مجلة حكمة
جان بول سارتر

جان بول سارتر

الكاتبتوماس فلين
ترجمةسارة اللحيدان
تحميلنسخة PDF

حول جان بول سارتر ، حول تطوره الفلسفي، حول السياسة، وعلم الأخلاق، وعلم النفس، وعلم الوجود؛ نص مترجمة للـد. توماس فلين،  والمنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة بعض التعديل منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم، واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.

من هو سارتر؟


يوجد زعم يقول بأن جان بول سارتر (1905-1980) كان أشهر فلاسفة القرن العشرين. فقد أكسبه التفكير الفلسفي المتواصل، والإبداع الأدبي، إضافة إلى التزامه السياسي النشط في النصف الثاني من حياته، شهرة عالمية أو لنقُل موضع إعجاب عالمي. يُعرف سارتر بأنه أب الفلسفة الوجودية، وتعدّ الحياة الفكرية للعقد الذي تلا الحرب العالمية الثانية مباشرة، السمة الأبرز في كتاباته. كان هناك العديد من المفارقات التي تجلّت في حياته، أشهرها محاضرته العلنية المخزية “الوجودية هي الإنسانية- Existentialism is a Humanism“، والتي ألقاها على جمهور باريسي متحمس في الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1945. رغم أنها كانت أشبه ببيان رسمي للحركة الوجودية، إلا أن النسخة الأصلية لهذه المحاضرة، كانت هي النص الوحيد الذي ندم سارتر على طباعته بشكل صريح. ورغم ذلك، لازالت تُعدّ كمقدمة رئيسة لفلسفته عند عامة الناس. أحد أسباب شهرة تلك المحاضرة، وعدم ارتياحه شخصيا، كان وضوحها في عرض معتقدات الفكر الوجودي في حين أنها تكشف في الوقت نفسه عن محاولة سارتر لتوسيع تطبيقها الاجتماعي، ردًّا على منتقديه من الشيوعيين والكاثوليك. بعبارة أخرى، قدمت لنا المحاضرة تلميحا لفكر سارتر “التائه”.

بعد معاينة تطور تفكير جان بول سارتر الفلسفي، سأقوم بعنونة فكرِه تحت خمس فئات: ألا وهي، علم الوجود (الأنطولوجيا)، علم النفس، الأخلاق، الالتزام السياسي، والعلاقة بين الفلسفة والفنون الجميلة، وبالأخص الأدب في أعماله. من ثمّ، سأختم ببضع ملاحظات حول وثاقة الصلة بين فكره والفلسفة الحديثة سواء كانت الأنجلو-أمريكية، أو القارية.

 

  1. التطور الفلسفي

  2. علم الوجود (الأنطولوجيا)

  3. علم النفس

  4. الأخلاق

  5. السياسة

  6. الفلسفة والفن

  7. سارتر في القرن الواحد والعشرين

  • المراجع:

  • مصادر أولية: أعمال سارتر

  • مصادر ثانوية مختارة

  • وسائل أكاديمية

  • مصادر أخرى على الإنترنت


 

1-  التطور الفلسفي

ولد جان بول سارتر في مدينة باريس التي عاش فيها معظم حياته. بعدما تعلم الفلسفة التقليدية في المدارس الباريسية المرموقة، والتي عرّفته بتاريخ الفلسفة الغربية المتحيز إلى الديكارتية والنيوكانطية، ناهيك عن نزعته القوية إلى البيرغسونية، لحق سارتر صديقه السابق في المدرسة ريموند آرون إلى المعهد الفرنسي في برلين (1933-1943) حيث قرأ لأبرز علماء الظاهراتية آنذاك، هوسرل، هايدغر، وشيلر. ثمّن سارتر إعادة صياغة مبدأ القصدية لهوسرل (الوعي بأكمله يستهدف أو “يقصد” ما يتجاوز الوعي)، الذي بدا أنه يحرر المفكر باطنيا/ظاهريا من الأبستمولوجيا الموروثة من ديكارت، بينما يحتفظ بالفورية والحتمية التي كانت محل تقدير لدى الديكارتيين. لم يتضح حجم ما قرأه سارتر عن هايدغر، لكنه، وبعد عودته، قام بتناول أمر هذا الأنطولوجي الألماني المؤثر “بحثيا” وبشكل صريح، خاصة في رائعته الفنية (الوجود والعدم 1943-Being and Nothingness). استغل سارتر النسخة الأخيرة من القصدية الهوسرلية ليؤكد على أن الواقع الإنساني (الآنية-Dasein عند هايدغر أو سبيل الإنسان للوجود) بالأساس “حادث في العالم” عبر همومه الفعلية، لا علاقاته المعرفية. من شأن ذلك أن أضفى على الفلسفة المبكرة لكلا من هايدغر وسارتر طابعا “واقعيا/ براغماتي” والذي لم يكن ليتخلى عنه سارتر على الأقل. لوحظ أن العديد من المفاهيم الهايدغرية التي وجدت في كتابات سارتر الوجودية، قد ظهرت أيضا في كتابات بيرغسون، الذي أثنى سارتر مرة على كتابه (الزمن والإرادة الحرة Time and Free Will– ) لكونه قد قاده إلى الفلسفة أيضا. لكن من الواضح أن سارتر قد كرس الكثير من اهتمامه المبكر بالفلسفة لمعاداة ما كان من تأثير البيرغسونية، إلى أن تقلص ذكر اسم بيرغسون في كتابات سارتر، بينما تعاظم ذكر هايدغر خلال السنوات الوجودية “الكلاسيكية”. يبدو أن سارتر قد قرأ لعالم الأخلاق الظاهراتي ماكس شيلر، إذ ظهرت محاكاة لمبدأ الفهم الحدسي لحالات النموذج في مراجع سارتر كـ “صورة” لنوع ذلك الشخص المقاد والمصنوع من اختياراتنا الأخلاقية. لكن بينما يجادل شيلر بأفضل أسلوب هوسرلي حول “اكتشاف” مثل هذه الصورة القيمة، يصر سارتر على خلقها. إن النسخة “الوجودية” المناسبة للظاهراتية مؤثرة بالفعل.

 

رغم أن جان بول سارتر لم يكن قارئا جادّا لهيغل أو ماركس حتى بداية الحرب ونهايتها، مثلما كان الكثير من جيله، إلا أنه وقع تحت تأثير الماركسي كوجيف، والتفسيرات الوجودية الأولى لهيغل، هذا مع أنه لم يحضر قط محاضرة من محاضراته الشهيرة في الثلاثينات كما فعل لاكان وميرلو بونتي. كانت ترجمة جان هيبوليت وتعليقه على كتاب (ظواهرية الروح- Phenomenology of Spirit) لهيغل هي التي ميّزت دراسة سارتر المقاربة للفيلسوف الألماني الأصل. تجلى ذلك، بوضوح، في (مذكرات الأخلاق Notebooks for an Ethics) التي نشرت بعد وفاته، والتي كتبت بين عامي (1947-48) لتحقيق وعد “أخلاقيات الأصالة” التي عمل عليها في (الوجود والعدم). لكنه أهمل هذا المشروع، وبقي الوجود الهيغلي والماركسي مهيمنا في العمل الفلسفي التالي لـ سارتر(نقد العقل الجدلي-Critique of Dialectical Reason (1960) وفي مقال (البحث عن طريقة Search for a Method (1957) والذي جاء بمثابة مقدمة للعمل. حلِم دلتاي بإكمال ثلاثية كانط الشهيرة بنقد رابع، وقد عنى نقد العقل التاريخي. قام سارتر بالسعي في هذا المشروع عبر الجمع بين الجدلية الهيغلية-الماركسية و “التحليل النفسي” الوجودي الذي يدمج مسؤولية الفرد في العلاقات الطبقية، بالتالي، تضيف بعدا وجوديا ملائما من المسؤولية الأخلاقية إلى الأهمية الماركسية على سببية جمعية وبنيوية- والتي سينتقدها ريموند آرون لاحقا بوصفها توحيد مستحيل بين ماركس وكيركغارد. في التحليل الأخير، ربح كيركغارد؛ فقد بقيت “ماركسية” سارتر وصفية لوجوديته وليس العكس. وقد تجلى ذلك واضحا في المرحلة الأخيرة لعمله.

لطالما كان جان بول سارتر مفتونا بالروائي الفرنسي غوستاف فلوبير. فقد قام بمزاوجة سيرة وجودية مع نقد اجتماعي ماركسي في “شمولية” هيغلية لهذا الفرد وعصره، وذلك لينتج آخر مشاريعه العديدة غير المكتملة، وهي عبارة عن دراسة من أجزاء متعددة لزمان وحياة فلوبير تحت اسم (أبله العائلة (The Family Idiot (1971-72)، والتي قد يعتبرها البعض قمة أعماله. في هذا العمل، ربط سارتر بين مفرداته الوجودية في الأربعينات وبداية الخمسينات مع معجمه الماركسي أواخر الخمسينات والستينات، متسائلا عمّا يمكن معرفته عن الإنسان في هذه المرحلة الحالية من علمنا. تجسد هذه الدراسة التي يصفها بأنها “رواية بالفعل”، ذلك الخليط الظاهراتي والتصور النفسي، إلى جانب النقد الاجتماعي الذي أصبح السمة الأبرز للفلسفة السارترية. من دون شك أن هذه السمات قد أسهمت في حصوله على جائزة نوبل للأدب، والتي رفضها بشكل ملفت إلى جانب المنحة النقدية للجائزة، وذلك خشية أن يكون قبوله موافقة على القيم البرجوازية التي يرمز لها التشريف بهذه الجائزة. في سنواته الأخيرة، أصبح سارتر، الذي لم يكن يرى في طفولته إلا بعين واحدة، أعمى تقريبا بشكل تام. مع ذلك، استمر بالعمل بمساعدة جهاز التسجيل لينتج أجزاءً من المؤلف المشترك عن الأخلاق مع بيني ليفاي، ولربما كانت الأجزاء المنشورة في تقدير البعض لها قيمة سيرة ذاتية أكثر من كونها فلسفية.

بعد وفاته، احتشد الآلاف بشكل عفوي في موكب جنازته في ذكرى بارزة لا تنسى، ليقدموا احترامهم وتقديرهم وسط الحشد الجماهيري. كما عنونت أحد الصحف الباريسية وفاته بأسى: “لقد فقدت فرنسا ضميرها”.

 

2-علم الوجود (الأنطولوجيا)

مثلما فعل هوسرل وهايدغر، ميّز جان بول سارتر علم الوجود عن الميتافيزيقا وكان يفضّل الأول. فبالنسبة له، علم الوجود علم وصفي وتصنيفي في المقام الأول، بينما تُوهم الميتافيزيقا بأنها تأويلية سببية، تعرض لنا تفسيرات حول الأصول الأساسية وغايات الأفراد، والكون بأكمله. على أي حال، على عكس هايدغر، لا يحاول سارتر معاداة الميتافيزيقا بوصفها مشروعا فاسدا. لكنه ببساطة، ينوّه بأسلوب كانطي بأن الميتافيزيقا تثير أسئلة لا وجود لإجابات عليها. من جانب آخر، قام بعنونة فرعية لكتابه (الوجود والعدم) على أنه “وجودي مهتم بالظاهراتية”. كان أسلوبه الوصفي يتبدل ما بين التجريدية الشديدة إلى التماسك. حيث يبدأ الكتاب بتحليل نوعين أو فئتين للوجود متميزتين وغير قابلتين للاختزال، الوجود في ذاته (en-soi)، والوجود لذاته (pour-soi)، تقريبا الوعي واللاوعي على التوالي، لاحقا أضاف سارتر فئة أخرى ثالثة وهي الوجود للغير (pour-autrui). ثم ختم ذلك برسم مخطط لممارسة “التحليل النفسي الوجودي” الذي يفسر تصرفاتنا ليكشف عن المشروع الأساسي الذي يوحد حيواتنا.

يملك الوجود في ذاته ولذاته، سمات حصرية ومتبادلة، ومع ذلك فإننا (الواقع الإنساني) كيانات قادرة على المزج بين الإثنين، وهو الأصل الوجودي لغموضنا. الوجود في ذاته متين ومتطابق، ذاتي، سلبي، وخامل. هو ببساطة “نحن”. بينما الوجود لذاته سائل، ديناميكي، لا يطابق الذات. إنه الإنكار الداخلي أو “العدمية” التي يعتمد عليها الوجود في ذاته. حينما ننظر للواقع الملموس، نجد أن هناك إجماع على أن هذه الثنائية “فطرية” و “سامية”. إن “معطيات” حالنا، على سبيل المثال: اللغة، بيئتنا، اختياراتنا السابقة وذواتنا حينما تعمل كوجود في ذاته، هي ما تشكّل حقيقة الفطرة. بوصفنا أفرادا واعين، فنحن نسمو “نتفوق” بهذه الحقيقة الفطرية لما يشكل “موقفنا”. بمعنى آخر، نحن كائنات يتملكنا دوما “موقف ما”، لكن التمازج الدقيق بين السمو والحقيقة الفطرية التي تشكل أي موقف هي مسألة يتعذر الجزم بها، على الأقل ما دمنا منخرطين فيها. من هنا خلُص سارتر إلى أننا دوما “فائضون” عن موقفنا، وأن هذا هو الأساس الوجودي لحريتنا. على حد تعبيره المغالي يقول: نحن “مدينون” لأنفسنا” بأن نكون أحرارا.

قد يلحظ المرء سبب وصف جان بول سارتر، غالبا، على أنه ديكارتي ثنائي-Dualist، لكن ذلك الأمر غير دقيق. إن تغلغل الثنائية في فكره لم يكن إلا قصورا/ عفويا. إذ لم يكن فكره عبارة عن “مادتين” مثل أنطولوجية تفكير الشيء وتمدد الشيء (العقل والمادة) لديكارت. فقط الوجود في ذاته هو المقنع بكونه مادة أو “شيء”. أما الوجود لذاته فهو ليس بشيء، إنه الإنكار الداخلي للأشياء. إن مبدأ الهوية يتماسك فقط لأجل الوجود في ذاته، أما الوجود لذاته فهو استثناء للقاعدة. من ثمّ، فإن الوقت بكل مفارقاته ما هو إلا توظيف لعدمية الوجود لذاته، أو الوجود “للغير”. إن الماضي مرتبط بالمستقبل كوجود في ذاته للوجود لذاته وكحتمية للاحتمالية، أما مع الحاضر، مثل “الموقف” بشكل عام، فالوجود خليط غامض من الاثنين. هذه هي نسخة سارتر من “الزمانية الوجدانية” لهايدغر، هي الزمن الكيفي “المعاش” لممارساتنا وهمومنا، الزمن الذي يمضي سريعا أو ببطء ثقيل علينا، بدلا من كونه مجرد وقت “الساعة” الكيفي، الذي نتشارك فيه نحن مع الطبيعة المادية.

تأتي الفئة أو المبدأ الأنطولوجي للوجود للغير، لتلعب دورها بمجرد ما يظهر الموضوع الآخر أو الآخر في المشهد. لا يمكن أن يُستخلص الآخر من المبدأين السابقين، لكن من الحتمي التقاؤهما. إن تحليل جان بول سارتر للعار الذي يمكن للمرء تجربته من خلال إيجاد نفسه في وضع مخجل، ما هو إلا حجة ظاهراتية (التي أطلق عليها هوسرل “استحضارا اختزاليا”) لوعينا بالآخر كشخص. فهي تحمل الفورية والحتمية التي طالب بها الفلاسفة في تصورنا عن “عقول” الآخرين، دون أن يعانوا من ضعف الحجج المماثلة التي تستخدم عادة من قبل التجريبيين للدفاع عن هذه المعرفة.

في كتابه (نقد العقل الجدلي) ظُنّ بأن أدوار الوعي والوجود لذاته في أعماله المبكرة على أنها “تطبيق عملي” (النشاط البدني في سياقه المادي) و”ممارسة داخلية” على التوالي. إن التطبيق العملي أمر جدلي بالمعنى الهيغلي، يتجاوز ويُضمّن الآخر، أي الممارسة الداخلية. وهذا الأخير، مثل الوجود لذاته، داخلي ولكن “عملي”، بمعنى أنه ترسبات لتطبيقات عملية ماضية. بالتالي، فإن أفعال الكلام، ما هي إلا أمثلة على تطبيقات عملية، لكن اللغة ستكون ممارسة داخلية، والمؤسسات الاجتماعية ممارسة داخلية، لكن الأفعال التي تعززها وتقيدها هي تطبيقات عملية.

يقوم الآخر في (الوجود والعدم) بعزلنا أو موضعتنا (في هذا العمل بدا أن جان بول سارتر يستخدم هذه المصطلحات بشكل مواز)، والطرف الثالث هو ببساطة هذا الآخر واضحا بشكل أكبر. جُعلت “نـا-us” موضوعية بواسطة الآخر وبالتالي لها الوضع الأنطولوجي في كونها وجودا في ذاته، لكن التابع الجمعي أو “نحن-we” التي يشدد عليها هي ببساطة تجربة نفسية. ظهر في كتابه النقدي شكل أنطولوجي آخر، وهو “الوسيط” الثالث الذي يشير لعضو المجموعة من حيث هو، ويقدم تابعا جمعيا دون اختزال العوامل المختصة إلى مجرد شفرات لبعض الوعي الجمعي. بعبارة أخرى، يمنح سارتر أولوية أنطولوجية للممارسات العملية للفرد، في حين يدرك إنتاجيتها كعضو لمجموعة التطبيقات العملية التي تدعم المسند إليه مثل الأمر/الطاعة، والحق/الواجب، التي يختص بها. لقد شكلت مفاهيم التطبيقات العملية، الممارسات الداخلية، والوسيط الثالث أساس الأنطولوجيا الاجتماعية التي ظفرت باهتمام مقرب أكثر من التطبيقات العملية التي شجع عليها كتابه النقدي.

 

3- علم النفس

عُرفت مواهب جان بول سارتر في الوصف والتحليل النفسي على نطاق واسع. وهي ما جعلته ناجحا كروائي وكاتب مسرحي، وأسهمت في حيوية وقوة حججه الظاهراتية أيضا. مضت دراساته المبكرة عن الوعي الانفعالي والتصويري في أواخر الثلاثينات بالضغط على المبدأ الهوسرلي للقصدية لأبعد مما ذهب له المؤلف. على سبيل المثال: في كتاب (علم نفس الخيال The Psychology of Imagination (1940)) يزعم سارتر أن هوسرل لا يزال أسيرا للمبدأ المثالي للأصالة (موضوع الوعي يقع ضمن اللاوعي)، بصرف النظر عن هدفه المعلن في محاربة المثالية، وذلك عندما بدا أنه ينظر للصور على أنها مصغرات للموضوع المحسوس، أعيد إنتاجها أو بقيت في العقل. على العكس من ذلك، يزعم سارتر بأن المرء إذا أصر على أن الوعي بأكمله مقصود في الطبيعة، على المرء أن يخلص إذن إلى أن ما يسمى بـ “الصور” ليست بمواضيع “داخل العقل”، بل أساليب للارتباط بالمواد الموجودة في العالم بطريقة مبتكرة بشكل وسليم، وذلك من خلال “تغريبها” أو جعلها “حاضرة-غائبة”.

يجب التسليم بأن جان بول سارتر لم يقرأ محاضرات هوسرل التي نشرت بعد وفاته حول الصورة، التي ربما أسهمت بتعديل نقده. رغم أن هوسرل عانى مع مفهوم الصورة الذهنية في السنوات الثلاثين الأولى من مهنته، وقام بتمييز الوعي الصوري Bildbewusstsein عن الخيال Phantasie، إلا أنه قاوم أي تفسير يمكن أن يوظف ما سماه سارتر “مبدأ الأصالة”، ذاك الذي يستدعي ارتدادا لانهائيا للصور الذهنية في محاولة فاشلة للوصول للتسامي. واصل هوسرل استدعاء الصور الذهنية في تفسيره للوعي التصويري، بينما تجنبها في النهاية عند تحليل الخيال.

على نحو مماثل، نقول بأن مشاعرنا ليست “حالات داخلية”، بل هي أساليب للارتباط بالعالم، وهي بدورها “مقصودة”. يستلزم السلوك الانفعالي في هذه الحالة تغيرات جسدية، وهي ما أطلق عليها محاولة شبه “سحرية” لتحويل العالم من خلال تغيير أنفسنا. إن الشخص الذي يشعر “بالانفعال” عندما يفشل بضرب كرة الجولف أو فتح غطاء المرطبان، هو كما يقرأه سارتر، “يريد” عالما تقوم فيه التغيرات السيكولوجية “باستحضار” الحلول في عالم مُشكل. لنبيّن مثالا آخر من أمثلته، نقول بأن الشخص الذي “يقفز من الفرح” حرفيا، إنما يحاول باستخدام نوع من التعاويذ أن يستحوذ على الخير “دفعة واحدة”، والذي يمكن إدراكه فقط عبر انتشار زمني. ويحذر من أنه إذا كان الانفعال مزحة، فإن ما نؤمن به ليس إلا مزحة. هذه هي كل الارتباطات العفوية السابقة. وهي ليست نتاج قرار انعكاسي. ورغم كونها نتاج وعي مسبق، إلا أننا مسؤولون عنها. الأمر الذي يثير مسألة الحرية، كشرط ضروري لإسناد المسؤولية، وهذا جوهر فلسفته.

إن أساس الحرية السارترية أنطولوجي: فنحن أحرار لأننا لسنا ذوات “وجود في ذاته”، بل “حضور للذات “(سمو أو “عدمية” ذواتنا). الأمر الذي يوحي بأننا “آخرون” لذواتنا، وأننا كيفما كنا ومهما نسبه الآخرون لنا، نحن “على نحو لا وجود لنا” وهذا النحو من الوجود قادر على افتراض وجهة نظر حيال وجوده. هذه المسافة الداخلية لا تعكس فقط هوية-مناعية للوجود لذاته وللوجدانية الزمانية التي تولدها، بل إنها تشكل أساس ما سماه سارتر “الحرية كتعريف للإنسان”. إلى تلك الحرية التي تماثل المسؤولية الممتدة. نحن مسؤولون عن “عالمنا” كأفق للمعنى الذي نؤثر فيه، وبالتالي فكل الأشياء فيه بما فيها معناها وقيمتها ستحدد من خلال فضيلة “خيارنا”، المرشد الأساسي لحياتنا. عند هذه النقطة، يتداخل النفس والوجود بينما يبقيان واضحين مثلما يحدث غالبا في الظاهراتية.

اُنتقد هذا “الخيار” الأساس باعتباره لا معياري وبالتالي اعتباطي. لكن سيكون من الأفضل لو تكلمنا عنه كمعيار-تشكيلي يسنّ مجموعة المعايير التي على أساسها نقوم باتخاذ خياراتنا لاحقا. هذا يحاكي ما سماه العالم الأخلاقي ر.م. هير “قرارات المبدأ” (التي تؤسس المبادئ للقرارات اللاحقة، لكنها هي نفسها بلا مبادئ)، والتي ربما وصفها كيركغارد “تحويلا”. في الواقع، استخدم جان بول  سارتر هذا المصطلح بنفسه أحيانا ليشير إلى تغير جذري في مشروع الفرد الأساسي. إنه هو “الخيار” الداعم الأصيل الذي يسعى التحليل النفسي الوجودي إلى كشفه.

لقد كان استخدام سارتر للقصدية أساسا لعلم النفس خاصته. وكان علم النفس مفتاحا لأنطولوجيته التي كانت مبتكرة في ذلك الزمان. في الحقيقة، ظهر الوعي الصوري كموضع احتمالية، سلبي، ويفتقر لأن يبرز كنموذج للوعي بشكل عام (الوجود لذاته) في كتاب الوجود والعدم. ولذا نقول، ليس من المبالغة أن نصف سارتر كفيلسوف للخيال، وهو دور مهم للغاية في الوعي الصوري أو دوره المكافئ في عمله.

 

4-الأخلاق

كان جان بول سارتر أخلاقيا، ولكنه نادرا ما كان واعظا. رغم كونها دراسات ظاهراتية، إلا أن هذه الدراسات المبكرة قد أكدت على الحرية عبر تضمين مسؤولية الممارس للطريقة الظاهراتية. بالتالي، فإن أول عمل كبير له كان (تسامي الأناTranscendence of the Ego-)، الذي بالإضافة إلى أنه يشكل حجة ضد الأنا المتسامية المركزية للمثالية الألمانية والظاهراتية الهوسرلية (الموضوع المعرفي الذي لا يمكن أن يكون مادة)، يقدم الكتاب بعدا أخلاقيا داخل ما كان مشروعا معرفيا تقليديا، من خلال التأكيد على أن هذا السعي لتسامي الأنا يخفي رحلة واعية من الحرية. إن الاختزال الظاهراتي الذي يشكل مواد الوعي كدلالات أو معانٍ محضة مجردة من الادعاءات الوجودية التي تسلمها إلى الشك، هو اختزال أو (حصر لمسألة الوجود) يحمل أهمية أخلاقية أيضا. إن الموضوع “الأصيل” كما سيشرحه سارتر لاحقا في (مذكرات الأخلاق) سيّعلمنا أن نعيش بلا أنا، سواء عبر التسامي أو التجريب، بمعنى أن سمو الأنا غير ضروري، وأن الأنا التجريبية (لعلم النفس العلمي) هي مادة للوعي عندما تنعكس على ذاتها في تصرف موضعي سماه “تأمل مساعد”. كلّفته هذه الأعمال جهدا مضنيا، سواء في إسناده المسؤولية الأخلاقية للعوامل فردية/مجتمعة، أو وضع أسس أنطولوجية لمثل هذه الإسنادات.

على حد زعم سارتر، فالأصالة قد تحققت، من خلال تحويل يستلزم التخلي عن اختيارنا الأصلي ليتطابق مع ذواتنا بشكل واع (الرغبة غير المجدية بأن نكون وجودا لذواتنا أو آلهة)، وبالتالي نحرر أنفسنا من التماثل مع أنانا بوصفها وجودا في ذواتنا. في حالة الاغتراب التي نعيشها حاليا، نحن مسؤولون عن أنانا كما نحن مع أي مادة للوعي. فيما مضى، قال بأنها كانت سوء نية (خداع الذات)، في محاولة للتوفيق مع أنانا، مادام أن الحقيقة هي أننا مهما كنا، نحن بشكل ما، لسنا وجودا بسبب طبيعة الوعي “للآخر”. أما وقد ذكر “التحويل” للأصالة من خلال انعكاس “نقي” (غير موضوعي)، فإنه بذلك قد أزال الغبار عن مشروعه الأصيل. يصر سارتر على أنه يجب علينا السماح لـ “أنانيتنا” العفوية (اصطلح على تسميتها هنا وفي الوجود والعدم، هوية الفرد) لتحلّ محل “أنا” أو “الأنا”، والتي انتقدها بوصفها “وسيطا داخليا مؤذيا” يتنبأ مستقبلها بشكل مسبق بمستقبلي. إن التحول من ارتباطات “التملك” أو الوجود الذي يمكنني التركيز فيه، يتماثل مع أناي حين يهرب خداع الذات من الحرية إلى ارتباطات “الوجود” والاستقلالية، حيث أسخر نفسي كليا لمشروعي وهدفه. يلمح سارتر الآن إلى أن الأول هو الأناني، أما الثاني فهو الخارجي والمعطاء.. يتماشى هذا مع ما سيقوله عن عمل الفنان المبدع باعتباره موهبة واحتكام لحرية أخرى، إضافة لكونه عمل معطاء.

من الشائع الآن تمييز ثلاثة مواقف أخلاقية مختلفة في أعمال جان بول سارتر. الأول وهو أشهرها، أن أخلاقيات الوجودي هي أصيلة لا اغتراب فيها. فهي تفترض أننا نعيش في مجتمع استغلالي واضطهادي. الأول أساسي وشخصي، أما الثاني فهو بنيوي وغير شخصي. بينما يدخل في جدالات مطولة عبر مقالات مختلفة، ومقالات صحفية في أواخر الأربعينات والخمسينات تتعلق بالاستغلال الممنهج للناس عبر المؤسسات الرأسمالية والاستعمارية. لطالما سعى سارتر إلى رد المسؤولية لمكانها عند الأفراد الذين يمكن تسميتهم مبدئيا. مثلما لاحظها ميرلو بونتي، فقد شدد سارتر على الاضطهاد أكثر من الاستغلال، وعلى المسؤولية الأخلاقية الفردية أكثر من البنيوية السببية، لكن دون إنكار أهمية الأخير. في الواقع، بينما تضخم مفهوم الحرية لديه من جانب أنطولوجي، اجتماعي، وتاريخي في أواسط الأربعينات، نما لدى سارتر تقدير للظروف الواقعية في ممارسة الحرية.

يشار إلى مفهوم جان بول سارتر للأصالة في كثير من الأحيان إلى كونه “الفضيلة” الوجودية الوحيدة، وغالبا ما اُنتقد على أنه يدل على أسلوب أكثر من محتوى. وعلى نحو لا يمكن إنكاره، يبدو متوافقا مع مجموعة واسعة من خيارات الحياة. مرة أخرى، فإن أساسه أساس أنطولوجي لغموض الواقع الإنساني الذي “هو ما ليس هو” (وأنه، هو مستقبله كاحتمالية) و “ليس كما يبدو” هو (ماضيه كواقع، بما فيه أناه أو الذات والتي رأينا أنها مرتبطة عبر الإنكار الداخلي). يمكن القول أن الأصالة تعيش أساسا هذه الحقيقة الأنطولوجية لحال الفرد، أعني التي لا يمكن أن تكون متطابقة مع موقف الفرد الراهن، لكنها تبقى مسؤولة عن الحفاظ عليه. بالتالي، فإن الادعاء بأنني “هكذا أبدو أنا” يخلق شكلا من خداع الذات ، مثلما هو الحال مع كافة أشكال الحتمية، مادام أن كلا الحالتين ينطوي عليها الكذب على الذات بشأن الحقيقة الأنطولوجية للصدفة الأنانية للفرد، والفرار من مسؤولية الالتزام “بالاختيار” للبقاء على هذا النحو.

بالنظر إلى التقسيم الأساسي لحال الإنسان إلى حقيقة وسمو، يمكن لخداع الذات والأصالة أن تتخذا شكلين: الأول الذي ينكر الحرية أو عنصر التسامي (لا أستطيع أن أفعل أي شيء حيال ذلك) . أما الثاني وهو الذي يتجاهل البعد الحقيقي لأي موقف (أستطيع فعل أي شيء بالتمنّي). الأول هو الشكل السائد لخداع الذات، لكن الأخير شائع عند الأشخاص الذين يفتقرون إلى الشعور بالواقع في حياتهم.

يتحدث جان بول سارتر كما لو أن كل خيار يمكن أن يكون أصيلا، طالما أنه يعيش بوعي واضح حول مسؤوليته وإمكانه العرضي. لكن رأيه المدروس يستبعد الخيارات التي تضطهد أو تستغل الآخرين من دون وعي. بعبارة أخرى، الأصالة ليست أسلوبا بذاتها، فهناك محتوى عام وهذا المحتوى هو الحرية. بالتالي، “النازي الأصيل” غير مؤهل بشكل صريح لكونه متناقضا. تقول أطروحة سارتر بأن الحرية هي المادة الضمنية لأي اختيار، كما يزعم، لكنه لم يدافع عنها بشكل كاف بمحاضرته عن الإنسانية. بدا أنه يفترض أن “الحرية” عامل يتم من خلاله صناعة أي اختيار، وأن “مادته الأساس” إحياء زمن قديم. لكن يُتطلب منه حجة أقوى من تلك لاستبعاد “أصالة” النازي.

رغم أن جان بول سارتر انتقد تنوع البرجوازي، لكنه يدعم إنسانية الوجودي، التي يمكن أن يكون شعارها “يمكنك أن تصنع شيئا مما وصلت إليه”. في الواقع، يمكن تلخيص سيرته كاملة في هذه الكلمات التي تحمل رسالة أخلاقية ونقدية. ركز الجزء الأول من حياته المهنية على حرية وجود الفرد (يمكنك دوما أن تصنع شيئا من ..) أما الثاني فقد ركز على الظروف الاجتماعية-الاقتصادية والتاريخية التي تحدد وتلطف هذه الحرية (مما وصلت إليه)، في حين تقف الحرية بكونها مجرد تعريف “للإنسان” وتتضمن إمكانية وجود خيارات صادقة في مواقف محددة. تتطابق هذه المرحلة مع التزام سارتر السياسي وانخراطه النشط في النقاشات العامة، والبحث الدؤوب عن “الأنظمة” الاستغلالية مثل الرأسمالية، الاستعمار، العنصرية القائمة في المجتمع، والممارسات الاضطهادية للأفراد الذين يحيونها. مع تعاظم إدراكه للبعد الاجتماعي لحياة الفرد، مال البعد السياسي للاندماج مع الأخلاقي. وكان قد رفض “الميكافيلية” بشكل صريح.

إذا كانت أخلاق سارتر الأولى والأشهر تماثل أنطولوجيا (الوجود والعدم)، فإن الثانية، أخلاقه الجدلية قد أسست على فلسفة التاريخ التي نمت في كتابه (نقد العقل الجدلي). في سلسلة محاضرات في الستينات نشرت بعد وفاته، بعضها لم تسلم، رسم سارتر نظرية أخلاقية على أساس مبدأ الحاجات الإنسانية ومثالية “الإنسان المتكامل”، على النقيض من مفهومه المضاد عن “الإنسان الأدنى”. هذا يضيف إلى أخلاقياته المنشورة محتوى أكثر تحديدا ومعنى حادا للظروف الاجتماعية لعيش حياة إنسانية مناسبة.

كانت محاولة جان بول سارتر الثالثة مع الأخلاق، والتي سماها أخلاق “نحن” قد أُخذت على شكل لقاء مع سكرتيره بيني ليفي، عند اقتراب أجله. هي محاولة تدعو للتساؤل حول العديد من الافتراضات الأساسية لأخلاقيات الأصالة لديه، لكن الذي ظهر مطبوعا درس بشكل خاص الادعاءات المبنية في أعماله المبكرة. لكن بما أن الأشرطة التي سُجّلت عليها تلك الملاحظات غير متاحة لعامة الناس، إضافة إلى خطورة مرض سارتر عند تسجيلها، فإن سلطتها كمراجعة لفلسفته العامة بقيت محل شك. وفي حال أصدرت بشكل كامل، فسوف يشكل هذا النص تحديا تأويليا مهما.

 

5-السياسة

لم يكن جان بول سارتر منخرطا في السياسة زمن الثلاثينات، على الرغم من أن ميوله على حد قوله، كانت “يساريه مثل الجميع.” لقد أحدثت سنوات الحرب، بما فيها المقاومة والاحتلال، اختلافا كبيرا. ظهر سارتر ملتزما بالإصلاح الاجتماعي، واقتنع أن الكاتب مُلزم بالتنويه عن القضايا الاجتماعية الراهنة. وقام بتأسيس مجلة (الأزمنة الحديثةLes Temps modernes) المؤثرة على الرأي، مع رفيقته سيمون دي بوفوار، إلى جانب ميرلو بونتي، ريموند آرون وآخرون. في “عرض” عددها الأول (أكتوبر 1945) توسع سارتر بعرض فكرته عن الأدب الملتزم، وأصر على أن الفشل في التنويه عن القضايا السياسية يعني الإسهام بدعم الحالة الراهنة. بعد محاولة وجيزة فاشلة في تنظيم منظمة يسارية غير شيوعية، بدأ علاقة كراهية/محبة مع الحزب الشيوعي الفرنسي الذي لم ينضم إليه أبدا، لكنه اُعتبر لسنوات الصوت الشرعي للطبقة العاملة في فرنسا. استمر ذلك حتى الغزو السوفيتي لهنغاريا عام 1965. ولم يزل سارتر متعاطفا مع الحركة، إن لم يكن مع الحزب أحيانا. وقد لخص خيبة أمله في مقال بعنوان “الشيوعيون خائفون من الثورة” عقب “أحداث مايو” 1968. في ذلك اللحين، مال سارتر نحو الحزب اليساري المتطرف الذي أطلق عليه الفرنسيون الحزب ” الماوي les Maos”، والذي لم ينضم إليه أبدا، لكنه انجذب إلى مزيج الأخلاق والسياسة لديهم.

من جانب سياسي، كان جان بول سارتر يميل إلى ما سماه الفرنسيون “الاشتراكية التحررية” والتي كانت نوعا من أناركية. لم يثق بالسلطة إطلاقا، واعتبرها “الآخر في داخلنا“، كان مثله الأعلى مجتمع علاقات طوعية على مرأى العين، ما أطلق عليه “مدينة الغايات”. يمكن للمرء أن يلمح هذا في وصفه للمجموعة المؤلفة في كتابه النقدي. كانت كل واحدة “مشابهة” للأخريات فيما يتعلق بالهموم العملية. كل فرد يعلّق اهتمامه/ها الشخصي من أجل الهدف المشترك. لا شك أن هذه الممارسات قد قويت داخل المؤسسات واًصبحت الحرية مهددة مرة أخرى من الآلية البيروقراطية. لكن هذا العرض الوجيز للتبادلية الإيجابية الصادقة كان كاشفا لما يمكن أن يكونه الوجود الاجتماعي الأصيل.

أدرك جان بول سارتر كيف تكيف الظروف الاقتصادية الظروف السياسية، بمعنى أن الاحتياج المادي كما أكد كلا من ريكاردو وماركس، يحدد علاقاتنا الاجتماعية. في قراءة سارتر، يبرز الاحتياج المادي كمصدر للعنف البنيوي والشخصي في تاريخ الإنسانية، كما نعلم. ويعتقد أنها تتبع ذلك التحرر من العنف القادم فقط من خلال العنف المضاد للثورة ومجيء “الاشتراكية الوفيرة”.

ما اصطلح عليه جان بول سارتر (بالطريقة التصاعدية/ الارتدادية) للتحقيق التاريخي هو خليط من المادية التاريخية والتحليل النفسي الوجودي. وهي طريقة تحترم الدور الحاسم للاعتبارات الاقتصادية في التفسير التاريخي (المادية التاريخية) بينما تؤكد على أن “الرجال الذين يصنعهم التاريخ ليسوا هم الرجال الذين يصنعون التاريخ”، بعبارة أخرى، يقاوم سارتر الحتمية الاقتصادية التامة عبر نداء ضمني لشعاره الإنساني “يمكنك دائما أن تصنع شيئا من ..”

لم يتجنب جان بول سارتر معركة من قبل، فقد تورط في الحرب الجزائرية، الأمر الذي ولّد عداء عميقا من اليمين إلى درجة أن قنبلة انفجرت في مدخل شقته في مناسبتين، وذلك من قبل مناصري الحملة الفرنسية الجزائرية. غُطي نقد سارتر السياسي في عدة مقالات سياسية، لقاءات، ومسرحيات، خاصة ( إدانة ألتونا The Condemned of Altona ) والتي تجمع مرة أخرى بين الاستغلال البنيوي (في هذه الحالة، المؤسسة الاستعمارية والعنصرية التي رافقتها) مع تعبير عن الغضب الأخلاقي لاضطهاد الشعب المسلم وتعذيب الأسرى من قبل الجيش الفرنسي.

ذكر هذه المسرحية يذكرنا بدور الخيال الفني في أعمال جان بول سارتر الفلسفية. هذه القطعة الفنية كان بطلها الرئيسي فرانز “جزار سمولنيسك” رغم أنها تدور ظاهريا حول تأثير الفظائع النازية بعد الحرب على الجانب الغربي من هامبورغ، إلا أن المسرحية طرحت حقيقة مسألة الذنب الجماعي والاضطهاد الفرنسي في حرب الجزائر لنيل استقلالها في ذلك الوقت. تحول سارتر في كثير من الأحيان إلى الفن الأدبي للتفرغ أو العمل من خلال الأفكار الفلسفية التي تصورها بالفعل، أو سيتصورها مستقبلا في مقالاته ودراساته النظرية. وهذا يقودنا إلى العلاقة بين الأدب الخيالي والفلسفة في عمله.

 

6- الفن والفلسفة

 كانت استراتيجية “التواصل غير المباشر” أداة عند “الوجوديون” منذ أن تبنى كيركغارد فكرة استخدام الأسماء المستعارة في أعماله الفلسفية بدايات القرن التاسع عشر. كان الهدف منها نقل شعور أو سلوك يتبناه القارئ/المشاهد، حيث تطرح بعض المواضيع الوجودية مثل الألم، المسؤولية، أو خداع الذات لكنها لا تُملى كمحاضرة. عندما سئل جان بول سارتر عن سبب عرض مسرحياته في الأحياء البرجوازية من المدينة فقط، كان رده بأن البرجوازيين لا يمكن أن يتركوا أداء أحد منهم دون “التفكير بأفكار تغدر بطبقته”. إن ما يسمى بـ “إرجاء التكذيب” الجمالي، المصحوب بميل للتماثل مع شخصيات محددة وتجربة أحوالهم، من شأنه أن يوصل القناعة بشكل غير مباشر أكثر من المعلومات. وهذا ما تقوم عليه الوجودية بصورة أساسية: حيث تتحدى الفرد لاختبار حياته أمام تنبيهات خداع الذات، وتزيد من حساسيته تجاه الاضطهاد والاستغلال في حياته.

تعد رواية (الغثيان 1938) لسارتر نموذجا للرواية الفلسفية. حيث وُظف بطل الرواية روكوينتن من خلال العديد من الموضوعات الرئيسة لكتاب (الوجود والعدم) الذي سيظهر لاحقا بعد خمس سنوات. يمكن أن تُقرأ الرواية كتأمل واسع حول صدفة وجودنا، والتجربة الجسدية والنفسية التي تجسد هذه الظاهرة. في تأمله الشهير على جذع شجرة، يختبر روكوينتن الحقائق المبهمة لوجودها ووجوده، كلاهما كانا هناك ببساطة من دون تبرير، وبشكل فائض. لا ينبغي التغاضي عن هذا الشعور الجسدي الكاشف” الحلو البائس”. الحيرة التي شعر بها أمام نظرة الآخر في المثال المذكور آنفا، دلالة على أن قصديتنا الجسدية (التي سماها “الجسد كما هو لذاته”) تكشف عن واقع وجودي.

إن القضية هنا هي أسلوب فني لنقل ما سماه جان بول سارتر في (الوجود والعدم) “ظاهرة الوجود”. حيث يتفق مع التقليد القائل بأن “الوجود” أو “أن توجد” ليس بمبدأ. لكن، إن لم تكن ذلك، فكيف تصنف؟ ما معنى أن “توجد”؟ تحتكم الظاهراتية الوجودية لـ سارتر لأنواع معينة من التجارب مثل الغثيان والفرح لتحديد سمة “التحول الظاهري” للوجود. بينما لا يشير الوجود لدى كانط إلى عالم أبعد من الظاهرة التي تحللها الطريقة الوصفية. كما أنه ليس هدفا لاختزال “استحضاري” (الطريقة الظاهراتية التي يمكن فهمها كمعنى). بدلا من ذلك، يرافق الوجود كل الظواهر بوصفها بعدا وجوديا. لكن هذا البعد ينكشف بتجارب محددة مثل تلك المتعلقة بالإمكانات العرضية المطلقة كتلك التي شعر بها روكونتين. يمكن أن تكون هذه عقلانية، لكنها ليست صوفية بأي حال. يمكن لأي فرد أن يجرب هذه الحالة العارضة، وبمجرد نقلها إلى الوعي الانعكاسي، يستطيع استيعاب عواقبها. كان سعي كتاب (الوجود والعدم) المعنون بـ “الأنطولوجيا الظاهراتية ” من ناحية نظرية، إلا أنه قام بالاستناد إلى الحجج الظاهراتية كما رأينا.

في سلسلة مقالات نشرت تحت عنوان (ما هو الأدب؟ What is Literature?) 1947، شرح جان بول سارتر مفهومه عن الأدب “الملتزم” ليعود لفكرته الأولى التي أشار إليها في العدد الافتتاحي من مجلة (الأزمنة الحديثة) قبل سنتين. رغم أنها غرقت في الجدل الراهن، إلا أنها استمرت كأول بذرة نصية للنقد. فهي تضع خطا تحت ما أسميته البعد “البراغماتي” لفكر سارتر؛ فالكتابة شكل من أشكال التمثيل في العالم، إذ تنتج انعكاسات يفترض أن يتحمل الكاتب من خلالها المسؤولية. لفت سارتر الانتباه إلى مشكلة “الكتابة في زمننا الحالي” ليضع خطا تحت الحقائق الصعبة للاضطهاد والاستغلال، التي لم تمح من قبل ثورة الحرب العالمية. وبقي عالمنا “مجتمعا قائما على العنف”. بالتالي، فالمؤلف مسؤول عن التنويه على هذا العنف بعنف مضاد (على سبيل المثال، باختياره لعناوين النقاش) أو المشاركة بها عبر صمته. إن التمييز بين النثر الذي يمكن أن يكون ملتزما، وبين “الشعر” (الذي هو في الأساس فن غير تمثيلي مثل الموسيقى والشعر إن صح القول)، الذي لا يمكن أن يكون ملتزما، -تمييز سيعود لمطاردة الكاتب- لذا أثار سارتر مسألة أن كاتب النثر يكشف عن أن الإنسان ذو قيمة تُكتشف كل يوم، وأن “أسئلته التي يطرحها هي أخلاقية على الدوام”. في رفض واضح لمفهوم “الفن من أجل الفن”، أصر سارتر على أن هناك مسؤولية اجتماعية وفكرية بشكل عام لدى الفنان.

لطالما حمل العمل الفني قوة خاصة بالنسبة لـ جان بول سارتر، أي التواصل من خلال الحرية دون اغتراب أو تموضع. بهذا المعنى، يقف العمل كاستثناء للنظرة الموضوعية للنصوص الوجودية التقليدية. أطلق سارتر على تلك العلاقة بين الفنان وعامة الناس بواسطة العمل الفني “الموهبة الجاذبة”. في كتابه (المتخيل The Imaginary) يتحدث عن الصورة “التي تستدعي” المشاهد لملاحظة إمكانياتها من خلال الاعتبارات الجمالية. في ذلك اللحين، جمع سارتر تلك الأفكار في كتاب (ما هو الأدب؟) و (مذكرات الأخلاق)، كفكرة مفهوم الكتابة كفعل للعطاء، والذي سيستجيب له القارئ بفعل “إعادة خلق” يحترم التبادل بين هذه الحريات- وأن هذا النموذج للموهبة/ والاستجابة يتخذ له أهمية سياسية. إذ يأتي على أننا نموذج للتبادل بإيجابية في الحقل السياسي. وفي الواقع، هو يحتمل “البديل الحر” لعضو المجموعة كما حلله في كتابه النقدي. بعبارة أخرى، تندمج قيم سارتر السياسية والأخلاقية مع مفهوم الأدب الملتزم لديه.

قبل أن أختم بتشخيص علاقة جان بول سارتر الفلسفية في القرن الواحد العشرين، دعوني أشير لبعض “السير الذاتية” المقدمة لبعض الشخصيات الأدبية المهمة بالإضافة إلى سيرته الذاتية “الكلمات-Words”. شكلت كل واحدة من هذه الدراسات شكلا من أشكال التحليل النفسي الوجودي. إذ خضع موضوع الإنتاج الأدبي لنوع من “التأويلية” ليكشف عن مشروع الحياة الضمني. حيث بدأ سارتر بتوظيف طريقة تقدم/ارتدادي أواخر الخمسينات، بالتالي، يُكشف عن الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية والتاريخية للفرد في جدال “ارتدادي” عبر حقائق ذاتية واجتماعية إلى ظروف احتماليتها، متبوعة بتفسير “تقدمي” لعملية “إضفاء طابع شخصي” على أصحابها. من أكثر السير الذاتية شمولية، إن لم تكن الأنجح، كانت عن تحليله لزمن وحياة غوستاف فلوبير بعنوان “أبله العائلة”.

هذه السير الذاتية حول الرجال الأدباء، هي أيضا دروس موضوعية في نظرية “وجودية” للتاريخ. إن السمة البارزة لهم هي محاولتهم لإعادة بناء مشروع هذا الموضوع مثلما أن أسلوبه الجدلي “يُجمل” سيرته الذاتية حتى مع كونه شموليا بشأنها. خلال ربط الظواهر التاريخية غير الشخصية بضرورتها الجدلية (على سبيل المثال، العواقب غير المقصودة المدرجة في أي تفسير تاريخي) فالقصد بهذه الأحداث أن تنقل إحساس الشخص بألم القرار ووخزة الواقع. في الواقع، تعد السير الذاتية جزءا أساسيا من المقاربة الوجودية للتاريخ وليست مجرد ملحق تفسيري.

 

7– سارتر في القرن الواحد والعشرين

نبذ ميشيل فوكو جان بول سارتر بأسلوب نزق، على أنه رجل من القرن التاسع عشر يحاول أن يفكر في القرن العشرين. من المحتمل أنه كان يملك الكثير في ذهنه، أكثر من حقيقة أن أغلب “سيره الذاتية” كانت لشخصيات من القرن التاسع عشر، باستثناء جان جيانيه وسيرته. بتشديده على الوعي، الذاتية، الحرية، المسؤولية والنفس، إلى جانب التزامه بالفئات الماركسية والتفكير الجدلي، خاصة في النصف الثاني من حياته المهنية، إضافة لإنسانيته شبه التنويرية، بدا أن سارتر يجسد كل ما عارضه البنيويون وما بعد البنيويون مثل فوكو. في الحقيقة، مع أن منتصف القرن كانت فترة تحرر ونجاح لفرنسا، إلا أنها أصبحت “تقليدية” للجيل التالي، كمثال كلاسيكي فلسفي لقاتل أبيه.

بعض من هذه الانتقادات قد وجهت بشكل خاطئ في الواقع، بينما عرضت الأجزاء الأخرى “خيارا” فلسفيا حقيقيا حول الأهداف والأساليب. رغم أن جان بول سارتر أصر على أولوية “الممارسات العملية الأساسية الحرة” منهجيا، وأنطولوجيا، وأخلاقيا، والتي أسس عليها الحرية والمسؤولية التي تحدد إنسانيته، احترم، مع ذلك، ما سماه منتقده لوي ألتوسير “السببية الهيكلية” وأتاح لها محلا بجانب مفهومه عن الممارسة العملية. لكن الأولوية المعطاة للوعي/الممارسة العملية هنا، هي ما صدم النقاد البنيويون وما بعد البنيويون لكونها ساذجة وخاطئة ببساطة. يضاف إلى ذلك شغف سارتر بالفكر “الشمولي”، سواء بشكل فردي فيما يخص مشروع الحياة، أو بشكل جماعي فيما يخص العقلانية الجدلية، والتي تقابل الادعاءات المجزأة والمضادة للغائية لمؤلفي ما بعد البنيوية. ثم يأتي إنكاره الشهير للاوعي الفرويدي، والإهمال النسبي للسيميائية وفلسفة اللغة بشكل عام.

على المرء أن يلحظ أن شكوك سارتر حول التحليل النفسي الفرويدي أصبحت جلية وواضحة في سنواته الأخيرة. فقد احتكم إلى “المُعاش” وإلى الفهم ما قبل النظري، خاصة في دراسته لفلوبير، على سبيل المثال دمجه العديد من عوامل محركات “اللاوعي” والعلاقات المناسبة لخطاب التحليل النفسي. وبالرغم من معرفته بالفيلسوف سوسور واللغويات البنيوية، والتي أشار لها من حين لآخر، اعترف بأنه لم يقم أبدا بصياغة فلسفة صريحة للغة، لكنه أصر على إمكانية إعادة بناء أحدها من العوامل التي وُظفت خلال أعماله.

هناك، على الأقل، خمسة عوامل لفكر جان بول سارتر تتعلق بشكل خاص بالنقاشات الحالية بين الفلاسفة الأنجلو-أمريكيين والقاريين. الأول، مفهومه عن العامل الإنساني بكونه ليس ذاتا بل “حضورا للذات.” هذا الانفتاح “لتفكير الشيء” الديكارتي يدعم مجموعة واسعة من النظريات البديلة للذات مع الاحتفاظ بخصائص الحرية والمسؤولية التي يمكن أن يجادل المرء بأنها كانت الأساس المركزي للفلسفة الغربية والقانون منذ عهد الإغريق.

في السنوات الأخيرة، استحوذ التركيز على أخلاقيات المسؤولية بدلا من أحد قواعدها أو قيمها أو مبادئها على اهتمام واسع النطاق في عمل ليفيناس باعتباره مكملا ضروريا لما يسمى بأخلاقيات “ما بعد الحداثة”. لكن “الأصالة” السارترية لها صلة وثيقة بهذا الشأن، كما أشار لذلك تشارلز تايلور وآخرون. وربما يكون لمركزها ضمن الوجود الدنيوي صدى أفضل مع فلاسفة علمانيين.

بعد ذلك يأتي الإنعاش الأخير لفهم الفلسفة على أنها “أسلوب حياة” كأسلوب متميز عن الأكاديمي الذي يركز على الإبستيمولوجيا أو بشكل أكبر حاليا على فلسفة اللغة، بينما يجدد الاهتمام بالأخلاق الهيلنستية، وكذلك بأشكال مختلفة من “الروحانية” التي يمكن إيجادها في الأشكال الوجودية السارترية “للاهتمام بالذات”، والتي تشجع على حديث مثمر مع الأخلاق الحديثة، الجماليات، والسياسة، دون التمحور حول الأخلاقية، الجمالية، والتعصب. ربما يكون ذلك أقصى ما يتوقعه المرء أو يرغب به من فيلسوف مشكك بالوصفات الأخلاقية، صارفا تركيزه على التجربة المادية المعاشة.

تعامل جان بول سارتر مع مسألة العرق في العديد من أعماله، بشكل ضمني، بداية من (الوجود والعدم). حيث برزت العلاقات العرقية، خاصة الفصل العنصري في الجنوب، وبشكل مركزي، في تقاريره من الولايات المتحدة خلال زيارتين بعد الحرب (1945-1946)، وكانت موضوعا رئيسا للعديد من أعماله حول الاستعمار والاستعمار الجديد لاحقا. بالإضافة إلى أنها شكلت موضوع مسرحيته “عاهرة محترمة” (1946). زعم سارتر بأن مفردة *مستعمرات* كانت تتناهى إلى سمعه في الصبا، فيذهب فكره إلى الاضطهاد العنصري. كتب في مجلة (اورفيوس الأسود- Black Orpheus) عن شعراء أفريقيا الذين يستخدمون لغة المستعمر بدلا من لغتهم، وذلك في كتابة قصائدهم التي تتناول موضوع الحرية قائلا: “الشعر الأفريقي في الفرنسية هو وحده الشعر الثوري العظيم في زماننا”. انفجر سارتر ضد عنف المستعمر و”المبرر” الضمني لذلك، موجّها نداء نحو انعدام الإنسانية ضد السكان الأصليين. في عدة مناسبات وفي أعمال مختلفة، أشار سارتر إلى بكاء المستغلين والمضطهدين: “نحن أيضا بشر” كمثال على نضالهم ضد حريتهم. لقد قامت وجوديته الإنسانية على نقد “أنظمة” الرأسماليين والمستعمرين. وقد كتب في ذلك: “الدناءة في النظام”، الادعاء الذي كان له صداه مع حركات التحرير سابقا وحاضرا. لكن فهمه الوجودي المناسب لهذه العبارة واحترام الأولوية الأخلاقية للممارسات الحرة، يتطلب أن يعدل هذه الملاحظة إلى “ليس تماما”، حينما يتحدث عن أي نظام يتكئ على نجاح الأفراد المسؤولين وحدهم أو ربما في مجتمعنا الكلي، ممن يمكن أو يجب أن تسند لهم المهمة الأخلاقية. يمكن توظيف ذلك ليكون درسه للأنطولوجيا وأخلاقيات العلاقات العرقية في القرن الواحد والعشرين. وصلت دعوته للعنف كشكل مضاد للعنف المتأصل في الاستعمار في الجزائر إلى حد المغالاة في مقاله التمهيدي لفرانس فانون “بائس من الأرض” (1961).

من بين الموضوعات الفلسفية الأخرى، والتي عرض فيها جان بول سارتر ملاحظات سديدة. أود أن أختم بالتطرق إلى النسوية. ربما يذهل هذا المقترح البعض، لأن معجبيه يعترفون بأن لغته وبعض الصور في بعض أعماله المبكرة توصف بأنها عنصرية جنسيا. مع ذلك، لطالما فضل سارتر المضطهد والمستغل في أي علاقة، وشجع رفيقة دربه المقربة سيمون دي بوفوار لكتابة كتابها (الجنس الآخر The Second Sex) والذي يعد بين العامة الموجة الثانية للحركة النسوية. بالإضافة للاستقراءات المنطقية للعديد من التصريحات المؤيدة لاستغلال السود والعرب. المذكورة آنفا، علي أن أنوّه لمفهومين في أعمال سارتر، والذي أعتقد أنهما يحملان وعدا محددا للنقاشات النسوية.

الأول كان في عمله القصير (معاداة السامية واليهودي-Anti-Semite and Jew) 1946. فقد قام العديد من المؤلفين بالتنقيب في هذا العمل للبحث عن الحجج التي تنتقد الانحياز “الذكوري”، لكني أريد أن أؤكد على “روح الائتلاف” التي دافع عنها سارتر هناك، على النقيض من “الروح التحليلية” التي انتقدها. إن المسألة هي ما إذا كان يجب احترام اليهودي بيهوديته المحددة- كثقافته، وممارساته، بما في ذلك الاحتفالات الدينية والأنماط الغذائية- أم ينبغي عليه أن يكون راضيا بـ”حقوق الإنسان والمواطن” كما اقترح صديقه الديمقراطي المحلل. في الواقع، ينصح المفكر التجريدي المحلل بـما يلي: “استمتع بكافة حقوق المواطن الفرنسي، لكن لاتكن يهوديا أكثر من اللازم”. من جانب آخر، يجادل سارتر (بشكل ملموس) حول حقوق اليهود والعرب، أو المرأة وضرب مثاله على حق التصويت في أي انتخابات. بعبارة أخرى، يقول إن “حقوقهم” ملموسة وليست مجردة. وأن على المرء ألا يضحي باليهودية (أو العرب أو المرأة) لأجل “الرجل”. وكما صاغها مايكل فالتزر: “لقد شجع سارتر على التعددية الثقافية.”.

المفهوم الثاني الذي برز من كتابات جان بول سارتر وله صلة مباشرة بالفكر النسوي، هو التبادل الإيجابي والفكرة المرتقبة للعطاء. نحن على دراية بالطبيعة المتعارضة للعلاقات بين الشخوص في كتابات سارتر الوجودية الكلاسيكية: مثل “الجحيم هو الآخرون” وغيرها. لكن في كتاباته الجمالية ومذكرات الأخلاق يصف سارتر عمل الفنان بالعطاء السخي، وأنه استمالة من حرية لأخرى. وقد اقترح أيضا إمكانية توظيف هذا العطاء كنموذج للعلاقات بين الأشخاص بشكل عام. في عمله الرئيس حول الانطولوجيا الاجتماعية (نقد العقل الجدلي) رسم سارتر التحرك من علاقات موضوعية معزولة (للمجموعة) إلى تبادل إيجابي لأعضاء المجموعة. وقد قامت بعض المؤلفات النسويات بتوظيف هذه المفاهيم السارترية في نقاشاتهن. ولايزال هناك الكثير لاستخراجه من أعمال سارتر في هذا الحقل.

وبما أن الوجودية السارترية تحرر نفسها من قيود صبيانية ما بعد الحرب، وتُظهر جانبا وجوديا، أخلاقيا، نفسيا ناضجا للقرن الجديد، فهي تدخل مع الكبار الذين يخوضون حوار لا يتوقف ندعوه بالفلسفة الغربية. ولاتزال أهميتها باقية حتى اليوم، كما هو حال الوضع البشري الذي تصفه وتحلله.


المراجع:

For a complete annotated bibliography of Sartre’s works see Michel Contat and Michel Rybalka (eds.), The Writings of Jean-Paul Sartre (Evanston, IL: Northwestern University Press, 1973), updated in Magazine littéraire 103–4 (1975), pp. 9–49, and by Michel Sicard in Obliques, 18–19 (May 1979), pp. 331–47. Michel Rybalka and Michel Contat have complied an additional bibliography of primary and secondary sources published since Sartre’s death in Sartre: Bibliography, 19801992 (Bowling Green, OH: Philosophy Documentation Center; Paris: CNRS Editions, 1993).

 

مصادر أولية: أعمال سارتر

  • 1962, Transcendence of the Ego, tr. Forrest Williams and Robert Kirkpatrick , New York: Noonday Press, [1936–37].
  • 1948, The Emotions. Outline of a Theory, tr. Bernard Frechtman, New York: Philosophical Library, [1939].
  • 1948, Being and Nothingness, tr. Hazel E. Barnes, New York: Philosophical Library, [1943].
  • 1948, Anti-Semite and Jew, tr. George J. Becker, New York: Schocken. Reprinted with preface by Michael Walzer, 1997 [1946].
  • 1962, “Materialism and Revolution,” in Literary and Philosophical Essays, tr. Annette Michelson, New York: Crowell-Collier, [1946].
  • 1968, The Communists and Peace, with A Reply to Claude Lefort, tr. Martha H. Fletcher and Philip R. Berk respectively, New York: George Braziller, [1952].
  • 1968, Search for a Method, tr. Hazel E. Barnes, New York: Random House, Vintage Books, [1958].
  • 1959, Between Existentialism and Marxism, (essays and interviews, -70), tr. John Mathews, London: New Left Books, 1974.
  • 1976, Critique of Dialectical Reason, vol. 1, Theory of Practical Ensembles, tr. Alan Sheridan-Smith, London: New Left Books. Reprinted in 2004, forward by Fredric Jameson. London: Verso. [1960].
  • 1964, The Words, trans. Bernard Frechtman, New York: Braziller, [1964].
  • 1981–93, The Family Idiot, tr. Carol Cosman 5 vols., Chicago: University of Chicago Press, [1971–72].
  • 1976, Sartre on Theater, ed. Michel Contat and Michel Rybalka, New York: Pantheon.
  • 1977, Life/Situations: Essays Witten and Spoken, tr. P. Auster and L. Davis, New York: Pantheon.
  • 1988, What is Literature? And Other Essays, [including Black Orpheus] tr. Bernard Frechtman et al., intro. Steven Ungar, Cambridge, Mass.: Harvard University Press, [title essay 1947, Les Temps modernes,and 1948, Situations II]
  • 1996, Hope, Now: The 1989 Interviews Adrian van den Hoven, intro. Ronald Aronson. Chicago: University of Chicago Press, [1980].
  • 1992, Notebook for an Ethics, tr. David Pellauer, Chicago: University of Chicago Press, [1983].
  • 1984, The War Diaries, tr. Quentin Hoare,New York: Pantheon, [1983].
  • 1993, Quiet Moments in a War. The Letters of Jean-Paul Sartre to Simone de Beauvoir, 1940–1963, ed.. Simone de Beauvoir, tr. and intro. Lee Fahnestock and Norman MacAfee. New York: Charles Scribner’s Sons, [1983].
  • 1991, Critique of Dialectical Reason, vol. 2, The Intelligibility of History, tr. Quintin Hoare, London: Verso, Reprinted 2006, forward by Frederic Jameson, London: Verso, [1985 unfinished].
  • 1992, Truth and Existence, tr. Adrian van den Hoven, intro. Ronald Aronson. Chicago: University of Chicago Press, [1989].
  • 2001, Colonialism and Neocolonialism, tr. Azzedine Haddout, Steve Brewer and Terry McWilliams, London: Routledge, [1964].
  • 2002, The Imaginary, tr. Jonathan Webber, London: Routledge, [1940].
  • 2007, Existentialism is a Humanism, tr. Carol Macomber, New Haven: Yale, [1946].

 

مصادر ثانوية مختارة:

    • Anderson, Thomas C., 1993, Sartre’s Two Ethics: From Authenticity to Integral Humanity, Chicago: Open Court.
    • Aronson, Ronald, 1987, Sartre’s Second Critique,Chicago: University of Chicago Press.
    • Barnes, Hazel E., 1981, Sartre and Flaubert, Chicago: University of Chicago Press.
    • Bell, Linda A., 1989, Sartre’s Ethics of Authenticity, Tuscaloosa: University of Alabama Press.
    • Busch, Thomas, 1990, The Power of Consciousness and the Force of Circumstances in Sartre’s Philosophy, Bloomington: Indiana University Press.
    • Catalano, Joseph, 1980, A Commentary on Jean-Paul Sartre’s Being and Nothingness, Chicago: University of Chicago Press.
    • –––, 1986, A Commentary on Jean-Paul Sartre’s Critique of Dialectical Reason, 1 Chicago: University of Chicago Press.
    • de Beauvoir, Simone, 1964–1965, The Force of Circumstances, tr. Richard Howard, New York: G. P. Putnam’s Sons.
    • –––, 1984, Adieux: A Farewell to Sartre, tr. P. O’Brian, New York: Pantheon.
    • –––, 1991, Letters to Sartre and ed. Quentin Hoare, New York: Arcade.
    • Detmer, David, 1988, Freedom as a Value: A Critique of the Ethical Theory of Jean-Paul Sartre,La Salle, Ill.: Open Court.
    • Dobson, Andrew, 1993, Jean-Paul Sartre and the Politics of Reason, Cambridge: Cambridge University Press.
    • Fell, Joseph P., 1979, Heidegger and Sartre: An Essay on Being and Place, New York: Columbia University Press.
    • Flynn, Thomas R., 1984, Sartre and Marxist Existentialism: The Test Case of Collective Responsibility,Chicago: University of Chicago Press.
    • –––, 1997, Sartre, Foucault and Historical Reason, vol. 1 Toward an Existentialist Theory of History,Chicago: University of Chicago Press.
    • Gordon, Lewis R., 1995, Bad Faith and Antiblack Racism, Atlantic Highlands, NJ: Humanities.
    • Howells, Christina ed., 1992, Cambridge Companion to Sartre, Cambridge: Cambridge University Press.
    • Jeanson, Francis, 1981, Sartre and the Problem of Morality, tr. Robert Stone, Bloomington: Indiana University Press.
    • Judaken, Jonathan, ed., 2008, RACE after Sartre: antiracism, African existentialism, postcolonialism, Albany, NY: State University of New York Press.
    • McBride, William Leon, 1991, Sartre’s Political Theory. Bloomington: Indiana University Press.
    • –––, ed., 1997, Sartre and Existentialism, 8 vols. New York: Garland.
    • Murphy, Julien S., ed., 1999, Feminist Interpretations of Jean-Paul Sartre,University Park, PA: Pennsylvania State University Press.
    • Santoni, Ronald E., 1995, Bad Faith, Good Faith and Authenticity in Sartre’s Early Philosophy, Philadelphia: Temple University Press.
    • –––, 2003, Sartre on Violence: Curiously Ambivalent, University Park, Penn.: Pennsylvania State University Press.
    • Schilpp, Paul Arthur, ed., 1981, The Philosophy of Jean-Paul Sartre,La Salle, Ill.: Open Court.
    • Schroeder, William, 1984, Sartre and His Predecessors(Boston: Routledge & Kegan Paul.
    • Silverman, Hugh J., 1987, Inscriptions: Between Phenomenology and Structuralism, London: Routledge.
    • Stone, Robert and Elizabeth Bowman, 1986, “Dialectical Ethics: A First Look at Sartre’s unpublished 1964 Rome Lecture Notes,” Social Text 13–14 (Winter–Spring, 1986), 195–215.
    • –––, 1991, “Sartre’s ‘Morality and History’: A First Look at the Notes for the unpublished 1965 Cornell Lectures” in Sartre Alive, ed. Ronald Aronson and Adrian van den Hoven, Detroit: Wayne State University Press, 53–82.
    • Taylor, Charles, 1991, The Ethics of Authenticity, Cambridge, Mass.: Harvard University Press.
    • Van den Hoven, Adrian and Leak, Andrew eds, 2005, Sartre Today. A Centenary Celebration, New York: Berghahn Books.
  • Webber, Jonathan ed, 2011, Reading Sartre: On Phenomenology and Existentialism, London: Routledge.

وسائل أكاديمية

  How to cite this entry.
  Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
  Look up this entry topic at the Indiana Philosophy Ontology Project (InPhO).
  Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت


[1] Flynn, Thomas, “Jean-Paul Sartre”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2013 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/fall2013/entries/sartre/>