مجلة حكمة
أبو حامد الغزالي al-ghazâlî

فلسفة الغزالي

الكاتبفرانك غريفل
ترجمةعمر العوضي
تحميلنسخة PDF

مدخل عن حياة الإمام الغزالي وفلسفته، وعن مكانة الفلسفة في لإسلام عنده، ورده على فلاسفة الإسماعيلية، وكتابه “إحياء علوم الدين”؛ نص مترجم من (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة التعديل منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم، واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.

من هو الغزالي؟


كان أبو حامد الغزالي (1056-1111 م) أحد أبرز الفلاسفة وعلماء الكلام والفقهاء والصوفية وأكثرهم تأثيراً في الإسلام السني. فقد كان نشطاً في الوقت الذي تخطى فيه علم الكلام مرحلة النضج، ودخل في تحديات شديدة أمام العقيدة الإسماعيلية الشيعية والتراث العربي من الفلسفة الأرسطية. وقد أدرك الغزالي أهمية الفلسفة وطوَّر ردوداً معقدة ترفض وتُدين بعض التعاليم، فيما تسمح له أيضاً بقبول وتطبيق أخرى. ويُعتبر نقد الغزالي لعشرين مسألة من مسائل الفلسفة في كتابه “تهافت الفلاسفة” مَعلَماً بارزاً في تاريخ الفلسفة؛ إذ مهَّد للنقد الإسمائي (nominalist critique) للعلم الأرسطي الذي تطور لاحقاً في أوروبا القرن الرابع عشر. وعلى الجانب العربي والإسلامي، أدى قبول الغزالي لفن البرهنة (apodeixis) إلى ولادة خطابٍ أكثر تبلوراً ودقة حول نظرية المعرفة، ومنطقٍ وميتافيزقا أرسطيين مزهرة. ومع الغزالي، يبدأ تقديم الأرسطية، أو بالأحرى السيناوية[2] (Avicennism)، إلى علم الكلام الإسلامي. فبعد فترة من نقل علوم اليونان خلال حركة الترجمة من الإغريقية إلى العربية، والكتابات الفلسفية وصولاً إلى ابن سينا (980-1037 تقريباً)، أُدخلت الفلسفة وعلوم اليونان ضمن الخطاب الكلامي لدى المسلمين وجُعلت جزءاً طبيعياً منه (Sabra 1987). ولقي منهج الغزالي في حل التناقضات الظاهرية بين العقل والنقل قبول كل علماء الكلام المتأخرين عنه تقريباً، وكان له، من خلال أعمال ابن رشد (1126-98) والمؤلفين اليهود، تأثيراً ضخماً في التفكير اللاتيني خلال العصور الوسطى.

 

  1. حياته

  2. حكاية الغزالي لمذاهب الفلسفة

  3. رد الغزالي على الفلاسفة والإسماعيلية

  4. مكانة الفلسفة في الإسلام

  5. الأخلاق في إحياء علوم الدين

  6. علم الكون في إحياء علوم الدين

  7. السببية عند الغزالي

    • العادة مقابل الطبع

    • المسألة السابعة عشرة في التهافت

    • مفهومان مختلفان للإمكان (الموجهات)

    • الاحتمال من العادة والأسباب الوسيطة

  • المراجع

  • أدوات أكاديمية

  • مصادر أخرى على الإنترنت

  • مداخل ذات صلة


  1. حياته

يقول مؤرخو للعصور الوسطى المتأخرون من المسلمين إن أبا حامد محمد بن محمد الغزالي ولد في 1058 أو 1059 بمدينة طوس (15 ميلاً شمال مدينة مشهد الإيرانية الحالية)، لكن إشاراتٍ إلى عمره في رسائله وسيرته الذاتية تُشير إلى أنه ولد في 1055 أو 1056 (Griffel 2009, 23–25). تلقى الغزالي تعليمه المبكر في مسقط رأسه، طوس، مع أخيه أحمد (1060-1123 أو 1126 تقريباً) الذي أصبح واعظاً وعالماً صوفياً ذائع الصيت. ثم درس محمد على يد الجويني (1028-85)، المتكلم الأشعري البارز في المدرسة النظامية بالقرب من نيسابور، ما أتاح له الاحتكاك ببلاط السلطان السلجوقي ملكشاه (حكم بين 1071-92) ووزيره الكبير نظام الملك (1018-92). وفي 1091، عيَّن نظام الملك الغزالي في المدرسة النظامية المرموقة ببغداد. وبالإضافة إلى كونه من المقربين إلى السلطان السلجوقي وبلاطه بأصفهان، أصبح الآن شديد الاتصال ببلاط الخليفة ببغداد. وكان بلا شك أكثر المفكرين تأثيراً في زمانه حين تخلى في 1095 فجأة عن مناصبه في بغداد وغادر المدينة. وتحت تأثير الكتابات الصوفية، بدأ الغزالي في تغيير نمط حياته قبل مغادرته بعامين (Griffel 2009, 67)؛ إذ أدرك أن المعايير الأخلاقية السامية والحياة الدينية الفاضلة لا تتلائم مع خدمة السلاطين والوزراء والخلفاء. فينضوي الانتفاع من أغنياء الجيش والنخبة السياسية على التواطؤ مع حكمهم الفاسد القمعي، ويعرِّض سعي الإنسان إلى النجاة في الآخرة للخطر. وعندما غادر الغزالي بغداد في 1095، ذهب إلى دمشق والقدس، وأقسم عند قبر إبراهيم بمدينة الخليل ألا يعود إلى خدمة السلطات السياسية مرة أخرى أو يدرِّس في المدارس الرسمية. لكنه استمر في التدريس في مدارس صغيرة (تدعى زوايا) تقوم على التبرعات الخاصة. وبعد أداء الحج في 1096، عاد الغزالي عبر دمشق وبغداد إلى مسقط رأسه طوس، حيث أنشأ مدرسة خاصة صغيرة وخلوة صوفية (خانقاه). وفي 1106، في بداية القرن السادس الهجري، حنث الغزالي بقسمه وعاد إلى التدريس في المدرسة النظامية الرسمية بنيسابور، حيث كان هو نفسه طالباً في الماضي. وقد برَّر خطوته هذه لأتباعه بتشوش العقيدة بشكل الكبير في أذهان العوام وضغط البلاط السلجوقي (al-Ghazâlî 1959a, 45–50 = 2000b, 87–93). واعتبر الغزالي نفسه أحد مجددي (محيي) الدين، الذين يأتون، وفقاً للحديث، على رأس كل قرن جديد. وفي نيسابور، أثارت أنشطة الغزالي التعليمية الكثير من الجدل، الذي نجم عن المعارضة لآرائه، خاصة المذكورة في أشهر كتبه: “إحياء علوم الدين“، واتهامه بالتأثر بالفلسفة. على إثر ذلك، استُدعي الغزالي للدفاع عن نفسه أمام السلطان السلجوقي سنجر (توفي في 1157). لكن الأخير برأه من جميع التهم وأيده نشاطه التدريسي بنيسابور (Garden 2014: 143–168). وفي هذه الواقعة، طلب الغزالي مرة أخرى إعفائه من التزاماته تجاه المدرسة النظامية، لكن رُفض طلبه. وطوال هذا الوقت، استمر في التدريس بزاويته بطوس، حيث توفي في ديسمبر/تشرين الأول سنة 1111 (Griffel 2009, 20–59).

 

  1. حكاية الغزالي لمذاهب الفلسفة

بعد أن صنع لنفسه شهرة بوصفه مؤلفاً كُفئاً للأعمال الفقهية، نشر الغزالي في 1095 تقريباً عدداً من الكتب التي تحدث فيها عن التحديات التي تمثلها الفلسفة والعقيدة الإسماعيلية الشيعية. وقد نتجت حركة الفلسفة (من الكلمة اليونانية: فيلوصوفيا philosophía) عن ترجمة الكتابات الفلسفية والعلمية اليونانية إلى العربية بين القرن الثامن وأوائل القرن العاشر. وكان الفلاسفة العرب ورَثة لتراث العصور القديمة المتأخرة، التي فهمت أعمال أرسطو بواسطة المصطلحات الأفلاطونية المحدثة. في الفلسفة، ركز المترجمون من اليونانية إلى العربية على أعمال أرسطو، وعلى الرغم من ترجمة بعض النصوص الأفلاطونية المُحدثة إلى العربية، أبرزها كتاب أثولوجيا أرسطو الذي هو تاسوعات أفلوطين، والذي نُسب في الواقع إلى أرسطو خطأً، فكانت أبرز المساهمات الأفلاطونية المحدثة التي وصلت إلى العرب عن طريق شارحي أعمال [فيلسوف] ستاغيرا (Wisnovsky 2003, 15)[3]. وكانت الفلسفة حركة شارك فيها المؤلفون المسيحيون والمسلمون، وحتى الوثنيون. وبعد القرن الثاني عشر، ضمَّت أيضاً مؤلفين يهود. ولأسباب ستظهر لاحقاً، ركَّز الغزالي تعليقاته على الفلاسفة المسلمين. في أوائل القرن العاشر، طوَّر الفارابي فلسفة تعنى بنظام الكون تتحدى قناعات رئيسية لدى المتكلمين المسلمين، أبرزها ما يتعلق بخلق العالم في الوقت  والصفة الأصلية للمعلومات التي يكشفها الله للأنبياء. ومتابعاً لأرسطو، قال الفارابي إن العالم لا أول له (قديم) وأن الأفلاك العلوية، على سبيل المثال، تتحرك منذ الأزل. ويعبِّر الأنبياء والأديان التي جاؤوا بها عن نفس الأفكار التي يعبر عنها الفلاسفة في تعاليمهم، لكن الأنبياء يستخدمون طريقة التمثيل لتسهيل هذه الحكمة على العامة. وتابع ابن سينا طريقة الفارابي وطوَّر طرحه في ما وراء الطبيعة والنبوة إلى درجة توفر تفسيراً شاملاً لجوهر الإله وأفعاله، إلى جانب النفسية التي تقدم رواية تفصيلية لكيفية تلقي الأنبياء للمعارف وكيف يؤدون المعجزات، على سبيل المثال، التي تؤكد مهمتهم. وتوفر فلسفة ابن سينا تفسيراً فلسفياً لعقائد رئيسية لدى للمسلمين مثل التوحيد ومركزية الأنبياء بين البشر.

في سيرته الذاتية، يكتب الغزالي أنه خلال فترة تدريسه في نظامية بغداد درَس أعمال الفلاسفة على مدى عامين قبل أن يكتب “تهافت الفلاسفة” في العام الثالث (Ghazâlî 1959a, 18 = 2000b, 61). لكن من الصعب تصديق أن الغزالي لم يبدأ في شغل نفسه بالفلسفة إلا بعد التدريس في النظامية ببغداد، وهي رواية دفاعية وتهدف إلى إنكار دعوى منتقديه أنه تعلم الفلسفة قبل الانتهاء من تعليمه الديني. والأرجح أنه تعرف على الفلسفة أثناء دراسته على يد الجويني، الذي تُظهر أعماله بالفعل تأثراً بابن سينا. ويعد رد الغزالي على الأرسطية بكتابه “تهافت الفلاسفة“، عملاً بارزاً بين الكتابات الفلسفية، الذي ربما استغرقت كتابته عقوداً. كذلك، قدَّم الغزالي أعمالاً أخرى أورد فيها نقولات أمينة لتعاليم الفلاسفة، وصل إلينا اثنان منها. أولهما، عبارة عن نبذة كاملة تقريباً من كتاب طويل ينسخ الغزالي فيه أو يعيد صياغة مقاطع من أعمال الفلاسفة، ويضيف إليها نقل شامل لمذاهبهم في الميتافيزيقا (Griffel 2006, al-Akiti 2009). ولا تحمل هذه النبذة مع الأسف عنواناً. والعمل الثاني، “مقاصد الفلاسفة“، عبارة عن ترجمة عربية مُعدَّلة لأجزاء عن المنطق والميتافيزيقا والطبيعيات من كتاب “الرسالة العلائية” (“دانِشْنَامَه علائي”) الذي كتبه ابن سينا بالفارسية (Janssens 1986). وكان ثمة افتراض في السابق أن كتابة “مقاصد الفلاسفة” كانت دراسة تمهيدية لعمله الرئيسي “تهافت الفلاسفة“. لكن لا يمكن التمسك بهذا الافتراض بعد الآ، فكلا العملين مرتبطان ارتباطاً ضعيفاً جداً بنص “تهافت الفلاسفة“. إذ يستخدم كلٌ من كتابي التهافت والمقاصد مصطلحات مختلفة، ويعرض الأخير مادته بطرق لا تدعم النقد الذي ينضوي عليه التهافت (Janssens 2003, 43–45). وربما كان “مقاصد الفلاسفة” نصاً غير مرتبط في البداية بالتهافت أو أن صياغته وضعت بعد تأليف الأخير، ولا يظهر ارتباط بالتفنيد الذي في التهافت سوى في مقدمته وشرحه المختصر، ومن شبه المؤكد أن هذه الأجزاء كُتبت (أو أُضيفت) بعد نشر التهافت (Janssens 2003, 45; Griffel 2006, 9–10)

وقد ترجم كتاب “مقاصد الفلاسفة” إلى اللاتينية في الربع الثالث من القرن الثاني عشر، وإلى العبرية مرة في 1291، ومرتين أُخرتين على الأقل خلال الخمسين سنة التالية. وحققت هذه الترجمات نجاحاً أكبر بكثير من الأصل العربي. وفيما ظهرت عدد من الكتابات العربية التي تابعت هدف عرض النظام الفلسفي لدى ابن سينا (وسريعاً ما عكفت على تطويره أيضاً)، لم تُترجم أياً منها إلى اللاتينية، وأُتيح القليل جداً منها بالعبرية. وكمسلك التراث العبري، طغت الترجمات اللاتينية لكتاب “مقاصد الفلاسفة” على كتابات الغزالي الأخرى. وأشارت الترجمة اللاتينية أحياناً إلى “ Summa theoricae philosophiae  Algazelis”أو “ Logica et philosophia Algazelis” على اعتبار أنه المؤلَّف الوحيد للغزالي الذي تُرجم خلال فترة انتقال الفلسفة العربية إلى أوروبا المسيحية (وقد حُرر الجزء المتعلق بالمنطق في Lohr 1965). وقد تُرجمت على يد دومينجو جونديسالبو  (1190م) الطليطلي بالتعاون مع شخص أشار إليه بـ “ماجستير يوهانيس” (1215م)، والمعروف أيضاً باسم يوهانس هيسبانس (أو هيسبالينسيس)، وهو على الأرجح مسيحي متعرب (مستعرب)، الذي كان كبير الكهنة في كاتدرائية طليطلة بين 1180 و1190 (Burnett 1994).

ويبدو أن كلا المترجمين قد حذفا المقدمة القصيرة والاختصار اللذين يصفان الكتاب باعتباره حكاية مهملة لمذاهب الفلاسفة. ويُظهر عدد ضئيل من المخطوطات اللاتينية إشارات إلى أن هذه الترجمة خضعت للتنقيح خلال القرن الثالث عشر (Lohr 1965, 229)، ولم تنقل سوى واحدة منها فقط الترجمة اللاتينية لمقدمة الغزالي الأصلية (حُررت في Salman 1935, 125–27). ومع ذلك، لم يكن لذلك أي تأثير تقريباً في استقبال النص (Salman 1935)، ولا تتضمن النسخة المتداولة بين قراء اللاتينية تصريحات الغزالي الاحترازية (al-Ghazâlî 1506). وهكذا أخفى الكتاب طبيعته باعتباره حكاية لمقاصد ابن سينا، واعتُبر مؤلفه تابعاً مخلصاً لابن سينا، نجح في إنتاج خلاصة متقنة لفلسفته. وخلال أواخر القرن الثاني والثالث والرابع عشر، كان “مقاصد الفلاسفة” مصدراً رئيسياً لمذاهب الفلاسفة العرب في كتب لمؤلفين مثل ألبرت الأكبر (d. 1280) وتوماس الأكويني (d. 1274)، وكان جوهري لتطور مذاهب الفلسفة اللاتينية. وظل الكتاب مستخدماً من حين لآخر خلال القرن الخامس عشر، بل وحتى في كثير من الأحيان خلال القرن السادس عشر (Minnema 2014; Alonso 1958; d’Alverny 1986). وعادة ما يُعزى تعريف الغزالي بأنه واحد منهم إلى محدودية معرفة العلماء اللاتينيين بما يتعلق بمؤلفي النصوص التي يقرؤونها. لكن افتراض أن “مقاصد الفلاسفة” ليس مجرد حكاية لمذاهب الفلاسفة، وإنما ممثلاً لآراء الغزالي الحقيقية في الفلسفة، لم يقتصر على التراث اللاتيني. فثمة مخطوطات عربية تعزي نصاً مشابهاً لـ”مقاصد الفلاسفة” إلى الغزالي دون ذكر أن التعاليم المذكورة فيها مجرد حكاية مهملة. وقد أُنتجت أقدم هذه المخططات في بداية القرن الثالث عشر بمدينة المراغِه، وهي مركز علمي مهم بشمال غرب إيران، متاحة في نسخة طبق الأصل (Pourjavady 2002, 2–62). وتُظهر أن الفلسفة ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالغزالي حتى في التراث العربي. وربما ترجع جذور الظن بأن الغزالي كان تابعاً لابن سينا إلى موقف بعض القرَّاء العرب لمؤلفات الغزالي، الذين اعتبروه تابعاً أقرب للفلاسفة منه لاتجاهات التراث العربي السائد.

وفي العديد من الإصدارات العبرية، كان “مقاصد الفلاسفة” للغزالي (تحت عنوان De’ôt ha-fîlôsôfîm وKavvanôt ha-fîlôsôfîm) أحد أكثر النصوص الفلسفية انتشاراً بين اليهود في أوروبا (Steinschneider 1893, 1:296–326; Harvey 2001). وضم إليه إسحاق البلاغ، معتنق المدرسة الرشدية والمترجم اليهودي لأول إصدار عبري عام 1292، مقدمته وملاحظاته المُسهبَة على النص (Vajda 1960). فجذب هذا -إلى جانب الترجمتين العبريتين الأخرتين- عدداً كبيراً من الشُرَّاح، بما فهيم موسى ناربوني (المتوفى سنة 1362)، والذي كان نشطاً في جنوب فرنسا وإسبانيا، وموسى الموسنينو (1580م) من مدينة سالونيك (Steinschneider 1893, 1:311–25). وظل كتاب الغزالي نصاً مشهوراً حتى القرن السادس عشر، وما تزال أكثر من 75 مخطوطة من الترجمات العبرية موجودة (Eran 2007, Harvey 2015: 289). ورأى بعض العلماء اليهود، مثل عالم القرن الرابع عشر هاسداي كريسكاس، في هذا النص السيناوي بديلاً مرحَباً به لآراء ابن رشد المنتشرة بنفس القدر (Harvey and Harvey 2002; Harvey 2015: 300–302). وفي الحقيقة، ربما يكون الإصدار العبري من “مقاصد الفلاسفة” قد حل بحلول القرن الخامس عشر محل ابن رشد في اعتباره المصدر الأشهر بين اليهود لدراسة الطبيعيات الأرسطية (Harvey 2015: 289). ورُغم إبراز الترجمات العبرية لطبيعة الكتاب باعتباره نقلاً، كما فعل التراث اللاتيني، فقد اعتُبر  الغزالي متابعاً أشد للفلسفة منه للتراث العربي السائد. فعلى سبيل المثال، أتاحت الترجمة العبرية على نطاق واسع ترجمة لنص منسوب للغزالي، يجيب فيه المؤلف على أسئلة حول الفلك والكونيات بإجابات بعيدةً جداً عن المذهب الأشعري وأقرب إلى الأرسطية (Langermann 2011). ويوجد هذا النص العبري واسع الانتشار نسبياً (المحرر والمُترجم في al-Ghazâlî 1896)، الذي يُشار إليه باسم “الأسئلة والأجوبة” (تيشوفوت شؤالوت) أو بعد ذلك باسم “الأجوبة العبرية” (Hebrew Ajwiba)، في 11 مخطوطة عبرية (Harvey 2015: 298). ولا يُعرف أصله العربي إلا من عدد قليل جداً من المخطوطات، من بينها مخطوطات المراغِه (Pourjavady 2002, 63–99). وتنتشر الروايات القائلة إن الغزالي دَرَّس المذاهب الفلسفية التي أدانها بوضوح في “تهافت الفلاسفة” بشكل كبير نسبياً في التراث العبري (Marx 1935, 410, 422–24). فعلى سبيل المثال، اعتقد موسى ناربوني أن الغزالي استخدم حيلة لتدريس الفلسفة في وقت كان ذلك، وفقاً لناربوني، محظوراً رسمياً. ومن خلال التظاهر بالرد على الفلسفة في “التهافت”، أمكنه تبرير كتابة “المقاصد”. وبالتالي، يظن ناربوني أن “مقاصد الفلاسفة” هو عمل الغزالي الرئيسي في الفلسفة، فيما كان “تهافت الفلاسفة” مجرد أساس لإضفاء الشرعية على المنشور السابق عليه من خلال ادعاء أن بيان فساد شيء يجب أن يعتمد على الإحاطة بهذا الشيء (Chertoff 1952, part 2, 6–7). وأدى ميل بعض المؤلفين العبريين إلى إبعاد الغزالي عن انتقاد الفلسفة الذي عبر عنه في “التهافت” إلى نقل أبراهام جافيسون، العالم اليهودي الجزائري (الذي عاش في القرن السادس عشر)، خطأً أن الغزالي كان مؤلف كلٍ من “التهافت” ونقده “تهافت التهافت” الذي كتبه ابن رشد (Gavison 1748, fol. 135a). وإلى جانب مقاصده وتهافته، المترجمين في 1411 والنص المعروف باسم “الأسئلة والأجوبة” (المشكوك في نسبته إلى الغزالي)، تُرجم عملان آخران للغزالي على الأقل إلى العبرية، وهما: مشكاة الأنوار وميزان العمل (Steinschneider 1893, 1:326–48, the text Moznei ha-’iyyunîm mentioned there is not by al-Ghazâlî).

 

  1. رد الغزالي على الفلاسفة والإسماعيلية

يصف الغزالي كتاب “تهافت الفلاسفة” بأنه “رد” على الحركة الفلسفية (Ghazâlî 1959a, 18 = 2000b, 61)، وهو ما ساهم في الافتراض الخاطئ بأنه يعارض الأرسطية ويرفض آراءها. لكن رده على الفلسفة كان أعقد بكثير، ومكَّنه من تبني الكثير من آراءها. ويشكو الغزالي في بداية التهافت من اقتناع الفلاسفة بأن طرق معرفتهم المبنية على “البرهان” أرقى من المعرفة الدينية المأخوذة من طريق الوحي وتفسيره المنطقي. وأن هذه القناعة أغرت “طائفة” من الفلاسفة المسلمين، فتجاهلوا الإسلام ورفضوا الشعائر والشريعة. ويناقش في التهافت عشرين مسألة رئيسية ويرفض دعوى أن هذه الآراء برهانية. في النقاش الفلسفي المفصَّل، استهدف الغزالي إظهار أن ما من مسألة من بين تلك المسائل العشرين تفي بالمعايير المعرفية السامية للبرهان التي وضعها الفلاسفة لأنفسهم، وإنما تعتمد الحجج الداعمة لتلك المسائل العشرين على فرضيات غير مثبتة يقبلها الفلاسفة، لكنها غير مثبتة بالمنطق. وبإظهار بأن هذه الآراء قائمة على مجرد حجج جدلية، يهدف الغزالي إلى هدم ما اعتبره غطرسة معرفية من جانب الفلاسفة. وفي التهافت، يرغب الغزالي في إظهار أن الفلاسفة يدورن في فلك التقليد، بمعنى تكرار هذه الآراء التي وضعها مؤسسي حركتهم دون اختبارها بشكل ناقد (Griffel 2005).

تركز الحجة الأولى في التهافت على الضروريات والطبيعة المثبتة في للحجج المدحوضة فيه. وفيما يعرِّج الكتاب أيضاً صدق هذه المعارف، يدحض العديد من الآراء التي يقر الغزالي بصوابها أو التي أيدها هو نفسه في أعماله التالية. وبهذا، يرغب الغزالي في إظهار أنه فيما تعتبر بعض المعارف الفلسفية المعينة سليمة وصحيحة، فهي غير مُثبتة. والمصدر النهائي لمعارف الفلاسفة عن طبيعة الصانع أو الروح أو الأفلاك العلوية، على سبيل المثال، هو الوحي الذي تلقاه الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وموسى. ووصلت معارفهم إلى كتب الفلاسفة القدماء الذين ادعوا زوراً اكتسابها عن طريق العقل وحده.

ومن بين العشرين مسألة في التهافت، كان ست عشرة منها حول مذاهب الفلسفة في ما وراء الطبيعة (الإلهيات) وأربع تبدو  حول العلوم الطبيعية (الطبيعيات). وسيأتي تفصيل النقاش الذي دار في القرن السابع عشر حول السببية فيما بعد. أما أطول وأهم نقاش، فهو الأول الذي يتعامل مع حُجج ابن سينا والفارابي المدافعة على قِدَم العالم (Hourani 1958, Marmura 1959). ويرفض الغزالي إمكانية إثبات هذا المذهب بالبرهان ويستعين بحجج طورها نُقَّاد سابقين مخالفين لأرسطو، مثل المسيحي جون فيلوبونوس السكندري (يحيى النحوي 490-570م). فقد دخلت حجج فيلوبونوس، وأهمها تلك التي ترفض إمكانية وجود حوادث لا أول لها في الأزل، إلى التنظير العربية في مسألة خلق العالم في وقت أبكر خلال القرن التاسع (Davidson 1987, 55–56, 86–116, 366–75).

في نهاية التهافت يتساءل الغزالي عما إذا كانت المسائل العشرون التي نوقشت في الكتاب تتعارض مع أحكام الشريعة. ويقول إن معظمها خطأ، ومع ذلك لا تعتبر مشاكل خطيرة في نظر الدين، حيث يجب اعتبارها “بدع” (جمع بدعة). وتُعتبر مجموعة صغيرة من مذاهبهم خاطئة ومُشكِلة أيضاً من الناحية الدينية. وهذه المذاهب الثلاث من فلسفة ابن سينا، وهي (1) أن العالم ليس حادثاً ولم يخلق في وقت ما، (2) وأن علم الله يشمل أنواع المخلوقات (الكليات) ولا تمتد معرفته إلى الأشخاص الفردية وعوارضها (الجزئيات)، (3) وأنه بعد الموت لن تعود أرواح البشر إلى الجسد مرة أخرى.

يقول الغزالي إنه في هذه المسائل الثلاثة، تُشير تعاليم الإسلام، المعتمدة على الوحي، إلى العكس، وبالتالي يرفض دعاوى الفلاسفة التي لا أساس لها. وعلاوة على ذلك، قد تُضل هذه المذاهب الثلاثة العامة وتدفعهم إلى إهمال الأحكام الشرعية (الشريعة) وبالتالي فهي خطر على المجتمع (Griffel 2000, 301–3). وأداءً لوظيفته بوصفه فقيهاً مسلماً، يُزَيِّل الغزالي التهافت بفتوى مختصرة ويعلن أن كل من يُلقِّن هذه المذاهب الثلاثة للعامة كافر ومرتد عن الإسلام يُمكن قتله (al-Ghazâlî 2000a, 226).

وتصل جهود الغزالي في التعامل مع الحركة الفلسفية إلى تبيين حدود التسامح الديني في الإسلام. فعقب التهافت، ألَّف كتاباً مشابهاً عن الحركة الإسماعيلية الشيعية، المعروفة بالباطنية (“وهم من يُؤولون الإسلام بحسب المعنى الباطني للقرآن”). ففي البداية، دعم الإسماعيلية الخلافة الفاطمية المضادة بالقاهرة، وعارضوا السلطة السياسية والدينية للخليفة السني ببغداد والسلطان السلجوقي الذي نصَّبه. لكن خلال حياة الغزالي، أصبحت “الدعوى الجديدة” للإسماعيليين في العراق وإيران الآن مستقلة عن المركز في القاهرة وطوَّرت استراتيجيتها الخاصة.

ومن العناصر الأساسية في جهودهم لإقناع الناس بمعسكرهم، التي لم تكن فاشلة بالكامل، نقدهم للإدراك الحسي والحجج العقلية (al-Ghazâlî 1954, 34; 1964b, 76, 80). كان الغزالي على دراية وثيقة بجهود الدعاية الإسماعيلية، لكنه لم يملك على الدوام معلومات موثوقة عن مذاهبهم في الكونيات والميتافيزيقا. وقد تأثرت مذاهبهم بشدة بالمفاهيم الكونية في التراث الغنوصي في العصور القديمة المتأخرة والأفلاطونية المحدثة (Walker 1993, de Smet 1995). ويبدو أن المعلومات التي كانت بين يدي الغزالي كان قد تلقاها من الكتابات الفارسية للفيلسوف والداعية الإسماعيلي ناصر خسرو (1057م)، الذي عاش في الجيل المتقدم على جيل الغزالي بمدينة بلخ في خرسان، وفي منطقة جبال بامير النائية (Andani 2017). لكن الغزالي لم يعرف عن فرق الحركة. ففي كتابه “فضائح الباطنية“، ينظر عن كثب في تلك المذاهب التي يعرفها، ويناقش ما يُعد منها خطأً  وحسب وما يُعد كفراً. ويفترض، خطأً، أن الدعاة الإسماعيليين ينشرون الإيمان بإلهين. لكن هذا ليس سوء فهم بدرجة كبيرة من ناحية الغزالي، بل تشويه متعمد قائم على خطاب طويل من التنظير المناهض للإسماعيليين (Andani 2017: 193). وتؤدي هذه المثنوية المفترضة وإنكار الإسماعيلية لبعث الأجساد في الآخرة إلى شجب الغزالي لهم بالكفر والردة كفَّاراً مرتدين عن الإسلام (al-Ghazâlî 1964b, 151–55 = 2000b, 228–29).

 

  1. مكانة الفلسفة في الإسلام

في محاولته لتبيين حدود الإسلام، تحدث الغزالي عن عدد محدود من المذاهب التي خرجت عن الحدود في رأيه. وفي كتابه “فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة“، ويوضح أن المذاهب التي تنتهك “أصول العقيدة” هي فحسب التي يجب الحكم عليها بالكفر والردة. وتنحصر هذه المذاهب في ثلاثة: التوحيد، ونبوة محمد، ووصف القرآن للحياة الآخرة (al-Ghazâlî 1961, 195 = 2002, 112). ويؤكد على أن كل المذاهب، بما فيها المذاهب المخطئة أو  التي تعتَبر “بدعة في الدين” يجب أن تُعامل بتسامح. ومرة أخرى، يضيف الغزالي أن المذاهب الأخرى ربما تكون صحيحة، رُغم خلفيتها الفلسفية، مثلاً، ويجب أن يقبلها المجتمع المسلم. ويجب الحكم على كل رأي على حدة، وإذا تبينت صحته وتوافقه مع الوحي يجب تبنيه (al-Ghazâlî 1959a, 25–27 = 2000b, 67–70). ويفتح هذا الموقف تطبيق واسع النطاق للمذاهب الأرسطية في أعمال الغزالي في العقيدة والقيم الإسلامية.

كان لتفنيد الغزالي للفلاسفة والإسماعيلية مكوناً سياسياً واضحاً. ففي كلتا الحالتين، كان يخشى من أن أتباع هاتين الحركتين ومَن يفهمونهما بشكل سطحي قد يعتقدون أن بإمكانهم إهمال أحكام الشريعة. وفي حالة الإسماعيليين، امتلك دافعاً عقدياً إضافياً. فضمن دعايتهم الدينية، تحدى الإسماعيلية بوضوح سلطة العقيدة السُنية، متهمين إياها بالتعسف في تكهناتها الدينية وتفسيراتها للنصوص. وقالوا إن المتكلمين السنة يُخضِعون كلام الله لأحكام تبدو عقلية، لكنها مجرد هوى، وإن هذه حقيقة تظهر بواضح في وقوع الخلاف كثيراً بين متكلمي السنة. فلا توجد حجة عقلية أقوى من الحجة العقلية التي تعارضها، وفق ادعاء الإسماعيلية؛ لأن جميع البراهين العقلانية متساوية (تكافؤ الأدلة). ولا يمكن تعيين اليقين إلا بكلمة الإمام الشيعي المعصوم من الله (al-Ghazâlî 1964b, 76, 80 = 2000b, 189, 191). ورداً على هذا الانتقاد، قدَّم الغزالي فكرة أرسطو عن البرهان. وقال إن المتكلمين السنة يختلفون مع بعضهم البعض لأنهم غير معتادين إلى حد كبير على أسلوب البرهان. وبالنسبة للغزالي، يُستخدم العقل بأقصى قدر من الوضوح والدقة من خلال صياغة حجج برهانية، تصل إلى درجة لا يمكن معها الشك في نتائجها.  وكتب في إحدى رسائله لتلميذٍ له تُدُولت لاحقاً باعتبارها رسالة مستقلة: “لا يكذب برهان العقل أصلاً” (Griffel 2015: 110-112). وهذا يعني أيضاً أن نتائج الحجج  الصحيحة لا يمكن أن تتعارض مع الوحي؛ إذ لا يمكن اعتبار لا العقل ولا الوحي خطأً. وإذا أثبتت الحجج شيئاً يعارض المعنى الحرفي للوحي، يجب على المجتهد تأويل ظاهر النص وقراءته باعتباره مجازاً لحقيقة أعمق. فثمة، على سبيل المثال، حجج صحيحة تثبت أن الله لا يمكن أن يكون له “يد” أو أنه يجلس على “عرش”. وهو ما يدفع المجتهد المسلم إلى تفسير النصوص القرآنية بحيث تظهر هذه الكلمات بوصفها مجازات (al-Ghazâlî 1961, 175–89 = 2002, 96–103). لكن، لا يُسمح بتأويل الوحي الذي لا تمنع الحجج الصحيحة معناه الظاهري (Griffel 2000، 332–35؛ 2009، 111–16).

وقد تُلقي قانون الغزالي لحل التعارض الظاهري بين العقل والمعنى الحرفي للوحي بالقبول عند كافة المتكلمين المسلمين المتأخرين عنه تقريباً، خاصة مَن يميلون للعقلانية. أما ابن تيمية (1263–1328)، فانتقد قانون الغزالي من زاوية أثرية. حيث رفض (1980, 1:86–87) إشارة الغزالي إلى تقديم العقل على النص في حالة التعارض. ولاحظ أن حجج الغزالي نفسها التي تُحيل استواء الله على العرش (255، سورة البقرة[4])، على سبيل المثال، لم تكن برهانية. ويرفض ابن تيمية بشكل قاطع إمكانية وقوع التعارض بين العقل والوحي، ويؤكد على أن تصور وقوع مثل هذا الخلاف ينتج عن إخضاع الوحي لمقدمات لا يقبلها هو نفسه (Heer 1993, 188–92).

من جهة الفلاسفة، قبل ابن رشد قانون الغزالي للتوفيق بين تعارضات العقل مع ظاهر الوحي، لكنه يختلف معه في ما خلُص إليه حول ما يمكن وما لا يمكن إثباته (Griffel 2000, 437–61). وألَّف ابن رشد نقد لتهافت الغزالي أسماه “تهافت التهافت“. وقد تُرجم مرتين إلى اللاتينية في عام 1328 و1526، وكانت الترجمة الأخيرة معتمدة على ترجمة عبرية سابقة (Steinschneider 1893, 1:330–38). وحملت كلٌ من الترجمتين اللاتينيتين عنوان “Destructio destructionum” (حُررت الأخيرة في Averroes 1961). وطبعتا طَبعات عديدة خلال القرن السادس عشر وجعلت نقد الغزالي لأرسطو معروفاً لدى متابعي ابن رشد في عصر النهضة. فعلى سبيل المثال، كتب الإيطالي أغسطينو نفو (1473-بعد 1538 تقريباً) شرحاً لاتينياً على كتاب ابن رشد. وفيما قبل ابن رشد مبدأ أن البرهان الصحيحة وحده الذي يقوى على تفسير القرآن بشكل مجازي، تمسَّك بأن أرسطو تمكن بالفعل من إثبات قِدم العالم، ما يؤهله وفقاً لقانون الغزالي لأن يكون عقيدة فلسفية وكذلك دينية. ويلاحظ ابن رشد أيضاً أنه لا يوجد نص واضح في القرآن  على حدوث العالم (Averroes 2001, 16). كان الغزالي مدركاً تماماً لهذا، لكنه افترض أن هذه العقيدة تأسست من خلال إجماع علماء الكلام المسلمين (Griffel 2000, 278, 429–30; 2002, 58). وحينما أدان الغزالي قدم العالم في نهاية “تهافت الفلاسفة“، لم تكن قضية قِدم العالم حاضرة في كتابه التالي الأكثر منهجية عن حدود الإسلام: “فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة”.

 

  1. الأخلاق في “إحياء علوم الدين”

بعد فترة وجيزة من نشر الغزالي لرده على الفلاسفة والإسماعيلية، ترك منصبه بالمدرسة النظامية في بغداد. وخلال هذه الفترة، بدأ في كتابة ما يعتبره أغلب علماء المسلمين أهم أعماله: “إحياء علوم الدين”. وهو دليل شامل من عدة مجلدات للسلوك القويم في حياة المسلمين اليومين (Garden 2014: 63–122). وينقسم إلى أربعة أرباع، يحوي كل منها عشرة كتب. يتناول الربع الأول مع العبادات، والثاني مع العادات، والثالث مع المُهلكات التي يجب تجنُبها، والرابع مع المنجيات التي يجب السعي لتحصيلها. وينتقد الغزالي ضمن الكتب الأربعين من “إحياء علوم الدين” بشدة حب الدنيا. ويُذَّكر قارئه بأن حياة الإنسان ما هي إلا وسيلة ليوم الحساب وأن الثواب أو العقاب يُحصَّل من خلالها. وبالمقارنة بدار الخلود، تعتبر هذه الحياة غير مهمة على الإطلاق تقريباً، لكنها تحدد مصيرنا في العالم القادم. وفي سيرته الذاتية، كتب الغزالي أن قراءة التراث الصوفي جعله يدرك أن قناعاته العقدية وحدها لا علاقة لها بالنجاة في الآخرة. فليست معتقداتنا ونوايانا الصالحة هي ما يهم، وإنما تحدد الفضيلة والأعمال الصالحة مصيرنا يوم القيامة. وقد دفعت هذه الرؤية الغزالي نحو تغيير أسلوب حياته وتبني المسار الصوفي (al-Ghazâlî 1959a, 35–38 = 2000b, 77–80). وفي الإحياء، صنَّف كتاباً حول المعاملات أراد به الابتعاد عن أي تناول معمق للمكاشفات. وهدف به إلى إرشاد المسلمين نحو السلوك القويم الذي سيثيب الله عليه في الدنيا والآخرة (al-Ghazâlî 1937–38, 1:4–5).

وفي الإحياء، يهاجم الغزالي علماء المسلمين، مشككاً في قدراتهم واستقلاليتهم الفكرية علاوة على إخلاصهم العمل طمعاً في الثواب الأخروي. وقد قرَّب هذا الوعي الأخلاقي المتنامي الغزالي من طريقة الصوفية، التي ستؤثر بشدة في أعماله اللاحقة مثل “مشكاة الأنوار“. وتكشف هذه الأعمال التالية تأثراً فلسفياً واضحاً لدى الغزالي. وفي الإحياء، يقدِّم السلوك القويم المعتمِد على تطور الأخلاق الشخصية. فعمل العمل الصالح المستحق للثواب يأتي من صفات النفس المستحقة للنجاة في الآخرة (al-Ghazâlî 1937–38, 1:34.4–5). وينتقد المفاهيم الأكثر تقليدية في الأخلاق السنية التي تقتصر على الامتثال لأحكام الشريعة، والاقتداء بالنبي. وترتبط الأخلاق السنية التقليدية بشدة بالفقه وتقصر نفسها، وفقاً للغزالي، في تقرير وتعليم أحكام الشريعة. وفقهاء السنة التقليديين ما هم إلا “علماء دنيا” غير قادرين على إرشاد المسلمين إلى الطريق الأمثل للفوز في الدار الآخرة (al-Ghazâlî 1937–38, 1:30–38, 98–140).

ضمن أخلاقه، يؤكد الغزالي على أن النبي، خلافاً لأي معلم آخر، يجب أن يكون هو الشخص الذي يقتدي به كل مسلم. ويدعم هذه الفكرة السُنية بمفهوم “رياضة النفس”. فجوهر الإنسان حين يخرج إلى الحياة يكون ناقصاً وخسيساً، ولا يمكن جعل الفضائل طبعاً له إلا بالمجاهدة الصارمة والمعالجة الصبورة (al-Ghazâlî 1937–38, book 23). ويختل توازن طباع القلب بسبب تأثير الآخرين، ويحتاج إلى رياضة وتربية مستمرتين لإبقاء هذه السمات في حالة توازن. لكن خلف هذا النوع من الأخلاق، تقف فرضية الاستعداد entelechy الأرسطي، حيث يملك البشر قدرة طبيعي على اكتساب العقلانية، ومن خلالها يُحصِّلون الفضائل. وينبغي على التعليم والأدب والدين والسياسة تقديم المساعدة في إدراك هذه القدرات. وقد تعرَّف الغزالي على تربية النفس التي تركز على تطوير الصفات الفضيلة من خلال أعمال فلاسفة مسلمين مثل مسكويه (المتوفى عام 1030) والعالم المسلم الراغب الأصفهاني (1025م)، الذي سعى جاهداً لجعل مفاهيم الفلسفة متوافقة مع العلوم الإسلامية الشرعية (Madelung 1974). ونتيجة ذلك، رفض الغزالي على سبيل المثال فرضية أن على المرء تجربة التخلي عن النزعات التي من شأنها أن تكون مُفسدة، كالغضب والشهوة الجنسية. فتلك الغرائز جزء من الطبيعة الإنسانية عند الغزالي، ولا يمكن التخلص منها. وبدلاً عن ذلك، يؤدي تهذيب القلب إلى السيطرة على هذه الصفات من خلال العقل. ويجب أن يظل القلب تحت رياضة دائمة، ويحتاج إلى تدريبه كما يُدَّرب المهر الذي يحتاج إلى الترويض والتأديب والمعالجة بشكل جيد.

ولم يكشف الغزالي أبداً عن الأصول الفلسفية لأخلاقه. وقد رأى هو نفسه علاقة وثيقة بين الأخلاق والفلسفة ومفهوم حياة الفضيلة والزهد في التصوف. ففي الإحياء، يدمج هذين التراثين القِيَميين في مزيج ناجح ومؤثر. وفي سيرته الذاتية، يقول الغزالي إن أخلاق الفلاسفة وأخلاق الصوفية واحدة ومتطابقة. ويضيف أن الفلاسفة أخذوا هذه الأخلاق من الصوفية، يعني بهم المتصوفة الذين كانوا في الأديان القديمة (al-Ghazâlî 1959a, 24 = 2000b, 67)، متماشياً مع رأيه أن العديد من تعاليم وحجج الفلاسفة مأخوذة من الرسالات القديمة وكشوفات الصوفية المتضمَّنة بالفعل في الأديان السابقة على الإسلام (Treiger 2012, 99–101).

من الحقول المهمة التي قدَّم فيها الغزالي أفكار ابن سينا إلى علم الكلام الأشعري بطريقة شجعت هذا التراث في النهاية على تبنيها، التفسير النفسي والعقلي للنبوة (Griffel 2004, al-Akiti 2004). فاعتماداً على ترجمة خاطئة جزئياً لنصوص أرسطو (Hansberger 2011)، طوَّر ابن سينا علم نفس يفترض تألف الروح من عدة أقسام منفصلة. وتختلف قوة أو ضعف هذه الأقسام باختلاف البشر. والنبوة مزيج من ثلاث أقسام تكون في النبي بقوة خارقة للعادة. وتسمح هذه الأقسام أولاً للنبي باكتساب معرفة نظرية فورية دون تعلم، وثانياً بعرض هذه المعرفة من خلال الرموز والأمثلة وكذلك بالتنبؤ بالأحداث المستقبلية، وثالثاً بإحداث آثار خارج جسده كإنزال المطر والزلازل.

توجد هذه الأقسام الثلاثة في كل إنسان بقدر ضئيل، وهي حقيقة أثبتتها تجارب سبق الرؤية (الديجافو)، على سبيل المثال، وهي ظاهرة يُشار إليها في التراث الفلسفي العربي باسم “المنام الصادق”. واعتمد الغزالي هذه المذهب واستغلها لأغراضه (Treiger 2012). فبالنسبة إليه، تفسر أقسام الروح الثلاثة المكونة للنبوة الكشوف الاستثنائية التي ترد للصوفية، ككبار الأولياء، ولا تأتي لغيرهم من البشر. وفيما يملك الأنبياء أقساماً روحية قوية ويملكها البشر العاديون بقوة أضعف، يقف الأولياء بين المرتبتين. فقد وهبوا الإلهام، الذي يشبه النبوة ويعتبره الغزالي أحد أهم مصادر المعرفة البشرية. وعلى خلاف ابن سينا، الذي يمكن عنده للأنبياء وربما بعض الأفراد الموهوبين (بلغته: العارفين) امتلاك نفس المعرفة التي يصل إليها الفلاسفة من خلال الاستدلال البرهاني، يعتبر الغزالي أن بإمكان الأنبياء والأولياء الوصول إلى معرفة تفوق المعرفة المتاحة بالعقل فقط.

رُغم التأثير الفلسفي الكبير على الأخلاق عند الغزالي، فقد التزام في الأحكام الفقهية بالرأي الأشعري القائل إن العقل غير قادر على الحكم على أفعال الإنسان ولا يمكنه الحكم بالحسن أو القبح على فعل معين. فعندما يعتقد إنسان، على سبيل المثال، أنه يعرف أن الكذب قبيح، فما يحدد حكمه هو نظره في المنفعة التي تعود عليه. ففي خصوص القيم الأخلاقية، نميل للخلط بين القيم الأخلاقية والمنفعة. ونميل بشكل عام لافتراض أن النفع العائد على مصالحنا العامة يقتضي الحسن من الناحية القيمية، في حين أن ما يؤذينا بشكل عام قبيح. لكن هذه الأحكام خاطئة في النهاية، ولا يمكن أن تكون أساساً للأحكام الفقهية. والأفعال الحسنة هي ما تستحق الثواب في الآخرة، والقبيحة هي ما تستحق العقاب (al-Ghazâlî 1904–07, 1:61). ولا يمكن معرفة استحقاق أفعال الإنسان للثواب أو العقاب الأخرويين إلا من خلال الوحي (Hourani 1976, Marmura 1968–69). ومثل أغلب العلوم الدينية، يسعى الفقه إلى تعزيز فرص الخلاص في الآخرة؛ لذلك يجب أن يعتمد على القرآن وسنة النبي خلال استخدامه للمنطق والأدوات العقلية الأخرى لاستخلاص القواعد العامة.

كان الغزالي أحد أوائل الفقهاء المسلمين الذين قدموا اعتبار “المصلحة العامة” إلى الفقه الإسلامي. وبالإضافة إلى تطوير دليل واضح لكيفية الفوز بالنجاة في الآخرة، تهدف الشريعة أيضاً إلى خلق بيئة تتيح لكل فرد تحصيل السلامة والسعي لحياة تتسم بالفضيلة والتقوى. ويقول إن الله أوحى بالشريعة، وأنه فعل هذا بقصد صيانة مصلحة الإنسان في هذه الدنيا والآخرة. ويحدد الغزالي خمسة ضروريات للسلامة في هذا العالم: الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وكل ما يحمي هذه “الضروريات الخمسة” يعتبر مصلحة ويجب حفظه، فيما ينبغي تجنب ما يضر بها. وينبغي أن يهدف الفقه إلى حفظ هذه الضروريات الخمس من خلال أحكامه. وفي سعيه للحث على ذلك، يشير الغزالي بالفعل إلى “المصلحة المرسلة”، وهي المنفعة العامة التي لم يرد ذكرُها في نصوص الوحي، معتيراً إياها مصدراً صالحاً للتشريع (Opwis 2007 and 2010, 65–88).

 

  1. علم الكون في إحياء علوم الدين

على الرغم من إحجامه المعلن عن الدخول في مناظرات كلامية، يناقش الغزالي في الإحياء مشاكل فلسفية مهمة تتعلق بالأفعال الإنسانية. ففي الكتاب الخامس والثلاثين “التوحيد والتوكل”، يناقش العلاقة بين عمل الإنسان وقدرة الله المطلقة، كونه خالق العالم. وفي هذا الكتاب وغيره من كتب الإحياء، يقدم الغزالي مذهباً جبرياً صارماً فيما يتعلق بأحداث الكون. فالله خلق وقدَّر كل شيء، بما في ذلك أعمال البشر. والله هو “الفاعل” الوحيد أو “السبب المؤثر” في العالم. وكل حدث في العالم يتبع خطة مُقدَّرة سلفاً معلومة أزلاً في علم الله. وعلم الله متعالي عن الزمان ولا يحتوي على “علوم” متفرقة كالمعرفة البشرية. فلا يتغير علم الله، على سبيل المثال، عندما يتغير موضوعه، أي: العالم. ومع أن الأحداث الواردة في علم الله مرتبة على “قبل” و”بعد”، فلا يوجد ماضي وحاضر ومستقبل؛ إذ تحيط معرفة الله باللحظة الأولى من الخلق تماماً كما تحيط باللحظة الأخيرة. وهو يعرف “منذ الأزل”، على سبيل المثال، ما إذا كان فرد معين سينتهي به المطاف في الجنة أو النار (Griffel 2009, 175–213)

ولأغراض عملية كثيرة، من المناسب للبشر افتراض أن الله يتحكم في كل شيء من خلال سلاسل من الأسباب (Marmura 1965, 193–96). فنحن نشهد في الطبيعة عمليات سببية تنضاف إلى سلاسل أطول من الأسباب. وإن تمكنا من تتبع سلسلة السببية مثل “عابر السبيل متسائل” يتبع سلسلة من الأحداث حتى أصلها، سنُقاد من خلال العمليات السببية إلى الفلك دون القمري، وهو عالم المُلْك، وصولاً إلى الأسباب الموجودة في الأفلاك السماوية، “عالم الملكوت”، حتى نصل أخيراً إلى أعلى عقل سماوي تسبب فيه الموجود الذي وراءه: الله (al-Ghazâlî 1937–38, 13:2497–509 = 2001, 15–33; see also idem 1964a, 220–21). والإله هو نقطة البداية لجميع السلاسل السببية وهو يخلق ويتحكم في جميع العناصر الموجودة فيها. فالله هو “مُسبب الأسباب” (Frank 1992, 18).

يمتد القدر الإلهي “السببي” لجميع الأحداث كذلك ليشمل الأفعال البشرية. فكل عمل بشري ناتج عن إرادة الشخص، التي يسببها دافع معين (داعية). وبالتالي، ترجع إرادة الشخص ودوافعه إلى قناعاته وعلمه. وتنتج المعرفة البشرية من عوامل مختلفة، كتجربة المرء في العالم أو معرفته بالوحي أو الكتب التي قرأها (al-Ghazâlî 1937–38, 13:2509–11 = 2001, 34–37). ولا يوجد حدث واحد في هذا العالم لم تحدده إرادة الله. ورُغم امتلاك البشر لانطباع امتلاكهم لإرادة حرة، فأفعالهم في الواقع مدفوعة بأسباب موجودة داخلهم وخارجهم (Griffel 2009، 213–34).

نظر الغزالي إلى العالم على أنه كتلة من الروابط التي عُقدت جميعاً وخُطط لها بدقة في علم الله المتعالي عن الزمن. فقد خلق الله الكون كآلة ضخمة وهو يسخره لتحقيق هدف معين (قصد). ويشبِّه الغزالي في اثنين من أعماله اللاحقة الكون بساعة مائية. وهنا يصف ثلاث مراحل لإنشائها. فعلى منشئ الساعة المائية أولاً أن يضع مخططاً لها، ثم ثانياً أن ينفذ هذا المخطط ويبني الساعة، وثالثاً عليه أن يجعل الساعة تعمل بتزويدها بمصدر ثابت للطاقة، ألا وهو تدفق الماء. ويجب قياس هذه الطاقة بعناية؛ لأن الكمية المناسبة فقط من الطاقة هي التي ستأتي بالنتيجة المرجوة. وفي خلق الله للكون، تسمى هذه المراحل الثلاث الحُكم، والقضاء، والقدر (al-Ghazâlî 1971, 98–102; 1964a, 12–14). كذلك، صمم صانع الكون العالمَ بمعرفته الأزلية، وأخرجه إلى حيز الوجود في نقطة زمنية معينة، ويمدّه بمدد ثابت ومحسوب من “الوجود”. فوفقاً لتفسير ابن سينا ​​للخلق، الذي لم يكن الغزالي يعارضه، ينتقل “الوجود” من الله إلى أول الخلق وأعلاهم من الناحية الوجودية، ومنه تنطلق سلسلة من الأسباب الثانوية (الوسائط) المؤثرة إلى جميع الموجودات الأخرى. ومع ذلك، من المهم أن نقر بأن الله هو السبب الحقيقي المؤثر  في هذه السلسلة. وأنه “الفاعل” الوحيد، وكل الكائنات الأخرى مسخرةٌ لتحقيق إرادته (Griffel 2009, 236–53).

والطبيعة عملية تتراكب فيها جميع العناصر مع بعضها بشكل متناغم. وتحدد حركة الأفلاك، والعمليات الطبيعية، والأعمال البشرية، وحتى الخلاص في الآخرة “عن طريق السببية”. ويمكن فهم أياً ما سنلاقيه في الآخرة من نعيم أو عقاب، في رأي الغزالي، على أنه أثر عِلّي لأعمالنا في هذا العالم. ففي كتابه الثاني والثلاثين من “إحياء علوم الدين“، يشرح الغزالي كيف أن معرفة القرآن تتسبب في اعتقاد المرء أن الإنسان يُعاقب على السيئات، وكيف أن هذا الاعتقاد قد يتسبب في خلاص الإنسان في الآخرة.

… والاعتقاد [بأن بعض البشر سيعاقبون] سبب لإيقاع الخوف، والخوف سبب للتخلي عن حب دار الغرور والزهد فيها. هذا سبب الوصول إلى القرب من الله، والله هو مسبب الأسباب ومرتّبها.  وتُيسر هذه الأسباب لمن قُدِّر له في الأزل النجاة، بحيث يقوده ترتب الأسباب على بعضها إلى الجنة (al-Ghazâlî 1937–38, 11:2225).

وتتشابه كل هذه المواقف جداً من مذهب ابن سينا (Frank 1992, 24–25). وتابع الغزالي كذلك ابن سينا في اقتناعه بأن هذا الكون هو الأفضل بين جميع العوالم الجائزة، وأنه “ليس في الإمكان أبدع مما كان” (al-Ghazâlî 1937–38, 13:2515–18 = 2001, 47–50). وأدى هذا إلى إشعال نقاش طويل بين المتكلمين المسلمين اللاحقين حول مقصوده بهذه الجملة وما إذا كان الغزالي، في واقع الأمر، محقاً (Ormsby 1984). ومع ذلك، يجب التأكيد على أن الغزالي، خلافاً لابن سينا وخلافاً لفهم فرانك (1992, 55–63)، تمسَّك بشدة بأن لله إرادة حرة حقيقية، وأنه عندما يخلق، يختار بين الممكنات. ولا تُخضِع طبيعة الإله أو ذاته إرادتَه بأي شكل من الأشكال. فإرادة الله المرجِّح غير المرجَّح لكل شيء في هذا العالم.

 

  1. السببية عند الغزالي

استهدف مبحث الكونيات لدى الغزالي حول القدر الإلهي  وسيطرته على الأحداث في خلقه من خلال سلاسل من الأسباب، تأمين عقيدة أهل السنة في مسألة كلية القدرة والقدر الإلهي من انتقادات المعتزلة والشيعة. ويملك البشر فقط انطباعاً بامتلاك الاختيار، لكنهم في الحقيقة مجبورون على اختيار ما قُدِّر أنه الخير من بين الخيارات الممكنة. أما الوجود الجبري لدى ابن سينا، فهو كون كل حدث في العالم المخلوق جائزاً وحده (ممكن الوجود بذاته) لكنه ضرورة بسبب شيء آخر (واجب الوجود لغيره)، ما يقدم تفسيراً مناسباً للقدر تبناه الغزالي دون  غضاضة على الرغم من عدم إقراره بذلك قط وعدم استخدامه لكلمات ابن سينا قط. فعند ابن سينا، يخلق المحرك الأول، وهو الله، كل الموجودات والأحداث الضرورية الأخرى. وعند الغزالي، توجب إرادة الله، المختلفة عن ذاته، كل الموجودات والأحداث في العالم. وأدى تكييف ابن سينا للافتراضات الأساسية في مبحث الكونيات، مع القبول شبه الكامل لعلم النفس والنبوات السيناويين بفرانك (1992, 86) إلى استنتاج أن “معظم أطروحات [ابن سينا] التي رُفضت من وجهة نظر كلامية مُدجَّنة وغير مهمة مقارنةً بأطروحات مَن يتبعهم من الفلاسفة”.

في حين يعتبر علم الكونيات الجبري لدى الغزالي تفسيراً راديكالياًـ لكن مخلص، للتفسير الأشعري للقدر الإلهي الأزلي، فالطريقة التي يكتب بها الغزالي عنه في إحياءه وأعماله اللاحقة تنتهك مبادئ أخرى من مبادئ الأشاعرة وقد أدت إلى الكثير من الارتباك بين الشرَّاح المعاصرين. وسيحاول الجزء المتبقي من هذه المقالة حل المشكلات التفسيرية الحالية وشرح نهج الغزالي المبتكر في السببية.

 

  • 1. العادة مقابل الطبع

رفض الأشعري (873-935)، مؤسس المدرسة الكلامية التي ينتمي إليها الغزالي، الطبع والعلاقات السببية بين الموجودات الحادثة. وفي محاولة راديكالية لتفسير كلية القدرة الإلهية، مزج عدة أفكار طورت في علم الكلام الإسلامي المبكر لما يُعرف بالعادة. فكل الأجسام مكوَّنة من ذرات لا تملك أي صفات أو اعتبارات، لكنها ببساطة تعطي للجسم شكله. وتحتوي ذرات الأجسام أعراضاً (جمع عَرَض) كالوزن والكثافة واللون والرائحة .. إلخ.  وفي علم الكونيات لدى الأشعري، تعتبر كل الأشياء غير المادية “أعراضاً” تحل في “الجوهر”. والذرات التي لها أبعاد متمددة في الفراغ هي فقط التي يمكن أن تكون جواهر. فخواطر الإنسان، على سبيل المثال، تعتبر أعراض تحل في ذرات عقل الإنسان، فيما يحل عرض الإيمان في ذرات القلب. لكن لا يمكن لأيٍ من الأعراض أن يبقى زمنين. وقاد هذا إلى علم كونيات يخلق الإله فيه في كل لحظة للأجسام أعراضها التي تحل فيها. وعندما تنتهي لحظة، يخلق الله أعراضاً جديدة. ولا توجد علاقة سببية بين الأعراض التي خُلقت في اللحظة الثانية بالتي خُلقت في اللحظة التي تسبقها. وإذا استمر الجسم في امتلاك نفس الصفات لزمنين، فالله هو الذي خلق عرضين متماثلين حلَّا في هذا الجسم في كل لحظة من اللحظتين المتتاليتين. وتنتج الحركة والتغير عندما يريد الإله تغيير أوضاع اللحظة السابقة. فحركة الكرة، مثلاً، هي حينما توجد ذرات الكرة مرة أخرى في الزمان الثاني من زمانين على مسافة معينة من الكرة الأولى. وتُحدد المسافة سرعة الحركة. وبالتالي، تقفز الكرة في الملعب على قفزات متعاقبة، وكذلك أطراف اللاعبين وأجسادهم. وينطبق ذلك كذلك على ذرات الهواء حين تهب الريح. ففي كل لحظة، يعيد الإله ترتيب جميع ذرات العالم ويخلق أعراضاً جديدة، وبالتالي يخلق عالماً جديداً في كل لحظة (Perler/Rudolph 2000, 28–62).

وتابع المتكلمين الأشاعرة جميعاً حتى جيل الغزالي، بما فيهم شيخه الجويني، عقيدة العادة التي طوَّرها الأشعري. مع ذلك، تُظهر أحد آخر أعمال الجويني المهداة إلى نظام الملك، وهي العقيدة النظامية، أنه استكشف نماذج أنطولوجية مختلفة، خاصة فيما يتعلق بأفعال البشر (al-Juwaynî 1948, 30–36; Gimaret 1980, 122–28). ويجد النموذج العادي البحت صعوبة في تفسير كيف يمكن للإله محاسبة البشر على أفعالهم إن لم يكونوا متسببين فيها. وباعتباره بديلاً مقبولاً لأنطولوجيا العادة، أخذ الغزالي في اعتباره نموذج الطبع السيناوي. فعندما يريد الإله خلق حدث معين، يسخر بعضاً من مخلوقاته وسائطاً أو “أسباباً ثانويةً”. ويخلق الإله سلاسل من الأسباب المؤثرة، حيث يتسبب أي عنصر أعلى في وجود ما أسفل منه. ويؤكد ابن سينا على استحالة أن تتسلسل أي سلسلة من الأسباب، من أي نوع من الأنواع الأربعة للأسباب، إلى ما لا نهاية في الأزل. فكل سلسلة من الأسباب والمسبَبات يجب أن تتكون من ثلاث عناصر على الأقل: العنصر الأول، والأوسط، والأخير. وفي مثل هذه السلسلة، يكون العنصر الأول فقط هو السبب بالمعنى الحرفي للكلمة لجميع العناصر اللاحقة. فهو يسبب العنصر الأخير في السلسلة، الأثر النهائي، من خلال متوسط واحد أو أكثر، هو العنصر المتوسط في السلسلة. وعند تأمل سلسلة من الأسباب، يعمل تناهي العلل بالنسبة لابن سينا أساساً لإثبات وجود الإله. فتتبع كل الأسباب المؤثرة في العالم، سيؤدي إلى السبب المؤثر الأول، الذي هو في ذاته غير مُسبَب (المحرك الذي لا يتحرك). وعندما يظهر أيضاً أن السبب الأول غير مادي وواحد من الناحية العددية، يكون المرء قد توصل إلى دليل على وجود الله (Avicenna 2005, 257–9, 270–3; Davidson 1987, 339–40).

 

  • 2. المسألة السابعة عشرة في التهافت

يقدم الغزالي فحصاً موجزاً، وشاملاً، للسببية في المسألة السابعة عشرة من كتابه “تهافت الفلاسفة“. ولا تنطلق هذه المسألة من أي نوع معارضة للسببية، بل تهدف إلى إجبار خصوم الغزالي، أي الفلاسفة، على الاعتراف بأن جميع المعجزات النبوية المذكورة في القرآن ممكنةً. وإذا وجد الإقرار بإمكانها، فعلى الفيلسوف المسلم الذي يقبل سطوة الوحي أيضاً قبول أن الأنبياء الذين جاءوا بتلك المعجزات وأن سردية الوحي صادقين. ويقسِّم الغزالي المسألة السابعة عشرة إلى أربعة أقسام مختلفة. ويعرض ثلاثة مقامات لخصومه (المتنوعين) ويناقشها واحداً تلو  الآخر. وكان رده على “المقام الثاني”، وهو مذهب ابن سينا، منقسماً إلى “مسلكين” مختلفين. ويعد التقسيم الرباعي للمسألة السابعة عشرة مهماً لفهمها. فقد ناقش الغزالي مفاهيم مختلفة حول السببية ضمن أربعة نقاشات، ولم يطوَّر رداً واحداً فقط، بل ردين متماسكين.

للاطلاع على مناقشة مفصلة للأقسام الأربعة في المسألة السابعة عشرة، يجب إحالة القارئ إلى الفصل السادس في Griffel 2009 (147–73). وتعطي الصفحات التالية الخطوط العريضة فقط للحجة الإجمالية للغزالي. وفي الجملة الافتتاحية للمناقشة السابعة عشرة، يقدِّم الغزالي المذهب الذي يرغب في دحضه ويحدد العناصر التي يجب أن تتضمنها التفسيرات البديلة للسببية حتى تكون مقبولة بالنسبة إليه. ويعتبر البيان الافتتاحي تحفة من التراث الفلسفي:

الاقتران بين ما يُعتقَد في العادة سبباً وما يعتقَد مسبِباً ليس ضرورياً عندنا. بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر (…). وإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه يخلقها على التساوق لا لكونه ضرورياً في نفسه غير قابل للفرق (al-Ghazâlî 2000a, 166).

يضع الغزالي أربعة شروط يجب أن يفي بها أي تفسير مقبول عنده للعمليات الفيزيائية: (1) العلاقة بين السبب وأثره ليست ضرورية، و(2) يمكن أن يتحقق الأثر بدون هذا السبب بعينه (“لا لكونه غير قابل للفرق”)، و(3) يخلق الله حدثين مقترنين جنباً إلى جنب، و(4) يتبع خلق الله تقدير سابق. وللوهلة الأولى، يبدو للوهلة أن التفسير العادي للعمليات الفيزيائية وحده هو الذي يفي بهذه الشروط الأربعة، وهذه هي طريقة التي فُهم بها هذا البيان في الغالب. لكن أشار رودولف (في Perler/Rudolph 2000, 75–77) إلى أن التفسير العادي ليس الوحيد، بل ثمة أنواع أخرى من التفسيرات التي تفي أيضاً بهذه المعايير الأربعة. وكان المطلب الثالث أغمض، وهو أن الله قد يحتاج إلى خلق الأحداث “مقترنة”. يبدو أن هذه الكلمات تشير بشكل خاص إلى فهم الخلق من منظور العادة، لكن يجب أن يتذكر المرء أن هذه الصيغة تترك  طريقة خلق الله للحوادث غير محسومة. وحتى الفيلسوف السيناوي يرى أن الله يخلق السبب مقترناً بتأثيره، ويفعل ذلك عن طريق الوسائط. ومع إشارة المسألة السابعة عشرة من التهافت إلى العادة باعتبارها تفسيراً محتملاً، فهي تشير أيضاً إلى غيرها. وقد اختار الغزالي ارتباطاً لغوياً معيناً بالتفسير العادي؛ ما دفع العديد من شرَّاح هذه المسألة إلى الاعتقاد بأنه هنا، يحتج لصالحها وحسب.

من المهم أن نفهم أن الغزالي لا ينكر وجود علاقة بين السبب والأثر، بل ينفي صفة التلازم عن هذه العلاقة. ففي المقام الأول من المناقشة السابعة عشر، يقدم الغزالي حجة بقوله إن الملاحظة لا يمكن أن تثبت وجود روابط سببية. ويمكن للملاحظة استنتاج أن السبب وتأثيره يحدثان بشكل متزامن فقط:

والمشاهدة تدل على الحصول عندها، ولا تدل على الحصول بها، وأنه لا علة له سواها (al-Ghazâlî 2000a, 167).

لكن سيكون من الخطأ استنتاج من هذا الحُجة أن الغزالي ينكر وجود الروابط السببية. فمع أنه لا يمكن إثباتها من خلال المشاهدة (أو من خلال أي طريقة أخرى)، فقد تكون موجودة أو غير موجودة. في المقام الأول، يرفض الغزالي الرأي القائل أن الروابط بين السبب المؤثر وأثره ضرورية لذاتها، قاصداً أن السبب المباشر وحده هو المسؤول بالكلية عن الأثر وأنه لا يوجد شيء آخر ضروري لحدوث الأثر. وفي عمل آخر، يصف هذا المذهب بأنه مذهب الدهرية الذي ينكرون أن للعالم سبب أو صانع (al-Ghazâlî 1959a, 19 = 2000b, 61). ويقع مذهب التولد عند المعتزلة، الذي يعني أن الإنسان هو الفاعل الوحيد لأفعاله وآثرها المباشرة، تحت هذا التصنيف أيضاً (al-Ghazâlî 2000, 226.13–14). ومثل العلاقة بين الأب وابنه، حيث الأب ليس هو السبب المؤثر الوحيد لوجود ابنه، كذلك قد توجد علاقات سببية مؤثرة أخرى مشاركة غير السبب الأظهر والأقرب. وقد يكون السبب المؤثر القريب مجرد العنصر الأخير ضمن سلسلة طويلة من الأسباب المؤثرة الممتدة عبر العالم السماوي. وعقول الأفلاك السماوية، التي يُعتقد أن الوحي يشير إليها “بالملائكة”، قد تكون العناصر الوسيطة أو الوسائل في السلاسل السببية التي تبدأ جميعاً من الإله. ويرفض الغزالي مذهبي الدهرية والمعتزلة؛ لأنه لا يأخذ في الحسبان حقيقة أن الإله هو السبب المؤثر النهائي للأثر المشَاهَد. وقد يخلق الإله هذا الأثر مباشرة أو بواسطة الطبع. وفي نقاشه لمثال أنه عندما تلمس النار كرة من القطن فهي تتسبب في احتراقها، كتب الغزالي عن المقام الأول القائل بأن النار وحدها تسبب الاحتراق:

وهذا مما ننكره، بل نقول: فاعل الاحتراق، بخلق السواد في القطن والتفرق في أجزائه وجعله حُراقاً أو رماداً هو الله تعالى، إما بوساطة الملائكة أو بغير وساطة (al-Ghazâlî 2000a, 167).

والطبع[5] خيار ملائم يمكن قبوله عند الغزالي. لكنه لا يقبل آراء ابن سينا، التي ناقشها في المقام الثاني. إذ يمزج ابن سينا الطبع مع الرأي القائل أن العمليات السببية تحدث ضرورةً ووفقاً لطبيعة الأشياء، وليس عن طريق قصد واختيار الأسباب المؤثرة. والأثر المؤثر النهائي في كونيات تقوم على الطبع هو بالطبع الإله. يرى ابن سينا، الخصم في المقام الثاني، الطبع إلى جانب أنه يرى أن الروابط السببية تأتي بالضرورة من طبيعة الموجود الأول. ولا تُخلق عن قصد من الإله واختيار، بل هي أثر ضروري للذات الإلهية.

 

  • 3. مفهومان مختلفان للإمكان (الموجهات)

عندما يكتب الغزالي أن العلاقة بين السبب والأثر ليس ضرورية، فهو يهاجم الوجود الواجب عند ابن سينا لا الوسائط التي يقول بها. وليس الخلاف بينهما حول السببية من هذه الناحية، بل حول الطبيعة الواجبة لمخلوقات الإله. وقد أظهر كوكونين (Kukkonen 2000) ودوتون (Dutton 2001) أن الاثنين بدئا من فرضيات مختلفة تماماً حول الوجوب. فمذهب ابن سينا في الطبع يتبع النموذج الإحصائي لأرسطو، ويربط إمكان وجود الشيء بصدقه عبر الزمن (Bäck 1992). فعبارة غير صحيحة عبر الزمن مثل: “النار تسبب الاحتراق للقطن” تحتوي على استناد ظاهر وخفي لزمن قولها باعتباره جزءاً من معناها. وإذا كانت العبارة صحيحة في أي زمان تقال فيه، فهي بالضرورة صحيحة. وإذا أمكن تغير صحتها مع الزمان، فهي ممكنة. وإذا كانت جملة مماثلة خطأً في أي زمانٍ تُقال فيه،  فهي مستحيلة (Hintikka 1973, 63–72, 84–6, 103–5, 149–53). وفي نظريات الإمكان الأرسطية modal theories، وُضعت مصطلحات الإمكان للإشارة إلى العالم التاريخي الواحد والوحيد الذي نعيش فيه. وبالنسبة لابن سينا، تتسبب النار وجوباً في احتراق القطن لأن عبارة “النار تسبب احتراق القطن”، كانت، ولا زالت، وستظل صحيحة دائماً.

تطور فهم الغزالي للإمكان في سياق علم الكلام الأشعري ولا يتفق مع النموذج الإحصائي لأرسطو وابن سينا. فقد طور علم الكلام الأشعري فهماً أقرب لنظرتنا الحديثة للإمكان باعتباره يشير إلى حالات بديلة جائزة للحوادث. ففي النموذج الحديث، يشير مفهوم الواجب إلى ما يتحقق في كل الاحتمالات، ومفهوم الجواز إلى ما يتحقق في احتمال واحد على الأقل، والمستحيل ما لا يتحقق في أي حالة متصورة (Knuuttila 1998, 145). ويحاول الكلام الأشعري إثبات دعوى أن الإله هو المخصِص لكل الأحداث في العالم، والذي يقرر، على سبيل المثال، متى تدخل الأشياء إلى الوجود ومتى تخرج منه (Davidson 1987, 159–61, 176–80).

وتتضمن فكرة التخصيص ضمناً فهماً لإمكان وجود عوالم مختلفة عن هذا العالم. وتختار عملية التخصيص وقوع واحدٍ من بين عدة احتمالات. ويشرح الجويني في العقيدة النظامية فهم الأشعري للإمكان. فكل عاقل يجد في نفسه “معرفة جواز جائز، ووجوب واجب، واستحالة مستحيل” (al-Juwaynî 1948, 8–9). ونعرف هذه التفرقة بالضرورة دون تعلم أو تفكُّر في العالم. فهي بديهية للعقل. ويشرح الجويني هذه البديهة بقوله:

فالجواز البديهي، الذي يبتدره العاقل من غير عبر وفكر ونظر: هو ما يحيط به العاقل، إذا رأى بناء من جواز حدوثه، فيعلم قطعاً على الارتجال أن حدوث ذلك البناء من الجائزات وكان لا يمتنع في العقل ألا يُبنى (al-Juwaynî 1948, 9).

يدرك العاقل، أي الشخص الذي يتمتع بقدرة منطقية كاملة، أن جميع صفات المبنى، من ارتفاعه وعرضه وشكله وما إلى ذلك، هي احتمالات متحققة وكان يمكن أن تكون مختلفة. والأمر نفسه ينطبق على الوقت الذي تم فيه البناء. ويقول الجويني إننا ندرك على الفور أن هناك حالات بديلة جائزة للمبنى الموجود بالفعل. وهذا ما نسميه الاحتمال أو بشكل أدق الإمكان. وإدراك وجود مثل هذا الاحتمال، جزء مهم من فهمنا: “فلا يخطر العاقل باله شيئاً من أحواله إلا عارضه إمكان مثله، أو خالفه”. (al-Juwaynî 1948,9).

في ثلاثة فقرات على الأقل من التهافت، ينتقد الغزالي فهم ابن سينا للإمكان modalities. ويشير هنا إلى خلاف آخر وثيق الصلة، وهو أنه عند ابن سينا توجد الممكنات في الواقع، وهي عند الغزالي أحكاماً ذهنية فحسب (al-Ghazâlî 2000, 42.2–5, 124.10–11, 207.4–14). وينكر الغزالي فرضية ابن سينا القائلة بأن الاحتمال يحتاج إلى مادة (هيولى). هذه الفرضية أرسطية، إنها أساس مبدأ الاستعداد (الانتلخيا) entelechy، أي أن كل الأشياء لها قابلية وأنها مستعدة لتحقيقها (Dutton 2001, 26–7)، لكن ينقل الغزالي، بحسب وصف كوكونين (2000, 488–9)، محور افتراض الوجود الفعلي للشيء من مستوى الواقع الفعلي إلى مستوى التصور العقلي.

عندما يقول الغزالي إنه العلاقة “عندنا” بين السبب المؤثر وأثره ليست ضرورية، فهو يهدف إلى إبراز أن العلاقة يمكن أن تكون مختلفة حتى وإن لم تختلف من قبل. لكن بالنسبة لابن سينا، فحقيقة أن العلاقة لم تختلف قط ولن تكون مختلفة أبداً يعني أنها ضرورية. ولم يشترط الغزالي في أي موضع في أعماله أن تكون أي علاقة سببية معينة مختلفةً أو أن تختلف في المستقبل لكي تُعتبر غير ضرورية. وسنرى أنه يفترض، كابن سينا، أن العلاقة السببية لم تكن قط مختلفة ولن تكون أبداً مختلفة عما هي عليه الآن. ويؤكد أنها لا تزال غير ضرورية. والارتباط بين السبب وأثره ممكن؛ لأن تخلفه متصور عقلاً. ويمكننا تصور عالم لا تتسبب فيه النار في احتراق القطن. أو لمواصلة قراءة بيانه الابتدائي للمسألة السابعة عشرة:

بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون جز الرقبة، وإدامة الحياة مع جز الرقبة، وهلم جرا إلى جميع المقترنات. وأنكر الفلاسفة إمكانه، وادعوا استحالته (al-Ghazâlî 2000a, 166).

ولا شك في أن عالماً لا تتسبب فيه النار في احتراق القطن سيكون مختلف كلياً عن عالمنا الذي نعيش فيه. وتغيير علاقة سببية واحدة سيقتضي احتمال أن تتغير علاقات كثيرة أخرى كذلك. ومع ذلك، يمكن تصور مثل هذا العالم عقلاً؛ ما يعني أنه عالم ممكن، لكن الله لم يختر خلق مثل هذا العالم الجائز (Griffel 2009, 172–3).

وفي نفس البيان، يدعي الغزالي أن “اقتران [الأسباب وآثار] من تقدير الله سبحانه”. وعندما يرد على ابن سينا بأن هذه العلاقات ليست ضرورية، يريد الغزالي الإشارة إلى أن الله كان من الممكن أن يختارها مختلفة عما هي عليه. ويرفض ابن سينا ذلك؛ فالعالم هو الأثر الضروري لطبيعة الإله وليس من المتصور عالم غيره. ويعترض الغزالي ذلك ويقول إن العالم هو الأثر الممكن لإرادة الله الحرة واختياره المقصود من بين العوالم الجائزة.

 

  • الاحتمال المزدوج من العادة والأسباب الوسيطة

في المقام الثاني من المسألة السابعة عشر، يعرض الغزالي مسلكين مختلفين للرد على مذهب ابن سينا بأن لزوم العلاقة بين السبب الموجود والأثر تجعل بعض المعجزات في القرءان مستحيلةً. ففي مسلكه الأول، ينكر الغزالي وجود الطبائع والعلاقات السببية، ويؤكد أن الله يخلق كل حدث مباشرة. وهذا هو الموضع الذي يعرض فيه العادة باعتبارها تفسيراً صالحاً لما اصطلحنا على الإشارة إليه بالسبب المؤثر. ففي علم الله الأزلي القديم بالفعل أحداث ستقع في الخلق. وبخلق الاحتراق في كل مرة تقابل فيها النار القطن، يُجري الله عادةً معينة. لكن في الواقع، يحدث الاحتراق فقط بالاقتران مع ملامسة النار للقطن، وليس ملازماً لهذا الحدث. وفي مسلكه الأول في المقام الأول من المسألة السابعة عشرة (al-Ghazâlî 2000a, 169.14–171.11)، وفي بعضٍ من أعماله اللاحقة (al-Ghazâlî 1962)، يلتزم الغزالي بأن العمليات السببية قد تكون ببساطة نتيجة لعادة الله في الخلق وأنه يخلق ما يُعتبر سبباً وأثره كلاً على استقلال ومباشرةً. وعندما يريد الله إيقاع معجزة وتأكيد رسالة أنبياءه، يخلِّف عادته ويمنع خلق الأثر الذي يخلقه عادةً.

وفي المسلك الثاني (al-Ghazâlî 2000a, 171.12–174.8)، يعرض الغزالي تفسيراً مختلفاً جداً لمعجزات الرسل. ودعى مارمورا (Marmura 1981) ذلك نظرية الطبع عند الغزالي. وهنا يقبل الغزالي وجود الطبع والعلاقات التي لا تتغير (التلازم) بين الأسباب والمسببات. ففي نظرية الوسائط، يشير الغزالي فحسب إلى أنه برغم جهد البشر في العلوم الطبيعية، فنحن بعيدون عن حصر الأسباب والوقوف على كنه كل العمليات التي تقع في الطبيعة. ووارد أن تكون الحقيقة أن هذه المعجزات التي ينكرها الفلاسفة ناتجة عن استعدادات طبيعية غير معلومة لنا. فحين ألقى موسى، على سبيل المثال، العصى وانقلبت ثعباناً (Qur’an, 7.107, 20.69, 26.32) ربما خضعت مادة العصا الخشبية إلى تحول سريع في الأطوار واستحالت حيةً. فنحن نعلم أن الخشب يتحلل مع الوقت ويصبح تراباً يغذي النباتات ويسمدها. وهذه النباتات، بدورها، هي علف الحيوانات العاشبة، التي تتغذى عليها الحيوانات اللاحمة كالثعابين. ولا يمكن للفلاسفة إحالة  احتمال أن تستعجل بعض الأسباب المجهولة العملية البطيئة التي يتحول عبرها الخشب إلى ثعبان. وهذه التفسيرات وغيرها من التفسيرات المقدمة في المسلك الثاني ليست سوى أمثلة على كيفيات محتملة لحصول المعجزات النبوية عن طريق أسباب طبيعية لم يعهدها البشر.

يرفض مارمورا (1965, 183; 1981, 97) فكرة أن يكون الغزالي قد اعتبر العادة والطبع تفسيرين في شكل احتمال مزدوج في الكونيات. ويقبل مرمورا أن يستخدم الغزالي لغة سببية “أحياناً بالطريقة التي تُستخدم في اللغة العربية المعتادة، وأحياناً بطريقة أرسطية/سيناوية أكثر تخصصاً” وأن هذا الاستخدام للغة مبتكر في خطاب المدرسة الأشعرية (1995, 89). لكن الغزالي يتلزم في كل النقاط الرئيسية في العقيدة الإسلامية بمواقف تتبع بشدة المذاهب التي طوَّرها العلماء الأشاعرة المتقدمين، أي: إمكان المعجزات وخلق أفعال العباد وحرية الإله في خلق العالم (1995, 91, 93–97, 99–100). ويرى مارمورا أن الغزالي لم ينحرف قط عن العادة، لكنه يعبر أحياناً عن مذاهبه بلغة غامضة تُحاكي الأسلوب الفلسفي، ربما من أجل جذب أتباع الفلاسفة إلى معسكر العادة الأشعري.

أما اعتبار الغزالي للعادة والطبع احتمال مزدوج لتفسير إبداع الخالق، فمنصوص عليه في فقرة في المسألة العشرين من التهافت، التي تناقش موضوع بعث الأبدان في الآخرة. إذ يدعي الفلاسفة أن بعث الأجساد مستحيل؛ لأنه يستلزم تحول عناصر كالحديد إلى نسيج، وهو مستحيل. وفي رده، يشير الغزالي إلى المسلك الثاني من المقام الثاني في المسألة السابعة عشر، حيث يقول إنه ناقش بالفعل هذه المشكلة. ويدافع عن أن التحول السريع غير المعتاد للمواد المكوِّنة للحديد إلى قطع نسيج ليست مستحيلة. ويقول: “وليس المناقشة فيه. وإنما النظر في أن الترقِّي في هذه الأطوار يحصل بمجرد القدرة، من غير واسطة، أو بسبب من الأسباب”.

وكلاهما ممكنان عندنا [كما ذكرناه في المسألة السابعة عشر]، وإن المقترنات في الوجود، اقترانها ليس على طريق التلازم، بل العادات يجوز خرقها، فيحصل بقدرة الله تعالى هذه الأمور دون وجود أسبابها أو بواسطات غريبة. وأما الثاني فهو أن نقول: ذلك يكون بأسباب ولكن ليس من شرط أن يكون السبب هو المعهود، بل في خزانة المقدورات عجائب وغرائب لم يُطلَّع عليها ينكرها من يظن أن لا وجود إلا لما شاهده، كما ينكر طائفة السحر والنارنجات والطلسمات والمعجزات والكرامات

أبقى الغزالي على موقف متردد طوال حياته. وبالنظر إلى حقيقة أنه لا المشاهدة ولا أي مصدر آخر من مصادر المعرفة (بما فيها الوحي) تقدم حجة برهانية لوجود أو عدم وجود علاقات بين الأسباب ومسبباتها، يجب أن نتوقف في الحكم على هذه المسألة. فقد يخلق الله من خلال توسط أسباب يسخرها، أو مباشرة دون وسائط. وللأسف، لم يُشرح هذا المذهب غير الحاسم بوضوح في أي موضع آخر. وغاية ما يمكن، التقاطه من عبارات متفرقة كالعبارة المذكورة أعلاه. وحقيقة أنه بعد كتابة التهافت، ألَّف الغزالي كتباً تمسك فيها بمذهب العادة وحده في الكونيات (al-Ghazâlî 1962)، وكتباً أخرى استخدم فيها لغة عليَّة خالصة، كالكتاب الخامس والثلاثين من “إحياء علوم الدين” أو كتاب مشكاة الأنوار. مع ذلك، فلم يلزم نفسه في أيٍ من هذه الكتب بمذهب تلازم السبب والمسبَب. فقد يخلق الله أحدهما دون الآخر أو قد يخلقهما من خلال توسط أسباب وسيطة. وفي آخر مؤلفاته، الذي أنهاه قبل أيام من وفاته، يناقش الغزالي ما إذا كان الله يخلق “بواسطة” من مخلوقاته أم لا، ويتمسك بأن المسألة لا يمكن القطع فيها (al-Ghazâlî 1985, 68–69).

في كل هذا، يقبل الغزالي الصفة التي لا يمكن أن تتغير لهذا الخلق. فبمجرد اختيار الله لخلق هذا العالم دون غيره من العوالم المحتَمَلة، اختار أيضاً ألا يغير السنن التي تحكمه. ومع أنه من المتصور وبالتالي من الممكن أن يخرق الله عادته ويتدخل في الوظيفة الموكَلة للأسباب الوسيطة، فهو يخبرنا في وحيه أنه لن يفعل ذلك. وفي الكتاب الحادي والثلاثين من “إحياء علوم الدين“، يقول الغزالي إن الله يخلق كل الكائنات على التوالي بشكل مرتب. وبعد إيضاح أن هذا الترتيب يمثل سُنة الله، يستشهد بآية ” وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً” (62 الأحزاب، و23 الفتح) (al-Ghazâlî 1937–38, 11:2084–85). ويستشهد بهذه الآية مرات عدة في الإحياء، وفي إحدى الفقرات يضيف الغزالي أننا ينبغي ألا نعتقد أن الله سيُغير سنته أبداً (ibid, 4:12). ومعجزات الأنبياء مجرد أحداث خارقة للعادة تقع ضمن نظام التشغيل الذي يجري بصرامة وفقاً للقوانين العادية للأفعال الإلهية، أو في نطاق “القوانين الطبيعية” التي تحكم الأسباب الوسيطة. والمعجزات جزء من خطة الله، إن جاز التعبير، لخلقه من البداية ولا تُمثل تدخلاً مباشراً أو إلغاءً من أي نوع لأفعال الله التي تجري وفق قانون (Frank 1992, 59; idem, 1994, 20). وبما أننا لن نخرق عادة الله، فلن يمكن التفريق أبداً بين العالم العادي والذي تحكمه الأسباب الوسيطة.

 


تثبيت المصطلحات

مسلك Approach (في كتاب التهافت)

مقام Position  (في كتاب التهافت)

مسألة discussion (في كتاب التهافت)

موقف position (في كتاب التهافت)

مذهب/رأي position

حجة برهانية/برهان decisive proof

السبب المؤثر efficient cause

العادة/السنة  occasionalism

أثر/مسبَب effect

الطبع/الوسائط/الأسباب الوسيطة secondary causality

السببية causality

اقتران connection

مقترنة concomitantly

يسخر employ

استعداد طبيعي immanent natural

إحالة exclude

التراث literature

مادة/الهيولى substrate

الإمكان/الموجهات modalities

الاستعداد (الانتلخيا) entelechy

قابلية  potentialities

حالات بديلة جائزة  synchronic alternative state

حالة state of affairs

الاحتمال المزدوج  Cum-Possibility

الجوهر substance

العرض accidents

طبائع Natures

جبري determinist

متصوفة Mystics

سبق الرؤية déjà vu

تراث tradition

النقد الإسمائي nominalist critique

 البرهنة apodeixis

 


المراجع:

al-ghazâlî

  Primary Texts

  • Avicenna, 2005, The Metaphysics of The Healing: A Parallel English-Arabic Text, M.E. Marmura (ed. and trans.). Provo (Utah): Brigham Young University Press.
  • Averroes, 1930, Averroès Tahafot at-Tahafot, M. Bouyges (ed.), Beirut: Imprimerie Catholique.
  • ––– 1954, Averroes’ Tahafut al-tahafut (The Incoherence of the Incoherence), S. van den Bergh (trans.), 2 vols., London: Luzac.
  • ––– 1961, Destructio destructionum philosophiae Algazelis in the Latin Version of Calo Calonymos, B.H. Zedler (ed.), Milwaukee: Marquette University Press.
  • ––– 2001, The Book of the Decisive Treatise Determining the Connection Between Law and Wisdom (Arabic and English Text), C. Butterworth (ed. and trans.), Provo (Utah): Brigham Young University Press.
  • al-Juwaynî, 1948, al-’Aqîda al-Nizâmiyya, M.Z. al-Kawtharî (ed.), Cairo: Maktabat al-Khânjî.
  • al-Ghazâlî, 1506, Logica et philosophia Algazelis Arabis, Venice: P. Liechtenstein. Reprint Frankfurt (Germany): Minerva, 1969.
  • ––– 1896, Die Abhandlung des Abû Hâmid al-Gazzâlî. Antworten auf Fragen, die an ihn gerichtet wurden, H. Malter (ed.) Frankfurt: J. Kauffmann.
  • ––– 1904–07, al-Mustasfâ min ‘ilm al-usûl, 2 vols. Bûlâq: al-Matba’a al-Amîriyya. Reprint Beirut: Dâr al-Fikr, n.d.
  • ––– 1923, Mîzân al-’amal, M.S. al-Kurdî (ed.), Cairo: al-Matba’a al-’Arabiyya.
  • ––– 1933, Algazels’s Metaphysics: A Medieval Translation, J.T. Muckle (ed.), Toronto: St. Michael’s College.
  • ––– 1936, Maqâsid al-falâsifa, M.S. al-Kurdî (ed.), Cairo: al-Matba’a al-Mahmûdiyya al-Tijâriyya.
  • ––– 1937–38, Ihyâ’ ‘ulûm al-dîn, 16 parts, Cairo: Lajnat Nashr al-Thaqâfa al-Islâmiyya. Reprint Beirut: Dâr al-Kitâb al-’Arabî, n. d. [c.1990].
  • ––– 1954, Qawâsim al-Bâtiniyya, in Ahmed Ates, “Gazâlî’in Batinîlerin Belini Delliler’i Kitâb Kavâsim al-Bâtînîya.” Ilâhiyât Fakültesi Dergisi Ankara Üniversitesi 3: 23–54.
  • ––– 1959a, al-Munqidh min al-dalâl / Erreur et délivrance, F. Jabre (ed. and trans.), Beirut: Commission libanaise pour la traduction des chefs-d’oeuvre.
  • ––– 1959b, al-Qistâs al-mustaqîm, V. Chelhot (ed.), Beirut: Imprimerie Catholique.
  • ––– 1961, Faysal al-tafriqa bayna l-Islâm wa-l-zandaqa, S. Dunyâ (ed.), Cairo: ‘Îsâ al-Bâbî al-Halabî.
  • ––– 1962, al-Iqtisâd fî l-i’tiqâd, I.A. Cubukcu and H. Atay (eds.), Ankara: Nur Matbaasi.
  • ––– 1964a, al-Arba’în fî usûl al-dîn, M.M. Jâbir (ed.), Cairo: Maktabat al-Jundî.
  • ––– 1964b Fadâ’ih al-Bâtiniyya wa-fadâ’il al-Mustazhiriyya, ‘A. Badawî (ed.), Cairo: Dâr al-Qawmiyya.
  • ––– 1971, al-Maqsad al-asnâ fi sharh ma’ânî asmâ’ Allâh al-husnâ, F.A. Shehadi (ed.), Beirut: Dâr al-Mashriq.
  • ––– 1985, Iljâm al-‘awâmm ‘an ‘ilm al-kalâm, M.M. al-Baghâdî (ed.), Beirut: Dâr al-Kitâb al-‘Arabî.
  • ––– 1998, The Niche of Lights: A Parallel English-Arabic Text, D. Buchman (ed. and trans.) Provo (Utah): Brigham Young University Press.
  • ––– 2000a, The Incoherence of the Philosophers / Tahâfut al-falâsifaa Parallel English-Arabic Text, M. E. Marmura (ed. and trans.), 2nd. ed., Provo (Utah): Brigham Young University Press.
  • ––– 2000b, Deliverance from Error. Five Key Texts Including His Spiritual Autobiography al-Munqidh min al-Dalal, R. McCarthy (trans.), Louisville (Kenn.): Fons Vitae.
  • ––– 2001, Faith in Divine Unity and Trust in Divine Providence [Book 35 of The Revival of Religious Sciences], D. Burrell (trans.), Louisville (Kenn.): Fons Vitae.
  • ––– 2002, On the Boundaries of Theological Tolerance in Islam: Abû Hâmid al-Ghâzalî’s Faysal al-Tafriqa bayna al-Islam wa al-zandaqa. S.A. Jackson (trans.), Karachi: Oxford University Press.
  • Ibn Taymiyya, 1980, Dar’ ta’ârud al-‘aql wa-l-naql, M. Rashâd Sâlim (ed.), 11 vols., Beirut: Dâr al-Kunûz al-Adabiyya.

 

Secondary Literature

  • Andani, Khalil, 2017, “The Merits of the Bâtiniyya: Al-Ghazâlî’s Appropriation of Isma’ili Cosmology,” Journal of Islamic Studies 29: 181–229.
  • al-Akiti, M.A., 2004, “The Three Properties of Prophethood in Certain Works of Avicenna and al-Gazâlî,” in Interpreting Avicenna: Science and Philosophy in Medieval Islam, J. McGinnis (ed.), Leiden: Brill, pp. 189–212.
  • ––– 2009, “The Good, the Bad, and the Ugly of Falsafa: Al-Ghazâlî’s Madnûn, Tahâfut, and Maqâsid, with Particular Attention to Their Falsafî Treatment of God’s Knoweldge of Temporal Events,” in Avicenna and His Legacy: A Golden Age of Science and Philosophy, Y.T. Langermann (ed.), Turnhout (Bel.): Brepols, pp. 51–100.
  • Alonso, M., 1958, “Influencia de Algazel en el mundo latino,” Al-Andalus 23: 371–80.
  • Bäck, A., 1992, “Avicenna’s Conception of Modalities,” Vivarium 30: 217–55.
  • Burnett, C., 1994, “Magister Iohannes Hispanus: Towards the Identity of a Toledan Translator,” in Comprendre et maîtriser la nature au Moyen Age. Mélanges d’histoire des sciences offerts à Guy Beaujouan, Geneva/Paris: Librairie Droz/Librairie Champion, pp. 425–36.
  • Chertoff, G.B., 1952, The Logical Part of al-Ghazâlî’s Maqâsid al-Falâsifa. In an Anonymous Hebrew Translation with the Hebrew Commentary of Moses of Narbonne, PhD Diss. Columbia University, New York.
  • d’Alverny, M.T., 1986, “Algazel dans l’occident latin,” in Un trait d’union entre l’orient et l’occident: al-Ghazzali et Ibn Maimoun. Agadir 27–29 Nov. 1985, Agadir: Academie Royale du Maroc, pp. 125–46. Reprint in d’Alverny 1994, 3–24.
  • –––– 1994, La transmission des textes philosophiques et scientifique au moyen âge, C. Burnett (ed.), Aldershot: Variorum.
  • Davidson, H.A., 1987, Proofs for Eternity, Creation and the Existence of God in Medieval Islamic and Jewish Philosophy, New York: Oxford University Press.
  • Dutton, B.D., 2001, “Al-Ghazâlî on Possibility and the Critique of Causality,” Medieval Philosophy and Theology 10: 23–46.
  • de Smet, D., 1995, La quietude de l’intellect. Néoplatonisme et gnose ismaélienne dans l’oeuvre de Hamîd ad-Dîn al-Kirmânî (Xe/XIe s.), Leuven: Peeters.
  • Eran, A., 2007, “Ghazâlî, Abu Hamid Muhammad ibn Muhammad al-Tûsî, al-” in Encyclopaedia Judaica, 2nd ed., F. Skolnik (ed.), 22 vols., Detroit: Macmillan Reference, vol. 7, pp. 571–73.
  • Frank, R.M., 1992, Creation and the Cosmic System: Al-Ghazâlî & Avicenna, Heidelberg: C. Winter.
  • ––– 1994, Al-Ghazali and the Ash’arite School, Durham: Duke University Press.
  • Garden, K., 2014, The First Islamic Reviver. Abû Hâmid al-Ghazâlî and His Revival of the Religious Sciences, New York: Oxford University Press.
  • Gavison, A., 1748, Sefer ‘Omer ha-Shikhhah. Livorno: A. Meldola. Reprint Brooklyn (N.Y.): Ch. Reich, 1993.
  • Gimaret, D., 1980, Théories de l’acte humain en théologie musulmane, Paris: Vrin.
  • Griffel, F., 2000, Apostasie und Toleranz im Islam. Die Entwicklung zu al-Gazâlîs Urteil gegen die Philosophen und die Reaktionen der Philosophen, Leiden: Brill.
  • ––– 2002, “The Relationship Between Averroes and al-Ghazâlî as it Presents Itself in Averroes’ Early writings, Especially in his Commentary on al-Ghazâlî’s al-Mustasfâ,” in Medieval Philosophy and the Classical Tradition in Islam, Judaism, and Christianity, J. Inglis (ed.), Richmond: Curzon Press, pp. 51–63.
  • ––– 2004, “Al-Gazâlî’s Concept of Prophecy: The Introduction of Avicennan Psychology into As’arite Theology,” Arabic Sciences and Philosophy 14: 101–44.
  • ––– 2005, “Taqlîd of the Philosophers. Al-Ghazâlî’s Initial Accusation In the Tahâfut”, in Ideas, Images, and Methods of Portrayal. Insights into Arabic Literature and Islam, S. Günther (ed.), Leiden: Brill, pp. 253–273.
  • ––– 2006, “MS London, British Library Or. 3126: An Unknown Work by al-Ghazâlî on Metaphysics and Philosophical Theology,” Journal of Islamic Studies 17: 1–42.
  • ––– 2009, Al-Ghazâlî’s Philosophical Theology, New York: Oxford University Press.
  • ––– 2015, “Al-Ghazâlî at His Most Rationalist: The Universal Rule for Allegorically Interpreting Revelation (al-Qânûn al-Kullî fî t-Ta’wîl)”, in Islam and Rationality: The Impact of al-Ghazâlî. Papers Collected on His 900th Anniversarym (Volume 1), G. Tamer (ed.), Leiden: Brill, pp. 89–120.
  • Hansberger, R., 2011, “Plotinus Arabus Rides Again,” Arabic Sciences and Philosophy 21: 57–84.
  • Harvey, S., 2001, “Why Did Fourtheenth Century Jews Turn to Alghazali’s Account of Natural Science?” Jewish Quarterly Review 91: 359–76.
  • ––– 2015, “The Changing Image of al-Ghazâlî in Medieval Jewish Thought,” in Islam and Rationality. The Impact of al-Ghazâlî. Papers Collected on His 900th Anniversary (Volme 1), G. Tamer (ed.), Leiden: Brill, pp. 288–302.
  • ––– and W.Z. Harvey, 2002, “Yakhasô shel Rabbi Hasdây Kreskas le-Algazâlî (Rabbi Hasdai Crescas’s Attitude Towards al-Ghazâlî)”, in Ha-Islam we-ʻOlamôt ha-Shezûrîm bô / The Intertwined Worlds of Islam: Essays in Memory of Hava Lazarus-Yafeh, N. Ilan (ed.), Jerusalem: Ben-Zvi Institute, pp. 191–210.
  • Heer, N., 1993, “The Priority of Reason in the Interpretation of Scripture: Ibn Taymîyah and the Mutakallimûn,” in The Literary Heritage of Classical Islam: Arabic and Islamic Studies in Honor of James A. Bellamy, M. Mir (ed.), Princeton: Darvin Press, pp. 181–95.
  • Hintikka. J., 1973, Time & Necessity: Studies in Aristotle’s Theory of Modalities, Oxford: Clarendon.
  • Hourani, G.F., 1958, “The Dialogue Between al Ghazâlî and the Philosophers on the Origin of the World,” Muslim World 48: 183–191, 308–14.
  • ––– 1976, “Ghazâlî on the Ethics of Action,” Journal of the American Oriental Society, 96: 69–88. Reprinted in Hourani 1985, pp. 135–66.
  • ––– 1985, Reason and Tradition in Islamic Ethics, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Janssens, J., 1986, “Le Dânesh-Nâmeh d’Ibn Sînâ: Un text à revoir?” Bulletin de philosophie médiévale 28: 163–77.
  • ––– 2003, “Al-Ghazzâlî and his Use of Avicennian Texts,” in Problems in Arabic Philosophy, M. Maróth (ed.), Piliscaba (Hungary): Avicenna Institute of Middle East Studies, pp. 37–49.
  • Knuuttila, S., 1998, “Plentitude, Reason and Value: Old and New in the Metaphyscis of Nature,” in Nature and Lifeworld: Theoretical and Practical Metaphysics, C. Bengt-Pedersen and N. Thomassen (eds.), Odense (Denmark): Odense University Press, pp. 139–51.
  • Kukkonen, T., 2000, “Possible Worlds in the Tahâfut al-Falâsifa: Al-Ghazâlî on Creation and Contingency,” Journal of the History of Philosophy 38: 479–502.
  • Langermann, Y.T., 2011, “The ’Hebrew Ajwiba’ Ascribed to al-Ghazâlî: Corpus, Conspectus, and Context,” The Muslim World 101: 680–97.
  • Lohr, C.H., 1965, “Logica Algazelis: Introduction and Critical Text,” Traditio 21: 223–90.
  • Madelung, W., 1974, “Ar-Râgib al-Isfahânî und die Ethik al-Gazâlîs,” in Islamkundliche Abhandlungen: Fritz Meier zum sechzigsten Geburtstag. R. Gramlich (ed.), Wiesbaden: Steiner, pp. 152–63.
  • Marmura, M.E., 1959, “The Logical Role of the Argument from Time in the Tahâfut’s Second Proof for the World’s Pre-Eternity,” Muslim World 49: 306–14. Reprinted in Marmura 2005, pp. 219–27.
  • ––– 1965, “Ghazâlî and Demonstrative Science,” Journal of the History of Philosophy 3: 183–204. Reprinted in Marmura 2005, pp. 231–60.
  • ––– 1968–69, “Ghazâlî on Ethical Premises,” The Philosophical Forum 4: 393–403. Reprinted in Marmura 2005, pp. 261–65.
  • ––– 1981, “Al-Ghazâlî’s Second Causal Theory in the 17th Discussion of His Tahâfut,” in Islamic Philosophy and Mysticism, P. Morewedge (ed.), Delmar (N.Y.): Caravan Books, pp. 85–112.
  • ––– 1995, “Ghazâlian Causes and Intermediaries,” Journal of the American Oriental Society 115: 89–100.
  • ––– 2005, Probing in Islamic Philosophy, Binghampton (N.Y.): Global Academic Publishing.
  • Marx, A., 1935, “Texts by and About Maimonides,” Jewish Quarterly Review 25: 371–428.
  • Minnema, A.H. 2014, “Algazel Latinus: The Audience of the Summa Theoricae Philosophiae, 1150–1600,” Traditio, 69: 153–213.
  • Opwis, F., 2007, “Islamic Law and Legal Change: The Concept of Maslaha in Classical and Contemporary Legal Theory”, in Shari’a: Islamic Law in the Contemporary Context, A. Amanat and F. Griffel (eds.), Stanford (Calif.): Stanford University Press, pp. 62–82, 203–07.
  • ––– 2010, Maslaha and the Purpose of the Law: Islamic Discourse on Legal Change from the 4th/10th to 8th/14th century, Leiden: Brill.
  • Ormsby, E.L., 1984, Theodicy in Islamic Thought. The Dispute over al-Ghazâlî’s ‘Best of All Possible Worlds’, Princeton: Princeton University Press.
  • Pourjavady, N. (ed.), 2002, Majmû’ah-ye falsafî-e Marâghah: A Philosophical Anthology from Maraghah. Containing Works by Abû Hâmid Ghazzâlî, ‘Ayn al-Qudât al-Hamadânî, Ibn Sînâ, ‘Umar ibn Sahlân Sâvi, Majduddîn Jîlî and others, Tehran: Markaz-i Nashr-i Dânishgâh.
  • Perler, D. and U. Rudolph, 2000, Occasionalismus: Theorien der Kausalität im arabisch-islamischen und im europäischen Denken, Göttingen: Vandenhoeck & Ruprecht.
  • Salman, D., 1935, “Algazel et les latins,” Archives d’histoire doctrinale et litteraire du moyen age 10: 103–127.
  • Sabra, A.I., 1987, “The Appropriation and Subsequent Naturalization of Greek Sciences in Medieval Islam: A Preliminary Statement,” History of Science 25: 223–43.
  • Shihadeh, A., 2011, “New Light on the Reception of al-Ghazâlî’s Doctrines of the Philosophers (Maqâsid al-Falâsifa),” in In the Age of Averroes: Arabic Philosophy in the Sixth/Twelfth Century. P. Adamson (ed.), London/Turin: Warburg Institute/Nino Aragno, pp. 77–92.
  • Steinschneider, M., 1893, Die hebraeischen Übersetzer des Mittelalters und die Juden als Dolmetscher, 2 vols., Berlin: Kommissionsverlag des Bibliographischen Bureaus. Reprint Graz: Akademische Druck- und Verlagsanstalt, 1956.
  • Treiger, A., 2012, Inspired Knowledge in Islamic Thought. Al-Ghazâlî’s Theory of Mystical Cognition and its Avicennian Foundation, London and New York: Routledge.
  • Vajda, G., 1960, Isaac Albalag, averroïste juif, traducteaur et annotateur d’al-Ghazâlî, Paris: J. Vrin.
  • Walker, P., 1993, Early Philosophical Shiism. The Ismaili Neoplatonism of Abû Ya’qûb al-Sijistânî, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Wisnovsky, R., 2003, Avicenna’s Metaphysics in Context, London: Duckworth.

 

أدوات أكاديمية

 How to cite this entry.
 Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
 Look up this entry topic at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).
 Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت

مداخل ذات صلة

al-Farabi | Arabic and Islamic Philosophy, disciplines in: natural philosophy and natural science | causation: medieval theories of | Duns Scotus, John | future contingents: medieval theories of | Ibn Rushd [Averroes] | Ibn Sina [Avicenna] | Maimonides: the influence of Islamic thought on | modality: medieval theories of | Philoponus


[1] Griffel, Frank, “al-Ghazali”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy(Summer 2020 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/sum2020/entries/al-ghazali/>.

[2] نسبة إلى ابن سينا (Avicennism ).

[3] يقصد الكاتب هنا أرسطو، حيث أن ستاغيرا هي مسقط رأسه.

[4] المذكور في الآية “الكرسي” وهو غير العرش. والاستواء يكون على العرش لا الكرسي – المترجم.

[5] الوساطة أو الوسائط باصطلاح الإمام الغزالي – المترجم