مجلة حكمة
الزراعة اليسار عر التاريخ

أكثر المشاكل تعقيدًا: ما الدور الذي أدّته المسألة الزراعية تاريخيًا لليسار؟ – لوتس برانجش / ترجمة: نادية المطيري

مقدمة: بحث عن الزراعة واليسار

تعتبر مسألة الزراعة معضلة اليسار وأكثر مشاكله العملية تعقيداً. حقيقة أنّ الماركسية قُرأت “كنظرية للصناعة” منذ النصف الثاني لعشرينيات القرن الماضي، لا تلغي أهميّة الزراعه والمناطق الريفية كمجال اجتماعي في التحليلات والتأملات السياسية لجيل اليسار الأول.

لوتس برانجش

فلقد أدّت هذه القضيّة دوراً كبيراً في تكوين الحركات العمالية الحديثة من جانبها النظري (راجع فكرة التراكم الأولي أو الصراع على استئجار الأرض لدى ماركس) وجانبها السياسي. خصص ماركس المجلد الأول من كتاب (رأس المال)  لـويلهلم وولف الذي يعتبر من الأوائل في تحليل العمليات الاجتماعية والاقتصادية للزراعة الموجودة آنذاك (1820) في بروسيا، بهدف الوصول للخلاصة السياسية للحركة الشيوعية المزدهرة. وهو من طرح قضية التحالف بين الفلاحين والعمّال على طاولة النقاش.

لاحقاً، تناول فريدريك انجيلز هذه المسألة عام ١٨٤٨ في ظل متغيرات جديدة تختص بالمناقشات داخل الديمقراطية الاشتراكية الألمانية عن إمكانية صياغة علاقتها مع مختلف طبقات سكان الريف. لكن خصوصية هذه العلاقات الاجتماعية والإنتاج الزراعي بقيت بعيدة عن أغلب اليسار. ويعود هذا على وجه الخصوص إلى كارل كاوتسكي وفلاديمير لينين. فقد قام الاثنان بتحليل تطور الرأسمالية في الزراعة في جميع أعمالهم المنشورة عن مسألة الزراعة.

التكيف مع المدنية

أكدّ الاثنان على أهمية كسر اعتمادية الفلاحين على رأس المال، وعلى التنمية الثقافية والاجتماعية للمناطق الريفية، والتوجه نحو التوسع الزراعي للأراضي ودور الإنتاج التعاوني. لكنهما ناقشا هذا الأمر من وجهة نظر حزب سيظل دائماً حزب البروليتاريا على حد تعبير كاوتسكي. وهذا يفسر سبب معاملة الفلاحين كبروليتاريا محتملين أو رأسماليين محتملين وأن العمل الزراعي شيء قد يتحول لأحد أشكال الصناعة. لم يجرِ التفكير في التغلب على التناقض بين المدينة والريف من حيث هو تقسيم العمل (كما هو عملية ثنائية الاتجاه) بل في تكييف الريف مع المدينة.

وحتى في هذه المرحلة اختلفت الطرق لقراءة العلاقة بين المسألة الزراعية والتغلب على الرأسمالية. رفض الناردونيون[1]  الروس وجه النظر الماركسية الشائعة القائلة أنّ المجتمع الفلاحي القديم لابد ان يدمر الرأسمالية قبل ظهور مجتمع غير رأسمالي في روسيا. ورداًّ على سؤال طرحته الروسية الماركسية فيرا زاسوليتش [2] اقترح ماركس أن مجالس القرية الروسية التي تتداخل فيها العناصر الشيوعية والبطريركية والبدائية، لديها إمكانية تنظيم تحول اشتراكي بدون الخطوة الوسيطة للزراعة الرأسمالية بالكامل. لكنّه اعتبر أن الشرط الضروري لحدوث هذا الامر هو وجود طبقة عاملة قوية وتضامن دولي.

الاشتراكية الروسية وموضوع الزراعة

في روسيا، دافع حزب الثوريين الاشتراكيين بشكل مستقل عن الأفكار الماركسية وإن عارضها جزئيًا، من وجهة النظر القائلة ان الاوضاع في روسيا تعني أن الفلاحين يشكلون قوة حاسمة للتحول لنظام ما بعد الرأسمالية. ‏. فليست ديكتاتورية البروليتاريا بل دكتاتورية‎ “العمال” اعتبرت مَهَمّة ‎الوقت ‏الحاضر‎.‎

وكشريك متعاون مع البلاشفة من نوفمبر1917 الى ابريل- مايو 1918، كان الجناح اليساري للحركة هو القوة الحاسمة التي ربطت قطاعات شاسعة من الفلاحين بالسلطة السوفيتية. تضمّن برنامجهم الزراعي التزامًا باقتصاديات فلاحية قوية على أرض اشتراكية. فقد كان من المفترض تطوير أشكال جماعية من التعاون على طراز مجتمع القرية.

ولعل هذا يوضح كيف أن المسألة الزراعية تجمع كل مشاكل التحول الاجتماعي بطريقة ما. أهمُّ القضايا هي الجدل حول الامكانيات الثورية للفلاحين والعلاقة بين العمل الزراعي والعمل بين القطاعات الاخرى. وبالتالي احتمالات لتقسيم العمل وتحديد إمكانية التعاون الجماعي وغيره من الاشكال التقليدية للتعاون.

وهكذا، سرعان ما انهار التحالف بين الاشتراكية الثورية اليسارية والبلاشفة. ففي نظر البلاشفة أصبح الفلاح هو رأسمالي محتمل، وهكذا هو عدو ويكون التعامل معه على هذا الأساس. وظهر المتمردون يهتفون بشعارات مثل “عاشت البولشيفية التي منحتنا الأرض! عاشت التجارة الحرة! يسقط الشيوعيون (الذين صادروا المحاصيل)! الفجوة بين الملكية الخاصة للأراضي والتوزيع الجماعي لحصاد تلك الارض يجب ان يتوقف”.

لينين والتعاونيات

بعد حروب التدخل والحروب الأهلية، شهدت السياسة الاقتصادية الجديدة تحقيق عدد من أفكار حزب الثوار السوفييت، وان لم تقدم على هذا النحو. في عام 1922 اعترف قانون الأرض السوفييتي بفكرة مجالس القرية كإحدى أشكال النشاط الزراعي الممكنة. وفي كثير من المناطق كانت بالفعل هي الشكل السائد حتى عام 1928. أدّت سيطرة الحزب الصارمة الى تحفيز الانتاج الزراعي من خلال إنشاء علاقات سوق منظمة كجزء من الدولة الرأسمالية. وهنا تمت مناقشة الأسئلة المتعلقة بوجهات النظر المختلفة بشكل مفتوح ومستفيض.

ومن النتائج المبكرة لهذا، كان موقف لينين من النظام التعاوني. حيث كان المنطلق الذي استخدمه الاقتصادي الكسندر تشايانوف[3]  لتطوير أفكاره عن كيفية دمج الفلاحة في تقسيم العمل بحيث لا تكون مواقع انتاجها مشاريع رأسمالية. إلاّ أنه لم يكن قادرًا على الظهور بشكل كاف ووقع ضحية للإرهاب الستاليني، ونُسي اسمه من الواقع الاشتراكي.

لكنّ آراءه كانت ملهمة للحركات الزراعية حول العالم. فإن التعاون المثمر الذي سعى تشايانوف له بين الصناعة والزراعة استمر. وقد كان مشكلة مركزية لا حل لها في الاتحاد السوفيتي حتى تنفيذ برنامج الغذاء عام 1985. من المذهل وما زال مدهشًا أنّ كثافة “الدراسات” للزراعة والريف حتى نهاية الاشتراكية القائمة بالفعل، تتعارض مع إنجازاتها العملية.

الزراعة في الاتحاد السوفييتي

في بداية الاتحاد السوفييتي كانت الزراعة تشكل المصدر الأساسي للعملة الأجنبية. فصادرات الزراعة كانت وسائل مهمة لشراء المكائن الضرورية من الخارج. ولكن الاتحاد السوفيتي لم يستطع تقوية الصناعة والزراعة بنفس القدر الكافي. هدد الركود والخسارة الطبقة الحاكمة، وواجهت مسألة ما إذا كان ينبغي عليها السعي لتحقيق تنمية متوازنة بطيئة للصناعة والزراعة، أو التصنيع السريع على حساب الزراعة.

وسبب تدمير زراعة السوفييت هو سياسات التجميع والتصنيع منذ النصف الثاني لعشرينيات القرن والاستخدام المكثف لصادرات المحاصيل كمصدر للإيرادات. التصنيع كما وصفه الاقتصادي الزراعي ميخاييل سوسلوف[4]  يعني “تجويع سكان الريف”. طرحت عشرينيات القرن الماضي في الاتحاد السوفييتي سؤالا جديدا على اليسار عن كيفية تحقيق السيادة الغذائية وتأمينها وما هو الثمن.

التخصيص والانتاج الزراعي

في ألمانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لعب “تخصيص البساتين” للعائلات دورًا مفصليا ليس فقط في تأمين الغذاء بل أيضًا في مواقع التسييس. كانت جمعيات التخصيص طريقة للالتفاف على القوانين المناهضة للاشتراكية التي صممت للسيطرة على ما سميَ وقتها الحركة الديمقراطية الاشتراكية الثورية. وما يعرف اليوم باسم البستنة الحضرية كان للجيل الأول من العمال وسيلة ضرورية للبقاء المادي والثقافي والسياسي. حتى الجمعيات الاستهلاكية كانت يسارية لوقت طويل.

بالنسبة للدكتور والكاتب والنباتي الشيوعي فريدريتش وولف التأمين الغذائي والبستنة والعيش قريب من البيئة الطبيعية، وهي أسلوب حياة يقرره الفرد بنفسه. ولكن هذا التوجه لم يكن قوياً سياسياً داخل الحركة الشيوعية. فظهرت تناقضات لا تحل في الاشتراكية القائمة بين تأمين السيادة الغذائية، ومتطلبات اقتصاد زراعي بيئي.

في غالبية البلدان الاشتراكية، شكّل التجميع (المفروض إلى حد ما) ومحاولة التصنيع من النموذج السوفييتي نقطة انطلاق لكل من الإجراءات والأفكار النظرية. إن أهمية الزراعة كموقع لتكاثر المحيط الحيوي، والتي تم التأكيد عليها مرارًا وتكرارًا من الناحية النظرية حتى الثمانينيات، لم تنعكس على الإطلاق في نظام التخطيط. تم تطوير أشكال تعاونية مختلفة تم فيها دفع متطلبات الزراعة إلى حد كبير من خلال أفكار المخططين ومنتجي الآلات الزراعية.

لكن السعي وراء الإنتاج الضخم، الاقتصادات المحلية والتخصيص استمر في الوجود واحياناً ساهم بشكل ملحوظ في الإنتاج الزراعي. لعبت جمعيات البستانيين والمستوطنين ومربي الحيوانات دوراً كبيرًا في إمدادات الغذاء في ألمانيا الشرقية.

خاتمة

لذا يبدو أنّ تجارب اليسار فيما يخص هذه المسألة تمثل إشكالية كبيرة.  ومن الواضح أنّ السؤال المطروح ” كيف لنا ان نصل الى زراعة مستدامة بيئياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً؟” يحمل في طياته سلسلة كاملة من الأسئلة الإضافية لم تجد حركة العمال الأوروبيين (التي اخضعتها الرأسمالية) اجابه موثوقة لها. فمن المؤكد أنّ البناء الاجتماعي المعقد للمناطق الريفية والاستحالة الواضحة لتخليص أنفسنا من العلاقات الطبيعية. وهذا يتطلب سياسة أكثر تعقيداً من إدراكنا التاريخي.


هوامش

[1] النارودنية: هي منظمة سياسية سرية أسسها الشعبيون الإرهابيون الذين ناضلوا ضد الحكم. ولكنهم تمسكوا بالاشتراكية الطوباوية. واعتبروا أنه يمكن إعادة بناء المجتمع دون اشتراك الجماهير، عن طريق الإرهاب الفردي.

[2] صحفية ثورية روسية (1849-1919)، نفيت بضع مرات من بطرسبورغ  لنشاطها الثوري وعادت من مهجرها إلى روسيا سنة 1905، وشهدت على قيام ثورة 1917.

[3] الاقتصادي الروسي عالم الاجتماع، مؤلف مفهوم اقتصاد الفلاحين العاملين والاقتصاد الأخلاقي. وهو ممثل حيوي لجيل المثقفين الروس في أوائل القرن العشرين.

[4] اقتصادي روسي (1902-1982) عضو الحزب الشيوعي ويعتبر المنظر الرئيسي للحزب والرجل الثاني في القيادة.