مجلة حكمة
العلل الأربعة عند أرسطو ستانفورد

العلل الأربعة وكفاية التفسير عند أرسطو –  كريستوفر شيلدز


ثمّة جانب مهم يتبوّأ موقعًا مركزيًا مماثلًا من الفكر الأرسطي، وهو: مخطّط (التفسير بـ العلل الأربعة). وإذا حكمنا على هذا المعتقد بناءً على تأثيره فسنجد بأنّه، ولا شكّ، من أهمّ المساهمات الفلسفية لـ أرسطو. ويتوقّع أرسطو في هذا المعتقد، كما هو حال غيره من الفلاسفة، أن تكون التفسيرات التي يسعى إليها في الفلسفة والعلوم تحقّق معايير محدّدة للكفاية؛ لكنّه يختلف عن غيره من الفلاسفة في أنّه يعتني بالتعبير الصريح عن معايير الكفاية؛ وبعد أن يقوم بذلك يشير إلى الأخطاء الكثيرة التي وقع فيها أسلافه بتقصيرهم في تحقيق المعايير المطلوبة. ويعبّر أرسطو عن مخطّطه هذا بمقطع يتّصف بالمنهجية ضمن الفصل الثاني من كتابه (الطبيعة):

«من طرق التعبير عن العلّة أن نقول بأنّ منها تتحقّق كينونة الأشياء وبها تستمرّ، كما هو الحال في برونز التمثال، وفضّة الطبق، والجنس الذي ينتمي إليه البرونز والفضّة كنوعين. ومن طرق التعبير أيضًا: إنّ العلّة هي ما يقال عنه بأنّه الصورة أو النمط، أي: ما يشار إليه في التفسير (logos) عائدًا للماهية وأجناسها؛ ومن ذلك مثلًا: إنّ علّة الأوكتاڤ هي النسبة (2:1)، أو الأعداد بشكل أعمّ، بالإضافة للأجزاء المذكورة في التفسير (logos). ويضاف إلى ما سبق أنّ المصدر الرئيسي للتغيّر والسكون يقال عنه بأنّه علّة، ومن ذلك مثلًا: الرجل الذي تفكّر علّة، والأب علّة لابنه، وبشكل عامّ يعدّ الفاعل علّة للمفعول، والمغيِّر علّة للمغيَّر. وعلاوة على ذلك، فإنّ الغاية (telos) يقال عنها بأنّها علّة، أي: ما من أجله تفعَل الأشياء (hou heneka)، ومثال ذلك: المحافظة على الصحّة علّة المشي، فعندما نسأل: (لماذا يمشي فلان؟)، نجيب: (كي يكون صحيح الجسم)، وبقولنا هذا نعتقد أنّنا قد أشرنا إلى العلّة» (Phys. 194b23–35).

وعلى الرغم من أنّ بعض أمثلة أرسطو التوضيحية لا تكشف فورًا عن المراد بها، فإنّ مقاربته التفسيرية مباشرة على نحو معقول.

وإذا أردنا أن نحقق الفهم الأفضل لموقف أرسطو من التفسير فلا بدّ أوّلًا من تسليط الضوء على مثال بسيط اقترحه في كتابه الطبيعة (Physics ii 3). فالتمثال البرونزي يتيح أبعادًا مختلفة ومتنوّعة للتفسير؛ وإذا كنّا نرغب بمواجهته دون ملاحظة ما هو فيعتقد أرسطو بأنّنا سنقوم تلقائيًا بطرح سلسلة من الأسئلة حوله، إذ نرغب بمعرفة (ما هو)، و(ممّ صنِع)، و(ما الذي جاء به إلى الوجود)، و(لأيّ شيء يستخدَم). وعندما نطرح هذه الأسئلة فإنّنا نسعى إلى معرفة العلل الأربع (aitia) للتمثال: العلّة الصورية، والمادّية، والفاعلية، والغائية. وعندما نحدّد هذه العلل الأربعة نكون، وفقًا لأرسطو، قد لبّينا طلبًا معقولًا على الكفاية التفسيرية.

وبشكل أكثر شمولًا، يمكن القول بأنّ التفسير العلّي الرباعي للكفاية التفسيرية يتطلّب من الباحث أن يذكر العلل الأربع التالية:

  1. العلّة المادّية: ما يتمّ توليد الشيء منه، وما يُصنع منه (مثلًا: البرونز للتمثال).

  2. العلّـة الصورية: البنية التي تحقّقها المادّة وبوجبها تصبح أمرًا قابلًا للتمييز (مثلًا: شكل سقراط الذي بموجبه يمكن القول عن كمّية البرونز بأنّها تمثال سقراط).

  3. العلّة الفاعلية: الطرف المؤثّر المسؤول عن اتّخاذ كمّية المادّة لصورتها (مثلًا: النحّات الذي شكّل كمّية البرونز بهيأتها الحالية: صورة سقراط).

  4. العلّـة الغائية: غاية أو هدف التراكب بين الصورة والمادّة (مثلًا: صنع التمثال لغاية تكريم سقراط).

وفي كتاب (الطبيعة)، يضع أرسطو ادّعاءين بشأن هذا المخطّط العلّي الرباعي: (1) من (الضروري) ذكر العلل الأربعة جميعها إذا أردنا للتفسير أن يكون كافيًا؛ و(2) هذه العلل الأربعة (كافية) للمطابقة في التفسير (Physics ii 3). وكلّ من هذين الادّعاءين يتطلّب بعض التفصيل، وكذلك بعض بيان أهليته لذلك.

أمّا في ما يخصّ ادّعاء (الضرورة) فإنّ أرسطو لا يفترض أنّ كلّ الظاهرات تقبل العلل الأربعة؛ ولذلك، مثلًا، تفتقر الصدفة للعلّة الغائية، وذلك لأنّها لا تقع من أجل أيّ شيء، وهو ما يجعلها صدفة في نهاية المطاف. فإذا كان أحد المقترضين قد خرج إلى السوق ليبتاع الحليب، والتقى في طريقه بمن أقرضه المال وهو في طريقه ليبتاع الخبز، فربّما يوافق حينها على إعادة المال الذي اقترضه فورًا. وعلى الرغم من أنّ هذا اللقاء قد تمخّض عن نتيجة مطلوبة، فإنّه لم يكن في الأصل بهدف تسديد القرض، بل إنّه لم يكن لأيّ هدف على الإطلاق، فهو مجردّ صدفة، ولذلك فهو يفتقر للعلّة الغائية. وعلى النحو ذاته، إذا اعتقدنا بأنّ هنالك تجريدات في الرياضيات أو الهندسة (مثلًا: وجود المثلّث باعتباره جسمًا في الفكر مستقلًّا عن أيّ تحقّق مادّي، فعندها يفقد المثلّث، ببساطة، العلّة الغائية).[xvii] ومع ذلك، فإذا نحّينا هذه الاستثناءات المهمّة جانبًا، فإنّ أرسطو يتوقّع أن تتكيّف الأغلبية الغالبة من التفسيرات مع مخطّطه العلّي الرباعي. ويؤكّد أرسطو، في الحالات التي لا تحتوي على استثناءات، على أنّ الفشل في تحديد كلّ العلل الأربعة يعتبر فشلًا في كفاية التفسير.

أمّا في ما يخصّ ادّعاء (الكفاية) فإنّه لا يقبل الاستثناءات، لكن ربّما نضلّل القارئ إذا تركنا هذه المسألة وثيقة الصلة دون أن ندلي بالملاحظات حولها. ولقد قدّم أرسطو مثالًا توضيحيًا للعلّة المادّية فبدأ أوّلًا بالبرونز في التمثال، والفضّة في الطبق، ثمّ ذكر أيضًا «الأجناس التي يعتبَر البرونز والفضّة من أنواعها» (Phys. 194b25–27). وهو يعني بهذه العبارة أجناس المعادن التي ينتمي إليها الفضة والبرونز، أو بتعبير أعمّ: (المعادن) ببساطة. أي: يمكن للمرء أن يحدّد العلّة المادّية لوضع ما بشكل تقريبي نوعًا ما، وذلك بتحديد طبيعة المادّة بشكل دقيق نوعًا ما. ومن هنا، فعندما يذكر أرسطو ضمنيًا بأنّ ذكر العلل الأربعة كافٍ للتفسير، فإنّه لا يقصد الاقتراح بأنّ ذكرها يكفي مع أيّ مستوى من مستويات التعميم؛ بل يقصد أرسطو التشديد، عوضًا عن ذلك، على أنّه ليس ثمّة نوع خامس من أنواع العلل، وأنّ علله الأربعة المفضّلة تندرج فيها كلّ أنواع العلل. ولا يقدّم أرسطو محاججة كاملة لهذا الاستنتاج، لكنّه يتحدّى قرّاءه بأن يحدّدوا أيّ نوع من العلل يمكنه أن يتمتّع بما يؤهّله ليكون نوعًا متميّزًا عن العلل الأربعة المذكورة (Phys. 195a4–5).

يمكن القول، بعد ما أسلفناه، أنّ مخطط العلل الأربع يمتلك كلّ معقولية حدسية يمكن أن تقدّمها الأمثلة التوضيحية التي ساقها أرسطو؛ لكنّ أرسطو لا يقنع بهذا الحدّ، بل يعتقد عوضًا عن ذلك بأنّه قادر على المحاججة بقوّة بأنّ العلل الأربعة عوامل تفسيرية حقيقية، أي: إنّها من الميزات التي يجب ذكرها لا لمجرّد أنّها تقدّم تفسيرات مقنعة، بل لأنّها في أصلها عوامل علّية إجرائية، وإذا غاب أحدها أصبح أيّ تفسير مزعوم مفتقرًا للكمال، وبذلك يفتقر للكفاية.

ويجب أن نشير هنا إلى أنّ حجج أرسطو في دعم العلل الأربع، إذا نظرنا إلى كلٍّ منها بمفرده، تفعل فعلها تحت غطاء الربط العامّ الذي يصوغه بين التفسير العلّي والمعرفة. وبما أنّه يعتقد بأنّ العلل الأربع (aitia) تبرز في الأجوبة المقدّمة على أسئلة البحث عن المعرفة (Phys. 194b18; A Po. 71 b 9–11, 94 a 20)، فلقد أصبح بعض العلماء يفهمها على أنّها (تعليلات) أكثر ممّا هي (علل)، أي: كتفسيرات لا كعلل مفسّرة على نطاق ضيّق.[xviii] ومعظم هذه الأحكام تعكس التزامًا مسبقًا برؤية حول العلّية والتفسير: أنّ العلّية تربط بين الأحداث لا القضايا؛ أو أنّ التفسيرات متّصلة بالبحث؛ أو أنّ العلّية ماصدقية والتفسير مفهومي؛ وأنّ التفسيرات لا بدّ أن تتقيّد بشكل من أشكال النموذج الاستنباطي-القانوني بينما لا يجب ذلك على العلل؛ أو أن العلل يجب أن تسبق تأثيراتها زمانيًا، بينما قد تلجأ التفسيرات، وخصوصًا المفهومية منها، إلى أوضاع عامّة أسبق زمانيًا من الأفعال التي تفسّرها.

وبشكل عام، يمكن القول بأنّ أرسطو لا يحترم هذه الأنواع من الالتزامات، ولهذا فإنّ مقاربته للعلل ربّما يمكن اعتبارها، إلى الحدّ الذي تصل إليه في إمكانية الدفاع عنها، بمثابة ضباب يشوّش قوانين العلّية والتفسير؛ لكن يجب بالتأكيد أن لا نستسلم فورًا للقول بأنّ أرسطو مذنب بارتكاب هذا الخلط، أو حتّى بأنّ العلماء الذين ترجموا تفسيره للـ(aitia) الأربعة بتعابير العلّية قد فشلوا في التعامل مع ما حدث من تطوّرات في نظرية العلّية بعد هيوم؛ وعوضًا عن ذلك، يجب أن نقول بأنّ غياب الانسجام عن التفسيرات المعاصرة للعلّية والتفسير، والميل الدائم المبرّر لاعتبار التفسيرات العلّية بمنزلة أساسية بالنسبة لباقي أنواع التفسيرات، سببان يشرّعان لنا التساؤل حول ما إذا كان مفهوم أرسطو حول العلل الأربعة لا يتواصل، في أيّ جانب مهمّ، مع المقاربات التي ألهمتها أفكار هيوم، والتساؤل مرّة أخرى عمّا إذا كانت مقاربة أرسطو تضطرب، وبأيّ درجة، عند المقارنة. ومهما يكن من أمر، فمن حسن التصرّف عند التعامل مع دفاع أرسطو عن علله الأربع أن نأخذ بالحسبان الجدل المحيط بالسبيل الأمثل لشرح مقاربته المدفوعة معرفيًا في العلّية والتفسير بالنسبة لبعض المقاربات التي تلتها.

ولمن يرغب بالاستزادة حول العلل الأربع بشكل عام، يمكن الاطّلاع على المدخل المعنون (السببية عند أرسطو) في هذه الموسوعة.


[xvii] الوضع الأنطولوجي للأجسام الرياضية عند أرسطو يقدّم تعقيداتنا أصبحت تلقى التجاهل في أيّامنا. ولمن يرغب بمقدّمة حول بعض هذه التعقيدات، يمكن الاطّلاع على القسم السادس من مدخل (الرياضيات عند أرسطو) في هذه الموسوعة.

[xviii] راجع على سبيل المثال (Hocutt 1975)، وخصوصًا (Annas 1982). ويفضّل (Moravcsik 1974) المصطلح الأكثر حيادية (العامل التوليدي).