مجلة حكمة
(الكتابة ضد إيديولوجيا حقوق الإنسان

الاستعمال الجيّد لحقوق الإنسان / ترجمة: وحيد الهنودي


لقد قام فرونسوا جوليان François Jullien بعمل مفاهيميّ توضيحيّ مفيد. فالكوني ليس هو المتماثل والذي لا يختلط مع المشترك إطلاقا. إن جزء هاما من مستقبلنا يقوم على هذا التمييز. لنستقبل باعتراف هذا الجهد الرائع لندرك عن أي عالم نتحدث.

في الحقيقة تُتَرْجَمُ العولمة بفضل نوع من التنميط للعالم سواء قبلنا ذلك أم لا وبغربنة للمجال الاقتصادي على الأقل. فالرأسمالية تكتمل بالتكوكب. من هنا نستنتج أنه أثناء التبادل الحر المعمّم فإن ساعة الكوني تجيء. لم تبق إلا خطوة حيث يعبر الكثير من الغربيين بفرح. فالعولمة الأولى خلّفت ريبة إذ تم تحقيقها تحت علامة الهيمنة الامبريالية وغطرسة الغرب بفرض ثقافته الخاصة على العالم. في المقابل فقد اكتملت العولمة الثانية في إطار التحرر تحت يافطة الاستقلال الحر لبقية العالم من الوصفات التي تم تجريبها في الغرب. فلا أحد فرض على الشيوعيين الصينيين التحوّل إلى السوق. من وجهة النظر هذه فإن آخر المعيقات قد زال، ومن الآن فصاعدا سنكون في عالم واحد حيث تسود نفس القواعد التي ينبغي أن تسود في كل الأماكن. لكن ولكي نبدأ هل أن هذه الانعطافة المعممة تسمح باستنتاج أنه ثمة كونيّة؟ يحذّرنا فرنسوا جوليان من غطرسة إثنية متمركزة فبفضل قوة نجاحات المثال يفرض الغرب كونية حضارته وقيمه. إنه يلفت انتباهنا إلى الخلط الفكري الذي يمزج أشياء مختلفة معا، ثمة في هذا العالم أشياء واستعمالات ومغازات موجودة في كل مكان، علامات عالمية وأماكن متماثلة – فلا شيء يشبه مطار مثل مطار آخر -. هذا لا ينشأ كوني فثمة دون شك تشديد على الأماكن ومسؤولية مشتركة عن الكوكب وتضامن حول مصير سكانه مثلا أمام القضية البيئية تلك التي تعطي معنى متجدد لفكرة المشترك، الجيدة والسيئة، فالكوني يجب أن يتم احتكاره لأنواع محدودة من المواضيع المفيدة جدا في الواقع.

سيظل ذلك لاستخدام المثقفين المنشغلين بالدقة في الفكر، إذا ما لم تحمل هذه التمييزات معها نتائج عملية ثقيلة. ثمّة واحدة بخاصة مهمة جدا، عندما تأخذ هذه الكونية شكل سياسة حقوق الإنسان فباسمها يطرح الغربيون كمسدي دروس ومصلحي أخطاء.هذا ما اتضح مؤخرا وبقدر كاف بالنسبة للصين في موعد الألعاب الأولمبية الصيفية 2008. تصوّر فرنسوا جوليان ذلك ومبكّرا بتأليف كتابه الذي ظهر في غضون أشهر. وكتعبير عن بعض هذه الشكوك حول الاحتجاجات الفاضلة ، كانت ضد المتعصبين ولم يكن من المحتمل أن تغيّر الحملة الأخيرة رأيه.

إن الحقائق اليقينية المتبلدة للمبشرين الجدد لا تتذرع لصالح الإيمان الذي يحملونه، أيا كانت الأسباب الفردية التي يدافعون عنها مبررة فإن نظام الفكر الذي يدافعون عنه يبدو هو أيضا قابل للنقاش وبشكل بارز، لا يخطئ فقط لعدم واقعيّته، إنه ينبع من الجهل المتعمّد في الثقافات والتواريخ التي بفضلها نطلب التشريع الذي يجعلها عقلانيا غير محتملة التصوّر بالتفوق الذي يحرّكها عن غير وعي ينتهي به الأمر إلى استبعادها على المستوى الأخلاقي. باختصار فإن “الكونية” المزعومة لحقوق الإنسان تعطي في الحقيقة الانعكاس المعرفي لرؤية غربية للإنسان والمجتمع على حساب باقي العالم. ينبغي إذن تنسيب هذه الكونية وبالتالي تفكيكها للحد من المطالب على كل حال، هذا ما يحاول فرنسوا جوليان فعله ببراعة مشهودة واهتمام ملحوظ بالتوازن على أساس التحديد الدقيق لما تعنيه “كونية”.

رغم هذا الاتفاق الواسع على الملاحظة والتمشّى فإني مرغم على لعب دور محامي الشيطان. أريد أن أدافع عن أطروحة كونية حقوق الإنسان بتخليصها من التبسيط المخل. إنها تتضمن نواة من الحقيقة والتي ينبغي أن نستخرجها. إن المشكل يتعلق بمعرفة المستوى الذي تحتله تحديدا – حتما ليس ذلك الذي يضعها فيه رسلها العميان اليوم -بيد أنها توجد، ومطابقة مجال صلاحيتها الرئيسي لتحديد سياسة هي في آن تحترم حضارات يمكن أن تناقضها وهي أكثر قابلية للنجاعة.

بالتأكيد إن ما هو كوني من بين مخترعات الغرب هو العلم وجملة مشتقاته. إن شكل التفكير الذي يتماشى مع ويخطو خطوة بخطوة ليمتد إلى ما وراء، إلى العقلانية التقنية والعقلانية الاقتصادية والعقلانية الإدارية. إن هذه العقلانية في طريقها لفرض نفسها في كل مكان ودون نقاش. إن هذه المنتجات وامتدادها في طريقها نحو الانتصار بإقامة عالم واحد. والذي هو في الواقع عالم غربي في منابعه، حتى وإن كانت كونية العلم تفيد أنه ليس ملكا لأحد، إنها أساسا في مواجهة هذا النصر دون صراع ودون استلاء ولا تحفّظ لإبقاء مفهوم الكوني في مجال المعرفة.

إنه لخطأ. فحقوق الإنسان أيضا كونية من فئة أخرى. إنها لا تملك اللغة الصارمة للرياضيات حتى تُصاغ، وهي بذلك تمثل إكراها مكافئا للفكر على مستواها. ودون جهاز منطقي لإثباتها. في هذا الصدد ألاحظ أن حجة “الموقع” تنشأ من الاعتراض على حقوق الإنسان من خصوصية مكانها وزمن نشأتها لا يساوي شيئا. أن نعرف أن علم غاليلي ونيوتن لم يكن موجودا أبدا في أي مكان، فما الذي يمنعه من أن يكون كونيّا؟ لقد تكونت هي أيضا في حقبة زمنية محددة وفي فضاء معلوم مثل فكرة حقوق الإنسان. إن الطارئ الذي استبق انشقاق حقوق الإنسان لم يمنع من أن تعرف فعلا انتشارا كوكبيّا، وأن تحوز على قيمة مرجع غير قابل للمقارنة وعلى هذا الأساس لذلك الذي للعلم الحديث. باستثناء أن مسارها العقلي والاجتماعي يمنح فترات مختلفة جدا وينهض بصعوبات من طبيعة أخرى.

إن قوة العلم هي في آن في إبداع عالمه الخاص وفي ترك الكثير من القناعات الحميمية والثقافية والتي ليست مباشرة وشأنها وذلك على المدى القصير. وبمخلفاتها تقلب العالم الاجتماعي الموجود، لكن بإضافة معطيات وأبعاد جديدة وأكثر من مواجهته بالتأكيد يتضمن طريقة تفكير أخرى بدل تلك التقليدية القائمة. إنها تمنع الاتفاق والتوافق الديني والسحري للأشياء على الأقل في نطاقها من هنا استثمرت الآمال الجامحة فيه الأيديولوجيا العلموية التي خلقت سريعا الرافعة لتحلّل الروح الديني لصالح الروح الوضعي. في الحقيقة هو يتواجد بقوة مع نظم الاعتقاد الأشد لاعقلانية منذ أن تُحْمَل على الأسئلة التي لا يجيب عنها. من هنا يكون الوهم المتماثل الذي يزعمه اليوم الأصوليون من كل رهط والذي بمقتضاه يكون من الممكن استلاف الوسائل من العلم الغربي لتوجيهها نحو غايات تقليدية. في الواقع إن المسارات تحت أرضية ومتعرّجة بيد أن عدم استقرار طرق التفكير القديمة مضمون، إلا أنه لا يؤدي إلى ضمانات بديلة مقارنة بالحقائق اليقينية الموروثة.

في المقابل تتصارع حقوق الإنسان مع هوية الأشخاص ومع نسيج العلاقات الاجتماعية القائمة، إنها تخبر الناس ما هم: إنهم أفراد أحرار ومتساوون –وهو ما لا يرغبون فيه بقوة، ودون أن يمس ذلك ودفعة واحدة بالمركزية العرقية الغربية، إنهم يجادلون في تفوّق العائلات وتساوي الجنسين والارتباط بالجماعات من روابط الولادة والأبوة وعلاقات الاختلاف والخضوع، كل هذا الإطار الذي يحفظ الوجود معا تحت ألف يافطة في أغلب مجتمعات الكرة الأرضية. من هنا فإن هذا التنافر الوجودي الذي يمكن أن يحدِثُوه وصعوبة إقحامه في نسيج الثقافات وخارج المزاعم السطحية. إن العلم يحوّل المجتمعات ولكن بعد أن يمنحها الاحتفاظ بصَدَفَتِها الحيوية. إن حقوق الإنسان تشرع بخلع المحيط الاجتماعي مقابل خيرات يأملونها.

إن حقوق الإنسان هي ذلك الشيء النادر الذي هو مبدأ الشرعية ، هي مبدأ شرعيّة خَلَفَ مبدأ الشرعية الدينية، لم يكن هنالك إلا اثنان في التاريخ، وتوجد مبررات لنؤ كد أنه لم يوجد إلا اثنين ممكنين إن تحدّثنا منطقيا فما منبع ما يُحْمَلُ كمعيار بين الكائنات البشرية فيما يتعلّق بتنظيم علاقاتهم الاجتماعية، وما يتعلق بما يشدّهم وما يتعلق بإنشاء العدل بينهم. لا توجد إلا طريقتين وطريقتين فقط للإجابة، إما أن يكون هذا المنبع في ماوراء مجال البشر وإما أن يكون داخليا، إما أن يكون مفارقا ومتعاليا وإما أن يكون محايثا. إما أنه يكون خارج وفوق، وبالتالي خارج وأعلى المجال الذي يضبطه. في هذه الحالة وإضافة إلى كونه فوق طبيعي فإنه تقليدي وجمعي وهو يأتي قبلا، يقينا في ما هو مؤسس ويستدعي التخليد، يتم إرفاقه بالمجتمع ككل حيث يحدد النظام الموجود سلفا مكانة كل فرد، وإما أن يكون هذا المنبع في مجال البشر في هذه الحالة لا يمكنه أن يقيم إلا في الحقوق الأصلية المرتبطة بالأفراد حالما يوجدون قبل وخارج كل مجتمع في تكافئهم المجرّد بأن يكونوا موجودين بطريقة مستقلّة، كل واحد من أجل نفسه ذاتها، فتكون للكائنات حرية متساوية، فالحق بينهم وبينهم لا يمكن أن يَنْتُج منذ الآن إلا من حقوق بدئية، إبداع يفترض اتفاقهم الحر ومشاركتهم المتساوية. لقد أدركنا معادلة حقوق الإنسان.

إن النقطة الحاسمة في بحثنا تتمثل في كوننا نفكر بشكل آخر، منذ اللحظة التي نفكر فيها خارج الرباني ونماذج الماضي وخارج سلطة الكل الاجتماعي فنحن نتجه بلا هوادة في اتجاه هذه الطريقة في تناول الأشياء بإكراه مطلق للفكر. هذا لا ينشأ من برهنة، فلا نظرية تتدخل هنا. إن هذه المبادئ الأولى تُطْرَح بعامة بطريقة حدسية محضة، ومع ذلك يوجد شرط لاتفاق الفكر مع ذاته لا يمكن وقفه في نهاية الحكم ومثل الفرضيات الرياضية حاولوا أن تستنتجوا وتبنوا فرضية بديلة. في أقصاه يمكننا أن ننكر وجود مشكل، هذا هو الفرق بين العالم الاجتماعي للبشر والعالم الفيزيائي. إن الفاعلين يمكنهم أن يتحملوا ترف الجهل بالظروف التي تسمح لهم بالعيش في المجتمع أو تجاهلها، بيد أن الإنكار لا يمنع وجود المشكل. إن ضرورات العيش المشترك تؤدي إليه بشكل جيد. فنحن لا نستطيع العيش دون حق ولا يمكن لهذا الأخير أن يستغني عن مبدأ الشرعية وليس لدينا شيء آخر يمكن أن نتخيّله، بهذا المعنى يُسْمَح بالحديث عن كونية حقوق الإنسان. إن خروج الديني حملنا إليه وبلا هوادة. هذا هو المسار غير المتكافئ لهذه الأخيرة على سطح الأرض. وهو ما يفسّر الاختلافات في مستوى قبول المبدأ. لا يتعلق الأمر هنا بالاعتقادات الدينية فقط فالأمر يتعلق بتأصيل، بما في ذلك غير الواعي لهذه المتاريس الضخمة التي تشكّل عناصر التفكير وفقا لفرد الحق والتي تُسَمَّى التراث أو التقاليد أوالانتماء. ولكن بقدر ما أن الاستيلاء على الكوكب من قبل التوجهات العلمانية التي يقودها العلم والتقنية والحساب الاقتصادي. يُسْمَح لنا أن نعتقد أن حقوق الإنسان تمثّل فعلا أفقا كونيّا لحياة المجتمعات. ثمة الآن سبيل طويل عليها أن تقطعه من المبدأ بوصفه مبدأ إلى إدراجه الفاعل ضمن العلاقات الاجتماعية، فحول هذه المسافة تدور أعتى خصوماتنا اليوم، وعلى الغربيين هنا أن يتذكّروا تاريخهم – وهو ما هم عليه أقل فأقل قدرة- ليغترفوا القليل من الحكمة وبعض الدروس المجدية. إن الصيغة الأساسية لحقوق الإنسان – ليس ثمة في المنطلق إلا حقوق الأفراد- التي انبثقت في القرن السابع عشر وكان ينبغي انتظار نهاية القرن الثامن عشر لكي تعرف بداية التجسيم مع الثورات الأطلنطية في أمريكا وفرنسا. واستغرق الأمر قرنين من الزمن في هذا المستوى التبشيري إلى مرحلة البداهة المشتركة التي تغلب اليوم. إن قرنين مكتنزين بالصراعات الدامية حول شرعيتها وحول إمكانها يمكن للوقائع أن تكون فيها بشكل شرعي محيرة حول هذه النقطة أو تلك. فبأي معجزة نريد لمجتمعات تحمل تاريخا مختلفا عن تاريخنا قطع طريق قطعناه نحن في قرون؟ كيف نتصوّر أن حضارات وديعة تنكر بضربة واحدة ماضيها لكي تتحوّل إلى طريقة في التفكير واجهنا نحن صعوبة كبيرة في تجسيد استقرارها. وفضلا عن ذلك لا يجب أن نعتقد أن مشاكل جدية في تطبيقها وُجِدَت في أقطارنا. من البديهي أن تصوّر ذلك مستحيل وحتى وإن حدث فمن الاستحالة أن يغنم أحد.

من الأفضل أن نسأل عما حدث في الغرب في غضون مسار التجسيم المعقّد والذي انتهى بإقامة “حقوق الإنسان” في مركز القيادة، هذا في توجّه مزدوج لمراجعة نقديّة لأنفسنا ولذكاء مسارنا بغاية استنباط أنوار يكون لها نفع عندما نشارك في تقديم نصائح للآخرين. في مقام أول لأن هذا التتويج الأخير لحقوق الإنسان الذي نتباهى به كثيرا لا يكون وإلى جانب فوائده المؤكّدة دون إنجرافات ملحوظة وأضرار واضحة في أكثر من زاوية من الحياة الاجتماعية والسياسية والتي ينبغي أن نعتني بها بجدية أكثر. لماذا نريد ودون تفكير تصدير أمر نحن أنفسنا علينا أن نعود إليه ولا يكون عرضه على شركائنا جذّابا؟ فقدر ما تكون حقوق الفرد حاسمة بقدر ما تكون إدارتها مشكليّة وعلينا أن نكون في وضع أفضل لنعرفها. وفي مقام ثان فإن أولوية هذا الجهد للتفكير الذاتي ينبغي أن يتوجه لتوضيح السبل التي اكتسبت هذا الشكل من البداهة الوظيفية التي نراها اليوم –لنصرّ على ذلك دون كلل لمسار قرنين من الزمن- تقريبا الواقع أمر والفعالية العملية أمر آخر. إنها الآن تفترض شروطا ليس لدينا عنها إلا تصورا جد غامض، أما الإطار الجماعي في ما يخص الأدوات العامة التي تتطلب الدعم وما يتعلق بالتربية وحماية الأشخاص والتي تتحدث باعتدال عن الحقوق المنسوبة إليهم،هذا وأمرّ، لكن لا يجوز فرض حياد القضاة وأيضا وطنية الحكام حيث يكون تفاني المسؤولين من أجل المصلحة العامة. هذه الوظائف التي ينبغي أن نعلم كيف نؤسسها أو إن شئنا أن يكون لنا حظ يسير للمساهمة الفعالة في تعريف حقوق الإنسان. ما هي البنى التحتية التي تقتضيها لتشتغل؟ خارج الإجابة عن هذا السؤال فإن المطالبة بها لن تكون إلا تعويذة عقيمة.

هنالك نقطة ينبغي التنصيص عليها هنا، نقطة أختلف فيها مع فرنسوا جوليان، فحقوق الإنسان لا تلعب دوما دور خط الدّفاع ولا يمكنها أن تكون كذلك. إن الضمانات الشخصية ضد التعسّف الحكومي التي يقول عنها فرنسوا جوليان في صياغة لافتة :”(…) إن تأثيرها السلبي -من جهة ما تتوجه ضدّه- أكثر بكثير من امتدادها الإيجابي –من جهة ما تلتزم به-” (ص 181/182) إن الفكرة تبدو مغرية كذلك، لكنها في المقام الأخير خاطئة. وقد سادت هذه الاتفاقية المحدودة بالفعل في زمننا طيلة المدة التي تتوسط بيانات التحقق إلى التكريس الجليل أخيرا. في تلك الأيام دخلت حقوق الإنسان من صراعنا في معارضة الكليانية الشيوعية، في تلك المدة تم تبرير اشتغالها بجلاء في عالم الطغاة والنظم البوليسية. بيد أن هذا الاستخدام الطارئ لا يستنفد الدلالة. إن حصرها في ذلك هو عدم احتساب الحيوية التي تحركها والمشاكل التي تطرحها. إنها تنخرط في فهم شامل للحياة المشتركة وما ينبغي أن تكونه مؤسسة إنسانية اجتماعية، بمعنى أن “تمددها الايجابي” مخصص لمغالبة “تمددها السلبي” لذلك فإن استيعابها يحمل صعوبة. لأجل ذلك ينبغي أن نؤكد أن حقوق الإنسان –ومن أجل نزع هذه الشكوك- ليس لديها جواب للجميع. إذا ما غيّرت ملامح الجميع وتمفصلات الكل، وذلك بتحوير هيئة الكائنات وجوهر علاقاتهم في مدة مطالبهم المجردة، اللحم الحي للثقافة. هل أن الغرب متماثل؟ إنها لحظة مساءلة التلوينة، فهي ليست مشروطة. إذا كانت حقوق الإنسان تتضمن رؤية شاملة للوجود معا وتطرح مشكلا تحت هذا العنوان فثمة آلاف الطرق لفهمها ثقافيا والإجابة عن أوامرها. وعلى خلاف العالم العلمي فإنه يتم استيعابها بطرق متعددة. إنها أحد قواها التي ينبغي أن نعرف كيفية استخدامها.
نحن هنا. والمبدأ نغنمه كوكبيا. فالتشريع الديني للسلطات لا يمكن أن ندافع عنه في أي مكان، كما أن التشريع بحقوق الأفراد أصبح أفقا كونيّا، بيد أن السبيل الذي ينبغي قطعه لكي يصبح هذا الأفق مجسّدا مازال طويلا. فبفضل هذه الرؤية المزدوجة ينبغي أن نتقدّم: كونية نقطة الوصول وتطوّر متفاوت لشروط الوصول، دون الحديث وكاستطراد عن تنوّع السبل. لأن هذا التقارب الذي بدأ في التشكّل لا يعدنا مطلقا بكوكب متماثل، ولكن على العكس إن كونيّة المرجع لا تمنع من وجود حضارات عديدة لحقوق الإنسان. فعلى خلاف الهيمنة عن طريق الاقتصاد فإن الأطر السياسية مدعوّة للحفاظ على فلسفة أصيلة. إن كوكب الكوني سيكون أكثر من أي وقت مضى كوكب التعدديّة الثقافية، سيكون ذلك بلا شك على أساس التملّك الناجح لمرجع مشترك والذي لن يكون للغرب الخجل من تسليط الضوء عن نزع الطابع الغربي عن السياسة.


المصدر:

« Du bon usage des droits de l’Homme. » Le Débat, 2009 n°153 pp 163-168. Article disponible en ligne à l’adresse : http://www.cairn. Info/revu-le-debat-2009-1-page-163.htm