاص ضمنيا بـ “هؤلاء” فعلى سبيل المثال كيفية تحول تصورات الولايات المتحدة لمختلف مجموعات المهاجرين، وتغيرت مفاهيم مجموعات المهاجرين المختلفة بمرور الوقت، حتى تم رسم خط فاصل بين كل الاختلافات والتفاوتات من مكان إلى مكان آخر.

          لقد نشأت في أحد أحياء نيويورك مع توترات عرقية عميقة ولكني اكتشفت لاحقا أن أمريكا الوسطى بالكاد تميز بين أحياؤنا القديمة وأحياؤهم، وفي الواقع يقضي بعض الممثلين حياتهم المهنية بأكملها بالتناوب بين تصوير شخصيات من مجموعة وأخرى، وهذه السلاسة والاعتماد الظرفي إنساني فريد، وفي أصناف أخرى تعكس الفروق في داخل أو خارج المجموعة درجة الترابط البيولوجي أو ما يسميه علماء الأحياء ب “اختيار الأقارب”.

تميز القوارض بين الأشقاء وأبناء العم والغرباء من خلال الرائحة – التواقيع الفيرومونية الثابتة والمحددة وراثيا – وتكيف تعاونها وفقا لذلك ,وفي حالة الشمبانزي تتكون تلك المجموعات القاتلة من إخوة أو أبناء عمومة نشئوا معا وألحقوا الأذى بالغرباء.

 إن البشر قادرون على ممارسة العنف الحركي بأنفسهم ، لكن عقلية المجموعة البشرية غالبا ما تكون مستقلة تماما عن هذه الروابط العائلية الغريزية، إذ تعتمد معظم المجتمعات البشرية الحديثة بدلا من ذلك على اختيار الأقارب المحدث وهي عملية تسمح للناس أن يشعروا بالارتباط الوثيق بما هم غرباء كليا بالمعنى البيولوجي، وفي كثير من الأحيان يتطلب ذلك عملية نشطة للغاية من الغرس في الذهن مع ما يصاحب ذلك .

          لنأخذ بعين الاعتبار التدريبات العسكرية التي تُنتج “مجموعة من الإخوة” أو الطلاب الجدد الذين لا علاقة لهم بالكلية ليصبحوا فيما بعد إخوة، أو القيمة القديمة لاستقبال المهاجرين في “الأسرة الأمريكية”، هذا المسار المرن بدلا من أن يكون ثابتا ووراثيا يدفع الناس أيضا إلى تبني علامات تعسفية تمكنهم من اكتشاف ثقافة أقاربهم في محيط من الغرباء ومن هنا تأتي الأهمية التي تعلقها المجتمعات المختلفة على الأعلام أو الملابس أو شعر الوجه.

تؤدي قصة اللحية والعمامة وقبعة “اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” هذا الدور عن طريق إرسال إشارات قوية بالانتماء القبلي، وعلاوة على ذلك فإن هذه المجتمعات الثقافية تعسفية عند مقارنتها بالمنطق الثابت نسبيا لاختيار الأقرباء البيولوجي، فبعض الأشياء تظهر هذا التعسف أفضل من تجربة أسر المهاجرين حيث يمكن لعشوائية اليانصيب أن تقوم بإجراء تغيير جذري في تعليم الطفل وفرصته المهنية وميوله الثقافية.

لو كان أجدادي وأبي قد غابوا عن القطار الذي خرج من موسكو والذي بالكاد صنعوه لربما أكون أكاديمياً روسياً  ُمدخناً بدلا من أكون مرتديا حذاء من النوع الأمريكي , وقد تأثرت بالبكاء خلال معركة ستالينغراد بدلاً بيرل هاربور.

          وبتوسيع نطاق تاريخ الأسرة الفردية فإن هويات مجموعة صورنا الكبيرة – الهويات الوطنية والمبادئ الثقافية التي تبني حياتنا – هي تعسفية بنفس القدر وتخضع لتقلبات التاريخ .

المصدر (النزعة القومية)