مجلة حكمة
الفينومينولوجيا الظاهراتية

مناهج الظاهراتية للأخلاقيات وتقنية المعلومات

الكاتبلوكاسس انترونا
ترجمةلميس صالح الرجيعي
تحميلنسخة PDF

مدخل فلسفي شامل حول مناهج الظاهراتية للأخلاقيات وتقنية المعلومات؛ نص مترجم لد. لوكاس انترونا، ومنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد يطرأ عليها التعديل من منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.


تُحدث تقنية المعلومات والاتصالات (التي سنطلق عليها هنا للتيسير: “تقنية المعلومات”) تغييرًا كبيرًا في العديد من جوانب الجهود البشرية والوجود الانساني. وهذا أمر لا جدال فيه بالنسبة إلى الأغلبية من الناس، أما موضوع الخلاف فهو التداعيات الاجتماعية والأخلاقية لتلك التغييرات. المصادر المحتملة لهذه الخلافات هي الطرق العديدة التي يمكن للفرد استخدامها في تصوّر وتفسير العلاقات المتبادلة بين تقنية المعلومات والمجتمع، كل طريقة من طرق التصوّر والتفسير تمكن الفرد من رؤية العلاقة بين تقنية المعلومات والمجتمع بشكل مختلف، ومن ثَمَّ تفسير تداعياتها الاجتماعية والأخلاقية بطريقة مختلفة. وفي قلب هذه العلاقة المتداخلة بين التقنية والمجتمع، نجد العديد من الأسئلة المعقدة حول طبيعة الإنسان، والجوانب التقنية، وحرية الإرادة، والاستقلالية، والحرية، وغير ذلك الكثير. بالتأكيد هذا مشهد فِكري واسع، ولا يمكن اسكتشافه بالكامل في هذا المقال. يدور المقال حول منظور واحد محدد في هذا المشهد، ويركز بشكل أساس على المنهج الظاهراتي لتفسير تقنية المعلومات وآثارها الأخلاقية والاجتماعية. وتجدر الإشارة منذ البداية إلى أنه لا يوجد تقليد أو نهج ظاهراتي موحد يتناول تقنية المعلومات بصفة خاصة، أو أي ظواهر أخرى بصفة عامة. يتكوّن التقليد الظاهراتي من العديد من المناهج المختلفة التي تشترك معًا في خصائص معينة ولكن ليس في جميع الخصائص (ما يمكن قوله، تشابهات عائلية معينة) ولكن ليس كلها. ولكن يمكن أن نُشير لما قاله دون إيهدي (Don Ihde, 2003, 133)، وهو أنهم جميعًا “يقبلون أن “العلم الظاهراتي يبحث الظروف التي تجعل الأشياء تظهر بالشكل الذي تبدو عليه [أي ما نراها].” بمعنى آخر، يشير العلم الظاهراتي إلى أن هناك علاقة تأسيسية مشتركة بيننا وبين الظواهر التي نواجهها في تعاملنا مع العالم. بهذا المعنى، يقترح علماء المنهج الظاهراتي أنه لفهم العلاقة بين التقنية والمجتمع، نحتاج إلى الكشف عن كيفية تشكيلهما لعبضهما البعض-  أي كيف يعتمدان على بعضهما في تحديد معنى كل منهما ومنطقه. سنعرض بمزيد من الدقة ما يعنيه ذلك في القسم 2 أدناه. وسنعرض بإيجاز الطرق الأخرى المحتملة لتفسير العلاقة بين التقنية والمجتمع، حتى نتمكن من فهم مدى تميز المنهج الظاهراتي.

يمكن القول: إن تقنية المعلومات أصبحت موجودة في كل مكان بالمعنى الحقيقي للكلمة. تعتمد معظم التقنيات اليومية مثل المصاعد والسيارات وأجهزة الميكروويف والساعات وما إلى ذلك على المعالجات الدقيقة لتشغيلها. وأصبحت معظم المنظمات والمؤسسات تعتمد على البنية التحتية لتقنية المعلومات لديها بشكل أو بآخر. في الواقع، يرى الكثيرون أن تقنية المعلومات وسيلة فعالة من حيث التكلفة لحل العديد من المشكلات التي تواجه مجتمعنا المعاصر المعقد، بل يمكن القول: إن تقنية المعلومات تعد التقنية الافتراضية المُستخدَمة في حل مجموعة كاملة من المشاكل التقنية والاجتماعية مثل توفير الصحة، والأمن، والحوكمة، وما إلى ذلك. ويمكن القول: إننا وبوصفنا بشر معاصرين، تمكنا من التشابك الكامل مع تقنية المعلومات والاتصالات. ويبدو واضحًا بالنسبة إلى معظم الناس أن تقنية المعلومات قد مكّنت البشر من بناء أنظمة تنسيق وتنظيم اجتماعي ذات تعقيد متزايد، وهي الأنظمة التي منحت المجتمع المعاصر شكله الحالي الذي لم يكن سيظهر بدونها. في الواقع، الفائدة الاقتصادية والتنظيمية والاجتماعية لتقنية المعلومات ليست محل نزاع واسع النطاق. يتمحور هذا الخلاف في كثير من الأحيان حول الطريقة التي تغير أو تُحدث تحولاً تقنية المعلومات في المجال الاجتماعي، وتحديدًا المجال الأخلاقي. يتمحور الخلاف إلى حد كبير حول طرق تصور طبيعة تشابكنا مع تقنية المعلومات وتفسيره. هذا ليس مجرد نقاش أكاديمي حول “نماذج” نظرية مختلفة ومتنافسة، لأن طرق التصور والتفسير المختلفة محورية بالنسبة إلى فهمنا لكيفية إدارة علاقتنا المتشابكة بشكل متزايد مع تقنية المعلومات.


1. وجهات النظر حول طبيعة تقنية المعلومات

يبدو واضحاً أن عالمًا به تقنية معلومات يختلف إلى حد ما عن عالم خالٍ من تقنية المعلومات. لكن ما الفرق؟ هل هو اختلاف في الدرجة (أسرع، أقرب، أوضح، إلخ) أم أنه اختلاف في النوع؟ هل التقنية تشكل المجتمع أم المجتمع يشكل التقنية، أم كلاهما يشكلان بعضهما البعض؟ ما طبيعة هذا التشكيل؟ هل تكمُن في الممارسات أم في طرق التفكير، أم في شيء جوهري أكثر؟ من الواضح أن الإجابات عن هذه الأسئلة ستؤثر في الأحكام التي نتخذها بشأن الآثار الاجتماعية والأخلاقية لتقنية المعلومات عندما نفكر في السياسات والاهتمامات العملية لاستخدام تقنية المعلومات في مجال معين (مثل التجارة أو التعليم أو الحكومة).

تستند الإجابات عن هذه الأسئلة إلى حد كبير إلى رؤية الفرد الضمنية أو الصريحة لجوهر أو وجود تقنية المعلومات، ما طبيعة – أو جوهر – تقنية المعلومات في حد ذاتها؟ من الواضح أن العديد من المواقف الوجودية المختلفة ممكنة وظاهرة. ومع ذلك، من المفيد لأغراض هذا المقال عرض وجهتي نظر متناقضتين على الأقل، وعرض الآراء السائدة التي تبرز إسهام الظاهراتية.

إن الغرض من هذا القسم هو جعل الإسهام المميز للظاهراتية واضحا ومرئيا وليس عرضاً كاملاً لجميع النهج الممكنة. على سبيل المثال، بعض النهج الواضحة غير المذكورة هنا تشمل المنظور الماركسي أو منظور النظرية النقدية بشكلهم الموجود في أعمال أندرو بينبرج (Andrew Feenberg, 1991, 1999)، والمنظور ما بعد البنيوية كما ينعكس في أعمال جان بودريلارد (Jean Baudrillard) وبول فيريليو (Paul Virilio). ومع ذلك، فإن النهج التي تم تضمينها هنا مقبولة بشكل معقول وعلى نطاق واسع، وستكون على هذا النحو بمثابة تباين مفيد مع إسهام الظاهراتية.

1.1 تقنية المعلومات بوصفها قطع أثرية أداة

وجهة النظر الأكثر شيوعًا لتقنية المعلومات هي أنها قطعة أثرية، أو أداة متاحة بسهولة للاستخدام أو عدم الاستخدام، لتمكين البشر من تحقيق أهدافهم ونتائجهم. بعض هذه الأدوات يمكن أن تكون مفيدة جداً والبعض الآخر لا. عندما يأخذ المستخدمون -ومصطلح “مستخدم” هنا مهم- أداة أو قطعة أثرية ما مثل: (معالج الكلمات، أو الهاتف المحمول، إلخ)، سيؤثر في الطريقة التي يفعلون بها الأشياء. على سبيل المثال: إذا كتبت باستخدام معالج الكلمات، سأستخدم طريقة كتابة مختلفة عن تلك التي أقوم بها مع القلم والورق. فمثلاً خاصية “القص واللصق” في معالج النصوص تُمكنني من كتابة أفكاري بسهولة ثم إعادة ترتيبها فيما بعد دون القلق بشأن الصياغة السليمة منذ البداية. ومن ثَمَّ تعد الأدوات امتدادًا للقدرات البشرية، مما يسمح لنا بتحقيق ما لا يمكننا تحقيقه باستخدام جسمنا وحده.

يمكن القول: إن بعض الأدوات أكثر “شمولاً” من غيرها، كالقلم مقارنةً بمعالج الكلمات. ووفقًا لهذا الرأي، نحتاج إلى فهم تأثير استخدام الأدوات (تقنية المعلومات في هذه الحالة) في المجتمع البشري بعد تبنيها واستخدامها في الممارسات اليومية. على سبيل المثال: كيف سيغير التواصل عبر الهواتف المحمولة تفاعلنا وعلاقاتنا الاجتماعية؟ إن طرح مثل هذا السؤال يعني أن وجهة النظر هذه لا تهتم بشكل أساس بتطور التقنية – لماذا وكيف ظهرت في المقام الأول- وإنما تفترض في الغالب أن تصميم تقنية معينة منطقي وموضوعي، أو ما يمكن اعتباره حلًا هندسيًا أو علميًا لمشكلة معينة. تفترض وجهة النظر هذه أيضًا أن تقنية معينة – الهواتف المحمولة في هذه الحالة- تعمل بطريقة موحدة إلى حد ما في الممارسات والبيئات الاجتماعية المختلفة. بمعنى آخر، يفترض هذا المنظور أن تقنية معينة لها تأثيرات محددة في سياق استخدامها. وتؤدي هذه الطريقة في تصور تقنية المعلومات إلى أسئلة من قبيل: “ما هو تأثير الهاتف المحمول في أنماط الاتصال” أو “ما هو تأثير الهواتف المحمولة على الخصوصية/ توقعات الخصوصية”. غالبًا ما يتم انتقاد هذه النظرة عن التقنية بسبب تركيزها على الحتمية التقنية إلى حد كبير. إن الحتمية التقنية (Technological determinism) هي وجهة النظر القائلة بأن التقنية تتسبب في ظهور طرق فعل أو تنظيم معين بشكل أو بآخر. على سبيل المثال: قد يجادل أحد اتباع الحتمية التقنية بأن بنية الإنترنت المفتوحة وغير الهرمية يمكن أن تتسبب إلى حدٍ ما في جعل المجتمع الذي يستخدمها أكثر انفتاحًا وأقل هرمية. يعد عمل بوستمان (Postman, 1993) مثالاً على هذا النوع من التقييم النقدي لتأثير التقنية على المجتمع.

2.1 تقنية المعلومات بوصفها القطع الأثرية والأدوات المبنية اجتماعياً

يرى العديد من الباحثين بأن منظور الأداة والتأثير المذكور أعلاه في تقنية المعلومات لا يعطي وصفاً كافيًا للعلاقة بين تقنية المعلومات والمجتمع (Bijker, Pinch, and Hughes 1987, Bijker 1995, Law 1991, Latour 1991). أولا، لا يأخذ في الاعتبار أن التقنية لم تظهر من العدم، بل هي نتيجة ممارسات التطوير والتصميم المعقدة الموجودة في المجتمع. وفي خضم عملية التطوير والتصميم هذه، تُستبعَد العديد من الخيارات البديلة لصالح التقنية المتوفرة الآن، وهذا له آثار اجتماعية ومعيارية مهمة. بعبارة أخرى، يوجد العديد من القوى الثقافية والسياسية والاقتصادية التي تشكل الخيارات المحددة المقترحة وكذلك الطريقة التي يتم بها تصميم وتنفيذ الخيارات المختارة (Bijker, Pinch, and Hughes 1987). التقنية ليست وحدها التي “تؤثر” في المجتمع، فهي نفسها تعد نتيجة للعمليات والممارسات الاجتماعية المعقدة والدقيقة، أي: مبنية اجتماعيًا بطريقة مباشرة جداً ومهمة. باختصار: لم تكن تقنياتنا الحالية حتمية، وكان يمكن أن تأخذ الأمور اتجاهًا مختلفًا تمامًا. علاوة على ذلك، يجادل الباحثون بأنه عندما ننظر إلى الاستخدامات الفعلية لتقنيات معينة، نكتشف أن المستخدمين يستخدمونها بطريقة متعددة ومتنوعة وغير متوقعة في كثير من الأحيان، مما يؤدي إلى العديد من العواقب غير المقصودة والمتنوعة. هناك علاقة متبادلة مستمرة بين التقنية والمجتمع سواء في تصميم التقنية أو استخدامها الفعلي، حيث يتشارك المجتمع والتقنية في بناء بعضهما، ويتأثران ويؤثران في بعضهما. ببساطة التقنية ليست مجرد أدوات سلبية تنتظر منا استخدامها، فهي تحد من إمكانياتنا، وتضع “سيناريوهات” مهمة (Latour, 1991) تشكلنا بقدر ما نشكلها. يقترح لاتور (Latour, 2005, 107) إن التقنيات (كعوامل) تجعلنا نقوم بأشياء ولكن “ليس من خلال نقل القوة التي تبقى كما هي طول الوقت وسيطاً مُخلصاً، وإنما من خلال إحداث التحولات التي تظهر في العديد من الأحداث غير المتوقعة التي تحدث في الوسطاء الآخرين الذين يتبعون نقل القوة”. إن مستوى الفائدة (الوجودية أو التحليلية) الناتجة عن التمييز بين التقنية والمجتمع يتفاوت بين مؤلفي البنائية المختلفين. على سبيل المثال، يحدد براي (Brey, 1997) ثلاثة فروع مختلفة من المناهج البنائية. أولئك الذين يؤيدون هذا الرأي يزعمون أنه من الصعب جدًا الإدلاء ببيانات عامة حول “تأثير” التقنية في استخدام الصيغ العامة. وإن كل ما يستطيع المرء فعله في أفضل الأحوال هو الحديث عن بعض الاتجاهات العامة التي توجد لها استثناءات كثيرة دائمًا. ويرى مؤيدو النظرة البنائية، أنه من المهم جدًا استخدام الروايات الوصفية المفصلة لفهم الطرق المحددة التي تظهر بها التقنيات وتصبح جزءًا لا يتجزأ من ممارسات اجتماعية معينة. يمكن العثور على أمثلة لهذه الدراسات في أعمال بيجكر (Bijker, 1995) ولو (Law, 1991) ولاتور (Latour, 1991).

3.1 تقنية المعلومات أفقاً مستمراً للمعنى والفِعل

بالنسبة إلى علماء الظاهراتية، فإن وجهة النظر التي ترى التقنية أداة أو تأثيراً، وكذلك وجهة النظر البنائية للعلاقة بين التقنية والمجتمع كلاهما صحيح تمامًا في مصطلحاتها الخاصة، ولكنهما ليسا كافيين (Heidegger 1977, Borgmann 1985, Winograd and Flores 1987, Ihde 1990, Dreyfus 1992, 2001, Verbeek 2005). يجادلون بأن هذه التفسيرات للتقنية، والعلاقة بين التقنية والمجتمع، تفترض أن التقنية والمجتمع منفصلان كما لو أن الحديث عن أحدهما لا يلفت الانتباه فورًا إلى الآخر باعتباره مصدرًا لمعناه المستمر. يتشارك علم الظاهراتية والتقنية في تكوين بعضهما البعض منذ البداية، وهما حالة أو إمكانية مستمرة لبعضهما البعض لكونهما على ما هما عليه. بالنسبة إليهم التقنية ليست مجرد قطعة أثرية “موجودة هناك”، وإنما ظهرت بالفعل نتيجة موقف “تقني” سابق تجاه العالم (Heidegger, 1977)، أو أنها تُمكّن الإنسان من أن يصبح ما هو عليه (Stiegler, 1998, 2009). على سبيل المثال، بصفتنا بشرًا لدينا توجه تقني بالفعل، فإننا نميل إلى اعتبار الاتصال مشكلة تتطلب حلاً تقنيًا. ومن ثمَّ فإن التقنية ناتجة بالفعل عن نظرتنا التقنية إلى العالم وربط أنفسنا به. إن التقنية –بمجرد توافرها- تتيح للعالم “الظهور” بأشكال معينة (Introna and Ilharco 2003). فمثلاً: أنت شخص مختلف بالنسبة إلى إذا كنت تحمل هاتفا محمولا عن شخص بدون هاتف، فالهاتف يجعلك تبدو أكثر انفتاحًا أو “قابلية للاتصال”، و”في متناول اليد” إن صح التعبير. هذه هي طريقة التفكير في تقنية المعلومات، باعتبارها مصدر مشترك مع الإنسان وأفقًا للمعنى والفِعل، التي نريد نتوسع بالحديث فيها أكثر قبل أن نتطرق إلى الكيفية التي تشكّل بها طرق التقنية المتنوعة لآرائنا بشأن الآثار الاجتماعية والأخلاقية لهذه التقنيات. قبل المضي قدماً، تجدر الإشارة إلى أن أحدث أعمال برونو لاتور (2002، 2005) والتي تشير إلى أنه دمج العديد من رؤى علم الظاهراتية في عمله المستمر. ومن ثمَّ يمكن اعتبار أعمال لاتور اللاحقة (2002، 2005) بمثابة جسر يربط بين التقاليد البنائية والتقاليد الظاهراتية (لمزيد من الحجج المفصلة بخصوص هذا الموضوع، يرجى الرجوع إلى كتاب Graham Harman (2009) الذي يدور حول الأساس الميتافيزيقي الذي طرحه لاتور).

2. مناهج علم الظاهراتية للتقنية

بدأنا هذه المناقشة باقتراح أن علم الظاهراتية يبحث الظروف التي تجعل الأشياء تظهر على هذا النحو الذي تبدو عليه، أو أن علم الظاهراتية يشير إلى وجود علاقة تأسيسية بيننا وبين الظواهر التي نواجهها أثناء مشاركتنا مع العالم. قبل أن ننتقل إلى النقطة التالية، قد يكون من المفيد توضيح هذه الفكرة بمثال يومي يسير. لنأخذ تجربة إنسانية مثل: الاستماع إلى الموسيقى، ونفكر فيها تفكيراً ظاهراتيا. من منظور الفيزياء وعلم وظائف الأعضاء، تتكون الموسيقى من تدفق موجات بترددات معينة قد تكون الأذن الداخلية حساسة لها. وبمجرد تحليلها بهذا الشكل، يمكن إنشاء أداة تقنية (مثل شريط المسجل) حساسة لهذه الأصوات نفسها، ويمكنه حتى إعادة تشغيلها عند الطلب. ومع ذلك، عندما يسمع البشر أصواتًا في حياتهم اليومية، لا يعدونها مجرد تدفق للأصوات، بل يجدون أنفسهم يستمعون بالفعل إلى شيء معين – مثل صرخة طلبٍ للمساعدة، أو تحطم سيارة، أو ضوضاء البناء، أو معزوفة موسيقية. في الواقع، يتطلب الأمر سلوكًا غريبًا جدًا لسماع الأصوات بوصفها تدفق من موجات ترددات معينة. يختلف الاستماع عن الانتباه أو التسجيل، فالاستماع هو أن تفهم الأصوات وتصنفها إلى هذا أو ذاك. عند الاستماع، يعني تلقي الصوت كموسيقى أن لديك فكرة بالفعل عن ماهية الموسيقى، وهو الأمر الذي يجعلنا قادرين على تلقي تلك الأصوات كموسيقى وليس ضوضاء. علاوة على ذلك، عند الاستماع للموسيقى، فإن طريقة استماعنا تكون مبنية على الإحساس المستمر بالحركة (أو الوحدة) والإيقاع والنغمة والمقياس والأسلوب وما إلى ذلك. توفر هذه الوحدة النشطة المستمرة إطارًا نشطًا ومستمرًا (أو خلفية ضرورية) التي تمكنني – أثناء الاستماع للموسيقى (الان)- من “الاحتفاظ” في وقت واحد بالأصوات التي لم أعد أسمعها (في الماضي)، وترقب الاستماع للأصوات التي لم أسمعها بعد، والتي أتوقعها في (المستقبل). بصفتي كائنًا ظاهراتيًا، أجد نفسي أستمع للموسيقى، وليس مجرد تسجيل لأصوات باستخدام أداة تقنية. السؤال المهم بالنسبة إلى علماء الظاهراتية هو: ما هي الظروف الفائقة التي تُمكّن البشر من الاستماع إلى الموسيقى كموسيقى وليس مجرد تسجيل أصوات؟

ما هو الشيء الذي يُمكِّننا من سماع الموسيقى بكامل روعتها بالرغم من أننا نتلقى دائمًا –في أي نقطة زمنية محددة- جانبًا محدودًا فقط من تلك الظاهرة (النغمة الحالية التي أسمعها)؟ إن الإجابة التي يقدمها علم الظاهراتية لهذا السؤال هو أن الأفق الفائق أو الظروف الفائقة هي التي تجعل طريقة رؤيتنا للعالم ممكنة. يمكن للمرء القول: إن المقصود بمصطلح “المتعالي” (transcendental) هو الخلفية أو الأفق الذي يجعل التجربة التي في الواجهة ممكنة. قد توحي هذه الصياغة أن الخلفية منفصلة أو “خلف” ما يظهر في الواجهة، ولكن هذا غير صحيح. التعالي موجود ومتاح دائمًا بمجرد حدوث الظاهرة، وهذا بالضبط ما يجعل التعالي “يختفي” أو ينسحب من إدراكنا البؤري. ببساطة من الواضح جدًا أنه لا يوجد تركيز على هذه المسألة، وأن هذا الأفق التشكيلي “المنسي” هو محل تركيز علم الظاهراتية. إن جميع النهج الظاهراتية تركز على “العودة” إلى هذا التداخل التشكيلي المشترك شديد الأهمية بين “الواجهة” و”الخلفية”. ومن ثمَّ تشترك جميع الدراسات الظاهراتية على الأقل في منظور ضمني يرى أن التقنية والمجتمع يتشاركان في تشكيل بعضهما، من خلال كونهما حالة متبادلة ومستمرة لوجود الآخر وتمكينه من أن يصبح على ما هو عليه. ومن ثمَّ يعتمدان على بعضهما باستمرار في اكتساب المعنى المستمر. وقد يكون من الأفضل بالنسبة إلى مقاصد هذا المقال أن نوضح بعض الدراسات الظاهراتية الموجودة عن التقنية في أربع فئات مختلفة، ولكنها مرتبطة ببعضها، (هذه ليست قائمة شاملة وإنما مجرد مؤشر على المواضيع أو المناهج الشائعة):

  • Martin Heidegger 1977).
  • Stiegler 1998, 2009).
  • Hubert Dreyfus 1992 and Albert Borgmann 1984).
  • Don Ihde 1990).

1.2 النقد الأساسية للموقف التقني

قد يكون تحليل الظاهراتية الأكثر شهرة للتقنية – أو بالأحرى تحليل الموقف التقني المؤدي إلى ظهور الأدوات التقنية- هو مقال مارتين هيدجر (Martin Heidgger, 1977) بعنوان “السؤال المتعلق بالتقنية”. هذا المقال مهم كنقطة مرجعية؛ لأنه يبين بوضوح أهم وأبرز ادعاءات علم الظاهراتية بخصوص التقنية. التقنية ليست مجرد قطعة أثرية، أو علاقتنا بهذه أو تلك القطعة الاثرية،– وعلاقتنا معها- هي بالفعل نتيجة طريقة “تقنية” خاصة لرؤية وإدارة أنفسنا وفي وباتجاه العالم. أحد مزاعم هيدجر (1977) الشهيرة أن “جوهر التقنية ليس شيئًا تقنية” (ص. 4).

يرى هيدجر أن جوهر التقنية هو طريقة معيشة البشر المعاصرين – وسلوكهم تجاه العالم- التي ترى العالم شيئاً يجب تنظيمه وتشكيله بشكل يتوافق مع المشاريع والنوايا والرغبات، وأنها “رغبة في السلطة” تُظهر نفسها كـ “رغبة في التقنية”. وفي هذا المزاج التقني، تظهر المشكلات بوصفها تتطلب حلولاً تقنية بالفعل. ويُستخدَم مصطلح “مزاج” (Mood) هنا للإشارة إلى “الإحساس” (أو طريقة الاستيعاب) الجماعية لحدث أو موقف ما، ونستخدمه عادةً عندما نشير إلى “الحالة المزاجية في المقابلة” أو “الحالة المزاجية في أوقاتنا”. ويُطلق على هذا المزاج التقني مصطلح “التأطير” (enframing أو بالألمانية Gestell). ويستخدم هذا المصطلح للدلالة على أن المزاج المعاصر يرى العالم أو يتعامل معه دائمًا باعتباره مؤطر أو ذي إطار محدد بالفعل. يدعي هيدجر أنه بالنسبة إلينا – نحن الذين نعيش في العصر التقني- فإن العالم مؤطرًا بالفعل ومتاح لنا، يجب تهيئته وتشكيله بشكل يتناسب مع الإمكانيات المتاحة لنا واحتياجاتنا المستمرة للتعبير عن مشاريعنا الخاصة، وأن نكون كما نحن، كرجال أعمال ومهندسين ومستشارين وأكاديميين ومراهقين، إلخ. باختصار: التقنية منطقية لأننا نعيش بالفعل في عصر التقنية، حيث العالم (ونحن أيضًا بصفتنا كائنات لا تخرج عن نطاقه أبدًا) مؤطر دائمًا بهذه الطريقة، كموارد متاحة ومستمرة لتحدي وإعادة تنظيم العالم. ويرى هيدجر أن جوهر التقنية ليست القطع الأثرية الخاصة، ولكن مزاج التقنية الذي يجعل هذه القطع الأثرية أو تلك تبدو ضرورية وذات معنى.

يدعي هيدجر أن هناك أوقات أخرى في التاريخ البشري، عصر ما قبل الحداثة، لم يرَ فيها البشر العالم بطريقة تقنية، ببساطة كموارد لأغراضنا. ويقترح أنه في الثقافة اليونانية القديمة، كانت علاقة البشر بالعالم هي “ترك الأمور تسير على طبيعتها”، والتعامل مع العالم بسلوك أو مزاج يركز على “الاهتمام” المتبادل. لا يجب اعتبار هذا مجرد نظرة رومانسية إلى الماضي، والتفكير في أن جميع الناس في اليونان القديمة “يهتمون” بالعالم، على العكس من المزاج التقني المعاصر الذي ينظر فيه الجميع إلى العالم شيئا يستحق التحدي والنظام. ولكن المقصود بكلامه هو أن المزاج، والأفق الذي نجد أنفسنا فيه، يجعلنا أكثر ميلاً وانحيازًا بطرق معينة. من الواضح أنه كان هناك قطع أثرية في العصور القديمة، ومع ذلك وفقًا لهيدجر، في هذا العصر (أو المزاج) “ما قبل التقنية”، كانت علاقة البشر بالعالم والتحف، وطريقة انحيازهم تجاه العالم، شاعرية وجمالية وليست تقنية (تأطير). كان صنع وتشكيل القطعة الاثرية موجهاً بسلوك أو مزاج مختلف، نظراً إلى أنه لم ينظر إلى العالم باعتباره “متاحًا للطلب”، ومن ثمَّ كان من الممكن ممارسة بعض الرعاية والحميمية المتبادلة (وغرس هذه الفكرة)، وفيها يُترك العالم “على طبيعته”، والظهور بشروطه الخاصة. ويدعي هيدجر أن الحرفي في عصر ما قبل الحداثة كان يصنع “الجسر الخشبي القديم الذي يجعل النهر يأخذ مجراه تحته”. ولكن في أفق المزاج التقني، يمثل هذا النهر احتمالية لبناء “مصنع طاقة مائية” تحول النهر إلى خزان، ومصدرًا احتياطًا لمشاريعنا، يتم تحديه وتأطيره حسب الحاجة.

يوجد العديد ممن يختلفون مع تفسير هيدجر للسلوك التقني الحديث باعتباره “تأطير” للعالم (Feenberg 1999, Pitt 2000). على سبيل المثال، يجادل أندرو فينبرج (Andrew Feenberg, 1999) أن تفسير هيدجر للتقنية الحديثة ليس وليدًا للمواجهات اليومية المعاصرة مع التقنية، فعندما ندقق النظر، نرى العديد من المواقف الفردية التي يثبت فيها السلوك التقني عدم صحته، وهي مواقف تكون علاقة الناس حميمة مع القطع الأثرية لا يمكن التقليل من شأنها واعتبارها مجرد أمثلة على التأطير. وقام باحثون آخرون، مثل هوبرت درايفوس (Hubert Dreyfus) وألبرت بورجمان (Albert Borgmann)، بتوسيع نطاق أعمال هيدجر لتشمل انتقادات محددة أكثر لتقنيات معينة وطرق معيشة معاصرة معينة.

2.2 التقنيات الأصلية والإنسان

يشتهر برنارد ستيجلر في الغالب بعمله متعدد المجلدات المُعنون “التقنيات والزمن” (La technique et le temps). ويجادل في هذه المجلدات المتعددة أن الإنسان والتقنية هما أصلان مشتركان، بمعنى آخر لم تظهر التقنية من الإنسان (المتشكّل بالفعل) ولم يظهر الإنسان من التقنية (المتشكّلة بالفعل)، وإنما شكّل هذان النطاقان الوجوديان معاً منذ البداية. اعتمد ستيجلر لتقديم حجته على أعمال هيدحر وديريدا، كما اعتمد بنسبة كبيرة جدًا على أعمال عالم الأنثروبولوجيا “أندريه ليرو-جورهان” (Andre Leroi-Gourhan)، وتحديدًا عمله الشهير “الإيماء والكلام” (الذي نُشر في الأصل في فرنسا عام 1964). يجادل ليروي جورهان في هذا العمل أن هناك استمرارية أساسية ممتدة من الجانب البيولوجي إلى الجانب الاجتماعي، وأن هذه الاستمرارية تتحقق عبر وساطة التقنية. ويرى أن استخدام الأدوات (الذي أصبح ممكنًا من خلال تحرير الأيدي في وضع الوقوف) كعملية يتم فيها نقل التطور من المجال الحيواني إلى المجال التقني، أو كما يقترح ستيجلر “استمرار الحياة بوسائل أخرى غير الحياة” (1998، 50).  وعلى عكس الثدييات الأخرى، يظل البشر كائنات غير متخصصة، ولكنهم يتخصصون – عند الحاجة – من خلال تصدير تلك القدرات المتخصصة إلى المجال التقني خارج جسم الانسان. بالتزامن مع ذلك، ينعكس هذا التخريج مرة أخرى في صورة انعكاس داخلي (interiorization) تتجسد فيه التقنية في شكل البشر الذين يستخدمونها. يستخدم ستيجلر مفهوم “النشوء المشترك” (epiphylogenesis) لوصف هذا التطور المشترك اللا جيني للإنسان والتقنية. إن “النشوء المشترك” يجعل الثقافة ممكنة باعتبارها “التنظيم غير العضوي للذاكرة” (1998، 174). ومن ثمَّ يرى ستيجلر أن “الإنسان يبتكر نفسه في التقنيات من خلال ابتكار الأداء، وتصدير نفسه تقنيًا” (1998، 141). علاوةً على ذلك، يقترح ستيجلر أنه بدون أنظمة الذاكرة المدرجة تقنيًا، لم نكن قادرين على الوجود في الزمن في الوقت المناسب، وبدون التقنيات المادية، لن نتمكن نحن البشر من تجربة الماضي، ولن يكون لدينا ما نختار منه لابتكار المستقبل. وبناء على ذلك، بدون التقنية (أو ما يُطلق عليه “المادة المنظمة غير العضوية”)، كنا سنعيش في حاضر دائم بدون أي أمل في تجاوزه. طرح لاتور (2005) هذه النقطة أيضًا في نقاشه عن التقنية كوسيط، وبدونها لن تكون الثقافة والمجتمع ممكنين. وبناء على ذلك، يرى ستيجلر أن الأفق التشكيلي الفائق للإنسان هو التقنية، والتي ينشأ عنها الشروط التي تتيح الوجود البشري في الزمن وتشكّل المجتمع والثقافة.

إذا كانت ادعاءات ستيجلر صحيحة، فإن هذه الوحدة الأساسية بين الإنسان والتقنية (التي تم التعبير عنها عبر فكرة النشوء المشترك) لها آثار مهمة على كيفية التفكير في علاقتنا مع التقنية. إنها ليست مجرد شيء “هناك”، بل هي أيضًا شيء موجود “هنا” والآن، في قلب إنسانيتنا. هذا يعني أنه عندما نصمم أنظمة تقنية جديدة، فإننا نصمم أيضًا أنواع البشر التي نحنُ عليها (أو التي سنصبح عليها). نحن نضيف إلى الأرشيف التي سيُمكّن الأجيال المستقبلية من تحقيق إمكانياتها، كما نؤطر الطريقة التي سيتم تذكر ماضينا البشري بها. هذا التطور المشترك بين الإنسان والتقنية يعني أيضًا أننا لا نستطيع الهروب من التقنية، وأن وجودنا هو تقنيًا بالفعل، ومن ثمَّ التقنية ليست شيئًا يمكننا التخلص منه أو اختيار العيش بدونه. ضمن هذا المنظور، تصبح التقنية السؤال المركزي الذي يفتح الباب بشأن الطرق الجديدة وغير المتوقعة التي يمكن استخدامها للإجابة عن الأسئلة الأساسية المتعلقة بمعنى أن تكون بشريًا (وهذا هو السبب الذي يجعل ستيجلر يجادل بأن التقنية هي السؤال الفلسفي المحوري الذي تم نسيانه منذ عصر الإغريق).

إن الطبيعة المتطرفة لمشروع ستيجلر تعني أن هناك العديد ممن يختلفون معه. على سبيل المثال، يجادل فاكاري (Vaccari, 2009) بأن المفاهيم الوراثية الأساسية الخاصة بـ “النقش” (inscription) و”النقل” (transmission) التي تمثل جوهر حجة ستيجلر تعرضت لانتقادات شديدة (خاصة في العلوم البشرية التي نشأت فيها تلك الحجة). كما أشار إلى أن هناك حتمية معينة في قلب برنامج ستيجلر، والتي تعرضت لانتقادات شديدة من الكثير من البنائيين، مثل: لاتور.

3.2 السلوك التقني في المجتمع والتقنيات المعاصرة

لم يُستخدم علم الظاهراتية فقط للإجابة عن أسئلة الأنثروبولوجيا الفلسفية وحسب، كما هو الحال مع هيدجر وستيجلر. استخدم هيوبرت دريفور (1992) بفعالية شديدة لتوجيه نقد موجع للبرنامج الكلاسيكي في أبحاث “الذكاء الصناعي”. يجادل دريفوس في نقده بأن الطريقة التي أصبحت بها تنمية المهارات في الماضي كانت خاطئة. ويجادل – باستخدام أعمال هيدجر القديمة في “الوجود والزمن” بأن مفهوم تطوير المهارة الكلاسيكي الذي يرجع إلى عصر أفلاطون، يفترض أننا نبدأ حالات معينة، ثم نجردها لاكتشاف واستدلال المزيد من القواعد المتطورة العامة والمعقدة. ويجادل بأن هذا هو النموذج الذي تبناه مجتمع الذكاء الصناعي المبكر بدون تفكير نقدي. في معارضة لهذا الرأي، يقول هيدجر، أن ما نلاحظه عندما نتعلم مهارة جديدة في الممارسة العملية اليومية هو عكس ما نعتقده في الواقع، فنحن نبدأ عادةً بالقواعد الصريحة أو المناهج الأدائية، ثم ننتقل إلى العديد من الحالات المحددة بعدما نصبح خبراء. تعتمد حجته مباشرة على تفسير هيدجر في “الوجود والزمن” للبشر ككائنات موجودة دائمًا في العالم بالفعل. وبصفتنا بشرًا “في العالم”، فإننا خبراء بالفعل في ممارسة الحياة اليومية، والتعامل مع التفاصيل الدقيقة لكل موقف محدد، لذلك تبدو الحياة اليومية واضحة جدًا. ومن ثمَّ يعد الذكاء الصناعي الخبرة المعقدة في تفاصيل النشاط اليومي أمر منسي ومُسلم به، ويراها نقطة بدء افتراضية.

بعد ذلك طرح دريفوس خمس مراحل لتصبح خبيرًا لنقد برنامج الذكاء الصناعي. ووفقًا لطرحه، يتصرف المبتدئ وفقًا لقواعد دقيقة بدون سياق، وينقصه الإحساس بالمهمة الكاملة والعناصر الموقفية بصفة عامة. أما المبتدئ المتقدم، فلديه بعض الخبرة التي تساعده على إضافة جوانب موقفية إلى القواعد الخالية من السياق، ويساعده ذلك على اكتساب فهم أعمق وأكثر تفصيلاً للموقف. إن العلاقة بين الجوانب الموقفية والقواعد يتم تعلمها من خلال أمثلة مختارة بعناية، لأن صياغة هذه الأمثلة عملية صعبة. سيكون الشخص الكفء قد تعلم التعرف على مجموعة متعددة من القواعد الخالية من السياق والجوانب الموقفية، ولكن هذا قد يكون مربكاً، لأنه من الصعب معرفة ما يجب إدراجه أو استبعاده. يتعلم الشخص المختص اتخاذ منظور محدد عن الموقف، ومن ثمَّ تقليل التعقيد. ولكن “اتخاذ موقف محدد” يعني أن الأمر يتضمن مستوى مخاطرة معين يتطلب التزامًا ومشاركة شخصية. الشخص البارع يؤدي معظم المهام بشكل غريزي، وبوصفنا طرفاً فاعلاً ومواقعاً، تظهر الجوانب الظرفية ذات الصلة جزءاً من النشاط الجاري وجزءاً من النشاط المستمر، ولا تحتاج إلى صيغة رسمية. على الرغم من ذلك، قد يتطلب الأمر وقفة للتفكير بشكل تحليلي في الاستجابة ذات الصلة. وبالنسبة إلى الخبير، فإن الجوانب الموقفية ذات الصلة، وكذلك الإجراءات المناسبة، تبدو جزءاً ضمنياً من النشاط المستمر الذي يشارك فيه الخبير ويلتزم به وينغمس فيه تمامًا، ويؤدي المهمة بشكل بدهي طوال الوقت تقريبًا. يميز الخبير آلاف القضايا الخاصة في النشاط المستمر الذي يقوم به، ويتعامل معها بشكل مناسب.

إذا نظرنا إلى هذا التفسير الظاهراتي لتطور المهارة، من السهل أن نرى المشكلة الكامنة في تطوير برنامج الذكاء الصناعي. تحتاج آلات الحوسبة إلى شكل من أشكال القواعد الرسمية (أي برنامج) لتعمل، وأي محاولة للانتقال من الشكلية إلى الخاصة، وفقًا لوصف دريفوس أعلاه، ستكون محدودة بقدرة المبرمج على صياغة القواعد اللازمة لهذا التحول. بناء على ذلك، ما يفتقر إليه الكمبيوتر (وما نمتلكه نحن البشر) هو الألفة والاعتياد على العالم الذي يمكن للكمبيوتر الاعتماد عليهم أفقاً فائقاً للمعنى لتمييز المعلومات المهمة وغير المهمة في النشاط المستمر – أي أن الكمبيوتر ليس عاملاً بارعًا بالفعل (كونه في العالم وفقاً لتعبير هيدجر). كان النقد الذي طرحه دريفوس هو أحد العوامل الرئيسة التي دفعت باحثو الذكاء الصناعي إلى إيجاد طرق جديد للتفكير في الذكاء الصناعي، وتحديدًا تطوير برنامج الإدراك المتجسّد في معمل الذكاء الصناعي في معهد ماساتشوسيتس للتقنية.

سلط دريفوس الضوء في نقده للذكاء الصناعي على حقيقة أن التقنية (أي خوارزميات الذكاء الصناعي) لا معنى لها في حد ذاتها. فأفق الممارسة اليومية المفترض –والمنسي- هو ما يجعل الأجهزة والحلول التقنية تبدو ذات معنى. وإذا أردنا فهم التقنية، يجب أن “نعود” إلى أفق المعنى الذي أدى إلى ظهور تلك القطع الأثرية باعتبارها الأدوات التي نحتاجها ونريدها ونرغب فيها. كما يجب أن نفكر أيضًا في كيف تكشفنا (وتعبر عنها) تلك التقنيات. على سبيل المثال، يوضح المجهر أننا كائنات “فضولية”، والمسدس يكشفنا ككائنات “عدوانية”، والهاتف الذكي يكشفنا ككائنات “تحب التواصل”، وهكذا. إن عملية التشكيل المشترك المستمرة للمجتمع والتقنية، والنظرة الثاقبة التي يقدمها علم الظاهراتية، يمكن أن تساعدنا على فهم تقنية المعلومات المعقدة، مثل الذكاء الصناعي، بالإضافة إلى فهم التقنيات العادية أكثر مثل برامج معالج النصوص (Heim 1999). 

عند التفكير في علاقتنا مع التقنية في الحياة الحديثة المعاصرة، طرح ألبرت بورجمان (Albert Borgmann, 1984) سؤالاً حول احتمالية وجود علاقة “حرة” مع التقنية الحديثة لا “يؤطر” فيها كل شيء بالفعل (بالمعنى الذي يقصده هيدجر) كموارد لمشاريعنا. واتفق مع تحليل هيدجر أن التقنية الحديثة ظاهرة تميل إلى “تشكيل” علاقتنا بالأشياء، ثم علاقتنا بأنفسنا والآخرين بطريقة أحادية البُعد في النهاية، تجعلنا نعتبر العالم مجرد موارد متاحة لنستخدمها في مشاريعنا وحسب. ويقول: إن التقنية الحديثة تؤطر العالم بشكل يجعله يبدو “كأدوات” متاحة لنا. ويقصد بهذا أن التقنية الحديثة تمثل أدوات تخفي المرجعية الكاملة (أو السياقية) الخاصة بالعالم – أو عالمية العالم-التي تعتمد عليها الأدوات في أدائها المستمر. بمعنى آخر، لا تكشف التقنية الحديثة عن تعدد الشروط الضرورية لكي تصبح على ما هي عليه. بل العكس تماماً، تحاول إخفاء الجهود الضرورية لجعلها تصبح جاهزة للاستخدام. منظم الحرارة الذي نثبته على الحائط لضبط درجة حرارة مريحة لنا أصبح يحل محل عملية تقطيع الحطب، وإشعال نار للتدفئة وإبقاءها مشتعلة. تقلصت علاقتنا بالبيئة حاليًا في عملية التحكم وضبطها بالشكل الذي يعجبنا. بهذا الشكل، “تنزع الأجهزة علاقتنا بعالم الأشياء” من خلال فصلنا عن الواقع الكامل للحياة اليومية (أو عن سياق الحياة اليومية). بتخلصنا من عبء إشعال النار وإبقاءها مشتعلة – كما هو موضح في المثال أعلاه- يجعل علاقتنا مع العالم مكشوفة بطريقة جديدة، ببساطة متاحة لنا بالفعل. من الواضح أن هذا ضروري أحيانًا، وإلا فإن عبء الحياة اليومية قد يكون أكبر من اللازم. على الرغم من ذلك، إذا أصبح “مزاج الجهاز” هو الطريقة التي نتصرف بها تجاه العالم، سيكون له آثار معنوية وأخلاقية واضحة على الآخرين الذين قد ينكشفوا حينها كأدوات.

بالنظر إلى هذه العلاقة الانفصالية مع الأشياء الموجودة في العالم، يجادل بورجمان أهمية الممارسات المركزية القائمة على الأشياء المحوري تحفز الأشياء البؤرية حضورنا الكامل والتفاعلي. يمكننا التفكير في الممارسة الرئيسية مثل إعداد وجبة والاستمتاع بها مع الأصدقاء والعائلة مقارنةً بتناول وجبة سريعة بمفردنا. إذا أخذنا تحليل بورجمان بجدية، نستنتج أننا – كبشر معاصرين محاطين بالأدوات أو الأجهزة- محكوم علينا بشكل متزايد الارتباط بالعالم بطريقة انفصالية. هذا الاستنتاج الشامل لن يكون مناسباً، لأن المزاج السائد لا “يحدد” علاقتنا بمَن نقابلهم. على الرغم من ذلك، يشير تحليل بورجمان إلى احتمالية ظهور مزاج الأداة – نظرًا لاعتمادنا المتزايد على الأدوات التقنية- وإلى أن واجبنا الأخلاقي يحتم علينا عدم الانصياع دون تفكير وراء الراحة التي توفرها لنا تلك الأجهزة، وإلا سنصبح مجرد أداة لأدواتنا كما يقول هيدجر.

4.2 العلاقة ما بعد علم الظاهراتية بين الإنسان والتقنية

لا يعمل علم الظاهراتية وسيلة لكشف وانتقاد علاقتنا بالتقنية وحسب كما يقترح هيدجر ودريفوس وبورجمان، فقد استخدم دون إيهد (1990، 1995، 2002، 2010) موارد علم الظاهراتية لتقديم تفسير غني ودقيق لتنوع وتعقيد علاقتنا مع التقنية، يشار إليه “ما بعد الظاهراتية في التقنية” (Ihde 2009, 2010; Selinger 2006). يريد إيهدي استخدام ما بعد الظاهراتية للابتعاد عن السرد “الفائق” (والسوداوية) عن التقنية والانتقال إلى تحليل تجريبي أكثر ثباتًا للعلاقة بين الإنسان والتقنية. إن هذا الانتقال إلى الجانب التجريبي يوصف عادةً بأنه “تحول تجريبي” في فلسفة التقنية. إن ما بعد الظاهراتية تمثل وجودًا علائقيا، والذي يقترح أن العلاقة بين الفاعل والمفعول (أو الإنسان والتقنية) ليست مجردة علاقة تفاعلية فحسب وإنما علاقة تشكيل أو تأسيس مشترك أيضًا. علاوة على ذلك، هذه العلاقة التأسيسية المشتركة يوجد بها وساطة أساسية، لا يوجد علاقات مباشرة بين الفاعل والمفعول، فقط علاقات “غير مباشرة” تعمل فيها التقنيات في كثير من الأحيان كوسطاء، ليس للتواصل وإنما للمشاركة في التشكيل. وبناء على ذلك، فإن العلاقة بين الإنسان والعالم هي في الواقع علاقة بين الإنسان والتقنية والعالم. في هذه العلاقة، لا يوجد فاعلون ولا مفعول بهم محددون مسبقًا (يتم الربط بينهم عبر شكل من أشكال الوسطاء بعدها)، وإنما الوساطة هي المصدر الأصلي الذي ينشأ منه فعل ومفهوم محدد، أو يظهر كجزء من الأفعال الموقفية المحددة.

يُعرّف إيهدي تلك الطبيعة الوسائطية للوجود بأنها “تجسيد” (Ihde, 2011). تهدف ما بعد الظاهراتية إلى وصف أنواع الذاتية/ الموضوعية التي تظهر عبر تجسيدات مختلفة. ما نوع الفاعلين نصبح (وماذا يصبح العالم) من خلال تجسيدات المجهر، والتلسكوب، والسيارات ذاتية القيادة، وشاشة الكمبيوتر، وغيرها؟

يصف إيهدي أربع علاقات مختلفة تقنية – عالمية مختلفة عند التفكير في هذه العلاقات البشرية/ تقنية المجسدة. النوع الأول من العلاقات يطلق عليها مصطلح “علاقات التجسيد” في هذه الحالة، تعد التقنية الوسيط الأساس للتجربة الإدراكية الذاتية عن العالم، ومن ثمَّ تحدث تحولاً في الإحساس الجسدي والإدراكي الخاص بالفاعل. عند ارتدائي لنظارتي، لا أرى عبرهم وحسب، وإنما تصبح مرئية من خلالهم، يضيفون بالفعل إلى إحساسي الجسدي، بوصفهم جزءاً من الطريقة العادية التي أرى بها العالم من حولي. يقول إيهدي: إن هذه العلاقة تأخذ شكل [نظارات] – العالم. ويجادل أيضًا بأن هذه العلاقات يرتبط بها “بنية تكبير/تقليل” الضروري في هذه الحالة. إن علاقات التجسيد تضخم أو تقلل الأمور بشكل متزامن، وتضع جانبًا الأشياء التي لا يتم تجربتها (أو عدم تجربتها). القمر الظاهر عبر التلسكوب مختلف عن القمر الذي نراه بالعين المجردة في سماء الليل، والشخص الموجود على الطرف الآخر من محادثة نصية عبر الإنترنت أصبح موجودًا معي عبر مسافة كبيرة على حساب اختزاله إلى نص على شاشة.

إن النوع الثاني من العلاقة بين الإنسان والتقنية هي ما يسميه “علاقة تفسيرية”. في هذا النوع من العلاقة، تعمل التقنية مرجعاً فورياً لشيء يتجاوز نفسه. مثال: بالرغم من تركيزي على نص أو خريطة مثلاً، فإن ما أراه في الواقع ليس الخريطة في حد ذاتها، وإنما العالم الذي تشير إليه بشكل فوري ومتزامن، والمناظر الطبيعية المقترحة بالفعل في رموز الخريطة. في هذه الحالة، شفافية التقنية هي تفسيرية وليست إدراكية. وبعدما أصبحت أكثر براعة في قراءة الخرائط، تسحب الخريطة نفسها لتصبح بالنسبة إلي صورة للعالم نفسه على الفور. ويقول: إن هذه العلاقة تأخذ الشكل الأول-[خريطة العالم].

النوع الثالث من العلاقات بين الإنسان والتقنية يطلق عليه إيهدي مصطلح ” alterity relations “العلاقات الآخرية” . في هذه العلاقات، ينظر إلى التقنية بوصفها شيء مختلف عني، أي التقنية كآخر. من الأمثلة على ذلك: الأيقونات الدينية والروبوتات الذكية (كمثال: روبوت Sony Dog AIBO). إن تفاعلي مع تلك التقنيات يجعلني أراها وكأنها تُظهر “عالمًا خاصًا بها”، وبينما أتفاعل معها، تفصلني عن عالم الحياة اليومية وتشير إلى احتمالية وجود عوالم أخرى، ومن هنا جاء انتشار أنشطة مثل اللعب والفن والرياضيات. ويشير إلى تلك العلاقة بأنها ذات شكل أنا-التقنية-[العالم]، مما يشير إلى أن العالم ينسحب إلى الخلفية، وتصبح التقنية الكيان المركزي الذي أتفاعل معه في تلك اللحظة، كاللعب مع روبوت الكلب الخاص بي مثلاً.

يطرح إيهدي أيضًا نوعًا رابعًا من العلاقة بين الإنسان والتقنية، وفيه لا تُدمج التقنية بشكل مباشر في عملية التفاعل الواعية التي يقوم بها الفاعل البشري. يشير إيهدي على هذه العلاقة بمصطلح “علاقات الخلفية”. من الأمثلة على ذلك، أنظمة التدفئة المركزية الآلية، وأنظمة مراقبة حركة المرور، وغيرها. هذه الأنظمة تعد بمثابة “صندوق أسود”، بمعنى أننا لا ننتبه لها، ولكننا نعتمد عليها في وجودنا اليومي المستمر. وتنسحب لتصبح حالات مستمرة موجودة في الخلفية. وبالرغم من أنها لم يمنحها شكلاً معينًا، إلا أنه يمكن صياغة تلك العلاقات في الشكل التالي: [عالم التقنية]. تلك التقنيات الخفية غير المرئية يمكن أن تكون قوية جدًا وتسهم في تشكيل عالمنا بطرق معينة ولكننا لا ننتبه إليها.

يقدم وصف إيهدي الظاهراتي للعلاقة بين الإنسان والتقنية تصنيفًا عامًا لتفسير العديد من العلاقات التقنية اليومية بطريقة يمكن أن تسهّل تفكيرنا في الآثار الاجتماعية والأخلاقية لتقنية المعلومات. على سبيل المثال، انسحاب التقنية إلى جسدي وإلى إدراكي وإلى الخلفية له آثار سياسية وأخلاقية مهمة لتصميم هذه التقنية وتطبيقها، خاصة عندما يضع المرء في اعتباره أن كل اكتشاف للعالم “من خلال” التقنية هو أيضاً إخفاء فوري للعلاقات أخرى محتملة. تكشف السيارة عن احتمالات الذهاب إلى الأماكن المختلفة بسرعة، ولكنها تخفي أيضًا –في انسحابها- الموارد الضرورية لعملها (الطرق، الوقود، الهواء النظيف، إلخ)، وبالتالي تعمل كأجهزة وفقًا لمصطلحات بورجمان. صحيح أننا نغفل عادةً لهيكل التصغير/التضخيم أثناء استخدامنا لهذه التقنيات يوميًا، ولكن بعدما تزداد تلك التقنيات انتشارًا، وهو أمر يكاد يكون ضروريًا في الحياة اليومية، يصبح من الصعب رؤية الأمور التي تختفي مع انسحاب التقنية إلى واقعنا أكثر. مع تصنيف إيهدي للعلاقات العالمية القائمة على التقنية، قد نتمكن من إظهار ما تم إخفاؤه وإعادته إلى صدارة انتباهنا النقدي وتفكيرنا الأخلاقي مرة أخرى. لنفكر الآن في الكيفية التي يمكن لهذه الطرق المختلفة للتعامل مع العلاقة بين تقنية المعلومات والمجتمع أن تحُد تفكيرنا بشأن الاثار الأخلاقية والاجتماعية لتقنية المعلومات.

3. الأخلاقيات وتقنية المعلومات

1.3 تأثير تقنية المعلومات وتطبيق النظرية الأخلاقية

إن جزءاً كبيراً من الجدل الأخلاقي حول أجهزة الكمبيوتر وتقنية المعلومات بصفة عامة كان ناتجًا عن المنظور الذي يرى تقنية المعلومات كأداة وتأثير (ناقشنا هذا في القسم 1,1 أعلاه). وفي إطار هذا التقليد برز عدد من القضايا المهمة. على سبيل المثال، هل تنتج أجهزة الكمبيوتر (أو تقنية المعلومات والاتصالات بصفة عامة) أنواعًا جديدة من المشاكل الأخلاقية التي تتطلب نظريات أخلاقية جديدة ومختلفة أم أنها نفس المشكلات التي تتكرر بشكل أو بآخر. يُعبر عن تلك الخلافات عادةً بلغة “تأثير” تقنية المعلومات على قيم وحقوق محددة. بناء على ذلك، عندما تناولنا هذا المنهج خضنا نقاشات حول تأثير كاميرات المراقبة (CCTV) أو ملفات تعريف الارتباط على الويب (cookies) على الحق في الخصوصية، وتأثير الانقسام الرقمي على الحق في الوصول إلى المعلومات، وتأثير قرصنة البرامج على حقوق الملكية، وغيرها. جادل جيم مور (Jim Moor, 1985) في هذه النقاشات أن أجهزة الكمبيوتر تُظهر فراغات في السياسات التي تتطلب فكرًا جديدًا ووضع سياسات جديدة. وجادل آخرون بأن الموارد التي توفرها النظرية الأخلاقية الكلاسيكية مثل النفعية والعواقبية وأخلاقيات الواجبات هي أكثر من كافية للتعامل مع جميع القضايا الأخلاقية الناشئة عن تصميمنا واستخدامنا لتقنية المعلومات.

بغض النظر عما إذا كانت تقنية المعلومات تخلق أنواعًا جديدة من المشاكل الأخلاقية التي تتطلب نظرية أخلاقية جديدة أو ما إذا كانت النظرية الأخلاقية القائمة كافية، يميل المرء لأن يجد النقاش يتمحور حول أسئلة السياسات التي تهدف إلى تنظيم أو تبرير السلوك مقابل التأثير السلبي الناتج عن استخدامات أو تطبيقات معينة لتقنية المعلومات. ينظر لهذه السياسات وتُقدَم على أنها طرق لتنظيم أو موازنة الحقوق أو القيم المتنافسة في سياق تأثير تقنية المعلومات. على سبيل المثال، ما نوع السياسات التي نحتاجها لحماية أطفالنا عند استخدامهم للإنترنت؟ كيف ستؤثر هذه السياسات على الحق في حرية التعبير؟ أو ما نوع السياسات التي نحتاجها لتأمين حقوق منتجي المنتجات الرقمية؟ كيف ستؤثر هذه السياسات على حق المجتمع في الوصول المعقول إلى هذه المنتجات؟ (Lipinski & Britz 200). علاوة على ذلك، غالبًا ما يتم توجيه هذه المناقشات إلى المستوى المؤسسي للخطاب – بقصد تبرير السياسات أو السلوك للحكومات والمنظمات والأفراد. في هذه المناقشات حول تأثير التقنية، يُنظر إلى الأخلاقيين بشكل أساس بوصفهم يقدمون حججًا لتبرير توازن معين بين القيم والحقوق، ومعارضة الاحتمالات الأخرى الموجودة في سياق استخدامات أو تطبيقات محددة لتقنية المعلومات. عند تقديم هذه الحجج، يطبق علماء الأخلاق عادةً النظريات الأخلاقية (مثل العواقبية، والنفعية، والأخلاقيات الواجبة، وما إلى ذلك) على الحالات أو المشاكل الجديدة التي يقدمها استخدام تقنية معينة أو التأثير لتقنية معينة.

2.3 سياسات تقنية المعلومات والأخلاقيات الإفصاحية

يميل المنظور البنائي عن العلاقة بين تقنية المعلومات والمجتمع (الذي ناقشناه في القسم 1.2 أعلاه) إلى التفكير بشكل مختلف في الأهمية الأخلاقية لتقنية المعلومات. يقترح أتباع هذا المنظور أن المشكلة مع وجهة نظر الأداة والتأثير في العلاقة بين المجتمع والتقنية هي أنها تفترض أن مجال المجتمع هو حيث توجد الغايات (القيم والافتراضات والسياسة)، وأن مجال التقنية هو مجرد وسيلة محايدة لتحقيق هذه الغايات. غالبًا ما يتم التعبير عن هذا الرأي تحت شعار “البنادق لا تقتل الناس، بل الناس يقتلون بعضهم”، هذا يعني أن البنادق مجرد وسيلة لتحقيق غاية (قد تكون سلمية أو عنيفة حسب مستخدم البندقية). على النقيض من ذلك، يميل البنائيون الاجتماعيون إلى القول بأن التقنية تم بناؤها اجتماعيًا، ومن ثمَّ تعد سياسية بالفعل، وبناء على ذلك تعد مثار قلق أخلاقيً بالفعل. وهم يقصدون بهذا أن التقنية، بحكم تصميمها ذاته، تتضمن اهتمامات معينة وتستبعد اهتمامات أخرى. هذا لا يعني أن المصممين يدركون دائمًا أنهم يتخذون قرارات سياسية وأخلاقية، إنهم لا يدركون ذلك في الحقيقة، وإنما في الغالب يحاولون حل المشكلات “التقنية” اليومية العادية جدًا عندما بنائهم لتلك التقنيات. ومع ذلك، فهم دائمًا يضعون افتراضات أو يأخذون بعض القيم والمعتقدات كأمر مسلم به (وهي قيمهم ومعتقداتهم الشخصية في الغالب) عند بنائهم لتلك الأدوات التقنية. على سبيل المثال، تفترض ماكينة الصراف الآلي (ATM) وجود شخص معين أمامها، وتفترض أن الشخص قادر على رؤية الشاشة، وقراءتها، وتذكر رمز التعريف الشخصي (PIN) وأدخله، وما إلى ذلك. ليس من الصعب تخيل وجود شريحة كاملة من المجتمع لا تتوافق مع هذا الافتراض. إذا كنت أعمى، أو على كرسي متحرك، أو تعاني من مشاكل في الذاكرة، أو غير قادر على إدخال رقم التعريف الشخصي بسبب إعاقة ما، فإن طريقة تصميم ماكينة الصراف الآلي ستحرمك من الوصول إلى حسابك الشخصي. بهذا الشكل، تجسد ماكينة الصراف الآلي فهماً محددًا للعالم (البشر) الموجود أمامها. لهذا السبب جادل لانغدون وينر (Langdon Winner, 1980) بأن الأدوات (والأنظمة التقنية) تجسد دائمًا المصالح والقيم وما إلى ذلك بالفعل- أي أنها من البداية سياسية دائمًا. هذا لا يعني أنه لا يمكن للمستخدمين إعادة تفسير الطريقة التي تقترحها التقنية أو “توفر” الإمكانيات لتناسب احتياجاتهم الخاصة، سواء عن قصد أو عن غير قصد، فغالبًا ما “يقرأ” المستخدمون التقنية ويستخدمونها بطرق غير مقصودة من قبل المصممين / المنفذين. ومع ذلك، نظرًا لأن هذه المزايا التقنية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من البنى التحتية الأكبر (الممارسات والأنظمة والمساحات والمنظمات وما إلى ذلك)، ازدادت صعوبة استخدام التقنية بطرق أخرى مختلفة تتيح إمكانيات مختلفة عن التي صُممت لتقديمها.

إذا كانت تقنية المعلومات سياسية – فهي بالفعل تتضمن / تستبعد مصالح معينة – فهذا سيجعلها أخلاقية على الفور. بالنسبة إلى البنائية فهي الطريقة المحددة التي تُدمج بها المصالح والاهتمامات في التقنية، والممارسات التي يتم تضمينها والتي تعد ذات أهمية أخلاقية (Brey 2000, 2004, 2006). علاوة على ذلك، غالبًا ما يجادلون بأن الانعكاس الأخلاقي يجب أن يكون جزءًا متأصلًا من عملية التصميم – ويُطلق على ذلك مصطلح التصميم الحساس للقيمة (Friedman, 1997). ومما يثير القلق بشكل خاص الطريقة التي “تخفي” بها تقنية المعلومات هذه القيم والاهتمامات في منطق خوارزميات البرامج ودوائر الأجهزة (Introna & Nissenbaum, 2000). إن التقنيات اليومية، مثل أواني المطبخ مثلاً، التي تكون غالبًا عُرضة للتدقيق من المستخدم المتأمل. ولكن من الناحية الأخرى، تقنية المعلومات ليست عرضة لمثل هذا التدقيق (Brey, 2000). غالبًا ما تحجب الافتراضات المهمة والتحيزات في تقنية المعلومات مخفية، وتُدرج في “الصناديق السوداء” بطرق تجعل من الصعب حتى على الخبراء فحصها. مثال: لا يمكن لمستخدم الكمبيوتر العادي أن يدقق في الافتراضات والتحيزات المدمجة في كود نظام التشغيل “ميكروسوفت ويندوز”. إن برامج وأجهزة تشفير تطبيقات تقنية المعلومات تتضمن قواعد منطقية وتصنيفات معقدة قد يكون لها عواقب مادية على من يستخدمها، وعلى إنتاج النظام الاجتماعي بشكل عام (Introna & Wood 2004, Introna & Nissenbaum 2000). ومن وجهة النظر هذه عن أخلاقيات تقنية المعلومات، تتمثل مهمة الأخلاقيات في فتح “الصندوق الأسود” لتقنية المعلومات والكشف أو الإفصاح عن القيم والمصالح التي تجسدها وجعلها عرضة للتدقيق والتفكير، وليس فقط تصميمها النهائي وإنما عملية تطويرها ذاتها (Introna, 2007). هذا الأسلوب في تناول أخلاقيات تقنية المعلومات عادةً ما يكون مبنيًا على الدراسات التقنية الموجودة في تقاليد مجتمع العلوم والتقنية كما اقترح بيجكر (Bijker, 2003).

3.3 تقنية المعلومات والأخلاقيات وطريقة معيشتنا كبشر

يجب أن يكون واضحاً من المناقشة السابقة أن علماء الظاهراتية لا يهتمون بتلك القطعة الأثرية أو التقنية أو غيرها في حد ذاتها، وإنما يفضلون الاهتمام بالعالم (أو المزاج كما ذكرنا سابقًا) الذي جعل هذه الأدوات أو التقنيات تبدو في المقام الأول ضرورية أو واضحة. كما أنهم يهتمون بالطرق التي “تؤطر” أو تكشف بها التقنيات أنفسنا وعالمنا عند اعتمادنا عليها. قد يزعمون أيضًا أننا يجب أن نركز على عملية التشكيل المشتركة المستمرة هذه إذا أردنا فهم الآثار الاجتماعية والأخلاقية لتقنية المعلومات والاتصالات ووسائل الإعلام الجديدة (Verbeek, 2008). هذا لا يسبتعد إمكانية أن نأخذ في الاعتبار تأثير تقنيات معينة، فضلاً عن تفكيك تقنيات معينة لفهم القيم والمصالح التي تنطوي عليها. ومع ذلك، غير أن علماء الظاهراتية قد يجادلون بأن تعزيز تحليل الأثر (القسم 3.1) والتحليل الكشفي/الإفصاحي (القسم 3.2) يمكن تعزيزهما إذا وضعا في تحليل ظواهر أوسع نطاقاً. قد يضيف هذا التحليل الإضافي مستوى آخر من التفكير النقدي، والذي قد يكون مهمًا في فهم وتبرير الاحتمالات المستقبلية المختلفة. يمكن للمرء أن يصف نهج الظاهراتية كعملية تكرارية من الكشف الوجودي، والتي يتم فيها اعتبار العالم (الممارسات الاجتماعية ذات الصلة أو عملية المشاركة بأكملها) والتقنية (رابطة التقنيات ذات الصلة) كسياقات تفسيرية تأسيسية مشتركة، حيث يؤدي أحدهما إلى فهم الآخر، ويرسخه كطريقة وجود “تبدو” ذات معنى. ينكشف في هذه العملية التكرارية تدريجيًا الشروط التأسيسية الضرورية لتطبيق طرق معينة للرؤية والتصرف في العالم – أو في ممارسات اجتماعية معينة – لفهم صورته الحالية وجعلها ذات معنى. على سبيل المثال، في تحليل هيدجر للتقنية الحديثة، كما هو موضح أعلاه في القسم 2.2، يحدد ظهور التفكير الحسابي كشرط ضروري لرؤية العالم كموارد متاحة لتحقيق لأغراضنا. ومع ذلك، فإن هذا التوجه الحسابي في حد ذاته مشروط بطريقة معينة للتعامل من العالم، وتتبع جذور هذه الطريقة إلى الفكر اليوناني. دعونا نتناول هذه الطريقة بمزيد من التفصيل من خلال مثال افتراضي.

4. علم الظاهراتية والأخلاقيات وتقنية المعلومات: حالة الافتراضية

كما هو موضح أعلاه، سيكون من المضلل الإيحاء بوجود قدر كبير من المؤلفات البحثية عن نهج الظاهراتية في معالجة الاثار الاجتماعية والأخلاقية لتقنية المعلومات. من الواضح أن أعمال ستيجلر وهيدجر ودريفوس وبورجمان وإيهدي التي نوقشت أعلاه يمكن وصفها بأنها أعمال مهمة تهدف لفتح أفق للتفكير الاجتماعي والأخلاقي. ومع ذلك، يبدو أن هناك موضوعًا واحدًا على الأقل متعلق بتقنية المعلومات جذبت اهتمامًا مستمرًا (خاصة فيما يتعلق بالاثار الأخلاقية)، وهو ظاهرة المحاكاة الافتراضية أو الافتراضية. يُستخدم مصطلح “الافتراضية” هنا للإشارة إلى استخدام وسيط إلكتروني للتوسط في عملية التفاعل بين البشر، وكذلك بين البشر والآلات. الإنترنت (أو الفضاء السيبراني كما يُعرف في الخطاب الثقافي) هو المثال الأكثر وضوحا على افتراضية التفاعل.

أدى تطور الإنترنت والتوسع اللاحق لشبكات الكمبيوتر في جميع مجالات الحياة اليومية للكثير من التكهنات حول الطريقة التي ستغير بها تقنية المعلومات الوجود البشري، وخاصة مفهومنا عن السلوك الاجتماعي والمجتمع. تشير الكثير من هذه التكهنات إلى أن التمثيل الافتراضي للتفاعل البشري أدى إلى إتاحة العديد من الاحتمالات الجديدة للبشر – مثل المجتمعات الإلكترونية والتعليم الافتراضي والصداقات والمنظمات والسياسات الافتراضية وما إلى ذلك. من الواضح أن مثل هذه الادعاءات حول تحول المجال الاجتماعي لها انعكاسات مهمة على فهمنا للأخلاقيات. قد يقترح المرء أن معظم تفكيرنا الحالي حول الأخلاق يتضمن إحساسًا معينًا بالمجتمع، استناداً إلى الالتزامات الأخلاقية المتبادلة التي يتم تأمينها إلى حد كبير من خلال الممارسات والمؤسسات الموضوعة والمتجسدة التي غالبًا ما تكون متداخلة وحصرية. إذا أصبحت هذه الممارسات والمؤسسات افتراضية، فسيبدو أننا بحاجة إلى إعادة النظر في بعض التصنيفات البشرية الأساسية.

يجادل مؤيدو الافتراضية للمجتمع (ومؤسساته) بأن الافتراضية توسع المجتمع بطرق غير مسبوقة (Fernback 1997, Rheingold 1993a, 1993b, Turkle 1995, 1996, Benedikt 1991, Horn 1998)، كما يجادلون بأنها تفتح مجالًا جديدًا تمامًا للوجود الاجتماعي. على سبيل المثال، يجادل رينجولد (Rheingold, 1993a) بأن الافتراضية توفر “أدوات لتسهيل جميع الطرق المختلفة التي اكتشفها الناس للانقسام والتواصل، والتجمعات الفرعية وإعادة التجمع، والتضمين والاستبعاد والاختيار والانتخاب. عندما تبقى مجموعة من الأشخاص على اتصال ببعضها البعض لفترات طويلة، يُثار سؤال عما إذا كانوا يشكلون مجتمعًا أم لا. قد تكون المجتمعات الافتراضية مجتمعات حقيقية، أو مجتمعات زائفة، أو قد تكون شيئًا جديدًا تمامًا في مجال العقود الاجتماعية”. (ص 62). وفقًا للمؤيدين، فإن هذا الفضاء الاجتماعي الجديد يعد جديدًا من ناحية أنه يقدم طرقًا جديدة تمامًا للوجود والتواصل. ويجادلون بأن مرونة هذا الوسط تجعل من الممكن تصور وبناء وتقديم هوياتنا بطرق لا حدود لها. ويشير توركل (Turkle, 1996) أن الفضاء السيبراني “يجعل من الممكن بناء هوية مرنة ومتعددة لدرجة أنها تستنزف حدود مفهوم [الأصالة]. ويصبح الناس أساتذة التقديم الذاتي وخلق الذات. وتُتاح فرصة لا مثيل لها للعب بهوية الفرد و”تجربة” هوية جديدة. إن فكرة الذات الداخلية الحقيقية موضع تساؤل، فالشخص السمين يمكن أن يصبح نحيلا، والجمال يمكن أن يكون باهتًا، و”مهووس العلوم” يمكن أن يكون أنيقًا. إن عدم الكشف عن هويتك في الزنزانات المحصنة متعددة المستخدمين مثل الحياة الثانية (حيث لا تُعرف إلا بالاسم الذي أعطيته لشخصياتك)، يوفر مجالًا واسعًا للأفراد للتعبير عن “جوانب الذات” غير المكتشفة “(ص 158). ومما لا شك فيه أن ادعاءات راينجولد وتوركل وآخرين جريئة، إذا كانوا على صواب، فإن الافتراضية قد تمثل بالفعل إمكانيات جديدة تمامًا تتيح للبشر التواصل والتوسع والتعبير عن أنفسهم، وهي أمور يجب تشجيعها، خاصة بالنسبة إلى أولئك المستبعدين من المجالات التقليدية للعلاقات الاجتماعية، بسبب الإعاقة على سبيل المثال.

قد يقترح أولئك الذين يتعاملون مع الإنترنت باعتباره قطعة أثرية أن ننظر إلى تأثير الوساطة (أو الافتراضية) في الاتصال وعلاقات القوة. على سبيل المثال، حقيقة أنها تحُد من بعض التحيزات الاجتماعية لأن الفرد الذي يستجيب لطلب الحصول على خدمة معينة عبر شبكة الإنترنت لا يرى مظهري الجسدي. قد يقترحون أيضًا، كما فعل توركل (1995، 1996)، أن ننظر إلى الطريقة التي تجعل من الافتراضية طريقة عرض الذات والهوية أكثر مرونة، وتشجعنا على التفكير في عواقب ذلك على التفاعل الاجتماعي المستمر. قد يقترح البنائيون الاجتماعيون أننا بحاجة إلى النظر إلى الافتراضات باعتبارها قيمًا مدمجة في القطع الأثرية (كما اقتُرح أعلاه). وقد يقترحون على سبيل المثال أن ننظر في الافتراضات الضمنية بشأن طبيعة الاتصال عند النظر في تطبيقات البريد الإلكتروني. على سبيل المثال، حقيقة أن معظم تطبيقات البريد الإلكتروني تفترض وتحاكي بنية الحرف المادي. وقد يجادلون أيضًا بأننا بحاجة إلى تتبع كيفية تفسير الأشخاص لهيكل “الحرف” هذا للتواصل ومشاركة الأشياء مع الآخرين (مثل الملفات والصور)، بالإضافة إلى أنواع الاتصال التي يستبعدها مثل هذا الهيكل.

يقترح علماء الظاهراتية أن جميع هذه الاستجابات مهمة، ولكنهم يفترضون شيئًا أكثر أهمية: أي الظروف التي تجعل أفعالاً مثل تقديم الذات والتواصل المستمر والمشاركة أفعالاً ذات مغزى ومهمة في المقام الأول. قد يقترحون أن هذه الأعمال الاجتماعية ترتكز جميعها على الإحساس المفترض بالفعل بالمجتمع. وقد يجادلون أيضًا بأن التفاعل الاجتماعي والمجتمع والهوية (كما نعرفها) هي ظواهر محلية ومتمركزة ومتجسدة، تتسم بالمشاركة والاهتمام والالتزام المتبادلين (Dreyfus 2001; Borgmann 1999, Ihde 2002, Introna 1997, Coyne 1995, Heim 1993). بمعنى آخر، تعتمد هذه الظاهراتية على الشعور الضمني بالمشاركة والمكان والموقف والجسد لمعناها المستمر. على سبيل المثال، يجادل بورجمان (1999) بأن اقتراح توركل عن “الفرصة التي لا مثيل لها” التي تقدمها الافتراضية هي فرصة لها ثمن. “ولكي نضمن تحقيق سحر الواقع الافتراضي في أبهى صوره، يجب أن يكون حجاب الغموض الافتراضي كثيفًا وسميكًا. ولكن هذا الغموض الافتراضي سيؤدي إلى استبعاد الحضور المهيمن للواقع في النهاية حتمًا، ومن ثم فإن ثمن الحفاظ على الغموض الافتراضي هو التفاهة” (ص 189). في الواقع، هذه الهوية “المتغيرة والمتعددة” ستصبح ممكنة فقط طالما كانت “خالية من العواقب الحقيقية”. وفي نفس السياق، يقول دريفوس (1999، 2001) أنه بدون التزام موضوعي ومتجسد لا يمكن أن يكون هناك التزام ولا مخاطرة. ويجادلون أيضًا أنه في مثل هذه البيئة تكون المشاركة الأخلاقية محدودة، وتصبح العلاقات الإنسانية تافهة. لم يذهب إيهدي (2002) إلى المدى الذي وصله بورجمان ودريفوس في استبعاد الواقع الافتراضي باعتباره “تافهًا”. ولكنه زعم أن “أجسام الواقع الافتراضي رقيقة ولا تصل أبدًا إلى سمك اللحم الواقعي. إن الخيال الذي يقول إنه يمكننا امتلاك صلاحيات وقدرات الوسيط التقني بالتزامن مع التخلي عن حدوده الغامضة هو خيال الرغبة ” (ص 15).

اعتمد كوين (Coyne, 1995) على عمل هايدجرـ وجادل بأن القرب من المجتمع لا علاقة له بالمسافة المادية. وأن القرب هو بالأحرى مسألة اهتمامات مشتركة، على سبيل المثال: عائلتي “قريبة” مني حتى لو كانوا على بعد آلاف الأميال وجيراني قد يكونون “بعيدين” عني حتى لو كانوا بجواري. يذهب ليفيناس (Levinas, 1991, 1996) بهذا الزعم إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يقترح أن القرب لا علاقة له بالمسافة الاجتماعية أو الجغرافية، والقرب بالنسبة إليه هو ضرورة أخلاقية يقلق وجودنا الأناني. ويشير إلى أن القرب هو الوجه الآخر (جميع البشر الآخرين) الذين نواجههم دائمًا، والذي يحدث اضطرابًا في محاولات الأنا المستمرة لـ “تدجين” الآخر الفردي اللامتناهي (اسم مناسب) في فئات مألوفة (العرق، الإثنية، الجنس، إلخ). يرى العالم الظاهراتي أن أي اتصال إلكتروني (أو أي اتصال آخر) سيجد معناه في الأفق السابق للقرب. إذا لم نتشارك بالفعل في اهتمامات معينة، فلن تخلق الوساطة الإلكترونية قرباً حتى لو بدى أنها تقلل المسافات الجغرافية بيننا، حتى وإن كانت “تقلص” العالم بأكمله من حولنا. يقترح هؤلاء الباحثون أن إحساسنا بالمجتمع والمعاملة الأخلاقية بالمثل التي تنطوي عليها تنبع من المشاركة المستمرة والمحددة، حيث يتم تأمين الالتزامات والواجبات المتبادلة بالقرب من أفق مشترك بالفعل من معنى مستمر. في نفس السياق، اعتمد سيلفرستون (Silverstone, 2002, 2003) على عمل ليفيناس، وناقش أهمية الحفاظ على “مسافة مناسبة” يتم فيها الحفاظ على القرب والمسؤولية. ويجادل أنه في عالم الانترنت الحديث علا وتزايد التنقل، أصبح الغريب “جاري”: “ونحن جميعًا جيران لبعضنا البعض الآن”. وفي العالم الذي يتمتع بالوساطة، تغمرنا طلبات الكثير من الأشخاص الآخرين التي تظهر بشكل متزايد على شاشاتنا. كيف يجب أن نستجيب؟ لا يمكننا أن نسمح للعالم، الذي أعادت الوسائط الجديدة تشكيله، بالتحول إلى مجرد صور وبكسلات على الشاشة. ولابد لنا أن نعترف: “أن مسئوليتي تجاه الغريب، الآخر البعيد عني سواء جسديًا أو ميتافيزيقيًا، هي نفسها مسئوليتي تجاه جاري” (Silverstone 2003: 480). وبناء على ذلك، يرى سيلفرستون أن غموض العالم الذي يتزامن فيه “القرب” مع “المسافة” من الآخر، أي العالم الذي تشكله الوسائط الجديدة، يعد طريقة وجود مختلفة تمامًا مع الآخرين، وتتطلب أخلاقيات جديدة عن “المسافة المناسبة” التي لا تضيع فيها احتمالية مواجهة الآخر “كآخر”، في الفضاء الأثيري لنقراتنا على مفاتيح الكمبيوتر. يتضح من هذه الأمثلة أن السؤال الأخلاقي الذي يطرحه العلم الظاهراتي هو في الغالب أيضًا سؤال وجودي – أي: ما هو نوع العالم أو طريقة الوجود التي نحن في طريقنا لأن نصبح عليها مقارنةً بنوع العالم الذي نقدره ونريده؟ قد يجادل علماء الظاهراتية بأن هذه الخيارات الأساسية قد تصبح مرئية فقط إذا تعاملنا مع الوسائط الجديدة وتقنية المعلومات والاتصالات (والأخلاق التي تتضمنها) من منظور ظاهراتي.

لا يتفق الجميع مع هذا التحليل الظاهراتي الذي يبدو أنه يمنح أفضلية للمقابلة وجهاً لوجه. بالرغم من أن فينبرج (Feenberg, 1999, 2004) ليس عالم ظواهر من هذا النوع، إلا أنه يستخدم الرؤى الظاهراتية ليجادل بأن الرسائل المتبادلة ليست “رقيقة”، ولكن يمكن أن تكون “سميكة”. إن الرسائل المتبادلة عبر البريد الإلكتروني مثلاً راسخة، وتحمل حداً أدنى معين من المعاملة المتبادلة والالتزام، ومجرد الحقيقة المتمثلة في تبادل تلك الرسائل تعني ضمنًا وجود حدًا أدنى من أفق المعنى الذي يظهر في فِعل التبادل نفسه ويمنحه معنى. ويقول فينبرج: “الرسالة المفسرة تمثل العالم، بل أنها في الواقع عالماً. وفي حالة التواصل عبر وسيط، توصل الرسالة الشخص والسياق الاجتماعي لوجوده”. ويقول: إن المجتمع هو ظاهرة شيدت ذاتيًا، ونشأت من الاتصال المتبادل الذي قد ينطوي على وجود مادي مشترك ولكنه لا يقتصر عليه. ويقر بأن المجتمع الموسَّط قد يكون مختلفًا ولديه مشاكله الخاصة. ومع ذلك، فهو يصر على أن “المجتمع يجب تفسيره من الداخل إلى الخارج، وليس كحقيقة جغرافية”. بالمثل، يجادل باورز (Powers, 2004)، بالإشارة إلى قضية LamdaMOO المعروفة باسم “الاغتصاب الافتراضي”، أن الافتراضية يمكن أن تؤدي إلى أخطاء أخلاقية حقيقية، حتى لو بدت هذه العوالم الافتراضية تافهة و “ضحلة”. يجادل إنترونا وبريجهام (Introna and Brigham, 2007) أيضًا بأن الافتراضية تتيح فرصة لإعادة النظر في معنى المجتمع التقليدي بطريقة أساسية. ويقترحون أن فكرة اعتبار المجتمعات الافتراضية “رقيقة” و”سطحية” –أي تفتقر إلى العمق الذي يجلبه القرب الناتج عن التعامل وجهًا لوجه في المجتمعات المحلية- هي فكرة تمنح امتيازات لرؤية معينة للمجتمع، رؤية تقوم على القيم المشتركة  أو الاهتمامات المشتركة الموجودة في التفاعل والممارسات المحلية الواقعية وجهًا لوجه. وهم يزعمون أن الأخلاق في مثل هذه المجتمعات كثيراً ما تكون متجذرة في مفهوم المعاملة بالمثل (وهي ليست مسألة إيثار على الإطلاق، وإنما اقتصادية إلى حد كبير). وفي المقابل، يقترحون أن الغريب الافتراضي (الذي ظهر على شاشتي كما لو أنه ظهر من العدم) يُحدِث اضطرابًا جذريًا في فكرة المعاملة بالمثل (والمجتمع). ويصبح المصدر المفترض لأخلاقياتنا واضحًا عادةً في الرد على الغريب الافتراضي. فسرية الهوية التي توفرها الواجهة الافتراضية يجعلني أضطر لأن أقرر حقًا (وأن أصبح مسؤولًا حقًا)، لأن الغريب يمكن تجاهله بسهولة.

إن التحليل والنقد الظاهراتي للافتراضية أمر مهم؛ لأنه يجبرنا على إعادة النظر في بعض التصنيفات البشرية الأساسية – خاصةً تصنيفاتنا الأخلاقية. ويتضح من المناقشات أعلاه أن هناك انقسام ثنائي يسير يعد الافتراضي “رقيقاً وتافهاً”، على حين الحضور المشترك الثابت والمتجسّد (غالبًا ما يشار إليه باسم “الحقيقي”) يُعد “سميكاً ومهماً”، ولكن هذا الانقسام الثنائي اليسير جدًا بشكل يجعله غير مفيد. ويستنتج من التحليل الظاهراتي المقدم أن أحد أهم جوانب المجتمع هو الكثافة المفترضة لاهتماماته ومشاركاته المتبادلة (بغض النظر عن الوساطة). غالباً ما تطور المجتمعات التقليدية هذه المرجعية الكثيفة بشكل غير مباشر، وذلك من خلال التفاعل المشترك (ومن ثمَّ الاهتمامات المشتركة) في العديد من الممارسات والمؤسسات المتداخلة. من الممكن تصور أن هناك أفراد يتشاركون بالفعل في أنشطة واهتمامات معينة بالفعل (مثل الأفراد الذين يتشاركون في مرض موهن)، يمكن أن يصبحوا مجتمعًا افتراضيًا عبر الإنترنت لأنهم بالفعل مجتمع بالمعنى الحقيقي للكلمة. ويبدو من الواضح أيضًا أن الأفراد الذين يتشاركون في أنشطة واهتمامات محدودة (مثل ممارسة الألعاب في MUDs) من غير المرجح أن يصبحوا مجتمعًا لمجرد أنهم يتشاركون في مساحة افتراضية. بدون وجود أفق كثيف من النشاط والاهتمامات المتبادلة نبني عليه أفعالنا سيجعل جميع الخيارات والأفعال متساوية الأهمية أو غير مهمة. يقدم تايلور (1991) في مناقشته لأخلاقيات الأصالة ملخصًا جيدًا لأهمية هذا الأفق الجماعي المهم لبناء الذات “كثيفة”، ومن ثمَّ مجتمع “كثيف”: “إن العامل الذي يبحث عن أهمية في الحياة، ويحاول تعريف نفسه بشكل هادف، يجب أن يوجد في أفق الأسئلة المهمة [الاهتمامات المشتركة]. وهذا ما يؤدي إلى تدمير الذات في أنماط الثقافة المعاصرة التي تركز على تحقيق الذات في مواجهة متطلبات المجتمع، أو الطبيعة، ويؤدي إلى غلق أبواب التاريخ وأواصر التضامن. هذه الأشكال “النرجسية” المتمركزة حول الذات هي في الواقع ضحلة وتافهة “(ص 40).

5. الختام

الغرض من هذا المقال هو تزويد القارئ بشرح مبسط للمنهج الظاهراتي في تقنية المعلومات وآثارها الاجتماعية والأخلاقية من خلال مقارنته مع منهجين آخرين. قد يكون من المفيد تلخيص مناقشتنا في الجدول أدناه. يجب قراءة هذا الجدول مع الوضع في الاعتبار سياق المقال بأكمله كما هو واضح، وفهم أنه عُرضة للمشكلات الاعتيادية في مثل هذا النوع من الملخصات، أي أنها لا تفي الأفكار الملخصة حقها. ولكن يمكن اعتباره دليلاً عامًا قد يساعد في زيادة توضيح بعض التناقضات التي اقترح المقال أنها مفيدة في فهم تميز المنهج الظاهراتي.

منهج القطعة الأثرية/الأداة منظور العلاقة بين التقنية والمجتمع التقنية هي الأدوات التي يعتمد عليها المجتمع للقيام أشياء معينة لا يمكنه فعلها بطريقة أخرى. وعندما يتم دمج الأدوات مع الممارسات، يصبح لها تأثير قابل للتحديد إلى حد ما على تلك الممارسات. طريقة التعامل مع التداعيات الأخلاقية للتقنية مهمة الأخلاق هي تحليل تأثير التقنية على الممارسات من خلال تطبيق النظريات الأخلاقية الحالية أو الجديدة لبناء المبادئ التوجيهية أو السياسات من شأنها “تصحيح” المظالم أو انتهاكات الحقوق الناجمة عن تنفيذ واستخدام تقنية معينة.
 
 
المنهج البنائي الاجتماعي منظور العلاقة بين التقنية والمجتمع تشترك التقنية والمجتمع في بناء بعضهما البعض منذ البداية. وهناك تفاعل مستمر بين الممارسات الاجتماعية والأدوات التقنية (سواء في تصميمها أو في استخدامها). يعني هذا التفاعل المستمر أن الأدوات التقنية والممارسات البشرية جزءًا لا يتجزأ من طرق متعددة لا يمكن تحديدها في الغالب بأي طريقة واضحة. طريقة التعامل مع التداعيات الأخلاقية للتقنية مهمة الأخلاق هي المشاركة بنشاط في الكشف عن الافتراضات والقيم والمصالح التي “تُدمَج” في تصميم وتنفيذ واستخدام التقنية. ولا تتمثل مهمة الأخلاق في وصف السياسات أو الإجراءات التصحيحية، وإنما في الاستمرار في فتح “الصندوق الأسود” أمام التدقيق والدراسة الأخلاقية والنقاش.
 
 
المنهج الظاهراتي منظور العلاقة بين التقنية والمجتمع التقنية والمجتمع يشكلان بعضهما البعض منذ البداية، وكل منهما يُعَد شرطًا لوجود الآخر، والتقنية ليست مجرد قطعة أثرية وحدها، بل هي أيضًا السلوك أو التصرف التقني الذي جعل القطعة الأثرية تبدو ذات مغزى وضرورية في المقام الأول. ولكن مجرد ظهور الأدوات والسلوكيات التي جعلتها ذات معنى للوجود، يكشف أيضًا عن العالم الذي يتجاوز الوجود المادي لتلك الأدوات. طريقة التعامل مع التداعيات الأخلاقية للتقنية مهمة الأخلاق هي الكشف الوجودي. فتح أبواب التفكير وكشف الظروف التي تجعل تقنيات معينة تبدو ضرورية وذات مغزى (على حين بعض التقنيات الأخرى ليست كذلك). وتسعى إلى التحقيق من هذه الظروف التأسيسية (المعتقدات، والافتراضات، والسلوكيات، والحالات المزاجية، والممارسات، والخطابات، وما إلى ذلك) من أجل إثارة المشاكل والتشكيك في المصادر التأسيسية الأساسية لوجودنا المستمر مع التقنية.

المراجع

  • Achterhuis, H. (ed.), 2001, American Philosophy of Technology: The Empirical Turn , Bloomington: Indiana University Press.
  • Baudrillard, J., 1983, Simulations, New York: Semiotext(e).
  • Bijker, W. E., 1995, Of Bicycles, Bakelites and Bulbs. Toward a Theory of Sociotechnical Change, Cambridge, MA: MIT Press.
  • –––, 2003. “The Need for Public Intellectuals: A Space for STS,” Science Technology & Human Values, 28(4): 443–50.
  • –––, W., T. Pinch, and T. Hughes, 1987, The Social Construction of Technological Systems: New Directions in the Sociology and History of Technology, Cambridge, MA: MIT Press.
  • Borgmann, A., 1984, Technology and the Character of Contemporary Life, Chicago: University of Chicago Press.
  • –––, 1999, Holding On to Reality, Chicago/London: University of Chicago Press.
  • Brey, P., 1997, “Philosophy of Technology meets Social Constructivism.” Techne´: Journal of the Society for Philosophy and Technology, 2(3&4): 56–79.
  • –––, 2000, “Disclosive Computer Ethics,”Computers and Society, 30(4): 10–16.
  • –––, 2004, “Ethical Aspects of Face Recognition Systems in Public Places,” Journal of Information, Communication & Ethics in Society, 2(2): 97–109.
  • –––, 2006, “Freedom and Privacy in Ambient Intelligence,” Ethics and Information Technology, 7(3): 157–166.
  • Coyne, R., 1995, Designing information technology in the postmodern age: From method to metaphor, Cambridge MA: MIT Press.
  • Dreyfus, H.L., 1999, “Anonymity versus commitment: The dangers of education on the internet,” Ethics and Information Technology, 1(1): 15–20, 1999
  • –––, 2001, On the Internet, London: Routledge.
  • –––, 1992, What Computers Still Cant Do: A Critique of Artificial Reason, Cambridge, MA: MIT Press.
  • Feenberg, A., 1991, Critical Theory of Technology, Oxford: Oxford University Press.
  • –––, 1999, ‘Technology and Meaning’, in Questioning Technology, London and New York: Routledge, 183–199.
  • Fernback, J., 1997, “The Individual within the Collective: Virtual Ideology and the Realization of Collective Principles.” In Steven G. Jones (Ed.), Virtual Culture: Identity and Communication in Cybersociety, London: Sage, 36–54.
  • Friedman, B. (ed.), 1997, Human Values and the Design of Computer Technology, New York: Cambridge University Press and CSLI, Stanford University.
  • Gert, B., 1999, “Common Morality and Computing,” Ethics and Information Technology, 1(1): 57–64.
  • Gorniak, K., 1996, “The Computer Revolution and the Problem of Global Ethics,” Science and Engineering Ethics, 2(2): 177–190.
  • Harman, G., 2009, Prince of Networks: Bruno Latour and Metaphysics, Melbourne: Re.press.
  • Heidegger, M., 1977, The Question Concerning Technology and Other Essays, New York: Harper Torchbooks.
  • Heim, M., 1993, The Metaphysics of Virtual Reality, New York: Oxford University Press.
  • –––, 1999, Electric Language, New York: Yale University Press.
  • Horn, S., 1998, Cyberville. Clicks, Culture, and the Creation of an Online Town, New York: Warner Books.
  • Ihde, D., 1990, Technology and the Lifeworld: From garden to earth, Bloomington and Indianapolis: Indiana University Press.
  • –––, 1995, Postphenomenology: Essays in the Postmodern Context, Evanston: Northwestern University Press.
  • –––, 2002, Bodies in Technology, Minneapolis: University of Minnesota Press.
  • –––, 2003, “If Phenomenology is an Albatross, Is Post-phenomenology possible?” in Don Ihde and Evan Selinger (eds.), Chasing Technoscience: Matrix for Materiality, Indianapolis: Indiana University Press, 15–26.
  • –––, 2010, Heideggers Technologies: Postphenomenological Perspectives, New York: Fordham University Press.
  • Introna, L.D., 1997, “On Cyberspace and Being: Identity, Self and Hyperreality.” Philosophy in the Contemporary World, 4(1&2): 16–25.
  • –––, 2007, “Maintaining the Reversibility of Foldings: Making the ethics (politics) of information technology visible,” Ethics and Information Technology, 9(1): 11–25.
  • Introna, L.D., and Brigham, M., 2007, “Reconsidering Community and the Stranger in the Age of Virtuality,” Society and Business Review, 2(2): 166–178.
  • Introna, L.D., and Ilharco, F.M., 2003, “The Ontological Screening of Contemporary Life: A Phenomenological Analysis of Screens,” European Journal of Information Systems, 13(3): 221–234.
  • Introna, L.D., and Nissenbaum, H., 2000, “The Internet as a Democratic Medium: Why the politics of search engines matters,” Information Society, 16(3): 169–185.
  • Introna, L.D., and Wood, D., 2004, “Picturing Algorithmic Surveillance: The Politics of Facial Recognition Systems,” Surveillance and Society, 2(2&3): 177–198.
  • Irwin, S., and Ihde, D., 2016, Digital Media: HumanTechnology Connection, Lanham; Boulder; New York; London: Lexington Books.
  • Johnson D. G., 1985, Computer Ethics, Englewood Cliffs, NJ: Prentice-Hall.
  • –––, 1994, Computer Ethics, 2nd edition, Englewood Cliffs, NJ, Prentice-Hall.
  • Latour, B., 1991, “Technology is society made durable.” in J. Law (ed) A Sociology of Monsters: Essays on Power, Technology and Domination, London: Routledge, 103–131.
  • –––, 2002, “Morality and Technology: The End of the Means,” Theory, Culture & Society, 19(5&6): 247–60.
  • –––, 2005, Reassembling the Social: An Introduction to Actor-Network-Theory, Oxford: Oxford University Press.
  • Law, J., 1991, The Sociology of Monsters: Essays on Power, Technology and Domination, London: Routledge.
  • Levinas, E., 1991, Otherwise than Being or Beyond Essence, Dordrecht: Kluwer Academic Publishers.
  • –––, 1996, “Ethics as First Philosophy,” in The Levinas Reader, S. Hand (ed.), London: Blackwell, 75–87.
  • Lipinski, T. A. and Britz, J. J., 2000, “Rethinking the Ownership of Information in the 21st Century: Ethical Implications.” Ethics and Information Technology, 2(1): 49–71.
  • Moor, J. H., 1985, “What is computer ethics?” Metaphilosophy, 16(4): 266–279.
  • Pitt, J.C., 2000, Thinking about Technology: Foundations of the Philosophy of Technology, New York: Seven Bridges Press.
  • Postman, N., 1993, Technopoly: The Surrender of Culture to Technology, New York: Alfred A. Knopf.
  • Powers, T.M., 2004, “Real wrongs in virtual communities,” Ethics and Information Technology, 5(4): 191–198.
  • Rheingold, H., 1993a, “A Slice of Life in My Virtual Community.” In L. Harasim (ed.), Global Networks. Computers and International Communication, Cambridge, MA: The MIT Press, 57–80.
  • –––, 1993b, The Virtual Community: Homesteading on the Electronic Frontier, Reading, Mass: Addison-Wesley. [Preprint available online.]
  • Rosenberger, R., 2012, “Embodied Technology and the Dangers of Using the Phone While Driving,” Phenomenology and the Cognitive Sciences, 11(1): 79–94.
  • Rosenberger, R., and Verbeek, Peter-Paul (eds.), 2015, Postphenomenological Investigations: Essays on HumanTechnology Relations, London: Lexington Books.
  • Selinger, Evan (ed.), 2006, Postphenomenology: A Critical Companion to Ihde, Albany: State University of New York Press.
  • Silverstone, R., 2002, “Complicity and Collusion in the Mediation of Everyday Life,” New Literary History, 33(4): 761–80.
  • –––, 2003, “Proper Distance: Towards an Ethics for Cyberspace.” In G. Liestol, A.Morrison and T. Rasmussen (eds), Digital Media Revisited, Cambridge MA: MIT Press, 469–91.
  • Stiegler, B., 1998, Technics and Time, 1: The Fault of Epimetheus, Stanford: Stanford University Press.
  • –––, 2009, Technics and Time, 2: Disorientation, Stanford: Stanford University Press.
  • Taylor, C., 1991, The Ethics of Authenticity, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Turkle, S., 1996, “Parallel lives: Working on identity in virtual space.” in D. Grodin & T. R. Lindlof, (eds.), Constructing the self in a mediated world, London: Sage, 156–175.
  • –––, 1995, Life on the Screen Identity in the Age of the Internet, New York: Simon and Schuster.
  • Vaccari, A., 2009 “Unweaving the Program: Stiegler and the Hegemony of Technics” Transformations, 17, available online.
  • Verbeek, P.P., 2005, What Things Do Philosophical Reflections on Technology, Agency, and Design, University Park: Pennsylvania State University Press.
  • –––, 2008, “Obstetric Ultrasound and the Technological Mediation of Morality – A Postphenomenological Analysis.” Human Studies, 31(1): 11–26.
  • Virilio, P., 1994, The Vision Machine, Bloomington, IN: Indiana University Press.
  • Winner, L., 1980, “Do Artefacts Have Politics.” Daedalus, 109: 121–36.

أدوات أكاديمية

How to cite this entry.
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
Look up topics and thinkers related to this entry at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت

مداخل ذات صلة

computing: and moral responsibility | information technology: and moral values | phenomenology | technology, philosophy of

جدول المصطلحات

المصطلح باللغة العربيةالمصطلح باللغة الإنجليزية
المنهج الظاهراتيPhenomenological Approach
المستخدمUser
الحتمية التقنيةTechnological determinism
المتعاليTranscendental
المزاجMood
التأطيرEnframing
انعكاس داخليInteriorization
النشوء المشتركEpiphylogenesis
علاقات التجسيدEmbodiment relations
العلاقات التفسيريةHermeneutic relations
العلاقات الآخريةAlterity relations
علاقات الخلفيةBackground relations
الافتراضيةVirtuality

[1] Introna, Lucas, “Phenomenological Approaches to Ethics and Information Technology”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2017 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/fall2017/entries/ethics-it-phenomenology/>.