مجلة حكمة
مهدمي المعتقدات

مهدمي المعتقدات: فلاسفة الأنوار – جونتان إسرائيل / ترجمة: محمد نجيب فرطميسي


جونتان إسرائيل،
 أستاذ التاريخ بجامعة برانستون، من جملة مؤلفاته ” أنوار راديكالية “. 2005

مهدمي المعتقدات

لكي يتسنى للأنوار، هذه الموجة العاتية، أن تجرف كل شيء وجد في طريقها، كان لابد من التهيء لها، خلال القرنين السادس عاشر و السابع عشر، و ذلك من خلال عمل تنقيبي شمل المرتكزات التي قام عليها المجتمع التقليدي، و همّ كذلك يقينياته و معتقداته.

لإدراك ما كانت عليه حركة الأنوار، لا بد من فحص الأسس التي قامت عليها أوربا في القرنين السادس عشر والسابع عشر. كان المجتمع الأوربي تراتبيا  بشكل صارم، السلطة بيد الملكية و المعتقدات تحت وصاية الدين؛ مع أن هذا الأخير في أزمة، بفعل التعارض القائم بين الكاثوليك و البروتستانت. تفرض العقيدة إرادتها بحزم على العلم والثقافة و التربية، كما تحد بكيفية درامية من مجال المناظرة والمناقشة والتجديد. قد نعتقد أن مجتمعا كهذا يفرز بداخله قوى عنيفة للمقاومة: ليس هذا النظام الاقتصادي السائد ليس صارما فحسب، بل غير منصف تماما، بحكم أن الأرض ـ بوصفها المصدر الرئيسي للإنتاج ـ مراقبة من طرف أقلية  أرستقراطية  متسلطة، وغالبيةٍ تعيش  وضعية  امتثال وتبعية؛ القانون يحمي  بالأولى من يتمتعون بالامتيازات. لكن الأمور لا تحدث هكذا عندما يقوم تصور البشر عن العالم على العناية الإلهية و قدسية الكتب السماوية و مشروعية الكنيسة، عندما يقتنع المجتمع بأن المعرفة الحقة وقف على علماء اللاهوت. لكي تحدث الأزمة، لابد أن يعيد معظم الناس النظر في هذه المعتقدات ؛ عندئذ فقط، حتى و إن همّ الرفض أولا مفكرين قلائل، فإن هذه الموجة العاتية ستعصف بكل شيء.

 هذه الحركة الخارقة فعلا، القوية من حيث دلالتها، والمتفردة من حيث نتائجها، هي التي ندعوها الأنوار. فهي التي حددت معالم النظام الذي يدير العالم الحديث. إن اعتبرنا بأن هذا النظام مؤسس على مجموعة من الحقوق موزعة بالتساوي ـ الحرية الفردية، الديمقراطية، المساواة بين الأنواع و الأجناس، حرية الصحافة والتعبير…ـ وأن أساس قيام الدولة هو ضمان رفاهية الشعب في الدنيا لا في الآخرة.، يتضح إذن أنه نظام على النقيض من ذاك الذي هيمن طيلة القرنين السابع عشر و الثامن عشر، واستمر حتى القرن التاسع عشر. تجاوز هذا التحول العظيم عصر النهضة، والإصلاح، والثورة الصناعية. كيف جرى ذلك؟ بواسطة تضافر القوى المعبرة عن تنامي التناقضات الداخلية والتوترات التي أثارتها الحروب الدينية، ومشكل التسامح الديني، ووقع الاكتشافات العلمية  الحديثة، خاصة اكتشافات كوبرنيك (1473ـ 1543) وجاليلي (1564ـ1642)، والتمردات الأولى ضد تسلط الأسر الملكية، كتمرد الهولنديين ضد ملك إسبانيا فيليب الثاني، والثورة الانجليزية الأولى. إذ بمجرد ما بدأت إعادة النظر في المعتقدات ، أضحى من غير الممكن الوقوف في وجه حركة المراجعة هذه. أكد آنذاك مؤسسو فلسفة الأنوار، ديكارت (1496ـ1650) وهوبز (1588ـ1676)، وسبينوزا (1632ـ1677) فيما بعد و لوك (1632ـ1704) و ليبنتز (1646ـ1716)  Leibniz وبيير بايل (1647ـ1706) P.Bayle، زيف المفاهيم التي تتعامل بها العامة مع الأشياء الجوهرية في الحياة؛ لقد أكدوا أننا  بمراجعة هذه المفاهيم، نكون بذلك قد ساهمنا فعلا في تقدم الوجود البشري. يغذو فعلا المجتمع أكثر تسامحا (هذا هو الشغل الشاغل لبايل) أكثر استقرارا (هدف هوبز) أكثر عقلانية  في مقاربته للكوارث الطبيعية و الأوبئة ( شكل هذا إحدى أهداف ديكارت ) أكثر تحررا، و انفتاحا على وجهات نظر مخالفة، وعادلا في معالجته لمسالة الأقليات الأكثر هشاشة.

عندما  أقر سبينوزا بأن الجسم والنفس ليسا جوهرين مختلفين، بل هما قبل كل شيء جوهر واحد منظور إليه من زوايا مختلفة، يكون بذلك قد قاد إلى أبعد مدى ثورة الأذهان. ترفض فلسفته في الواقع المبدأ القائم على النظام الإلهي، والخلق الإلهي، وثبات الأنواع. لأول مرة أعطيت الأولوية للعلم. أصبح المجتمع، انطلاقا من هذه المفاهيم، قادرا فعلا على مقاومة التلاعب الديني، والاستبداد، والسلطة المطلقة والأنظمة الأولغارشية والديكتاتوريات. هكذا قد يصبح المجتمع أكثر ديمقراطية، وتحررا، وإنصافا. ألم يكن سبينوزا أول فيلسوف أقرّ بان أفضل النظم السياسية هي الجمهورية الديمقراطية؟ سيقابل الفلسفة باللاهوت، والعالم الموجود بعالم أفضل.. كل هذه الإسهامات جعلت منه الوجه الأكثر أهمية بالنسبة للأنوار الراديكالية.

راديكاليون و معتدلون

يستحيل مع ذلك الحديث خلال 1680 عن الأنوار بما هي كذلك. لم تغير مباشرة أفكار هؤلاء المفكرين الكبار العالم، رغم توفر كل الشروط لذلك؛ قدمت هذه الأفكار فقط الأدوات النظرية لتقدم العالم و إصلاحه. توجد فضلا عن ذلك بين هؤلاء المفكرين اختلافات مهمة ومتعددة. هكذا يقبل لوك وليبنتز، حتى عند إدانتهما للفكر التقليدي، فكرة العناية الإلهية التي تسهر على تنظيم العالم وسيره؛ يعترفان بقدسية الكتب السماوية و بالسلطة الدينية، هذا ما يرفضه طبعا سبينوزا، وهوبز بدرجة أقل. يبتغي لوك و ليبنتز التخفيف من حدة المراقبة، وينشدان  تسامحا جزئيا، لكنهما يظلان مع ذلك من دعاة أشكال متعددة من الإبعاد والإقصاء ( رفض لوك للإلحاد ).. يدعوان للإبقاء على  الرقابة، خلافا لسبينوزا وبايل، اللذين يؤيدان التسامح وحرية التعبير المطلقة. يرفض بعض المفكرين، شأن هوبز وبايل وليبنتز فيما بعد، المسوغات اللاهوتية والتقليدية للسلطة الملكية، لكنهم لم  يدينوا مبدأ الملكية في حد ذاته، في حين أن النموذج السياسي الأمثل لكل من  لوك وسبينوزا والعديد من منظري الثورة الانجليزية، شأن جيمس هارينغتون (1611ـ1677) J.Harrington، هو النظام الجمهوري، أو أي نظام يستلهم على الأقل مبادئَ جمهورية. اجتهد البعض، كما هو  الشأن بالنسبة  لليبنتز ولوك، من أجل التوفيق بين القديم والحديث في فلسفتهم الأخلاقية:  هكذا برروا قيام النظام الأخلاقي على سلطة الكنيسة والدين، في حين فصل سبينوزا وبايل على الخصوص الأخلاق عن اللاهوت، ولا يعترفان للكنيسة بأية مشروعية في تدبير شؤون المجتمع. صحيح أن كلا من سبينوزا وبايل يعيشان بهولندا التي تنعم أكثر من أي مكان آخر بحرية  النشر: أكثر من بريطانيا العظمى، وفرنسا، هكذا ستلعب الأقاليم المنخفضة (هولندا) إلى حدود 1720  دورا مركزيا في بزوغ الأنوار.

يوجد إذن لدى هؤلاء المفكرين فصل جوهري بين تيار معتدل، ستعترف به أخيرا معظم الحكومات ورجال الكنيسة، وتيار راديكالي سيتم استبعاده كلية من طرف السلطات القائمة إلى حدود القرن العشرين. هكذا، وفي فترة  الأنوار، حيث ازدهرت المخطوطات والمطبوعات السرية، أصبح مفكرون أمثال بايل وفونت نيل و ديدرو ناشر الانسكلوبيديا، خبراء في فن الاختفاء وراء الأقنعة و الكتابة بكيفية ملتوية… لكن مع نهاية القرن الثامن عشر، تحولت الهوة بين الأنوار “المعتدلة” التي تسعى لإيجاد توازن بين الاعتقاد والعقل، وبين الأنوار “الراديكالية”، التي تدعو لقيادة العقل للعالم، تحولت هذه الهوة: إذ يتعلق الأمر آنذاك  بمعرفة إن كنا مع مبادئ الثورة الفرنسية أم ضدها.


 Le Point. Hors-série. N : 26

 La pensée des lumières.

Les textes fondamentaux

Mars Avril. 2010. P11-13

 لوبوان

النصوص المؤسسة لفكر الأنوار.

عدد ممتاز رقم 26 (مارس ـ ابريل 2010   ص 11 – 13)