مجلة حكمة
تفكيرك عن القومية علم

هذا هو تفكيرك عن القومية: علم أحياء “نحن” و “هم” – روبرت سابولسكي / ترجمة: مرام الشبرمي، بشائر المنصور

 

د. روبرت سابولسكي

تفكيرك عن القومية (نسخة PDF)

لم يتوانى عن اي فرصة اتت اليه ولكن خطؤه الاول انه بحث عن الطعام وحيدا بينما كان حاله سيختلف اذا كان بصحبته  شخص اخر. اما خطؤه الثاني الاعظم كان حين بدا بالتجول بعيدا عن الوادي الى مناطق خطرة ووعرة وخاصة حين اتخذه طريقا ليخاطر بنفسه ويهرب من الاخرين .

بدايةً كان هناك اثنين حاول قتالهم ولكنه اصبح مُحاطاً باربعة تسللوا من خلفه وتركوه ينزف حتى الموت ثم عادوا لتشويه جسده وتعاقبت حالات القتل واحدة بعد اخرى الى ان انتهى المطاف باستيلاء القتلة على الوادي . ابطال هذه القصة هم الشمبانزي المتواجدون حاليا في الحديقة الوطنية التابعة لاوغندا ،وتم اخبارنا عنهم من قِبل اول رئيس للجامعة ( جون ميتاني ) .

كان ذكور الشمبانزي على مر عقود من الزمان يتشكلون في مجموعات من الذكور وتقوم هذه المجموعات بقتل ذكور المجموعات المجاورة ثم يخطفون اناثهم لتوسيع اراضيهم .  وقد تم رصد حوادث مشابهة لهجمات مجموعات الشمبانزي في اماكن متفرقة كما وجدت الدراسة في عام ٢٠١٤ بأنه وخلال ذلك العام حدثت  مايقارب الـ٣٠ حالة قتل لذكور مجموعات الشمبانزي من مجموعات شمبانزي ايضا مجاورة لهم والذي بلغ بمعدل ٨ رجال يجتمعون على ضحية   لقتلها . فاذا كان هذا العنف بينجماعات الشمبانزي هو السلوك السائد فليس من الغريب ان يسود ايضا على البشر الذين يشتركون في اكثر من ٩٨٪؜ من حمضهم النووي مع الشمبانزي . ايضا تم   تقسيم العالم لـ “نحن” و “هم” لذا هل ستكون حربنا استنادا على هذاالتقسيم ؟ لهذا  ستكون المقارنات ضعيفة وخطيرة بطبيعة  الحال لان البشر والقرود احماضهم النووية متعادلة ومتساوية فبالتالي سيكون هذا السلوك الوحشي والذي لم يسمع به من قبل متعادل ايضا .

وعلى الرغم من أن البشر لا يقتصرون على الوصول إلى الوادي فحسب ، بل أيضًا على الأفكار التجريدية مثل الأيديولوجية والدين والقوة الاقتصادية الا انهم غير قادرين على تغيير سلوكهم فمثلا ( أمضى السويديون القرن السابع عشر في شوارع  أوروبا ولكنهم الى اليوم لايزالون اليوم هم السويديون.) ومع ذلك فإن أفضل لحظات البشرية وأسوأها تنشأ من نظام يضم كل شيء بدءا من النشاط العصبي الثاني إلى آخر ملايين السنين من التطور (إلى جانب مجموعة معقدة من العوامل الاجتماعية) .وحتى يكون بامكاننا فهم ديناميكية هوية المجموعة البشرية بما في ذلك عودة النزعة القومية – والتي يحتمل أن تكون أشد أشكال التدمُّر في التحيز داخل المجموعة – فهي تتطلب استيعاب الأسس البيولوجية والمعرفية التي تشكلها. لذلك مثل هذا التحليل يقدم القليل من الأسباب للتفاؤل.

الادمغة البشرية قادرة على التمييز بين افرادها وافراد المجموعات الاخرى خلال جزء من الثانية ، ومن خلال هذا التمييز فهي تشجعنا على ان نكون لطفاء مع جماعتنا وخصوم للجماعات الاخرى .

هذه التحيزات التلقائية واللاواعية تبرز في سن مبكرة للغاية و هُم بطبيعة الحال يكونون تعسفيين وغالبا مايكونون سلسين . اليوم “هم” ويمكن أن يصبحوا غدًا “نحن” لكن هذا فيه عزاء ضعيف ليس الا.

ليس بعيدا عن الاشجار: شمبانزي في حديقة الحيوان ، كراسنويارسك، روسيا، اكتوبر 2017

يستطيع البشر كبح غرائزهم وبناء مجتمعات تحول مسار المجموعات إلى ساحات أقل تدميرا من الحروب .ومع ذلك فإن القواعد النفسية للقبلية ما زالت قائمة حتى عندما يفهم الناس أن ولائهم لأمتهم ولون بشرتهم وإلههم ، أو انفريقهم الرياضي هو عشوائي مثل رمي العملة . لذلك فان العقل البشري يمنع اصدقاء اليوم من ان يصبحو بالغد اعداء .

العقول القبلية

إن ميل العقل البشري في التفكير بين ” نحن ” و ” هم ” يكون عميقًا وقد أظهرت العديد من الدراسات الدقيقة أن الدماغ قادر على ان يصنع مثل هذا التمييز تلقائياً وبسرعة محيرة للعقل. جرب ان تدخل متطوعا في جهاز الماسح الضوئي للدماغ والتقط صورة سريعة لوجهه ، سترى رجلا اسود بين الاشياء البيضاء وهذا يسمى بتنشيط اللوزة الدماغية اذ ينشط الوجه اللوزة الدماغية في اقل من عُشر الثانية والتي تعتبر منطقة مركزية لمشاعر الخوف والعدوان .

وهناك مايعرف بمنطقة قشرة الفص الجبهي والتي تسيطر على الانفعالات والعواطف في اغلب الحالات ، والتي تنطلق الى   العمل ثانية او ثانيتين وكانها تخبر اللوزة المخية بانه ” لايجب عليك العمل بهذه الطريقة فانا لا اعمل هكذا “ومع ذلك فإن رد الفعل الأولي يكون عادةً هو الخوف وبالطبع فان هذه النتيجة ليست خارجية ، لذلك فان رؤيتك لشخص من نفس عرقك ينشط ما يسمى بـ القشرة المغزلية والتي بدورها تبدا بالتعرف على الوجوه ولكنها تعمل بتاثير اقل حين يكون الشخص المعني من جنس اخر . ورؤيتك لشخص من نفس عرقك يصبح كوخز الابرة والذي يقوم بدوره بتنشيط   القشرة الحزامية الامامية المسؤولة عن عن مشاعر التقمص العاطفي ، هذه المنطقة يقل تاثيرها حينما تكون متقابلة مع شخص لاتعرفه بالتالي يقل نشاطها .

في كل مرة ياخذ البشر قرارات تلقائية قيّمة حول المجموعات الاجتماعية . لذا لنفترض هذه المرة انك خصم للغيلان وهو   الامر الذي تخفيه عادة ولكن سيكون هناك ادوات ستكشف رغم ذلك عن تحيزك . لدينا ايضا شاشة الكمبيوتروالتي يمكنها   من تبادل الوجوه والمشاعر مثل ” البطولي ” او ” الجاهل ” وللاستجابة لذلك ياتيك امر سريع بالضغط على احد هذه المفتاحين . وبالطبع ستاتيك خيارات تناسب تحيزاتك فمثلا ( اضغط على الزر A ليظهر لك وجهالغول او المصطلح السلبي ، او اضغط على الزر B ليظهر لك وجه انسان او مصطلح ايجابي ) وستستجيب انت لذلك بسرعة لانها مهمة سهلة ولا   تتطلب الكثير من الوقت .ولكن اذا تم تبديل هذه المفاتيح بحيث تكون (“اضغط علىالزر A لوجه إنساني أو مصطلح سلبي   وزر B لوجه الغول أو مصطلح إيجابي”) ، فسوف تكون استجابتك لاحد الامرين بطيئة . والتاخير سيتكرر كل مرة بسبب   انه ليس من المنطقي ان يرتبط الغول مع مصطلح ايجابي كـ ” جميل “او ان يرتبط البشر بمصطلح سلبي مثل  ” كريه الرائحة  ” . اما الان ومع وجود عدد كاف من التجارب فيمكننا ان نعرف هذه التحيزات ليس فقط ضد الغيلان ولكن ايضا التحيزات التي تكون ضد اعراق معينة كالاديان او الاعمار اوانواع الاجسام.

وغني عن القول أن العديد من هذه التحيزات تاتي بمرور الوقت لان الهياكل المعرفية التي يحتاجونها غالبا ما تكون موجودة منذ البداية لانك ستجد انه حتى الرضع يفضلون من يتحدثون لغة والديهم كما أنهم يستجيبون بشكل أكثرإيجابية لوجهات الناس من جهة والديهم بالاضافة الا انهم يتذكرون بشكل سريع وبالمثل فان البالغون من العمر ٣ سنوات يفضلون من هم من نفس عرقهم وجنسهم . ومن الجلي ان هذه التحيزات لا يرجع سببها الى انهم يولدون بمعتقدات عنصرية فطرية ولا يتطلب ايضا من الاباء تعليم ابناءهم عن هذه التحيزات لانها تعتبر تحيزات بيئية مما يمكن الاطفال من الانقياد لها في سن مبكرة جدا. وفي المقابل يحب الاطفال الرضع الوجوه المألوفة وهذا غالبامايجعلهم ياخذون  نسخة عن ابائهم ليستطيعو رؤية من حولهم . ولكن وفي بعض الأحيان تشكل أسس المودة والتعاون جذور للدوافع الغامضة للبشرية. لذا لنلقي نظرة على ” الاوكسيتوسين ” وهو مركب اكتسب سمعة ونجاحا باهراويعرف ايضا بانه ” هرمون العناق او الاحتضان” فمثلا في الثديات يعتبر هذا الهرمون مهم جدا لانه يربط بين الام وطفلها ويساعد ايضا على خلق روابط بين الازواج . اما بالنسبة للبشر فانه يعزز مجموعة كاملة من السلوكيات الاجتماعية لذا تصبح المميزات الممنوحة للأوكسيتوسين أكثر سخاءً وثقة وتعاطفًا وتعبيرًا.

ولكن توصلت الابحاث الاخيرة الى نتائج تشير إلى أن الأوكسيتوسين يطالب الناس بالتصرف بهذه الطريقة تجاه أعضاء المجموعة فقط – أي زملائهم في الفريق ، اما مع الغرباء فهو يشجعهم بان يكونو عدوانيين . اما بالنسبة للهرمونات فهي نادا ما تؤثر على السلوكيات بهذه الطريقة ولكننا سناخذ قاعدة بان هذه التاثيرات تختلف قوتها وبساطتها حسب اختلاف اوضاعها اما الاوكستوسين فهو الذي يفصل بين ادمغتنا وبين ” هُم ” و ” نحن ” . لذا و ببساطة ،فإن علم الأعصاب والغدد الصماء وعلم النفس التطوري يرسمون صورة قاتمة لحياتنا ككائنات اجتماعية.  ولكن عندما يتعلق الأمر بانتماء المجموعة ، لا يبدو البشر بعيدين عن عائلات الشمبانزي الذين يقتلون بعضهم البعض في غابات أوغندا: ولاء الناس الاساسي هو المالوف ولكن من المحتمل ان يتم استيفاء شيء او شخص اخر ولكن يكون هناك   من التشكيك او الخوف في البداية.

في الممارسة العملية يمكن للإنسان أن يخمن ميوله العدواني تجاه الآخرين ، لكن القيام بذلك عادة ما يكون خطوة تصحيحية  ثانوية.

العمامة تحب اللحى

مع وجود كل هذا التشاؤم الا ان هناك فرق جوهري بين البشر وتلك الشمبانزي . عند البشر يتجه الميول للتحيز داخل  المجموعة بشكل محايد نسبيا ، على الرغم من أن علم الأحياء البشري يجعل التكوين السريع والضمني لنا – وهماالانقسامات   التي لا يمكن تفاديها فعليًا – والتي تعتبر غير ثابتة ويمكن أن تتغير في لحظة.

أولاً ، ينتمي البشر إلى مجموعات متعددة متداخلة في مجموعات في آن واحد ، كل منها يحتوي على مواضيع خاصة به  كمجموعة من دين أو عرق مختلف. أولئك الذين يتجذرون في فريق رياضي مختلف ؛ او الذين يعملون في شركة منافسة ؛ أو ببساطة لديهم تفضيلات مختلفة لـ مثلا كوكاكولا أو بيبسي. لذلك وبشكل حاسم يتغير بروز هويات المجموعات المختلفة هذه طوال الوقت.

 ان كنت تمشي في احد الليالي المظلمة وحدك ورايت احدهم يقترب منك ، فستخرج اللوزة الخاصة بك وتصرخ لتحذرك . ولكن ان جلست بالقرب من نفس الشخص في احد مدرجات الملاعب لتهتف لفريقك المفضل فستبقى هذه اللوزةنائمة لانه لايوجد ماتحذرك بشانه .

وقد اظهرت الباحثة سانتا باربرا في جامعة كاليفورنيا تصنيفات مشابهة بان الموضوعات تميل الى تصنيف صور الاشخاص بسرعة وبشكل تلقائي حسب الجنس . وإذا أظهر الباحثون صورهم لأشخاص من السود والبيض يرتدون لباسين مختلفين بالألوان ، سيبدأ الأشخاص تلقائيا بالتصنيف من خلال زيهم مع ابداء اهتمام أقل بكثير للعرق.

وبمعنى آخر ، فإن الكثير من ميل البشر نحو التفكير داخل / خارج المجموعة ، لا يرتبط بشكل دائم بصفات إنسانية محددة    مثل العرق ولكن بدلاً من ذلك ، تطورت هذه البنية المعرفية للكشف عن أي إشارات محتملة حول الائتلافات والتحالفات الاجتماعية لزيادة فرصة البقاء على قيد الحياة من خلال إخبار صديق من العدو لذلك تختلف السمات المحددة التي يركز عليها البشر لاتخاذ هذا القرار حسب السياق الاجتماعي والتي يمكن التلاعب بها بسهولة ، حتى عندماتظل حدود المجموعات ثابتة فان الخصائص التي يجدونها مع ” هُم ” يمكن ان تتغير . على سبيل المثال ، في الولايات المتحدة الامريكية مع مرور الوقت تغيرت تصوراتهم للمجموعات المهاجرة المختلفة . ولكن هناك خط فاضل يتم رسمه ويختلف من مكان لاخر ، لقد نشأت في أحد الأحياء في نيويورك مع توترات عرقية عميقة ، ثم اكتشفت لاحقاً أن أمريكا الوسطى بالكاد تميز بين الاحياء القديمة “نحن” و “هم”. في الواقع ، يقضي بعض الممثلين حياتهم المهنية كلها بالتناوب بين تصوير شخصيات مجموعة واحدة ثم أخرى لذا فان هذا الانسياب والاعتماد من الصفات البشرية .

اما في الأنواع الأخرى ، تعكس الفروق داخل المجموعة / خارجها درجات الترابط البيولوجي ، أو ما يسميه علماء الأحياء التطوريون “اختيار الأقارب” لذا تستطيع القوارض التمييز بين الشقيق او ابن العم اوالغريب بالرائحة من خلال الفيرمونات الجينية الثابتة وتتكيف معها.

اما بالنسبة لمجموعات الشمبانزي القاتلة والتي تتكون من اشقاء وابناء عم نشؤوا سوياً وبدؤو باحداث الضرر للعالم الخارجي . اما البشر فهم قادرين على العنف ولكن عقلية المجموعات البشرية غالبا ماتكون مستقلة تماما عن هذه الروابط الغريزية بسبب اعتمادها على المجتمعات البشرية والتي بدورها تعتمد على الثقافة ، وهذه الحالة تندرج تحت المعنى  البيولوجي والتي تسمح للغرباء بان يشعروا بان هناك ارتباط بينهم ، وهذا عادة يتطلب مهمة وعملية نشطة لغرس القيم مع مايصاحبها من طقوس . ان امعنت التفكير في التدريبات العسكرية التي تنتج ” عصابات من الاخوة ” ، وعلى مستوى الجامعات هناك الطلاب الجدد الذين اصبحو ” اخوة ” ، او المهاجرين السابقين الذين يرحبون بـهم  ” العائلات    الامريكية ” . ان هذا المسار المرن بدلا من ان يكون وراثيا وثابتا اصبح كعلامة تمييز تمكّن الناس من اكتشاف ذويهم في محيط الغرباء ، ومن هنا تاتي الاهمية التي اعتمدتها المجتمعات المختلفة سواء كانت بالاعلام اواللباس او حتى شعر الوجه ، لذلك فان اللحية و العمامة و قبعة ” اجعلوا امريكا عظيمة مرة اخرى ” جميعها عناصر لها دور في ارسال اشارات قوية من العنصرية القبلية. علاوة على ذلك فإن هذه المجتمعات الثقافية تصبح تعسفية عندمقارنتها بالمنطق الثابت الخاص باختيار الأقارب البيولوجية.

وهناك بعض الأشياء التي تظهر هذا التعسف أفضل من تجربة العائلات المهاجرة ، حيث يمكن لتاشيرة اليانصيب أن تعيد تعديلاً جذرياً لتعليم الطفل وفرصه الوظيفية ووجوهه الثقافية. ان كان قد تغيب جداي ووالدي عن القطار خارج موسكو الذي بالكاد صنعوه ، ربما كنتُ اكاديميا روسيا بدلا من كوني امريكياً . لذلك ، بتوسيع نطاق مستوى تاريخ الأسرة الفردي ، فإن هويات مجموعتنا الكبيرة – الهويات الوطنية والمبادئ الثقافية التي تبني حياتنا – هي بنفس التعسف وتخضع ايضا لتقلبات التاريخ.

ثورة أو إصلاح؟

حين تكون هويات مجتمعنا وطنية او غير وطنية- عشوائية فبالتاكيد لن تكون اقل تاثيراً على الصعيدين الجيد والسيئ . وفي افضل الاحوال ، يمكن لهذه الوطنية ان تدفع الناس الى تسديد ضرائبهم والاهتمام بمن معهم بما في ذلك الاشخاص الذين لم ولن يلتقوا بهم ابداً . ولكن لأن هذا التضامن تم بناءه تاريخياً على علامات ثقافية قوية للقرابة الزائفة ، فإنه من السهل زعزعة استقراره خاصة من قبل قوى العولمة ، التي يمكن أن تجعل الناس الذين كانوا في الماضي النماذج الأصلية لثقافتهم يشعرون بأنهم غير مهمين ويجعلونهم على اتصال مع أنواع مختلفة مِن مَن حولهم على اتصالهم بذويهم. وفي مواجهتهم لمثل هذا التعطيل ، يمكن للقومية المدنية المدفوعة الضرائب أن تتحول بسرعة إلى شيء أكثر ظلمة مثل الكراهية اللاإنسانية التي حولت اليهود إلى “الحشرات” ، أو التوتسيين إلى “الصراصير” ، أو المسلمين إلى”إرهابيين”. واليوم تعود هذه العلامة التجارية السامة إلى الظهور في جميع أنحاء العالم ، حيث يحفزها الزعماء السياسيون المتلهفون لاستغلالها من أجل الميزة الانتخابية وفي مواجهة هذا الانبعاث ، يكون الإغراء قوياً ليدرك شعورالناس بالعقل . ومن المؤكد أنه إذا كان على الناس أن يدركوا كيف أن القومية تعسفية ، فإن المفهوم يبدو مضحكا لان القومية هي نتاج الإدراك البشري ، لذلك يجب أن يكون الإدراك قادراً على تفكيكها أيضاً. ومع ذلك فان هذا مانتمناه . ولكن في الواقع معرفة أن روابطنا الاجتماعية المختلفة عشوائية بشكل أساسي لا تفعل الكثير لإضعافها.

       عمل الطبيب النفسي هنري تاجفيل في السبعينيات من القرن الماضي ، وهو ما يُطلق عليه “نموذج المجموعة الأدنى”. مثالا على ذلك ، خذ مجموعة من الاشخاص الغرباء واقسمهم بشكل عشوائي الى مجموعتين عن طريق رمي عملة معدنية ، ستجد ان المشاركين يعلمون بانه لاتوجد جدوى من هذا التقسيم ولكن مع ذلك وفي خلال دقائق فقط ستجدهم اصبحو متفاهمين اكثر وواثقين من بعضهم البعض .

       بعض الاشخاص لايفضلون وجود الرؤساء  والعكس بالعكس . فان كان تفكيرنا قويا مقابل تعسف البعض فلن تكون هناك رواية لتنسجها عن الولاء وبالتالي لايمكنك ان تجعل الناس يخرجون من موقف لم يكونو منطقيين فيه في المقام الاول .

       والان قد يكون المجتمع الحديث عالقاً مع القومية وأنواع أخرى كثيرة من الانقسام البشري ، وربما يكون أكثر إنتاجية لتسخير هذه الديناميكيات بدلاً من محاربتها أو إدانتها وبدلاً من تشجيع التشاؤم والخوف ، يجب على القادة أن يناشدوا توجهات الأفراد داخل الجماعات بطرق تحفز التعاون والرعاية لرفيق الإنسان. ولكم ان تتخيلوا قوما لاتكمن قوتهم في القوة العسكرية او التجانس العرقي في بلد ما ، بل تكمن في القدرة على رعاية كبار السن او تربية الاطفال الذين يستطيعون تسجيل درجات عالية في اختبارات العواطف ، او ضمان درجة عالية من الحراك الاجتماعي وبالتاكيد مثل  هذه القومية التقدمية ستكون بالتأكيد أفضل من تلك التي بنيت على أساطير الضحية وأحلام الثأر. ولكن مع محاولة فهم ماهو مألوف ومازال محفوراً في العقل ، فان النوع البشري ليس من الانواع التي تذهب لتحارب شعوبا تنفذ اكثر الاعمال العشوائية لطفاً. لذا يعد التغلب على اسوأ مافي القومية هو امر بعيد الاحتمال في وقتنا الحاضر.

المصدر


[1] Robert Sapolsky, This Is Your Brain on Nationalism, (Foreign Affairs, Feb 12, 2019)

[2] روبرت سابولسكي استاذ علم الاحياء وجراحة الاعصاب والعلوم العصبية ومؤلف علم الاحياء البشرية في افضل واسوء حالاتها في جامعة ستانفورد.