مجلة حكمة
الفلسفة العملية عند ابن ميمون ستانفورد

الفلسفة العملية عند ابن ميمون: التشابه بين الروح والجسد – كينث سيسكن


  • مقدمة

إن الكمال الأعلى لدى موسى بن ميمون هو الكمال الفكري القاضي بالتحقق من المسائل الإلهية في كل شيء يمكن التحقق فيه. معرفة السلوك السليم، وما إذا كان من أجل الفرد أو لأجل المجتمع هو وسيلة لهذه الغاية (GP 3.27). على مستوى سياسي، يعني أن الدولة يجب أن تفعل أكثر من مجرد حماية الأفراد والممتلكات، كأن تقرّ حق تعليم المسائل الدينية لكافة مواطنيها، ويكون هناك عدد قليل يصلون لإتقان هذه المسائل (GP 2.40).

على المستوى الشخصي يعني أن الأخلاق ليست غاية بحد ذاتها، بل هي وسيلة للتحكم بالعواطف لتخلق فضاء يمكن للعلم والفلسفة أن يزدهرا بدخله (GP 3.8). في حين أن الكمال الفكري موجّه إلى الحقيقة والكذب، ويهدف إلى الإثبات، يتوجّه الكمال الأخلاقي إلى الحسن والسيء، ويتعلق بآراء مقبولة بين العامة.

بناء على ذلك، بُورك آدم بالمعرفة الميتافيزيقية التامة في جنة عدن، لكنه مع ذلك لم يعلم أن من الخطأ عدم تغطية المرء لأعضائه التناسلية. رغم أننا لا يمكن أن نعرف هذه المعرفة بالدقة العلمية، وما إذا كانت اعتباطية. بل العكس تماما، كانت من بين الأعراف الأساسية التي يمكن للمرء أن يتصورها. يشرح موسى بن ميمون هذه النقطة (GP 2.40) بذكر هذا القانون الظاهر “مع أنه ليس من الطبيعي، الخوض فيما هو طبيعي.” أرى أن ما يعنيه هنا، هو أنه مختلف عن الحقيقة العلمية، وأنه افتراض القانون مسبقا لسياق اجتماعي، وشعور بالعار. ويرى ابن ميمون ، أن هذا الأمر بحاجة لمزيد من الدراسة بشكل تفصيلي. لهذا ما يزال هذا الاقتباس حيًا:

“إنه جزء من الحكمة الإلهية المختصة ببقاء الأنواع”.

الفلسفة العملية عند ابن ميمون

  • الفلسفة العملية عند ابن ميمون

تبدأ الفلسفة العملية عند ابن ميمون بـ (ثمانية فصول-Eight Chapters) مقدمة لتعليقه حول مقالة (بيركي أفوت-Pirkei Avot) وجزء من تعليقه على المشناه. [5] بتوافق مع أفلاطون وأرسطو، يتمسك موسى بفكرة أن الروح مثل الجسد، يمكن أن تكون مريضة وصحيحة. ومثلما ينشد المرضى جسديا طبيبا للجسد، فإن عليليّ الأرواح يحتاجون للسعي خلف حكمة الحاكمين، الذين يقومون مقام طبيب الأجساد. فإذن، ليس من المستغرب أن أجزاء رئيسية من أعماله حاولت إظهار أن الشريعة اليهودية قائمة على فهم شامل وعميق للروح والشروط اللازمة لسلامتها الكاملة. من بين أهم هذه الشروط تحقيق المتوسط من بين الأعلى. في الفصول الثمانية، كتب قائلا:

“إن الفضائل بمثابة حالات للروح، وقواعد ثابتة في المتوسط بين حالتين سيئتين، واحدة منها سيئة بشكل بالغ، والأخرى ضعيفة.”

لاحقا، وفي الكتاب الأول من مشناه التوراة (1, Character Traits, 1.4)، يستدرك بقوله:

“أن الطريق الصحيح هو المتوسط في كل سمة من سمات الفرد الشخصية”

أدرك ابن ميمون ، كما فعل أرسطو، بأن هناك اختلافات من شخص لآخر، وأن الشخص يتخطى أحيانا المتوسط لأسباب علاجية (Eight Chapters 4 and MT 1, Character Traits, 2.2). أيضا كما فعل أرسطو، أصرّ موسى على أن الفضيلة عادة لا يمكن أن تتطور إلا بالممارسة. وبالتالي، فإن الحاكم الحكيم سيوجّه على إثر ذلك باتباع تصرفات وعادات أخلاقية تتكرر بشكل واجب إلى أن يذهب عبئها وتصبح جزءا من سمات الفرد. إذا كان الفرد يطور عادات خاطئة بشكل متجاوز للحد، على الحاكم “اتباع المسار نفسه الذي يعالج به مريض البدن، ألا وهو إعادة التوازن” (“Eight Chapters” 4).

يزعم ابن ميمون أن نظريته متينة في حد ذاتها، وقد تكون نتاج أقوال الأنبياء والعلماء. يعرض لنا مزمور 9:18 (“إن شريعة الرب كاملة لتجدد الروح؛ لقد كان البرهان الرباني الراسخ بأن جعل الحكمة في البساطة”) كدليل على أن الكتاب المقدس يعترف بفكرة صحة ومرض النفس الإنسانية. كما أنه يربط الالتزام بالغاية مع تقليد الإله (imitatio Dei)، بالاحتجاج إلى أن (GP 2.28): “أعمال الإله هي الأكمل، فيما يتعلق بالإفراط والتقصير”. وبما أن الإله يحكم الطبيعة، لذلك يعتقد ابن ميمون أن الحاكم الحكيم سيميل لأن يحكم المجتمع.

هذا صحيح، مثلما ذكر ذلك عدة مرات، الشريعة اليهودية لا تطلب من الناس أن يعيشوا مثل النسّاك، يجوعون أنفسهم، ويضربونها، أو يعرضون صحتهم للخطر. رغم أنها تسمح لفئة من المتطرفين في قوانين تختص بالنذيرية، كان موسى على حق حينما قال إنها تتعامل مع النذيرية بالشك (“Eight Chapters” 4). إن الصفات المهمة حقا، هي الحكم السليم، الرحمة، التعاطف- وكل ما شرحه ابن ميمون من خلال العودة إلى عقيدة المتوسط. يؤمر الناس بالتبرع، بر الوالدين، الإحجام عن بعض العلاقات الجنسية، نبذ الكراهية والانتقام، وعدم تناول أطعمة معينة لأجل ترسيخ موقف معتدل. على هذا القول، رُتبت الأعياد بحيث يكون بعضها مبهجا بينما ينطوي آخر على صور معتدلة من الإنكار الذاتي. ولا تتطلب الشريعة في أي حال من الأحوال الطاعة بمفردها.

يشير موسى بن ميمون إلى وجود حالات ينهار فيها التماثل بين الجسد والروح، تحديدا في مسألة أن السبب المنطقي مختلف عن السبب الطبي. فهذا الطبيب لا يعالج مفهوم الإنسانية بل الإنسان المحدد الذي قدم إليه. لكن هذا لا ينطبق على الشريعة، التي تعالج في نظر موسى (GP 3.34)، الحال العام ولا تلقي بالا للأمر النادر. ولهذا لا تتكئ الشريعة على زمان ومكان، بل تحاول بناء معيار قياسي مطلق وعالمي. لنأخذ مثالا حديثا، ينص القانون على حد معين للكحول أثناء قيادة السيارة. من دون شك أن هناك اختلافات بين الأفراد، الأمر الذي يسمح لكمية معينة من الكحول أن تكون خطرة على فرد دون آخر. لكن ليس من شأن القانون أن يضع هذه الاختلافات في الحسبان. كل ما يمكنه القيام به، هو وضع القانون وتطبيقه بشكل عادل.

أي شخص مطّلع على ابن ميمون سيرى أن مسألة الأخذ بالمتوسط من الصعب أن تتفق مع جوانب فكره الأخرى. فعندما يصف الإله بأنه حاكم الكون يوازن بين العدل والرحمة، فهنا عقيدة المتوسط منطقية، وعندما يصف الإله على أنه مفتقر للعواطف، ولا يضاهيه أي مخلوق آخر، فلا يبدو ذلك منطقيا. وبالمثل، عندما يصف الأنبياء على أنهم حاملين لواء الشريعة فإن المتوسط هو المعيار المناسب؛ إذا يفشل عندما يصفهم على أنهم بشر محسودون على وقتهم الذي يقضونه مع الناس ويفضلون التفكر في الإله لوحدهم في تأمل صامت (GP 3.51).

وقد كتب الكثير عن ذلك، فأي من هذه المقاربات تمثل وجهة نظر ابن ميمون الحقيقية (Fox 1990, Davidson 1987, Schwarzschild 1990). لحسن الحظ، لسنا بحاجة لإجراء مسح على كامل المؤلفات، لأن المشكلة تظهر في جزء من مشناه التوراة MT 1, Character Traits, 1.4–6))، بعكس “الفصول الثمانية” حيث أن المبرر الوحيد للإفراط في المتوسط كان لغرض علاجي، هذه الفقرة تقرّ بأن هناك أوقات يكون الانحراف عن المتوسط بمثابة معيار عال. وهي كما صاغها ابن ميمون ، أن الفرد الذي يتمتع بتوازن في سماته الشخصية يقال عنه حكيم (Hakam)، بينما الفرد الذي يتجاوز المتوسط عندما تتطلب الظروف يعرف بالتقيّ (حاسيد-Hasid):

أي فرد ينبذ القلب المتحجر لنقيض أكثر تطرفا، بحيث تتواضع روحه بشكل مفرط يسمى تقيا؛ وهذا هو مقياس التقوى. أما إذا اتجه الفرد نحو المتوسط وكان متواضعا، فيمسى حكيما؛ وهذا هو مقياس الحكمة. وهذا ينطبق على بقية السمات الشخصية. اعتاد التقي في القدم أن يوجّه سماته الشخصية من الطريق المتوسط نحو اثنتين بشكل مفرط؛ توجّه واحدة إلى أقصى درجة من التطرف، والأخرى إلى عتبة التطرف، وهذا هو معنى “داخل خط الشريعة” [أي تتخطى ما نصّت عليه الشريعة].

فالتقوى إذن، تنطوي على تجاوز المتوسط إلى معيار أعلى. وفيما يتعلق بذلك، يستشهد موسى بن ميمون بالأرقام 12:3 Numbers 12:3، والتي لا تقول بأن موسى كان حليما، بل غاية في الحلم.

تنطبق ملاحظات مشابهة على “تحليل الغضب” لابن ميمون. بالنسبة لأرسطو [Nicomachean Ethics1125b31–1126a8] يجب أن نثني على الشخص الذي يغضب على من يستحق، بالأسلوب الصحيح والوقت السليم. من يسمح بالإساءة إليه ويتلقى الإهانات دون أن يغضب فإنه مفتقر للشعور، ويتصرف على نحو وضيع. إن الفضيلة تستحق أن تكرّم. فمثلما أن من الخطأ طلب المزيد، فمن الخطأ طلب القليل أيضا.

بالنسبة إلى الغضب، لا يتفق ابن ميمون مع ذلك، زاعما بأنه (MT 1, Character Traits, 2.3)، “سمة شخصية سيئة للغاية” وعلى ذلك، “من اللائق للفرد أن يتنحى عنها لتوجّه آخر، ويعلّم نفسه عدم الغضب، حتى إذا كان ما يغضبه أمر يستحق الغضب” (Frank 1990). بالنسبة لأرسطو، فالحلم يشير إلى فقدان الثقة بالنفس؛ أما بالنسبة لـ ابن ميمون الحلم ليس فضيلة بل فضيلة بامتياز. من خلال وصفه لموسى ألمح إلى أنها أعلى مستوى يمكن للفرد أن يصل إليه.

كان هناك رأي مشابه في مشناه التوراة (1- المبادئ الأساسية، 4:12) عندما ناقش ابن ميمون الحاجة إلى دراسة الفيزياء والميتافيزيقا. ختمها بالثناء على أولئك الذين يتمتعون بروح متواضعة:

عندما يعكس الفرد هذه السمات، فإن ذلك يحول بالنظر إلى كل ما هو حي بدءا من الملائكة والأفلاك إلى البشر وما إلى ذلك. بعدما يدرك الحكمة الإلهية الظاهرة في الجميع، سيزيد حبه للإله، وتتوق روحه، ويحنّ جسده لحب الإله. سيمتلئ بالخوف والرعدة، حينما يدرك أنه شخص ضعيف، فقير، وغير مهم مقارنة بالأجرام العظيمة؛ ويتعاظم ذلك عندما يقارن نفسه بأي روح من الأرواح النقية روحيا، التي لم ترتبط أبدا بأي شيء مادي. يدرك بعد ذلك أنه مجرد إناء ينضح بالعار والخزي، ويلوم فراغه ونقصه.

لا يعني هذا أن موسى بن ميمون قد نبذ فكرة أن الطبيعة تتجنب الفرط والنقص، لكن يبدو أن ما يقوله هو أن المستوى الأعلى للإنسان يتطلب التطرف. ولذلك، أمضى موسى أربعين يوما وليلة دون ماء، عندما كان وحيدا في الجبال وحقق هذا المستوى الأعلى من التركيز الذي في رأي ابن ميمون “جعل كل القدرات الوظيفية في الجسد تكف عن العمل” على ضوء ذلك، فالهدف الأسمى ليس الحكمة العملية في منطق أرسطو، بل التواضع، والخشية والخزي في حضرة الإله.

يناقش ابن ميمون في مواضع أخرى، أن هدفنا لا يجب أن يكون الاعتدال في العاطفة بل الاعتلاء فوق هذا الاعتدال. فلقد رأينا أن الإله لا يخضع للعاطفة. قام ابن ميمون بتحويل هذا إلى معنى أن الحالة المثالية حينما يتصرف الفرد بطريقة خالية من العاطفة تماما ليقرر الأمور بأحقيتها وجدارتها دون اللجوء إلى العاطفة. في حين أن هذا الشخص مطالب بإصدار حكم لائق، إلا أنه لن يكون هناك سمة شخصية أو قاعدة ينبع منها هذا الحكم. وفقا لدلالة الحائرين 1:45

 حريٌّ بحاكم المدينة، إن كان نبيا، أن يكتسب ما يشابه هذه الصفات (الغيرة، الكراهية، الغضب) حتى تصدر تلك الأفعال منه وفقا لتدابير محددة ووفقا لأهواء الناس المتأثرين بها، وليس بسبب عاطفته اللاحقة. عليه ألا يسمح لزمام الغضب بأن ينحلّ ولا يسمح أيضا بسيطرة العاطفة عليه، لأن كل العواطف في أصلها شر؛ بل على النقيض يجب أن يحترس أمامها مادامت من صميم استطاعة الإنسان. في بعض الأحيان، يجب أن يكون رحيما وكريما مع بعض الناس، لا لأجل التعاطف والشفقة، بل وفقا لما هو مناسب لهم.

في مقالته حول السمات الشخصية، يعترف أن هناك أوقات على الإنسان أن يظهر فيها بعض الغضب، لكنه يصرّ على أن يكون هادئا في داخله. أين ذهب التوازن ومفهوم الصحة النفسية؟ الجواب، مادامت متاحة في الوقت الراهن، فليست غايات بحد ذاتها. من خلال أعماله الحاخامية والفلسفية، يصرّ ابن ميمون على (MT 1, Character Traits, 3.1) أن من المستحيل أن تحب الإله وتصل للمستوى الأعلى إذا كنت مريضا، غير منضبط، أو أنك تعيش في خوف من الأذى الجسدي. لكن في النهاية، الكمال الأخلاقي شرط ضروري فقط للكمال الفكري.

مثل أفلاطون، يؤمن ابن ميمون في التأثير العلاجي للفلسفة. ففي الفصل الأخير من دلالة الحائرين، أن الفلسفة تعلمنا أن معظم الأمور التي يكرس الناس حياتهم لها هي “ليست إلا جهد يتطلع إلى شيء أنقى في مخيلته، إلى شيء غير دائم”. مثلما انتهى أيوب إلى أن الأشياء التي كانت يوما موضع تقديره واحترامه، أصبحت غير مهمة، فـ الفلسفة تحضّنا على التخلي عن هوسنا بالمال، الكسوة، والأرض، وتركز الاهتمام على الأبدية.

في النهاية، نقول إن العلاقة بين الفضيلة الأخلاقية والفكرية هي أكثر تعقيدا مما عرضه موسى لأول مرة. ليس فقط لأن الأول غاية للأخير، لكن لأنه بعد تحقق الأخير، وبعدما يصل المرء للقناعة بأن المتاع الدنيوي عابر وزائل في النهاية، سيشهد سلوكه تحولا؛ فبدلا من أن يتوجّه للحصول على قدر معتدل من متع الدنيا، سيتخلى عنها ويقضي وقته بين خوف وتبجيل للإله، حينها ينهار التمييز بين الكمال الأخلاقي والفكري.

الفلسفة العملية عند ابن ميمون

الفلسفة العملية عند ابن ميمون