مجلة حكمة
بيكاريا

الاشتراكي الأول

الكاتبلورنزو زوكا
ترجمةعبدالله الحميدي

قبل بنثام كان بيكاريا قد شكك وبشكل جذري في حق الدولة في سجن وإعدام مواطنيها

في الثاني عشر من أبريل 1764 شهد مواطني ميلان الإعدام القاسي بحق بارتوليمو لويسيتي Bartolomeo Luisetti، الذي تمت إدانته بممارسة اللواط. حيث خنقة وإحراق جثته بعد ذلك على عمود أمام الجميع. كان ثمة اجماع بين النخب الحاكمة في كل أوروبا على ضرورة يكون تطبيق العدالة الجنائية مرئياَ وبقسوة بحيث يتم من خلالها غرس الخوف من الله في قلوب الأشخاص الذين يشهدون ذلك المنظر الموغل في القسوة.

كان سيزار بيكاريا Cesare Beccaria  أحد الأشخاص الذين شهدوا هذا المشهد المروع، بدا من الصعوبة بالنسبة له اعتبار هذه القسوة بمثابة رد فعل عقلاني للجريمة التي تم ارتكابها. وعلى الرغم من كونه لم يزل منتصف العشرينيات من عمره أثناء تلك الحادثة، إلا أنه كانت لديه وجهات نظر سياسية وفلسفية عميقة حول ذلك.

ولد بيكاريا في العام 1738، فقد كان الأبن البكر لأحد الأسر الأرستقراطية البارزة في ميلان، حيث تلقى تعليمة في أحد المدارس اليسوعية الصارمة في بارما، وليكمل دراسته في القانون بعد ذلك في باديا، ليعود بعدها أدراجه إلى ميلان، ليطلع على مؤلف مونتسكيو ” رسائل فارسية ” Persian Letters وهي رسالة حاول فيها مؤلفها نقد المجتمع الفرنسي من وجهة نظر خارجية. سرعان ما دخل بيكاريا إلى عالم فلسفة التنوير، متأثرا بروادها الفرنسيين والإنجليز، حيث تأثر على وجه الخصوص بقراءة مؤلفات هلفيتسوس وديدرو وهيوم وجون لوك.

في العام 1759 أنضم بيكاريا إلى ” أكاديمية القبضات academy of fisticuffs’ وهي عبارة عن مجموعة تضم أبناء الأسر الأرستقراطية في ميلان، والتي أبدت معارضتها ضد أشكال الاضطهاد الذي كانت تمارسه النخب المحلية، بما فيها عائلاتهم. كان الصراع اجتماعيا وبين الأجيال في الوقت ذاته. حيث لاحظوا أن مصالح الأقلية تطغى بشكل كبير على مصالح الأغلبية، إضافة إلى أن القوانين مصممة بشكل يزيد من تركيز السلطة عند النخب ذات الامتيازات. أفرز هذا التعاون ميلاد مجلة ” المقهى ”  Il Caffé  والتي كانت بمثابة وسيلة لنشر الأفكار الإصلاحية.

في العام 1762 نشر روسو كتابة ” لعقد الاجتماعي” والذي زود بيكاريا بالإطار الفكري لمقالته ” في الجريمة والعقاب” On Crimes and Punishments والتي نشرها بعد عامين من أطروحة روسو في 1764. وقبل الثورة الفرنسية بخمسة وعشرين عاما. سرعان ما انتشرت مقالة بيكاريا المناهضة للممارسات العقابية القاسية في جميع انحاء أوروبا، وهو الأمر الذي حفز على القيام بإصلاحات جذرية للمؤسسات العقابية والإكراهية في جميع أنحاء القارة.

كانت أوروبا في ذلك الوقت مجتمعاً غارقاً في الطبقية، فغالبية الشعب كانت واقعة تحت حكم تعسفي وغير قابل للمساءلة من قبل من أصحاب النفوذ الامتيازات. كانت هذه اللا مساواة هي الأساس الذي أنطلق منه فلاسفة التنوير في سعيهم لتحقيق العدالة الاجتماعية. من جهته كان بيكاريا يطمح إلى إحداث إصلاح جذري لمجتمعه على مستوى كلٍ من القوانين والمؤسسات، وهو ذات الطموح الذي يشترك فيه مع مفكري عصر التنوير، على الرغم من تباين وسائلهم الإصلاحية. ففي الوقت الذي كانت فيه فرنسا تقوم بثورتها، انخرطت ميلان بعملية إصلاحية جادة من الداخل. وهو الإصلاح الذي لعب فيها كل من بيكاريا وأصحاب القبضات دوراً هاماً في إدارة الدولة.

كان الإجماع بين مثقفي أوروبا الراديكاليين منعقداَ على اعتبار أن الكنيسة تمثل أحد أقوى المؤسسات التي تعزز كلاً من الخضوع وللا مساواة. في الواقع لم يكف المفكرين السياسيين في إيطاليا عن تأثرهم بالفكرة الأساسية لميكافيلي والتي ترى أن الأخلاق المسيحية تتعارض وأخلاقيات الجمهورية المدينة. فالأولى هي أخلاق سلبية وتتطلب خضوعاَ للسلطة القائمة، في حين أن تبدو الثانية أكثر فعالية وتتطلب في الوقت ذاته مشاركةً في الشؤون السياسية للمدينة.

فقط عندما توضع الدولة أولا، فإن كلاَ من القوانين والمؤسسات ستعكس بالضرورة مصالح كل المجتمع، وليس مصالح القلة ذات الامتيازات.

أدى انشغال بكاريا بمصالح الأغلبية إلى صياغة مفهوم ” السعادة الأكبر للعدد الأكثر” والذي سيتم تبنيه لاحقاً من قبل المنفعي الإنجليزي جيرمي بنثام. فقد رأى في هذا المعيار المبدأ الأساسي لعلم جديد وهو ” علم الإنسان” مردداً في ذلك مشروع ديفيد هيوم. كما أدى اهتمامه الكبير بالرياضيات والعلوم إلى المساهمة في تطور علم الاقتصاد السياسي. والذي سيؤهله ه لأن يصبح رئيس قسم الاقتصاد السياسي في جامعة ميلانو. وهي أول وظيفة مدنية له.

لم يكن الاقتصاد السياسي بالنسبة لبيكاريا مجرد وسيلة لإدارة الدولة بشكل أكثر كفاءة فحسب، بل كان بمثابة ثورة كوبرنيكية حددت على نحو مغاير مكانة الإنسان في المجتمع. إضافة إلى كونه أداة ذات أهمية في جعل الحياة السياسية تصب في مصلحة أي مجتمع.

كان الهدف الرئيسي للاقتصاد السياسي أن يكون بمثابة علم للسعادة، وأن يحل محل الدين في توجيه السلوك البشري. فقد كان بيكاريا مدركا للتقدم الهائل الذي تم تحقيقه في المسائل العامة من خلال الإصلاحات السياسية الاقتصادية: حلول التجارة محل الحرب، انتشار الأفكار الجديدة بسرعة بواسطة الطباعة، تغير العلاقة ما بين الملك والرعايا، إلا أنه ومع كل مظاهر التقدم هذه لاحظ بيكاريا عدم وجود تقدم كافٍ فيما يتعلق بالوحشية والتعسف التي تسم قوانين العقوبات، والتي تتجلى بشكل واضح من خلال الممارسات البالغة القسوة والوحشية والتي لم يتم إخضاعها بعد للتحليل العقلاني. فقد كان من المألوف بالنسبة له في تلك السنوات مشاهدة كيف يتم الحكم على الأشخاص بالموت وكيف يتم تعذيبهم بصورة وحشية في الساحات العامة، بقصد ردع وتأديب بقية المواطنين.

يعد كتاب “في الجرائم والعقوبات” أحد المحاولات الأولى لتطبيق مبادئ الاقتصاد السياسي على الممارسات العقابية بغية عقلنة وأنسنة استعمال العنف من قبل الدولة. مع ذلك ظلت العقوبات المتسمة بالتعسف والقسوة أحد أكثر وأهم الوسائل التي كان على الدولة استعمالها لإرهاب المواطنين وإخضاعهم، بهدف تجنب الثورة ضد البنية الهرمية للمجتمع. فقد كانت المشكلة التي واجهت بيكاريا في غاية الوضوح، وهي أن النخبة كانت تتحكم بشكل كامل على القوانين والتي لم يكن التعاطي معها ممكناً سوى لقلة مؤهله تأهيلا جيداَ. ومن ثم كان الطريق للإصلاح العقلاني لقانون العقوبات يتطلب أساساً إعادة التفكير فلسفياً في كل من دور ومكانة القانون في المجتمع.

تمثل مشروع بيكاريا في تفكيك منظومة القانون الروماني. وهي المنظومة التي سبق وأن أشار إليها بسخرية بأنها ” بقايا غير متجانسة من قوانين قديمة لسلالة عسكرية منتصرة تمت صياغتها قبل 1200 عام من قبل حاكم القسطنطينية”. فقد كان القانون لغة غامضة للسلطة، يفتقد محتواه لكل من الدقة والوضوح، كما لو أنه صيغ من مزيج غير متجانس من القانون الروماني، العادات المحلية. ومن ثم جمعه في مجلدات من قبل شراح غير معروفين ” . بدا الغموض الذي يكتنف القانون مقصودا وكأنه أداة للسيطرة على الناس.

على الرغم من اشتغاله بالمحاماة وبالتأليف في مجال الرياضيات، إلا أن الفلسفة كانت هي أساس الذي بنى عليه مشروعه الإصلاحي. يعد كتابه “في الجرائم والعقوبات” أحد أوائل الكتب التي قدمت نموذجاً نقدياً مميزاً للفقه الرقابي، كما أشار إلى ذلك الفيلسوف الإنجليزي هربرت هارت H L A Hart ، في العام 1982 :

               لم يكن إعجاب بنثام لبيكاريا بسبب موافقته له في أفكاره، ولا بسبب تأثره بها فحسب، بل لامتلاكه مفاهيم واضحه لموضوعه، فوفقاً لبنثام ، فقد كان بيكاريا من أوائل من شرع في نقد القانون والدعوة إلى إصلاحه دون أن يخلط بين هذه المهمة مع توصيف القانون كما هو موجود على أرض الواقع.

كانت الفلسفة بمثابة الأداة النقدية التي استخدمها بيكاريا بغية إحداث ثورة للطريقة التي كانت المجتمعات الأوربية تنظر من خلالها إلى القانون. فلم يكن مهتماً بما كان يقوله القانون، إذ يكن القانون في الوقت الذي كان بيكاريا يكتب فيه كتابه سوى مجرد وهم، بحيث لم يكن سوى أداة محتكرة بأيدي المحامين ومهيئا في الوقت ذاته لخدمة مصالح الأقلية. كانت المقاربة التشريعية التي أثارها بيكاريا تركز على اعتبار القانون بمثابة مؤسسة اجتماعية مكرسة لتحقيق الرفاه في النظام الاجتماعي. وإذا كانت مساهمة بيكاريا في المنهج الفلسفي ذات أثر هائل، إلا أنه ينبغي عدم إغفال أن هذه النقلة الفلسفية قد كانت مدفوعة بهاجس طموح لتحقيق الإصلاح الاجتماعي والسياسي والمؤسسي في المقام الأول.

مَثّل اتهام بيكاريا بكونه” اشتراكيا” البدايات الأولى التي تم فيها استعمال هذا المصطلح. فقد أتت هذه التهمة من مصدرين مختلفين أتم الاختلاف. كان اللاهوتي بادري فاشيني Padre Facchinei المصدر الأول لهذا الاتهام. فقد كان متوجساً من أن بروز الاقتصاد السياسي سوف يحل محل الدين. أما المصدر الأخر لها فتمثل بالاقتصاديين الفرنسيين، أو الفيزوقراط Physiocrats كما يطلق عليهم. إضافة إلى أنصار نظرية السوق الحر freemarketeers. والذي انتقدوا مطالبة بكاريا بإعطاء دور أكبر للدولة في الاقتصاد بغية تحقيق العدلة وإعادة التوزيع العادل للثروة.  اعتقد كل من فاشيني والفيزوقراط، بالإضافة إلى آدم سمث بأن السوق يعمل تلقائينا من خلال ما يسمى  “باليد الخفية”  invisible hand 1 ،  والتي من المحتمل أن تكون هي نفسها  يد الرب. لم يتفق بيكاريا مع هذه النظرة، فقد كان مؤمنا بأن المؤسسات السياسية من شأنها أن تعلب دوراً تدخلياً مهماً في جَسْر الهوة ما بين الأغنياء والفقراء، وهي الهوة التي اعتبرها السبب الأساسي في الجريمة.

تظل مسألة ما إذا كان بيكاريا اشتراكياً بالمعنى الذي نفهمه اليوم أم لا مسـألة قابلة للنقاش. بيد أن المؤكد أنه كان مفكراً سياسياً علمانياً، كرس جهوده في سبيل تعزيز مجتمع حرٍ ومتساوٍ، حيث كان تركيزه منصبا على أن التأكيد على وجود تعارضٍ ما بين العدالة السياسية والعدالة الإلهية. فالعدالة السياسية بحسب بيكاريا توجد فقط من خلال وجود مجتمع سياسي، وهو عبارة رابطة حرةٍ لأشخاص يرتبطون بعقد اجتماعي. وعلى هذا الأساس يتم تعريف الجريمة ليس باعتبار كونها خطيئة – دينية –  بل باعتبارها خرقاً لهذا العقد الاجتماعي.

فبموجب العقد الاجتماعي يقوم الأشخاص بشكل طوعي بالتنازل عن الحد الأدنى من حرياتهم ووضعها تحت تصرف سلطة موحدة. حيث يستبدلون حريتهم الطبيعية في حالة الطبيعة بالحرية السياسية في النظام المدني للدولة، فلم يكن العقد الاجتماعي شيئا محبباً بالضرورة. فعندما يوافق الأشخاص على الالتزام بميثاق ما فيما بينهم فإنهم يقومون بذلك على مضض، وغالباً ما تساورهم الرغبة في كسره لتحقيق مصالحهم الخاصة. بيد أن ما يجبرهم على الالتزام بالمواثيق وعدم كسرها هو الخوف وعدم اليقين الناتج من استحالة تمتعهم بالحرية الطبيعية في التصرف كما يشاؤون دون قيد. إن عدم اليقين الناتج حول كيفية ممارسة الحرية الطبيعية يؤدي حتماً إلى إذعان الجميع وقبولهم بالضرورة الأساسية المتمثلة في أن ثمة ما يجب التخلي عنه في سبيل أن يحظى الجميع بحرية سياسية حقيقية.

يشكل الحد الأدنى من الحرية الطبيعية لكل شخص ما يمكن اعتباره حجر الأساس لفكرة السلطة أو السيادة والتي تعد الأساس لفكرة الحق في فرض عقوبات على الأفعال التي من شأنها إلحاق الضرر بالمجتمع الإنساني. إن الحق في المعاقبة يمثل الشر الذي لا بد منه، والذي تقوم به السلطة كرد فعل صارم إزاء عدم اليقين الناتج عن الممارسة غير المقيدة للحرية الطبيعية.

على الرغم من كون الحرية السياسية حالةً نوعية ًوفكريةً ولا يمكن قياسها أو تحديدها بشكل دقيق من خلال القانون، إلا أنه يمكن للقانون أن يساهم في توفير توجيهات واضحة ويمكن التنبؤ بها فيما يتعلق بالأفعال الضارة اجتماعياً، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى الشعور بالأمان. فالغاية الأساسية من القانون الجنائي هي ضمان الحرية السياسية. لاحقاً وجدت فكرة بيكاريا حول سيادة القانون كضمانة للحرية الفردية تأكيدها في الماد 4 من الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن عام 1789 :

       تكمن الحرية في فعل كل ما لا يسبب الضرر للآخرين. وذلك يعني بأن ممارسة الحقوق الطبيعية لكل شخص ليس لها حدود سوى تلك التي تضمن للأفراد الأخرين في المجتمع التمتع بذات الحقوق، وحده القانون هو من يحدد هذه الحقوق.

لا تكمن أصالة بيكاريا في تطويره لتفسيرات حديثة لأفكار من قبيل المنفعة والحرية السياسية والعقد الاجتماعي فحسب، بل في الطريقة التي دمج من خلالها هذه المفاهيم بُغية الوصول إلى حل وسط بين الحرية والمنفعة لصالح فكرة العدالة. ففي العدالة الجنائية فإن الحق في إيقاع العقوبة يجب يمارس في أضيق الحدود بقدر الإمكان، هذا إذا أردنا أن تكون العقوبة مشروعة. فالفكرة الأساسية لكتاب في الجرائم والعقوبات لا يكمن أن تكون أكثر وضوحاً من الفكرة التالية:

    من أجل ألا يكون تطبيق العقوبة مجرد ممارسة عنفية من قبل فرد أو مجموعة أفراد ضد موطن عادي، فمن الضروري أن تكون العقوبة علنية، سريعة، ضرورية، وفي شكلها الأدنى وأن يكون منصوصاً عليها في القانون.

أطلقت هذه النظرية ثورةً ثقافيةً، حيث كانت أطروحة بيكاريا رمزا للعديد من الحركات الفلسفية التي كانت تروم تغيير أشكال المعرفة المتجذرة والتي طالما وظفتها النخب في سبيل الإبقاء على امتيازاتها. فطالما كان الفهم التقليدي للقانون يحوطه الغموض ولم يكن في متناول الجميع. أراد بيكاريا يحل محل هذا المفهوم مفهوماً يجعل من القانون نتاج واقع اجتماعي يمثل المصدر النهائي للتشريع، إدراك بيكاريا لكون الدين لايزال يمثل أحد أهم أشكال السيطرة الاجتماعية، جعله ينخرط بقوة في تعزيز التحول نحو الاقتصاد السياسي كمصدر للمعرفة من شأنه أن يُمكّن الحكومة من أن تجد فيه أساساً لعقلنة سياساتها. تجدر الإشارة بأن المنهجية الفلسفية لبيكاريا كانت هي الدافع الأساسي المُوجه لأفكاره، فقد وظف الفلسفة في سبيل تقويض أسس القانون القديم وخلق مجال جوهري للسياسة وللتحرر من الفهم التقليدي والأخلاقي للعدالة.

لكي تكون العقوبة مبرره فإنها يجب أن تستهدف تقليل أو الحد من العنف داخل المجتمع كَمّا ونوعاُ، ليس فقط العنف المرتبط بالجرائم بل أيضا العنف الذي يستتبع رد فعل الأشخاص العاديين أو السلطات العامة، كان هدف بيكاريا الأساسي يكمن في إعادة تنظيم الحق في العقاب، والقضاء على جميع أشكال الانتقام والمعتقدات الدينية التي تتخلل الممارسات العقابية. لم تخل عقلنة العقاب هذه من وجود مؤيدين ومعارضين. إذ كان المدافعون عن نظرية بيكاريا يرون بأن العقوبة الوحشية والتعسفية من شأنها إضعاف الشعور بالثقة في السلطة العامة، إضافة إلى اعتقادهم بضرورة العقوبة كوسيلة ردع ضد استعمال العنف الخاص والعام، ومن ثم رأوا في فيها تعبيراً عن التزام المجتمع بمكافحة العنف. في المقابل يرى منتقدو فكرة عقلنة أو ترشيد العقاب بأنها تمثل أداة فعالة قد تستخدمها الدولة لإخضاعنا والتحكم بنا. وعلى الرغم من وجاهة كل من الموقفين السابقين، إلا أن مشروع عقلنة العقاب بالنسبة لبيكاريا كان يحمل معنى إصلاحياً عميقاً، فقد كان يعني الانتقال من مجتمع يُمارس فيه العقاب كشكل من أشكال السيطرة الجماعية إلى مجتمع يكون في العقاب هو المرحلة الأخيرة بعد استنفاد جميع الوسائل الأخرى، وبشكل يتناسب مع مستوى الجريمة.

يمكن اعتبار الحد الأدنى للقانون الجنائي هو الصيغة الملائمة لوصف نقد بيكاريا للممارسة العقابية. فهو يشير إلى الطبيعة الخاصة للعقد الاجتماعي عنده، والتي تنص على أنه يتم من خلال تنازل محدود عن الحرية الطبيعية. في المقابل فإن العقد لا يسوغ تقييد الحرية الطبيعية والمعاناة إلا في حدودهما الدنيا. إن مبدأ الضرر الأقل أو الأدنى يجد أصوله في طبيعة التضحية التي يتضمنها العقد الاجتماعي: أقل خسارة للحرية الطبيعية في مقابل تحقيق أقصى مكسب من الحرية السياسية.

ولإن تدخل القانون الجنائي محدود بالضرورة، فيجب أن يكون آخر الخيارات التي يجب أن تلجأ إليها الدولة في حال لم توجد وسائل أخرى لمنع الجريمة. غالباً ما يتم تجاهل هذه المقاربة خصوصاً من قبل أولئك الذين يرون في بيكاريا أباً للنفعية في إنجلترا وأحد رواد القانون والاقتصاد في الولايات المتحدة. يبدو أن مطالبة بيكاريا في الحد من تدخل الدولة في مجال العقوبات في مقابل تعظيم توفير الخدمات الاجتماعية هي من قادهم إلى هذا الاعتقاد، في حين أن مطالب بيكاريا كانت في ضرورة السعي إلى الإبقاء على القانون الجنائي في حدوده الدنيا وليس الحد من تدخل الدولة. فقد كان من الداعين إلى أن أهمية أن تتدخل الدولة بشكل فعّال الحد من اللاماساوة ومنع الجرائم من خلال دعم الناس وتعليمهم، وليس من خلال قمعهم.

سرعان ما غزت أفكار بيكاريا دوائر المثقفين في أوروبا. فقد تم استقباله كبطل في باريس من قبل الفلاسفة الفرنسيين: حيث كتب ديدرو ملاحظات على أطروحته، في حين كتب فولتير مقالة ذكر فيها بأن إصلاح القانون الجنائي وفق أفكار بيكاريا يجب أن تكون أحد أساسيات الإصلاح لعصر التنوير. حتى أن توماس جيفرسون، والذي كان يقيم وقتها في باريس، قد قرأ الكتاب باللغة الإيطالية وكتب على إثر ذلك العديد من الملاحظات إلى الآباء المؤسسين في أمريكا. كما دعت كاثرين الثانية ملكة روسيا بيكاريا إلى صياغة قانون العقوبات الروسي وإصلاح العدلة الجنائية.

أصبحت أطروحة بيكاريا من الشهرة إلى حد قيام فيدور دوستويفسكي في العام 1866 باستعارة عنوانها لأحد أهم أعماله الأدبية.  ولم يمض أكثر من قرن حتى شرعت أوروبا في تطبيق أفكاره. بدأت ممارسات التعذيب بالاختفاء شيئا فشيئا، ألغيت عقوبة الإعدام على نطاق واسع من الدول. كما صوت البرلمان الإيطالي في الذكرى المئوية لصدور كتاب في الجرائم والعقوبات، 1865 لصالح إلغاء عقوبة الإعدام في المملكة وإقامة نصب تذكاري لبيكاريا في مسقط رأسه ميلان.

إن إعادة اكتشاف الكتاب اليوم بعد مضي قرن أو أكثر على تجاهله بحاجة إلى تفسير. بظني أن ذلك راجع إلى أن الروح الإصلاحية والراديكالية للكتاب قد مست جانباً عميقاً للعديد من الناس. فمظاهر عدم المساواة في ازدياد، فضلاً عن الارتفاع المستمر في معدلات الجريمة على مستوى العالم. وفي الوقت الذي يسعى فيه القانون الجنائي لتقليص كل ذلك، فإنه في المقابل يقدم شيكاً على بياض لأصحاب الثروات الطائلة من المستغلين والمتهربين من الضرائب للإفلات من العقاب.

لقد وصلنا إلى مرحلة تحتم علينا إعادة النظام النظر في نظام العدالة الاجتماعية ككل. فالمسألة لا تتعلق بمحاولات ترقيع النظام الحالي بقدر ما تتعلق بمحاولة إصلاح جذري شامل للقانون الجنائي. وبأسئلة من قبيل : ما هي المشكلات التي تسبب أكبر الضرر لمجتمعاتنا؟ هل علينا توظيف موارد طائلة من أجل ملاحقة صغار اللصوص والحد من المخالفات الطفيفة، أم توظيفها في محاربة الإجرام المتسع النطاق؟

إن شجب بيكاريا للتفاوت بين الطبقة الحاكمة والجماهير تمثلت من خلال تأكيده على أن التفاوت الغير متكافئ من شأنه زيادة معدلات الجريمة كنتيجة للفقر والظلم. ومن شأنه خلق مزيد من الصراع الاجتماعي وإثارة المزيد من القلق حول الأمن في المجتمع. حيث من الأرجح نتيجة لذلك أن تصبح الممارسات العقابية أكثر سوءا، وأن يغدو القانون الجنائي أداة في خدمة الأغنياء ضد الفئات الأكثر ضعفاً. ففي مجتمعاتنا الموغلة في الاستقطاب وللامساواة فإن فكر بيكاريا يظل أكثر راهنية من حيث حاجتنا الماسة إلى عدالة اجتماعية أكثر وعقوبات جنائية أقل. فقد كانت رؤية مثل هذه المقاربة في القرن الثامن عشر استثنائية بحق.

المصدر


هوامش

  • مفهوم اليد الخفية يعني أن الشخص الذي يقوم بالاهتمام بمصلحته الشخصية يساهم أيضا في الارتقاء بالمصلحة الخيرة المجتمعة ككل، ما يعني أن عائد العام للمجتمع هو مجموع عوائد الأفراد “المترجم”