مجلة حكمة
يورغن هابرماس حركة التنوير

المشروع غير المكتمل لحركة التنوير- براندون بلوخ / ترجمة: ساره القضيبي


حركة التنوير

“لا أحد في العالم يشعر بضعف التمييز العام أكثر مما أشعر.” هكذا شكا الشخص المميز في عصر التنوير الألماني – يوهان جوتفريد هيردر في أطروحته عام ١٧٧٤م بعنوان: هذه أيضًا فلسفة التاريخ لتكوين الإنسانية. كتب هيردر: “يجمع المرء بين الشعوب والفترات الزمنية التي تتبع بعضها البعض تتابعًا أبديًا مثل أمواج البحر”.

“لمن رسم الشخص؟ لمن التقطت الكلمة المصورة؟” بالنسبة إلى هيردر، فإن حلم التنوير المتمثل في استيعاب التاريخ البشري ككل متجزئ جاء ضد الخصوصية الأفراد والثقافات غير القابلة للاختزال.

يشير هابرماس إلى أن البشرية في أوقات الأزمات تمتلك الموارد اللازمة للنقاش الحكيم الموجه نحو الصالح العام.

يصارع يورغن هابرماس -الفيلسوف والمنظر الاجتماعي الألماني، كما يعد من بين أكثر المفكرين تأثيرًا في عصرنا-نفس المشكلة في عمله الجديد (هذا أيضًا تاريخ الفلسفة) الذي يعكس في عنوانه ترتيب مصطلحات هيردر (هذه أيضًا فلسفة التاريخ). نُشر كتاب هابرماس باللغة الألمانية في سبتمبر الماضي، ويمتد تاريخه لأكثر من ٣٠٠٠ عام و١٧٠٠ صفحة، فهو يمثل أوج مهنة فردية. يسعى هابرماس -مثل سلفه في القرن الثامن عشر- إلى إعادة تصور شامل لامتداد التاريخ البشري؛ فيكتب أن المشكلات الفلسفية تتميز عن المشكلات العلمية في “قوتها التركيبية”. وبالنسبة لهابرماس، لم يستنفد تهشم الحياة الحديثة قدرة الفلسفة على طرح الأسئلة الجريئة والبنية الواضحة.

من المؤكد أن العمل يشيد بإرث نقد ما بعد الحداثة. حذِرًا من صعوبات هيردر في “التوصيف العام”، يتجنب هابرماس التكهنات الهوائية لإعادة بناء نص كثيف. لكن يعد تاريخ الفلسفة هذا الذي لا يقل عن فلسفات التنوير في التاريخ مدفوعًا بنوايا غائيّة، وهو المبدأ الذي يربط بين العشوائية والصدفة الظاهرية في التاريخ. كان هذا المبدأ بالنسبة لهيردر هو “تكوين” الإنسانية (بيلدونج/ Bildung)؛ وهو مفهوم تأسيسي لـ حركة التنوير الألمانية يربط التطور الأخلاقي للفرد بتقدم وتطور الحضارة. أما بالنسبة لهابرماس، فهو “عملية تعلم” جماعية (ليرنبروزيس/ Lernprozess). يعتبر التاريخ كما يراه هابرماس قصة تعلم الإنسان، وسجل للمشكلات التي تم حلها والتحديات التي تم التغلب عليها. ويوضح هامبرماس أن “المعرفة الجديدة بالعالم الموضوعي” بجانب “الأزمات الاجتماعية” تخلق “تنافرًا معرفيًا”، ثم تدفع هذه التنافرات المجتمعات إلى تبني أساليب جديدة من التفاهم والتفاعل.

إن أداة التعلم لهابرماس هي اللغة؛ مصدر العقلانية البشرية، ومخزن المعرفة البشرية المتراكمة، والوسيلة التي يمكن عبرها تحدي تلك المعرفة وتحسينها. فهنا أيضًا يلعب هابرماس بأشكالً مختلفة حو موضوع التنوير، لكن ثمة مشكلة؛ على الرغم من انغماسهم في الأخذ والعطاء في الحجة العقلانية، فإن أبطال هابرماس يطورون أنظمة ميتافيزيقية أو ورائية تحجب صنع المعنى الخاص بهم بين الذات والعقل الواعي. وبالنسبة لهابرماس، تصبح الفلسفة واعية لعملية التعلم نفسها فقط مع صعود التفكير الحديث “ما بعد الميتافيزيقي”.

يعد كتاب (هذا أيضًا تاريخ الفلسفة) تحفة المعارف والتوليف في تتبعه لعملية التعلم المستمر عبر ثلاثة آلاف عام من الفلسفة الغربية؛ فإتقان هابرماس للقانون الفلسفي مذهل حتى أن الخبراء أنفسهم سيجدون رؤىً جديدة في صوره وأوصافه التي يبحث عنها. في الوقت نفسه، تدعونا روايته للتطور العقلاني للبشرية إلى طرح تحدي هيردر مجددًا: لمن استحوذ تاريخ هابرماس؟ والأكثر إلحاحًا هو السؤال -الذي أثير ولكن لم يُحل- حول كيفية تفاعل عملية التعلم التي اجتازها الغرب مع التواريخ الأوسع للعالم الحديث.

~~~~~~~~

ولد هابرماس عام ١٩٢٩م منتميًا للطبقة الوسطى البروتستانتية في ألمانيا الغربية، وهو أبرز فيلسوف ومفكر عام في أوروبا الحديثة. وعلى مدى مهنة رائعة امتدت لما يقارب سبعة عقود، وضع هابرماس نظامًا يربط بين نظرية المعرفة واللغويات وعلم الاجتماع والسياسة والدين والقانون. كما نشرت نصوصه الفلسفية بأكثر من أربعين لغة؛ الأكثر من ذلك، ميز هابرماس نفسه كمدافع قوي عن الدور العام للمثقف، حيث أثارت محادثاته مع المحاورين من جون راولز إلى ميشيل فوكو جدلًا عبر العلوم الإنسانية، وقد شكلت تدخلاته السياسية خلافات حول موضوعات من الذاكرة التاريخية إلى التوحيد الأوروبي إلى الهندسة الوراثية.

أشعل عيد ميلاد هابرماس التسعين في العام الماضي نقاشات حماسية حول أعماله ومسيرته، حيث استقطبت محاضرته التي عرضها في جامعة فرانكفورت بمناسبة ميلاده التسعين حشدًا من أكثر من ٣٠٠٠ مستمع، في حين مهد ظهور معجم كامبريدج هابرماس المؤلَّف من ثمانمائة صفحة الطريق للمرحلة التالية من استقباله باللغة الإنجليزية. والأكثر إثارة للجدل، أن جدال الفيلسوف السياسي ريموند جوس تحدى الأسس الفكرية لهابرماس وأثار حوارًا مثيرًا للجدل بين علماء النظرية النقدية. يبلغ هابرماس اليوم الحادي والتسعين من عمره، ويبقى نشطًا ومستمرًا في الإلهام والاستفزاز.

بالنسبة لهابرماس، الديموقراطية هي النظام الذي ينتصر فيه التواصل غير القسري على السلطة المجردة، حيث تشكل الحجة العقلانية بين المواطنين المتساوين أساس الشرعية السياسية.

ثمة مشروع شامل يربط بين كتابات هابرماس الفلسفية ودفاعه العام ويساعد في تفسير امتداده العالمي: صياغة ما يسميه نظرية “العقلانية التواصلية”. قدم هابرماس حججًا على أنه عندما نوجه أنفسنا إلى إنسان آخر من خلال اللغة، فإننا نفترض إمكانية الفهم المتبادل والإقناع العقلاني. وفي حالة الكلام المثالية حيث لا يوجد إكراه باستثناء “القوة غير المبررة للحجة الأفضل”، فمن شأن الحوار أن يعزز الإجماع على أساس الاتفاق العقلاني. يصر هابرماس على أن المثالية تظل شرطًا أساسيًا حتى للخطاب العادي، وتحتوي على بذر الديمقراطية الراديكالية، على الرغم من إدراكه التام بأن معظم الاتصالات بعيدة عن هذه المثالية. بالنسبة لهابرماس، الديموقراطية هي النظام الذي ينتصر فيه التواصل غير القسري على السلطة المجردة، حيث تشكل الحجة العقلانية بين المواطنين المتساوين أساس الشرعية السياسية.

كانت صدمات ألمانيا بعد الحرب هي ما أظهر مشروع هابرماس؛ إذ كان هابرماس البالغ من العمر خمسة عشر عامًا في وقت الانهيار النازي قد فرّ بصعوبة من التجنيد العسكري. واستمع مرعوبًا إلى البث الإذاعي لمحاكمات نورمبرج، عاقدًا العزم على الكشف عن ماهيّة الخطأ الذي حدث في التاريخ الألماني، وما إذا كانت الثقافة الألمانية تمتلك الموارد اللازمة لإعادة بناء البلاد؛ فتخلى طالب الجمنازيوم عما خطط له من امتهان للطب لأجل السعي وراء الفلسفة. أعاد هابرماس نشر إحدى كتب الفيلسوف مارتن هايدجر من الحقبة النازية في عام ١٩٥٣م؛ الأمر الذي أصبح جزءًا ثابتًا من سيرة هابرماس الذاتية. كما أشاد مارتن في كتابه على الحقيقة الداخلية وعظمة الاشتراكية القومية؛ مما دفع هابرماس الشاب إلى رفض الوجودية السائدة واليأس الثقافي. وبدلاً من ذلك، وجد هابرماس مكانته الأكاديمية في جامعة فرانكفورت بين المنفيين الألمان اليهود العائدين: ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو.. فكان معهدهم -المعاد تشكيله- للبحوث الاجتماعية بمثابة ملاذ للنقاش النقدي وسط الثقافة الأكاديمية المختبئة في ألمانيا الغربية بعد الحرب. ومع ذلك، اختلف هابرماس عن أسلافه حتى عندما حصل سريعًا على الترقية كقائد للجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت. ففي حين أن كتاب جدلية التنوير لهوركهايمر وأدورنو (١٩٤٧م) تتبع اضمحلال العقلانية الغربية إلى “عقل أداتي” مدمر ذاتيًا، سعى هابرماس إلى إيجاد نمط عقلاني بعيد عن منطق الوسائل والغايات الضيق، هذا الذي سيحدده هابرماس فيما يسمى التواصل بين الذوات. تنبأ أطروحة التأهيل لهابرماس والكتاب الذي أبرز اسمه: التحول الهيكلي للمجال العام (١٩٦٢م) بمركزية الاتصال في مسيرته المهنية. تتبع هابرماس صعود “المجال العام” البرجوازي في المقاهي وثقافة المطابع والطباعة في أوروبا في القرن الثامن عشر من خلال تضمين الحجة الفلسفية في علم الاجتماع التاريخي. إن المجال الجديد للنقاش العقلاني بين المؤسسات الرسمية للسياسة والمجال الخاص للأسرة يتحدى السلطات الحاكمة ويحفز انتشار الأفكار الجمهورية. على الرغم من أن التحول الهيكلي خلص إلى رسم بياني يبين انحدار المجال العام في وسائل الإعلام الحديثة -وهو قلق واسع الانتشار في حديث اليوم عن المعلومات المضللة والأخبار المزيفة- إلا أن العمل أعلن عن هوية مؤلفه مدى الحياة كـ “المشروع غير المكتمل” للتنوير.

إذا كان التحول الهيكلي قد جعل هابرماس نجمًا صاعدًا، فإن أعظم مؤلفاته عام ١٩٨١م “نظرية الفعل التواصلي” هو الذي جعله فيلسوفًا رائدًا في القرن العشرين. حملت النظرية ثمار عقدين من الاستكشاف الفكري، بما في ذلك فترة عمله كمدير لمعهد ماكس بلانك في شتارنبرج – بافاريا، وبرنامجًا طموحًا للقراءة عبر علم الاجتماع الكلاسيكي، ونظرية النظم، وفلسفة اللغة العادية، والبراغماتية الأمريكية. حيث حشد الكتاب كل هذه التأثيرات للكشف عن الأسس العقلانية للتواصل كمسار نحو إعادة تنشيط الديمقراطية. وخلص هابرماس إلى أن النظام الحديث للاقتصاد والبيروقراطية يجب أن يخضع لإشراف صارم من قبل “عالم الحياة” أي فضاءات المجتمع والثقافة، حيث يمكن أن يزدهر الاتصال الحر. كما حذر هابرماس من استعمار عالم الحياة من قبل المصالح الخاصة أثناء قبوله لهياكل دولة الرفاهية الرأسمالية.. وسيعود هابرماس إلى هذا الموضوع في الكتابات السياسية اللاحقة.

قدم هابرماس حججًا على أنه عندما نوجه أنفسنا إلى إنسان آخر من خلال اللغة، فإننا نفترض إمكانية الفهم المتبادل والإقناع العقلاني، مع إدراكه التام بأن معظم الاتصالات بعيدة عن هذه المثالية.

يمثل كتاب “هذا أيضًا تاريخ الفلسفة ” تتويجًا للمرحلة الثالثة من مسيرة هابرماس، وهي مرحلة اكتسبت فيها مسائل الإيمان والدين أهمية متزايدة. اعتمد عمل هابرماس السابق على نظرية العلمنة؛ فمهما كانت قناعات المرء الخاصة، فإن المجال العام يعتمد على تبادل “ادعاءات الصلاحية” المتاحة لجميع المواطنين؛ ويجب فحص المناشدات الإيمانية في المقدمة. ولكن بعد شهر واحد من هجمات ١١ سبتمبر ٢٠٠١م ألقى هابرماس خطابًا وصف فيه الديمقراطيات الغربية المعاصرة بأنها مجتمعات “ما بعد العلمانية”. ويجادل هابرماس الآن بأن المجال العام يجب أن يستوعب التنوع الديني ويسمح بمشاركة المواطنين المتدينين.. كما ذهب هابرماس إلى ما هو أبعد من ذلك في مقال نشر عام ٢٠٠٥م عقب مناقشة عامة مع الكاردينال جوزيف راتزينجر (لاحقًا البابا بنديكتوس السادس عشر). لا ينبغي أن يكون للمواطنين المتدينين والعلمانيين حق الوصول المتكافئ إلى المجال العام فقط، ولكن من المتوقع بشكل معقول ألا يستبعد أن يكون للمساهمات الدينية مضمون معرفيًا.

بالنسبة لبعض محاوري هابرماس العلمانيين، فإن هذه التنازلات الواضحة للدين تخون الوعد العقلاني للنظرية الاجتماعية النقدية. ومع ذلك، كما هو الحال مع الكثير في هابرماس، فإن ما يظهر على أنه تحول يعكس مدى عمق المخاوف السابقة. كشف بحثي الخاص المتعلق بالشبكات الفكرية البروتستانتية في ألمانيا ما بعد الحرب المبكرة عن أدلة على مشاركة هابرماس في مجموعات عمل مسيحية ماركسية خلال أوائل ستينات القرن العشرين. ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، انخرط هابرماس في تبادلات ومناقشات فلسفية مع علماء دين مسيحيين بارزين؛ وأبرزهم معاصره الكاثوليكي يوهان بابتيست ميتز. تستند كتابات هابرماس الأخيرة إلى رأيه الثابت القائم على أنه من الممكن للمواطنين المتدينين المساهمة بالبصيرة الأخلاقية في المجال العام، وأنهم فعلوا ذلك في ألمانيا التي أصبحت ديمقراطية. بينما تستوعب أوروبا موجات جديدة من المهاجرين المسلمين، سعى هابرماس إلى محاربة الخطابات المعادية للأجانب المختلفين ثقافيًا، مع تعزيز التداول الديمقراطي عبر الانقسامات الدينية. لكن ما دفع هابرماس للكتابة عن الدين أيضًا هي القناعات الأكثر استفزازًا؛ فعلى الرغم من دعوته لمجال عام متعدد الديانات، ظل هابرماس مؤكدًا بشأن الدور التأسيسي للمسيحية الغربية. ففي نظرية الفعل التواصلي، استعان هابرماس بعالم الاجتماع الكلاسيكي ماكس ويبر لتتبع صعود العقلانية الهادفة الحديثة من الفكرة البروتستانتية للدعوة. أما في الآونة الأخيرة، فقد نأى هابرماس بنفسه عن مزاعم ويبيري المخيبة للآمال ليشير إلى أن عملية العلمنة لا تزال غير مكتملة. حيث صرح في مقابلة عام ٢٠٠٢م: إن المساواة الكونية هي الإرث المباشر للأخلاقيات العدالة اليهودية وأخلاقيات الحب المسيحية… لا يوجد بديل لها حتى يومنا هذا.” وهنا أوضح هابرماس ما سيصبح جوهر برنامجه الفكري من خلال رسم تناقضًا مريبًا بين الديانتين التوحيديتين. لم يكن التراث اليهودي المسيحي للغرب مرحلة عابرة في ظهور الفكر والسياسة الحديثين، ولكنه ساهم -وربما لا يزال يساهم- في جوهره الأساسي.

~~~~~~~~

كتاب “هذا أيضًا تاريخ الفلسفة” هو تحقيق لادعاء هابرماس على نطاق واسع. يقدم العمل في أبسط صوره مسحًا تاريخيًا يربط بين نظرية هابرماس القديمة في التواصل مع حجته الأحدث حول تفوق اليهودية والمسيحية. الأطروحة المركزية موسعة ولكنها مباشرة، حيث برزت العقلانية التواصلية والديمقراطية الدستورية من حوار دام ثلاثة آلاف عام بين قطبي الفكر الغربي: الإيمان والمعرفة. ومن خلال تاريخ طويل من النقاش الفكري والتحول الاجتماعي، تم دمج العالمية الأخلاقية في جوهر المسيحية -بعد أن تطورت من سلائفها اليهودية- مع التفكير الحديث ما بعد ما وراء الطبيعة أو ما بعد الميتافيزيقي. اختلف تفسير هابرماس للعلمنة عما أسماه الفيلسوف تشارلز تيلور “قصة الطرح” والتي يتم من خلالها تجريد المعتقدات غير العقلانية من مسيرة العلم إلى الأمام. وبدلاً من ذلك، يعيد هابرماس بناء تفاعلات الإيمان المسيحي والمعرفة الدنيوية كعملية ليست للصراع، بل للتعلم والترجمة المتبادلين.

تتجذر عملية تعلم هابرماس في طبيعة الإنسان العاقل ككائن لغوي. فبالاعتماد على البحث الذي أجراه عالم النفس التطوري مايكل توماسيلو، يبدأ بتمييز حاد بين الإدراك البشري والحيواني. يوضح هابرماس أن الرئيسيات الأخرى تتواصل للإشارة إلى الأشياء في بيئاتها الخاصة؛ لكن التعقيد الاجتماعي الفريد للحياة البشرية -والذي يتجلى في الأسرة الأحادية ومطاردة العصر الحجري- حفز قدرة مميزة على التواصل بين الذوات حول عالم موضوعي مشترك. سمح هذا الشكل الفريد من اللغة للبشر بصياغة حلول جماعية لمشاكل مشتركة؛ وبذلك يمكن للتعلم الاجتماعي والثقافي للإنسانية أن يتجاوز تطورها البيولوجي.

يشير هابرماس إلى أن التراث اليهودي المسيحي للغرب لم يكن مرحلة عابرة في ظهور الفكر والسياسة الحديثين، ولكنه ساهم -وربما لا يزال يساهم- في جوهره الأساسي.

يشرع هابرماس في سرد التطور المبكر للمجتمعات البشرية بجانب التسلسل الهرمي للأشكال التواصلية. كانت الطقوس بمثابة الوسيط الأساسي للتواصل الرمزي الذي يربط بين الفرد والجماعة. حدد هابرماس تحولًا إلى الأسطورة في “ثقافات الشرق الأدنى العليا” في الألفية الثالثة قبل الميلاد، والتي تتميز باللغة المكتوبة والتقدم العلمي والتسلسل الهرمي السياسي؛ لكن التحول الحاسم جاء في “العصر المحوري” لموسى وبوذا وكونفوشيوس وأفلاطون -وهو مصطلح اقتبسه هابرماس من الفيلسوف كارل ياسبرز-. في حين أن الأسطورة حطمت الإله والإنسان في بعضهما البعض، فقد حققت وجهات النظر العالمية المحورية التمييز الأساسي بين المقدس والمدنس -أو الدنيوي-، والأبدي والزمني. في إله اليهودية كلي العلم، وعقيدة التناسخ البوذية، وأشكال أفلاطون، يحدد هابرماس أسس المنظور التجاوزي لكل من العلم الموضوعي والأخلاق العالمية.

كما أشار هابرماس، فقد طور ياسبرز مفهوم العصر المحوري “للتغلب على تضييق النظرة الأوروبية نحو المسار الغربي للتطوير الثقافي.”؛ لكن الدراسة التي قام بها هابرماس أخذت منحنًا حادًا تجاه الغرب، وهو هنا يجادل بأن التاريخ الخاص بالمسيحية الغربية هو الذي يقود من العالمية الوليدة للعصر المحوري إلى العقل ما بعد الميتافيزيقي الحديث والديمقراطية الدستورية. أصبحت الديانات الشرقية مندمجة في سلطة الدولة أو تراجعت منافستها للعلوم الجديدة، كما ظلت اليهودية ملزمة بلغتها المقدسة ونصها للتفاعل بشكل مثمر مع محيطها؛ ولكن الظروف الفريدة كمواجهة المسيحية المبكرة مع الفلسفة اليونانية وسلطة الدولة الرومانية حفزت عملية التعلم المتبادل. وجد التلقيح المتبادل بين الإيمان والمعرفة ذروة مبكرة في توليف أوغسطينوس للمسيحية والأفلاطونية في القرن الرابع.. وفي نفس الوقت الذي قدّم فيه أوغسطينوس الفلسفة إلى الكنيسة، أدخل النظام القانوني للمسيحية الغربية -والمستوحى من الرومان- الكنيسة إلى عالم سياسات القوة.

من خلال معاصرته للصراعات القائمة بين الكنيسة والدولة في أوروبا في العصور الوسطى، وصل هابرماس إلى إيطاليا في القرن الثالث عشر كنقطة تحول جديدة: موقع افتتحت فيه الأشكال الأولى للرأسمالية الأولية التمايز الوظيفي للمجتمع الحديث. حادَ المفكر المركزي في تلك الفترة – توماس الأكويني، عن التوليف المسيحي الأفلاطوني لأوغسطينوس وذلك لتأسيس اللاهوت والفلسفة كتخصصين منفصلين. يقدم العقل والإيمان الآن مسارات مستقلة تمامًا نحو الخلاص؛ فعلى الرغم من أن الأكويني ظل نظامًا ملكيًا، إلا أن صياغته لـ “القانون الطبيعي” التي غرسها الله في العقل البشري فتحت الباب أمام النظريات الديمقراطية الوليدة. ومع انتقادات غير مسبوقة للبابا، نظَّر خلفاء الأكويني في أواخر العصور الوسطى قانونًا للحد من سلطة الكنيسة والدولة، كما قد أنذروا بعصرٍ يصبح فيه القانون موضعًا للنزاع بين المواطنين. ومع ذلك، فإن من المفارقات -ربما انعكاسًا لتأثير ويبر المستمر- أن الرجعي السياسي مارتن لوثر هو الذي يحظى بمكانة مرموقة في رواية هابرماس للعلمنة. يجادل هابرماس بأن هجوم لوثر على السلطة الكنسية لم يؤد فقط إلى تفاقم انشقاق الكنيسة والدولة، بل وضع الإيمان في التبادل الذاتي بين الإنسان والله. تنبأت الهيرمينوطيقا البروتستانتية التي أصبح فيها كل مؤمن مفسِّرًا للكتاب المقدس، بعقلانية تواصلية تُمنح فيها السلطة “للحجة الأكثر إقناعًا”.

يعيد هابرماس بناء التفاعلات بين الإيمان المسيحي والمعرفة الدنيوية كعملية ليست صراعًا، بل تعلمًا وترجمة متبادلين.

في الوقت نفسه، أدت محاولة “لوثر” لتأمين الإيمان من هجمات السلطة الدنيوية إلى تراجعها الخاص. لقد مزق الإصلاح بالإضافة إلى الثورات العلمية والسياسية في القرن السابع عشر التوليفات الأوغسطينية والتومستية لعلم الوجود (ما الموجود؟) مع الفلسفة العملية (ماذا يجب أن أفعل؟). أدت علمنة سلطة الدولة التي تجسدت في الثورة الدستورية الإنجليزية إلى تآكل الأسس المسيحية للنظام السياسي. كما هددت حتمية قوانين نيوتن بتقويض الإرادة البشرية الحرة ونواة الأخلاق المسيحية، وظهرت مسألة الشرعية باعتبارها كعب أخيل للفكر الحديث.

ديفيد هيوم وإيمانويل كانط هما مفكرا القرن الثامن عشر اللذان -بالنسبة لهابرماس- صاغا  الاستجابات المتغيرة النموذجية لهذه المشكلة. لم يتمكن فلاسفة القرن السابع عشر من التوفيق بين الإيمان والمعرفة إلا على حساب “الأسس غير المتسقة”: ضع في اعتبارك حجة توماس هوبز للملكية القائمة على الدين على الرغم من إلحاده الصريح وعودة جون لوك إلى القانون الطبيعي المفروض إلهيًا. تم تحقيق الاختراق في التفكير ما بعد الميتافيزيقي فقط من خلال هيوم وكانط، حيث قسم هيوم الذاتية البشرية إلى سلسلة من الانطباعات الحسية، مما أدى إلى فضِّ الميتافيزيقيا المسيحية. لكن كانط ظهر كبطلٍ لرواية هابرماس، فكان الشخص الذي أعاد بناء الجوهر العقلاني للمسيحية في أعقاب نقد هيوم الحاد. إن حتمية كانط القاطعة التي دعت الأفراد إلى تقديم أفعالهم كأساس لقانون عالمي قد أسست أخلاقًا عالمية قائمة على أسس عقلانية بحتة.

يقدم هابرماس تاريخ الفلسفة ما بعد الكانطية كمسار قصير نحو نظريته الخاصة للفعل التواصلي. كان التحدي الرئيسي هو ترسيخ مفهوم “الحرية العقلانية” التي عرّفها كانط على أنها طاعة قانون الإرادة الذاتية في حساب المجتمع. قام غيورغ هيغل -بناءً على تحول هيردر إلى التاريخ والثقافة- بتحديد وربط المنطق بـ “الروح الموضوعي” الذي يتكشف عبر الزمن. ومع ذلك، فإذا اتخذ هيجل خطوة إلى الأمام متجاوزًا موضوع كانط المعزول، فإن تثمينه لـ “الأخلاق” التي تفرضها الدولة (Sittlichkeit) كان خطوة إلى الوراء إلى الملكية المسيحية. كان خلفاء هيجل اليساريين في ثلاثينيات القرن التاسع عشر هم فقط الذين طوروا نظرية اجتماعية للغة للتوسط بين الذات والموضوع. حدد الشاب الهيغلي لودفيغ فيورباخ أن إمكانية حرية الإنسان ليست في إله متسامٍ، بل في العلاقات الاجتماعية اليومية التي تتكون وتتشكل من خلال اللغة.

بالنسبة لهابرماس، تخلق القوانين الحديثة إطارًا مؤسسيًا للمجال العام التشاركي الذي يعد قلب الحياة الديمقراطية. كما لا يرتبط المواطنون إلا بقوة الحجة الأفضل ويمكنهم التوصل إلى اتفاق رغم الانقسامات الثقافية.

عَنون هابرماس فصله الأخير بـ “معاصرة الشباب الهيغليين” مؤكدًا تحولًا دائمًا في موضع العقل من الوعي الذاتي إلى التواصل بين الذات، ورافضًا نقد كارل ماركس للأيديولوجيا – الذي سلط الضوء “على رؤوس المشاركين أنفسهم”. بدلاً من ذلك، اتّخذ هابرماس مؤسس البراغماتية الأمريكية تشارلز ساندرز بيرس خليفةً حقيقيًا للهيغليين الشباب. طور بيرس فلسفة فيورباخ للغة إلى نظرية كاملة للمعرفة. فبالنسبة لبيرس، يتم اكتساب المعرفة العلمية من خلال التفاهمات ذاتية -أو ما يسمى التواصل بين الذات- فقط. حيث كانت اللغة هي الوسيلة الأساسية للتنسيق بين العالم الخارجي وبحوث المجتمع العلمي. أخيرًا، وضع هابرماس حدًا لكتاباته ومؤلفاته. ففي حين كشف بيرس عن عمليات التعلم اللغوي في العلوم والتكنولوجيا، أظهر عمل هابرماس الذي بدأه منذ الثمانينيات كيفية تعزيز التواصل للتقدم في الحياة الأخلاقية والسياسية أيضًا. اختار هابرماس عدم الانخراط في مناقشات أواخر القرن العشرين التي أحاطت بمؤلفاته وأعماله الفكرية؛ حيث كتب هابرماس أن دخوله في المناقشات المتعلقة بأعماله وأفكاره الفلسفية “كان سيتطلب منه تأليف كتابًا واحدًا على الأقل”. لكن هذا القرار يساهم فقط في جو الحتمية المحيط بكتابه “هذا أيضًا تاريخ الفلسفة”. كما تبرز نظرية هابرماس للعقلانية التواصلية كنتيجة وتفسير للمسار الذي تتبعه منذ العصر المحوري. يبدو أن عملية التعلم تتوج بوعيها الذاتي الذي تحقق في أعمال هابرماس.

~~~~~~~~

بالكاد يمكن لهذا الملخص الموجز أن ينصف المجموعة المذهلة من النصوص والمناقشات التي يستكشفها هابرماس. إن بنية وأسلوب العمل عبقرية، إن لم تكن غائيتها مقنعة تمامًا. لكن الأكثر أهمية هو أن هابرماس لا يقصد في كتابه “التاريخ” كممارسة تاريخية فحسب، بل كسجل للأفكار التي قدمت الأسس السياسية للغرب الحديث.. فيدعو الكتاب القراء إلى التفكير في الصدى -والتناقضات- بين الفلسفة والسياسة.

يرى هابرماس انسجامًا وتوافقًا وثيقًا بين الاثنين كما ذكر في أعماله السابقة. فالآثار المعيارية التي رسمها لن تفاجئ القراء المخضرمين. يشكل المفهوم غير المتعال (detranscendentalized) للحرية العقلانية -نتيجة للحوار الإيمان والمعرفة الذي دام ثلاثة آلاف سنة- مفتاح للأخلاق العقلانية الكونية التي تجعل الحل المنطقي للنزاعات الأخلاقية ممكنًا، حتى مع تعدد الأصوات غير المتجانسة. وفي المقابل، إن “الآثار التاريخية لعمليات التعلم الأخلاقية العملية” التي تتبعها هابرماس خلال دراسته تودع في “الممارسات والضمانات القانونية للدول الدستورية الديمقراطية”. باختصار، تخلق القوانين الحديثة إطارًا مؤسسيًا للمجال العام التشاركي الذي يعد قلب الحياة الديمقراطية. وهنا، لا يرتبط المواطنون إلا بقوة الحجة الأفضل ويمكنهم التوصل إلى اتفاق رغم الانقسامات الثقافية.

يستمر التوتر بين مُثُل هابرماس السياسية وإطاره التاريخي. يتعارض أصل قصته الأوروبي مع مقصدها العالمي.

إنها رؤية جذابة؛ ففي الوقت الذي أدى فيه الوباء العالمي إلى تفاقم التفرقة وعدم المساواة المتصاعد والعنصرية المنتشرة وحركات التمرد المعادية للأجانب على جانبي المحيط الأطلسي، يرى هابرماس أن البشرية تمتلك بالفعل الموارد اللازمة للنقاش المتوازن الموجه نحو الصالح العام. ومع ذلك، فالتوتر لا يزال مستمرًا بين مُثُل هابرماس السياسية وإطاره التاريخي.. إن الفجوة ليست فجوة في النظرية والتطبيق، الأمر الذي أقر به هابرماس بسهولة. فبدلاً من ذلك، يتعارض أصل قصته الأوروبي مع مقصدها العالمي. يصر هابرماس على أن الفكر ما بعد الميتافيزيقي -لرفضه اللجوء إلى اليقين الأساسي- يوفر أساسًا للحوار الضروري بين الثقافات لمواجهة الأزمات العالمية لتغير المناخ والهجرة الجماعية والأسواق غير المنظمة. ولكن من خلال تتبع ظهور العقلانية الحديثة في عملية التعلم الغربية والمسيحية فقط، فإن هابرماس يتجاهل الاعتقاد التاريخي اللازم لأي حوار من هذا القبيل.

واجه أسلاف هابرماس في عصر التنوير الذين رأوا أوروبا مصدرًا للمثل العالمية نفس هذه المشكلة أيضًا. ومع ذلك، اعترفت التواريخ الفلسفية لعصر التنوير الألماني بدور القوة في التاريخ، والعنف الذي أشبع تفاعلات أوروبا مع العالم غير الأوروبي. تنبأ مقال كانط “فكرة لتاريخ كوني عام ذو غرض كوني عام” في عام ١٧٨٤ الذي وجه حجة هابرماس حول مجال عام عالمي، بتحقيق السلام العالمي من خلال “تحسين القوانين السياسية لقارتنا (والتي من المحتمل أن تُسِنّ في نهاية المطاف لجميع القارات أخرى)”. واجه هيردر بشكل مباشر العلاقة بين الهيمنة الأوروبية والعنف الاستعماري، مشيرًا إلى أن التاريخ سينتقم منه. “يجب على أوروبا أن تقدم تعويضات عن الديون التي تكبدتها، وأن تُصلح الجرائم التي ارتكبتها؛ وذلك لن يكون حسب اختيارها ولكن وفقًا لطبيعة الأشياء”.

حتى تاريخ هيجل للروح المطلقة -أكثر الغائية الأوروبية صراحةً للمثالية الألمانية الكلاسيكية- يشهد على الروايات المضادة التي زعزعت اليقين الذاتي لأوروبا الثورية. وكما أشارت المُنظرة السياسية سوزان باك-مورس، فإن الثورة الهايتية من عام ١٧٩١ – ١٨٠٤ وانتفاضة العبيد التي أطاحت بالحكم الفرنسي على الجزيرة الكاريبية، ربما كانت الدافع وراء وصف هيجل المبكر للحرية. على الرغم من أن هيغل سيصبح فيما بعد مدافعًا عن العبودية، إلا أن نظريته الجدلية للتاريخ شكلت نموذجًا لكيفية ظهور المثل السياسية من خلال النضال، وليس الإجماع فقط. في نفس الوقت الذي سَنَّت فيه فلسفات التاريخ المثالية الدفاعية الاستعمارية، يمكنها أيضًا -إذا كانت عن غير قصد- إبطالها.

على النقيض من ذلك، يكرس كتاب هابرماس “هذا أيضًا تاريخ الفلسفة” اهتمامًا محدودًا لتناقضات العبودية والاستعمار الأوروبيين، فضلاً عن معاملتهم الإشكالية من قبل المعاصرين. بدلاً من ذلك، يصور هابرماس المواجهات الاستعمارية على أنها لحظات في عملية التعلم، ومحطات على الطريق نحو الشمولية الأخلاقية. تناول هابرماس غزو الأمريكتين فقط ليتوصل إلى أن فرانسيسكو دي فيتوريا -الفيلسوف السكولاستي للقرن السادس عشر والذي دافع عن حقوق الملكية للشعوب الأصلية- يمثل الامتداد الشامل للقانون الطبيعي الكاثوليكي. كما يغفل قسم طويل من نظرية لوك للحقوق الطبيعية عن استخدامها لتبرير المصادرة الاستعمارية.

هاييتي أيضًا غائبة عن تاريخ هابرماس، وكذلك الجدل القائم والذي دام قرونًا بين المسيحيين حول شرعية العبودية. بدلاً من ذلك، يروي هابرماس قصة أكثر وضوحًا، مجادلًا فيها بأن “إلغاء العبودية” هو “مثال شائع ولافت حقًا” للتعلم الأخلاقي:

بينما كان ينبغي دائمًا فهم العبيد على أنهم أشخاص حرموا من المكانة الاجتماعية التي حظي بها الأشخاص الأحرار، كان على “الأسياد” أولاً أن يتعلموا الاعتراف والإقرار بالآخر على أنه إنسان مثلهم.

لكن هذا الوصف مضلل. فهي لا تستبعد إرث العبودية الدائم فحسب، بل أيضًا تاريخ المقاومة والحرب الأهلية ورد الفعل العنيف الذي مهد الطريق الملتوي نحو التحرر؛ ولا يمكن فصل هذه التواريخ عن ظهور حقوق الإنسان. أخذ هابرماس سن قوانين ديمقراطية لتمييز “التجسيد التاريخي للعقل”، لكن قوانين شمال الأطلسي لعصر الثورة استمرت في السماح باستغلال العبيد في نفس الوقت الذي قامت فيه بتوسيع حقوق الجماعات ذات الامتيازات.

يمضي هابرماس بشكل مشابه خلال الإصلاح الاجتماعي في القرنين التاسع عشر والعشرين، متجاوزًا الصراعات المتنازع عليها والمسيَّسة والتي لا تزال جارية التي طالبت بها الجماعات المهمشة بحقوقها القانونية. مثل إلغاء العبودية، يعتبر هابرماس “الموافقة على التسامح الديني وحرية الرأي والمساواة بين الجنسين، وكذلك الاعتراف بالحرية الجنسية بشكل متزايد” نتيجة لعمليات التعلم الأخلاقي. مثل هذا التعلم يحدث عندما:

تكتشف الأجزاء المترابطة من السكان روابط جديدة مع الأشخاص “الآخرين” الذين كانوا حتى ذلك الحين يشعرون بالتزام ضئيل أو ضعيف…  مما يسمح لهم بفهم أنه حتى هؤلاء “الغرباء” لا يختلفون عنهم بأي شكل من الأشكال.

لم يُحدِّد هابرماس أيضًا من يقف على كل جانب من جوانب عمليات التعلم هذه، والفاعلين الناشطين في الحقوق و “الغرباء” المتفتحين. ومع ذلك، فإن المضمون هنا هو أن امتدادات الحقوق تميل إلى التقدم من خلال التعلم الأخلاقي للمجموعات المهيمنة في المجتمع.

لا ينشق تفسير ووصف هابرماس للتقدم الأخلاقي الغربي عن كلاسيكيات النظرية النقدية مثل هوركهايمر وجدل التنوير لأدورنو فقط، بل يمكن القول إنه يتعارض مع أعماله السابقة في المجال العام أيضًا. في مقال بمناسبة عيد ميلاد هابرماس التسعين، تؤكد الفيلسوفة ماريا بيا لارا كيف يوفر مفهوم شعبية هابرماس أدوات لـ “النسويات والمجموعات المستبعدة الأخرى” لتحدي هياكل السلطة والمطالبة بالاعتراف بها كمواضيع سياسية. ومع ذلك، فإن قصص الجماعات والأفراد المستبعدين الذين أدخلوا أنفسهم في المجال العام -وشريعة الفلسفة الغربية- غائبة تقريبًا عن كتاب “هذا أيضًا تاريخ الفلسفة”. يتسم التاريخ الذي يخبرنا به هابرماس بأنه في تقلباته وانعطافاته المتعددة خطي وتجميعي، متكشفًا عن منطقٍ جوهري. نادرًا ما نتعلم من إدراكاتنا وفهمنا الذي تم تجاهله ظلمًا، قمع المعرفة، وفشل التجارب.. ففي عملية التعلم، يبدو أن قليل الشيء يُنسى.

قد يعترض هابرماس على أن مثل هذا النقد يخطئ الهدف. إن التاريخ المؤلم من العبودية والاستعمار ليس محل نزاع، لأن الفكر السياسي الغربي لا يزال يؤمن بإلغاء العنصرية (أو التمييز الجنسي أو الديني، أو رهاب المثلية الجنسية) كمثال معياري لتوجيه العمل. وقد يبدو أن تحدي مفهوم هابرماس لعملية التعلم يفقد وعد التنوير بالتحسن العقلاني للحالة البشرية.

من خلال تتبع ظهور العقلانية الحديثة إلى عملية تعلم غربية ومسيحية فقط، فإنه يتجاهل الاعتقاد التاريخي اللازم للحوار بين الثقافات.

ومع ذلك، فإن طرح أسئلة حول الدقة التاريخية لا يعني رفض مُثُل هابرماس؛ فتظل أهدافه -الديمقراطية الدستورية المدعومة بمجال عام قوي، وحقوق متساوية محققة في كل من القانون والممارسة، والتعاون الدولي حول المشاكل العالمية- ذات أهمية حاسمة، حتى عندما يبدو تحقيقها بعيد المنال. لكن التاريخ الموجه نحو تحقيق هذه المُثُل سيتطلب فحصًا أكثر شمولية للسياقات التي تشكلت في ظلها وتنازعت عليها. إن تضييق نشأة الشمولية الأخلاقية في “عملية التعلم” الغربية والمسيحية يحد من فهمنا لكيفية حدوث التغيير السياسي في الماضي، محولًا الاحتمالية إلى حتمية، tمثل هذه الرواية تقيد تفكير النظرية الاجتماعية في المستقبل المحتمل.

~~~~~~~~

يقترب هابرماس من الوصول لنهاية الكتاب بالإشارة إلى مقال تيودور أدورنو الأخير “العقل والوحي”. من خلال تفكيره في النهضة الحديثة للأديان غير العقلانية، خلص أدورنو إلى أن العودة إلى الدين لا يمكن أن تستمر. كما صرح أدورنو قائلًا: “لن يسلم أي محتوى لاهوتي من التغيير، يجب على كل مستوى أن يضع نفسه أمام اختبار الهجرة إلى عالم العلماني الدنس”

كتب أدورنو هذه الكلمات تكريما لصديقه ومحاوره والتر بنجامين، الذي انتحر عام ١٩٤٠م هربًا من الاضطهاد النازي على الحدود الفرنسية الإسبانية. يعد تضمين هابرماس لهذه الكلمات في كتابه تكريمًا مناسبًا لأدورنو – معلم هابرماس، والمفكر الذي عبّر بوضوح عن أزمة الحضارة الحديثة التي استجابت لها مهنة هابرماس. ويجيب هابرماس على أدورنو بطريقة تناسب بنجامين، الذي أدركت كتاباته المتأخرة بصيص أمل مسيحي محدقٍ في تواريخ المعاناة:

طالما أن التجربة الدينية لا تزال تدعم وجود تفوق قوي على أساس الممارسة الطقسية. . . يبقى السؤال مفتوحًا لسبب علماني ما إذا كانت هناك محتويات دلالية غير معوّضة لا تزال تنتظر ترجمة “إلى لغة دنيوية”.

كما يشير هابرماس أن الدين قد يحتفظ بنواة مقدسة تقاوم العلمنة.

ومع ذلك، فإن أفكار هابرماس الأخيرة في كتابه مؤلمة أيضًا، حيث أكدت رحيله عن الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت. بالنسبة لأدورنو وبنجامين، فإن تجربة المعاناة الوحشية التي تجسدت في عصرهم مع صعود الاشتراكية القومية، قامت بكشف زيف الغائية التقدمية للعقل البشري. وعلى النقيض من ذلك، مرّ هابرماس في مقدمته الطويلة مرة واحدة فقط على الظروف التاريخية لفكر أسلافه، حيث كان هذا في نهايتها. كما أشار إلى أن “الانحدار” يظل الظل المستمر لـ “التقدم”:

إن ما شهدناه في القرن العشرين باعتباره هدمًا حقيقيًا للحضارة هو أي شيء آخر غير “الانتكاس إلى البربرية”، ولكن الجديد تمامًا، ومن الآن فصاعدً دائمًا احتمال الانهيار الأخلاقي لأمة بأكملها.

يواصل هابرماس في عمله بالاعتراف بأن “اللامعقول في التاريخ” سيكون “موضوعًا مهملاً فيما سيتبعه”. وأن الفترة النازية لن تظهر مرة أخرى.

في سياق التاريخ الألماني، قد يكون الافتراض الضمني لعمل هابرماس هو أن التحول الديمقراطي لجمهورية ألمانيا الاتحادية الذي أطلق عليه هابرماس سابقًا “انفتاحه غير المشروط تجاه الغرب”، يثبت طول الطريق لعملية التعلم. يرى هابرماس أن “اللامعقول” الذي شغل أسلافه، لا ينبغي أن يعمينا عن الإنجازات التاريخية للغرب. لقي هابرماس الثناء بحق لسعيه إلى طريق للمضي قدمًا متجاوزًا نقد أسلافه الشامل للعقل. كما أثبتت مساهماته العامة أهمية حيوية في تعزيز الثقافة الديمقراطية في ألمانيا ما بعد الحرب. لكن تاريخ هابرماس يتجنب ربط نشأة العقلانية الغربية الشاملة بأنظمة العنف والسلب التي بات إرثها مرئيًا بوضوح اليوم – وهذا أيضًا قد شكل تاريخ الفلسفة.

يرى هابرماس أن “اللامعقول” الذي شغل أسلافه، لا ينبغي أن يعمينا عن الإنجازات التاريخية للغرب.

مع ذلك، ومهما كانت الأحوال، يعد هذا التاريخ الفلسفي إنجازًا بارزًا. يغطي النص مهنة فكرية مولِّدة، ويوضح كيف يفهم هابرماس الأسس التاريخية والمفاهيمية لمشروعه مدى الحياة. والأهم من ذلك، سيُلهم العمل المجموعة التالية من المنظرين النقديين لمواجهة مشكلة الأسس التاريخية للفلسفة. إن التحديات التي تواجه الديمقراطية والنضال من أجل العدالة في أيامنا هذه قد تناقض القناعة بأن العقل العام هو التراث الوحيد للغرب، أو ذروة تقدمه التاريخي. إن العودة إلى التاريخ كعدسة نقدية لخطاب الفلسفة -وليس كلوحة لتطورها العقلاني- يدفعنا إلى الأمام.

المصدر


تنويه: يود المؤلف أن يتقدم بالشكر إلى ليات سبيرو (Liat Spiro) على العديد من المحادثات حول الأسئلة التي تم تناولها في هذا المقال.