مجلة حكمة
العدالة الاجتماعية

العدالة الاجتماعية

الكاتبديفيد ميلر
ترجمةتوفيق السيف

مفهوم العدالة الاجتماعية

طرحت هذه الفكرة في أواخر القرن التاسع عشر.[1] واتسع النقاش فيها تدريجيا حتى باتت في قلب النقاشات السياسية خلال القرن العشرين. وكما أسلفنا ، فإن نقاشات العدالة الاجتماعية، تركز على تبني الحكومة سياسات توزيعية، أوسع نطاقا مما كان ممكنا لها في الحقب السابقة.

ما هي العدالة الاجتماعية؟

ما تزال فكرة العدالة الاجتماعية مثيرة للجدل. كان مبدا العدالة قد هوجم من جانب حفنة من الشكاكين المتطرفين. اما فكرة العدالة الاجتماعية فقد نالت هجوما أوسع، وجرى تسخيفها والتشكيك في قيمتها وسلامة مبانيها ، ولا سيما من جانب مفكري اليمين المحافظ (الليبرتاري) الذين رأوا انها يمكن ان تؤدي الى تآكل الحرية الشخصية، وعلى الخصوص الحرية الاقتصادية التي يحتاجها اقتصاد السوق.

من بين ابرز المفكرين الذين هاجموا فكرة العدالة الاجتماعية ، نذكر الاقتصادي والفيلسوف النمساوي فريدريك فون هايك ، الذي جادل بان مجرد النقاش في العدالة الاجتماعية ، ينطوي – من حيث المبدأ – على خطأ أساسي[2].

يحتج هايك بان العدالة هي في الأساس خاصية للفعل الفردي: فنحن نصف الفعل بأنه مجانب للعدالة ، إذا تعارض مع المباديء أو القواعد العامة ، التي وضعها المجتمع كي ينظم التعاون بين أعضائه. ومن هنا نعتبر السرقة – على سبيل المثال – فعلا مجانبا للعدالة ، لأنها تخرق القاعدة التي تنص على حماية الملكية.

ولكن لو نظرنا إلى نظام توزيع الموارد في المجتمع ، أي حركة المال والممتلكات وفرص العمل.. الخ ، فسوف يتعذر وصف نظام التوزيع هذا بانه عادل أو غير عادل ، لأنه – ببساطة – ليس ناتجا عن تصرفات شخص بعينه ، ولا قرار فاعل بعينه. انه يعكس في الحقيقة تصرفات وقرارات ملايين الأشخاص المنفصلين عن بعضهم ، والذين لم يقصد أحد منهم التوصل من خلال فعله الى هذه النتيجة أو تلك ، أي لم يكن قاصدا ان ينتهي الامر الى توزيع الموارد بهذه الطريقة ، او ان يصل الى هذه النتيجة ، لأن الافراد الذين يتبادلون الموارد ، يركزون اهتمامهم على منفعتهم الشخصية ، ولا يضعون في اعتبارهم انعكاس هذه النتائج على الأفق الاجتماعي الاوسع.

اني اتفق تماما مع فريدريك هايك في هذه الجزئية خصوصا. فمن المؤكد أن التوزيع الاجتماعي للموارد ، لا يمكن أن ينسب إلى فاعل بعينه او جهة توزيع بعينها ، بالنظر الى التعقيد الذي تتسم به الحياة الاقتصادية والتبادلات في المجتمعات المعاصرة.

لكني اخالفه في القول بأن هذه التعاملات ليست ذات صلة بقيمة العدالة او ليست موضوعا لها. ان النمط التوزيعي الجاري من حولنا لم يقم بصورة عفوية او عشوائية ، فهو يعتمد في خطوطه العامة على المؤسسات والنظم التي أقمناها ، بصورة عفوية او واعية ، كي تسهل حياتنا. خذ مثلا القواعد الرسمية التي تنظم الملكية والعقود ، وكذا النظم الضريبية ، ومستويات الانفاق العام على الرعاية الصحية والتعليم والاسكان وسياسات التوظيف وما إلى ذلك. فهذه جميعا منظومات ودوائر يمكن ابقاؤها او تغييرها بقرار سياسي. ويترتب على هذا اننا لو تركناها على حالها الراهن ، فان تركنا لها يمثل نوعا من قرار بقبول التوزيع الحالي للموارد.

اضف الى هذا اننا نستطيع ان نفهم ، بشكل عام على الأقل ، ان لم يسعنا ادراك التفاصيل الدقيقة ، النتائج التي يمكن ان يفضي اليها قرار بالتغيير المؤسسي. نعلم ان هذا سيؤثر بعمق على توزيع الموارد عبر المجتمع ، بما فيه تحديد المستفيدين والمتضررين ، ومقدر المنافع والاضرار ، من يحصل على المنافع ونوعية ما يحصل عليه ، كيف ستكون سعة المداخيل.. الخ ، نعلم ان هذه الانعكاسات والقرارات التي تحركها ، كلها تخضع ، في النظم الديمقراطية ، للسيطرة المشتركة لأعضاء المجتمع.

ولأن مجمل العملية التوزيعية سوف تتقرر وتعالج على هذا النحو ، فانه لأمر معقول تماما أن نسأل كيف سيبدو التوزيع العادل للموارد الاجتماعية ، كما نسأل ما الذي ينبغي ان نفعل كي نستجيب لمتطلبات العدالة الاجتماعية.

على أي حال ، فان هذا لا ينبغي ان يفهم على ان العدالة الاجتماعية شيء يتوجب السعي وراءه. نقول هذا كرد على الادعاء الثاني للفيلسوف هايك ، وخلاصته ان محاولاتنا لتنظيم توزيع الموارد كي تتوافق مع معتقداتنا او تفضيلاتنا النظرية ، ربما ينتهي الى إقامة نوع من التخطيط المركزي والغاء الحرية الاقتصادية. واذا حدث هذا فسنكون كمن يقتل الأوزة التي تبيض ذهباً ، بينما يحاول تسمينها او حمايتها.

مع ذلك ، دعنا نفترض أن هايك محق في القول بأن اقتصاد السوق ، هو الطريقة الأكثر فعالية لتنظيم الانتاج والتبادل ، وأن أي بديل له قد يؤدي الى تدهور مفزع لمستويات المعيشة في المجتمعات المتقدمة.

السؤال هو: هل هناك تناقض بين السعي وراء العدالة الاجتماعية من جهة ، وتعزيز اقتصاد السوق من جهة ثانية؟. ام ان بالامكان تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال اقتصاد السوق ، حتى لو اقتضى الأمر إعادة تنظيمه بطريقة صحيحة ، فضلا عن إضافة المؤسسات الموازية التي يمكن ان تساعد على تحقيق غايات العدالة الاجتماعية.

كي نصل الى هذا المستوى ، سوف نحتاج الى النظر في التفسيرات المختلفة لفكرة العدالة الاجتماعية. سوف نحتاج مثلا للنظر في النسخة الأكثر راديكالية ، وهي النسخة التي يتبناها الماركسيون وبعض الأناركيين المجتمعيين communitarian anarchists الذين تعرضنا لهم في الفصل الثاني. في هذا التفسير جرى اختزال مفهوم العدالة الاجتماعية ، وصرفه الى مبدأ المساواة ومبدأ الحاجة.

وفقا لرؤية هذا الفريق ، فان المجتمع الذي يستحق صفة العدالة ، هو ذلك التي يساهم كل عضو فيه ، بأفضل ما يمكنه ، في سد حاجات الجماعة. لكن توزيع الموارد يجري تبعا لمعيار الحاجة ، ثم توزيع الفائض بالتساوي. لا محل هنا لفكرة ان الناس يحتاجون الى محفزات كي يزيدوا انتاجهم ، ولا جوائز مادية لقاء مساهماتهم[3].

حسنا.. هل يمكن لمجتمع كهذا ان يوجد في العالم الواقعي؟

لا شك ان وجوده ممكن ، لكن على نطاق ضيق. لدينا العديد من الأمثلة على مجتمعات صغيرة ، يمارس أعضاؤها هذا الشكل المتطرف من العدالة الاجتماعية فيما بينهم. معظم هذه الجماعات تنطلق من قاعدة دينية ، وتعتمد في استمرارية تقاليدها على وجود سلطة دينية ، تحافظ على أعراف الجماعة وأخلاقياتها ، ولا سيما هذه الروحية التي تجعل كل فرد يبذل طاقته من اجل الخير العام ، من دون ان يتوقع مكاسب شخصية[4].

ثمة إضافة الى الجماعات الدينية ، امثلة أخرى ، علمانية المنشأ ، تحمل نفس السمات وتقوم بنفس الممارسة ، ولعل ابرزها تجربة الكيبوتز في إسرائيل.

العامل المهم الذي ينبغي أخذه بعين الاعتبار في تجربة هذه المجتمعات ، هو استغناؤها عن السوق ، في تعاملاتها الداخلية على الأقل. لقد اعتمد العمل فيها على ما يمكن وصفه بالحوافز المعنوية ، حيث ساهم أعضاء الجماعة في الخير العام ، لأنهم كانوا يؤمنون بأن هذا ما يجب ان يفعلوه ، أو لأن الجميع مطالب بفعله ، وان هذا يعادل ما يمكن وصفه بثمن العيش ضمن الجماعة.

السؤال الان: هل يمكن للمجتمعات الأكبر حجما ان تطبق نفس النموذج ، لتحقيق العدالة الاجتماعية؟

يبدو ان هذا النموذج من العلاقات التكافلية امتياز للجماعات الصغيرة ، ولا يمكن إقامة نظير له  خارجها. اقتصاد المجتمعات الأكبر حجما يجب ان يحتذي واحدا من نموذجين: اما نموذج السوق الحر ، بحيث يحصل الناس على حوافز مادية محددة ، كي يتجهوا لانتاج المواد التي يرغب الآخرون في استهلاكها ، او نموذج التخطيط المركزي حيث تقوم الدولة بتحديد ما يجب توفيره في السوق ، ثم توجه الافراد لتنفيذ المخطط ، كما تقرر العائد الذي يحصلون عليه في مقابل التزامهم بالخطة.

من الناحية النظرية البحتة ، يمكن للإنسان ان يتخيل قيام نموذج مشابه لما ذكرنا ، في ظل نظام السوق الحرة او التخطيط المركزي ، حيث يجري الانتاج والتبادل من دون الاتكال على الحوافز المادية. لكن من الناحية العملية ، اثبتت التجارب استحالة تطبيقه في الاقتصادات الكبيرة الحجم. وقد جرت محاولات في منتصف القرن العشرين ، لاستبدال الحوافز المادية بحوافز معنوية ، في ظل النظامين الماركسيين في كوبا والصين. لكن لم يكتب النجاح لأي من هذه التجارب.

يبدو على اي حال ان انجاز متطلبات العدالة الاجتماعية في شكلها المتطرف ، مشروط بالاستغناء عن اقتصاد السوق ، وإعادة بناء المجتمع على أساس مختلف.


 

الهوامش

[1] وفقا للبروفسور كريناك ، فقد ظهر مصطلح “العدالة الاجتماعية” للمرة الاولى في اربعينات القرن التاسع عشر ، حين اورده بصورة منفصلة كلا من أنطونيو روزميني سيرباتي Antonio Rosmini Serbati (1797-1855) ولويجي تاباريللي دازيلجيو Luigi Taparelli d’Azeglio (1793–1862). وكلا الرجلين من الاساقفة الكاثوليك ، وكان غرض كتابتهما هو الدعوة لتطوير مفهوم للعدالة الاجتماعية la giustizia sociale  يتناسب مع مفهوم “العدالة العامة” الوارد في الكتاب المقدس ، ويستجيب في الوقت نفسه للتحدي الذي طرحه قيام الثورة الفرنسية.

Robert P. Kraynak: “The Origins of Social Justice in the Natural Law Philosophy of Antonio Rosmini”, The Review of Politics (University of Notre Dame), Vol. 80, Issue 1, Winter 2018, pp. 3 – 29,  https://doi.org/10.1017/S0034670517000754

[2] للاطلاع على رؤية هايك بهذا الصدد ، انظر فريدريك هايك: الغرور القاتل.. أخطاء الاشتراكية ، ترجمة محمد غنيم ، دار الشروق (القاهرة 1993)

[3] The best known communitarian anarchist was the Russian Prince Peter Kropotkin – see for instance his The Conquest of Bread and Other Writings, ed. M. Shatz (Cambridge University Press, 1995).

[4] Evidence about communities and societies that have tried to dispense with material incentives is presented in Charles Erasmus, In Search of the Common Good: Utopian Experiments Past and Future (Free Press, 1977).